مجلة حكمة
غياتري شاكرافورتي سبيفاك

حوار مع الناشطة غياتري: حين يكون القانون جائرا / ترجمة: فاطمة الزهراء علي

5499612e43dd8الجزء السادس ضمن سلسلة من الحوارات في مسألة العنف مع فلاسفة ومنظرين ناقدين. هذا الحوار مع غياتري شاكرافورتي سبيفاك، أستاذة العلوم الإنسانية في جامعة كولومبيا. ومؤلفة كتاب “التربية الجمالية في عصر العولمة”.


براد: في جميع أعمالكِ؛ كتبتِ عن التحديات التي واجهت المحرومين في العالم، ولا سيما في مناطق مثل الهند والصين وقارة إفريقيا. كيف يمكن أن نستخدم الفلسفة لخلق فهم أفضل لمختلف أنواع العنف التي تندلع اليوم نتيجة لمعاناة المحرومين؟

غياتري: بينما يظل العنف رهنا للتسميات وللتشخيص؛ فإنه في الوقت ذاته يثير الكثير من الأسئلة الصعبة المتشابهة. أنا من دعاة السلام، وأؤمن حقا بقوة اللاعنف، ولكن لا يمكننا أن ننكر بشكل قاطع حق أي شعب في مقاومة العنف، حتى باستخدام العنف، في ظل ظروف معينة. لا يُطاق الوضع أحيانا، بحيث تصبح الثوابت الأخلاقية بلا معنى. هناك فرق هنا بين التسامح مع ردة الفعل هذه ومحاولة فهم “لماذا أصبح اللجوء إلى العنف أمرا لا مفر منه؟”.

عندما يتمّ التعامل مع البشر على أنهم أقلّ بشرية، يبدأ العنف بالظهور كاستجابة وحيدة .عندما تضع جماعة ما جماعة أخرى في مرتبة أدنى فكأنها تقول إنها جماعة “رديئة” لا تستطيع التفكير بشكل “منطقي”. من المهم أن نتذكر أن هذا انتهاك فكري. فالجماعات المضطهدة لا تُحرم – بالضرورة – من حقها في العمل اليدوي، بل غالبا ما يتمّ الضغط عليها لتحمل الكثير من العمل البدني الذي يحتاجه المجتمع. وبالتالي؛ فإن الناس لم يُحرموا من القوة، بل فرضت عليهم قوة / وكالة وحشية غير عقلانية. والقوة الكامنة في هذه الوكالة المادية ستهدد الظالم في نهاية المطاف. المظلومون – من جهتهم – لم يبق لهم إلا هوية محتملة واحدة متمثلة في العنف والذي سيشكل سياستهم وفكرهم.

هذا يقودنا مباشرة إلى المواجهة بين “المنطقي” و “اللامنطقي”- العنف. فالجماعات المُهيمنة تشوه صورة ردود الفعل العنيفة، وتعتبر أصحابها “عنيفين بالفطرة”، ليس فقط لأنهم “أدنى منزلة”، بل أيضا لأنهم “أشرار ومجرمون أساسا” أو لأن “دينهم يميل للقتل”.

ما يثير الخوف؛ أنه حتى الآن وعلى الجانب الآخر؛ فإن عنف الدولة المُشرعن يعتبر “منطقيا” لدى الكثيرين. إذ يفترض هذا المنطق أن الشخص إذا ارتدى زِيّا معينا أو أتى من خلفية معينة فإن ذلك يجعله قانونيا قادرا على القتل. هذا النوع من العنف هو الأكثر إثارة للقلق، لإمكانية تبريره الدائم من قبل السُّلطة.

 

براد: ارتبطت المقاومة العنيفة في القرن العشرين – على الأقل بعضها – بالنضال من أجل التحرر الوطني، سواء ضد الاستعمار، أو لمناهضة الفاشية في أوروبا. هل نحتاج لنظرة جديدة كي نتعرف على قوى الهيمنة والاستغلال المنفصلة عن الدولة القومية والتي – مع ذلك – يتم تقديمها كعودة للخصوصية المحلية والعرقية؟

غياتري: هذا سؤال معقد يتطلب تفكيرا فلسفيا جادا. لقد عُدتُ للتّو من المنتدى الاقتصادي العالمي، وفهمهم في المنتدى للسّلطة وللمقاومة مختلف تماما عن فهم جماعة مثل مسلمي الروهينغا الذين يعيشون على الساحل الغربي لميانمار، رغم أن تجربة الفريقين متجذرة في سُلطة ونفوذ النظام العالمي، ولكن من جانبين متقابلين. تعرض الروهينغا لإبادة جماعية بطيئة، كما وصفها الكثيرون، وهذا يُعطل القراءة الاستشراقية للبوذية، كدين للمحبة والسلام الأبدي. نشاهد اليوم بوذيين من تايلاند وسريلانكا وميانمار وهم ينخرطون في العنف الذي تمارسه الدولة ضد الأقلية.

لقد وقفت أونغ سان سو تشي داعية الديموقراطية المعارِضة بشجاعة ضد السلوك القمعي للحكومة العسكرية في ميانمار حين كانت قيد الإقامة الجبرية في منزلها، لكنها لاحقا فضلت تأمين السُّلطة والاحتفاظ بها، فصمتت ووقفت مع حزب الأغلبية الذي استمرّ في ممارسة العنف ضد الأقلية غير البوذية. ثمة تفسير يقول: أنها ربما اصطفت مع حزب الأغلبية الآن من أجل تحقيق الديموقراطية في المستقبل. وأريد أن أحسن الظن بالسيدة أونغ غير أنه يجب التنديد بالمجازر التي يقوم بها حزب الأغلبية، فالاصطفاف معه لن يجلب الديموقراطية.

مع ذلك؛ وبدلا من التقوقع حول هوية سياسية متمركزة حول الذات؛ فإن المقاومة في هذا السياق تعني ربط محنة الروهينغا بالنضال العالمي، وهذا السياق ضروري من أجل معالجة أية حالة مشابهة. الصراعات الوطنية القديمة، القائمة على أساس الهوية، كالتي ذكرتها، هي أقل إقناعا في عالم معولم. كل هذا يكتسب أهمية في ظل تأسيس ميانمار لأول بورصة واستعدادها لدخول النظام الرأسمالي العالمي.

في إطار هذه العولمة؛ تعمل الدول القومية لتحقيق مصالح رأس المال العالمي، وتقتصر الديموقراطية على عَـدِّ الأشخاص، وغالبا ما تعمل ضد الآراء الواعية، وتصبح الدولة محاصرة بالمطالب الرأسمالية. ولذا فعلى المقاومة أن تكون على علم بالقوانين المالية من أجل المطالبة بها، فهذه مقاومة غير دامية ولا بد من تعلمها. يجب علينا إنتاج المعرفة من هذه النُّظم المعولمة والتي تبدو مجرّدة، حتى نتمكن من تحدّي العنف الاجتماعي للرأسمالية غير المُقننة.

 

براد: ماهي الآثار المترتبة على ترك تعزيز حقوق الإنسان لمن قلتِ أنهم “رجال أعمال نصّبوا أنفسهم” و “فاعلي خير” من أمثال بيل غيتس، والذي يمتلكون تصورا خاصا جدا عن “الحقوق” و “سيادة القانون”؟

غياتري: هل من العدل أن يوجد قانون ولكنه قانون غير عادل؟ التصديق على قانون ما وإثبات وجوده لا يكفي لضمان مناعة فعالة ضد الاضطهاد. بعض أخطر الانتهاكات للحقوق وقعت ضمن الأُطر القانونية. وإذا كان القانون الذي يحكم المجتمع لم يتمرن على ما أطلق عليه ميشيل فوكو “ممارسة الحرية”؛ فالقانون إذا موجود فقط كي ينفّذ قسرا، والذين يتمّ إجبارهم عليه سيجدون مع مرور الوقت ثغرات للالتفاف حوله.

ولذلك فإن “حدس” الديموقراطية أمر حيوي جدا عند التعامل مع أفقر الفقراء: الجماعات التي تعتقد أن بؤسها أمر طبيعي، وأنه حينما يحين وقت الجوع فعليها أن تشدّ أحزمتها – غير الموجودة – وأن تعاني، وأن تقبل بالكارثة بصمت. الأمر أكبر من أطفال يلعبون بالحجارة في الشوارع، إنه يمتد إلى كل جانب من حياة أولئك الناس، الذين يعملون للأثرياء في حرارة حارقة، مقابل القليل أو اللاشئ، وهذا نوع مختلف من الفقر.

مقابل ذلك؛ لدينا صورة مثالية لفقر متحضر يروج له من قبل فاعلي الخير الأثرياء ووكالات الإغاثة. هناك دائما سحر مصاحب لتلك الصورة الفاتنة: الأطفال الذين يلعبون في المجاري المفتوحة. بالطبع هذا المشهد دليل على الظلم الاجتماعي الخطير. العمل الخيري، من أعلاه إلى أسفله، إن لم يهتم بالتعليم الذي يقوي الروح، فإن نتائجه ستكون عكسية، ولن يُنتج مقاومة مستقبلية للظلم، وسيكون قاصرا على توثيق لحظات المُحسنين المشاهير.

أقول “رجال أعمال نصّبوا أنفسهم” لأن القوانين المفروضة على العاملين في القطاع غير الحكومي قليلة إن لم تكن معدومة. في أحسن الأحوال؛ إنهم يقدمون إعلانا لعمال في القطاع الخاص من أجل رفع الركود عن دولة الليبرالية الجديدة والتي لا تتمتع روحها الإدارية بالقدرة على إعادة التوزيع، وحيث المقاومة الدستورية من قبل المواطنين لا يمكن أن تكون فعالة في وجه “سيادة القانون” الذي يعمل من أجل حماية كفاءة رأس المال العالمي. جماعات حقوق الإنسان تُدين الدولة، ورجال الأعمال ينادون باستعادة الحقوق، بيد أنه لا توجد متابعة ديموقراطية للأمر، ونادرا ما تستمر تلك الجماعات والمنظمات بالعمل طويلا.

هناك مشكلة أخرى مع هذه المنظمات، تتمثل في تأكيدها على الانتاجية الاجتماعية للرأسمالية، دون الإشارة إلى حاجة الرأسمالية الدائمة إلى تعزيز مركزها على حساب تقليص حقوق بعض قطاعات السكان. وهذا ما يعرقل بناء الهياكل الإصلاحية: أي اختفاء دولة الرفاه أو الحيلولة دون ظهورها في حيز الوجود.

إذا انتقلنا إلى “التنمية”؛ فغالبا ما نرى أن ما يدوم في التنمية المستدامة هو فعالية التكلفة ومضاعفة الربح مع الحدّ الأدنى من الإجراءات اللازمة من حيث المسؤولية البيئية، وهذا ما يمكن أن نطلق عليه “التخلف المستدام”.

اليوم؛ كل شئ عن التحضر، والدراسات الحضرية، والمخاوف الحضرية، والمجتمعات الشبكية..إلخ ولا أحد في دوائر السياسة يتحدث عن رسملة الأرض، وكيف أن لها صلات مباشرة بنزع ملكية حقوق الناس. هذا خط آخر للتحقيق، يجب على أية محاولة لتناول العنف أخذه بعين الاعتبار.

 

براد: في الوقت الذي أظهرتِ تقديركِ لعدد من المفكرين الذين عُرفوا بمداخلاتهم الثورية مثل فرانز فانون، انتقدتِ أيضا حدود عملهم عندما يتعلق الأمر بقضايا النوع الاجتماعي وتحرير المرأة. لماذا؟

غياتريأؤكد على انتقادي لفانون، لكنه ليس وحده هنا. إنه في الواقع مثل معظم الرجال الآخرين الذين يتحدثون عن النضال الثوري، لا يمكنك أن تتعلم النضال النسوي منهم. وقد حاول فانون في “موت الاستعمار” فهم وضع المرأة من الداخل، من خلال طرح الأسئلة حول الهياكل الأبوية للهيمنة.

بعد الثورة؛ في جزائر ما بعد الاستعمار، وفي مناطق أخرى من العالم، النساء اللاتي كُنّ جزءا من النضال، اضطررن لمواصلة النضال من أجل حقوقهن بمبادرات منفصلة عن المنظمات الثورية التحريرية التي انشغلت بشؤون إدارة الدولة. مشاكل الجنسين أقدم من مشاكل الدولة الحديثة وحروبها، وأقدم من الحروب بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي، وأقدم من نضال الحركات الوطنية.

 

براد: أنتِ ملتزمة بشكل واضح بإيمانك بقوة التعليم القائم على الممارسات الجمالية، ولكنك تريدين تحدي الأفكار الجمالية الغربية الكنسية والتي اشتقت منها المفاهيم التي تستخدمينها مثل “النشاط الخيالي” و “التخريب الإيجابي”، كيف يمكن أن يحدث ذلك؟

غياتري: النشاط الخيالي يتكبد عناء تخيل النص – الذي يُفهم كنسيج وكشبكة، بدلا من فهمه بشكل محدود، وعلى أنه مجرد صفحة مطبوعة – بمطالبه وامتيازاته الخاصة. ولهذا السبب فإن الأدب مهم جدا. إن أبجديات الأدب تكمن في محاولة الإحاطة برؤية الكاتب. تعطلت هذه المحاولة في الستينيات؛ بسبب السؤال الأخرق: “هل لهذا الكتاب علاقة بي؟” والذي مثل اعتداءا هائلا على الأدب، ونرجسية جماهيرية. الأدب كي يكون ذا مغزى ليس عليه بالضرورة أن يكون ذا صلة، وهذا هو التحدي الجمالي، أن نتخيل أمرا لا يبدو لنا واضحا من الوهلة الأولى، ويمكن لهذا التحدي محاربة ما تتضمنه ديموقراطية الكتلة الإنتخابية. هذا مهم بالنسبة لي؛ بدلا من مرونة العمل مع الآخرين الذين لا يشبهونني. هذا التحدي للديموقراطية يتضمن الحاجة إلى ناخبين متعلمين وليس فقط مطلعين.

استخدمتُ “التخريب الإيجابي” للتعتيم على المعنى المعتاد للتخريب: التخريب المتعمد لآلة السيد من الداخل. التخريب الإيجابي ليس مجرد تخريب، بل تكمن فكرته في الدخول إلى الخطاب الذي تنتقده بشكل كامل، كي تتمكن من تشغيله من الداخل. الطريقة الوحيدة التي تسمح لك بتخريب شئ ما بفعالية هي عندما تعمل على التخريب بشكل وثيق ومن الداخل.

هذا هو الحال مع الأدوات الفكرية الإمبريالية والتي تمّ تطويرها على أكتاف وظهور الناس لقرون. دعونا نضرب مثالا بما يقوله إيمانويل كانط في كتابه “نقد ملكة الحكم”، إذ لا يصر فقط على أننا بحاجة إلى تخيل شخص آخر، بل يصر أيضا على ضرورة استيعاب ذلك إلى حد أن تصبح مشاطرةُ الشخص الآخر التفكير والشعور طبيعة ثانية لنا.

وبغض النظر عن حقيقة أن كانط لم يتحدث عن العبودية إطلاقا في كتابه، بل إنه أقرّ أن النساء والخدم غير قادرين على التفكير المدني، لكنك إن أعدت التفكير في الأمر فستكتشف أن النساء والخدم قد تمّ تدريبهم في الواقع ليفكروا ويشعروا مثل أسيادهم، وكان عليهم باستمرار أن يتقمصوا شخصيات أسيادهم، ويدخلوا إلى أفكارهم ورغباتهم، بحيث أصبح الأمر طبيعة ثانية لهم.

هذه هي الطريقة التي يمكن للمرء أن يمارس بها فعل التخريب. عليك أن تعترف بتألق أعمال كانط، في حين تظهر التناقضات في أعماله وتواجه الصفات الإمبريالية التي أعاد إنتاجها. إنه اختبار للفلسفة على أرض الواقع. وهذا ما يدفعنا للتساؤل: إذا كان يمكن خلق هذه الطبيعة الثانية للنساء والخدم دون إكراه وقيود وغسل أدمغة، فماذا سيحدث حينما تدعي الطبقة الحاكمة أو العرق الحاكم الحق في ذلك؟ هل هناك مشكلة يتم تجاهلها في جميع ادعاءات السُلطة الخيّرة؟ وكيف ستبدو المقاومة المثقفة في هذه الحالة؟ ربما قد يُساء فهمها لأن المجتمع ليس مستعدا لها. لذا لا بدّ من الاستمرار في العمل على إيجاد مستقبل شاعري، حسب تعبير ماركس