مجلة حكمة
حوار مع  ميلان كونديرا

حوار مع  ميلان كونديرا

ترجمةحمزة زكي

– لويس أبنهايم : أود أن أنتهز الفرص في هذه اللقاءات التي تجمعني بيك لتوضيح الكثير أو القليل من النقاط المحددة. بداءا بكتاب “فن الرواية” ، الذي تدين فيه المقابلة صراحةً كما تُقام بشكلها التقليدي، وبلهجة قوية ومباشرة إلى حد ما ، تكرر قرارك بعدم إجراء أي مقابلات أخرى ما لم تكن مرفقة بحقوق النشر الخاصة بك. إنني أتفهم إحباطك من الصحفيين الذين هم عادة ما يتجاهلون تمام التجاهل للتداعيات المحتملة، إذ يحرمون الشخص الذي تجري معه المقابلة من أي فرصة لمراجعة ملاحظاته قبل نشرها. وأنا أقدر تمييزك بين الحوار، حيث يتم الأخذ الورد الحقيقيان،  والتبادل الصادق للأفكار حول القضايا ذات الإهتمام المشترك، والعرض المتبادل للأفكار، حيث يطرح المحاور قائمة أسئلته، وفقط واستخلاص لتلك الإجابات التي تخدم غايته هو كل ما يهم. بحيث يتم إعادة إنتاج هدفه – وغالبًا في سياق مختلف عن ذلك الذي ألهمه في المقام الأول. ومع ذلك، أتساءل عما إذا كنت لا ترى بأنك تحرم جمهورك نوعا ما بتقييد المقابلات التي ستجريها بشرط أن تشارك في تحريرها؟

– ميلان كونديرا : إن المقابلات كما تظهر في الجرائد ما هي إلا مجرد استنساخ تقريبي لما يقول الضيف أثناء المقابلة. وذلك في نظري عمل لا تُتوخى فيه الجدية التامة، وإذا ما تم اقتباس كلامك من طرف الجميع، بل حتى من طرف الأكاديمين والنقاد، يبدو الأمر كأنه تحريف للكلام وإفراغه من صياغته، فتضيع الدقة تقريبا. ذات مرة وقعت في موقف مشابه، وذلك ليس فقط لأوجه عدم تحري الدقة في مقابلة، بل إنني صُدمت بأفكار لم أصدح بها قط. احتججت على ذلك. وجأني الرد كالتالي: لقد قرر الصحفي أن يستبقى الإقتباس. حينها أدركت شيئا مهما: أن الكاتب حين يستشهد صحفي ما بكلامه، لا يكون بعدها سيد كلامه؛ يفقد حقه ككاتب فيما يقول. وهذا بالطبع، مرفوض. مع ذلك فالحل سهل، وآمل أن يكون مناسبا بالنسبة لك: نلتقي أنا وأنت، نتحدث بصرف النظر عن المدة، في مواضع نتفق على أنه تدخل ضمن دائرة اهتمامنا؛ أمدك بإجابات لأسئلة تطرحها ونضف في الأخير بند حقوق النشر. وهكذا يجري كل شيء على ما يرام ويكون عادلاً لكلانا. 

– لويس : لويس : هذا يبدو منطقيا جدا بالنسبة لي. وفي الحقيقة لا ارى ما يمكن ان يرغب فيه المرء أكثر من ضمان الموثوقية التي  تشترطها هذا البند. لقد أثرت الكثير من النقاشات حول أوروبا الوسطى، فمجمل أعمالك الأدبية تناول الشيكوسلوڤاكيا بل حتى في دراستك النظرية ” فن الرواية ” تبدو أوروبا الوسطى مهمة للغاية. هل تمانع توضيح ماذا تمثل لك فكرة أوروبا الوسطى وماهي حدودها الحقيقة؟ 

– ميلان : دعنا نبسط المسألة، المسالة الكبرى، ونقتصر في جلستنا هاته على الحديث حول الرواية. يوجد هناك أربع روائيين عظام: كافكا و بروخ و موزيل وغومبروفيتش. وانا أدعوهم هؤلاء كوكبة من أعظم روائي أوروبا الوسطى. فمنذ بروست لا أرى أن هناك أحدا بتلك القيمة العظيمة في تاريخ الرواية. ومن دون معرفتهم، فالكثير من الاعمال الروائية الحديثة تبدو غير مفهمة. وباختصار فإن الكتاب هم حدثيون، مما يعني أن منشأ الشغف لديهم هو البحث عن أشكال جديدة. وفي الوقت ذاته، أعمالهم خالية تمامًا من أي أيديولوجية طليعية (الإيمان بالتقدم والثورة وما إلى ذلك)، من حيث أنها رؤية أخرى لتاريخ الفن والرواية: إنهم لم يتحدثوا يوما عن ضرورة وقفة جذرية؛ هم لا يعتبرون الاحتمالات الرسمية للرواية على أنها مضنية؛ بل إنهم يرغبون فقط في ان يضخموها. ومن هذا ينتقل إلى صلة أخرى بماضي الرواية. لا يوجد أي ترفع لدى هؤلاء الكتاب لما يدعى ” تقليدي”، بل في الإختيار الآخر للتقليد : إذ انهم مبهورون بالرواية السابقة للقرن التاسع عشر. وأنا أسمي هذا ” نصف العمر ” من الشطر الأول من تاريخ الرواية. تلك الحقبة وجمالياتها التي أصبحت تقريبا منسية، ومجهولة في القرن التاسع عشر. الخيانة المتبدية في الشطر الأول من ” نصف العمر ” قد جرد الرواية من دورها الجوهري ( إذ كانت جد جريئة لدى فرانسوا رابليه ولورنس ستيرن وسربانتيس ودنیس دیدرو) وقلص من مما أدعوه انا ب ” التأمل الروائي “. هنا دعنا نتفادى أي لبس حيال هذا المفهوم: فأنا لا أفكر في ما يسمونه ب ” الرواية الفلسفية ” فذلك يعني في حقيقة الأمر تبعية الرواية للفلسفة، نوع من الأسلوب الروائي في توضيح الأفكار. هذا التوجه يمثله سارتر، بل وأكثر منه كامو في روايته الطاعون. وهذا النوع من الرواية الوعظية هي أكثر شيء لا يروق لي. كانت نية موزيل وبروخ مختلفة كليا: وهي ليس خدمة الفلسفة، ولكن على خلاف ذلك، لسبر أغوارٍ، كانت الفلسفة حتى ذلك الوقت قد خصت بها نفسها، هناك حيث المشاكل الميتافزيقيا، ومشاكل الوجود الإنساني، التي لم تكن الفلسفة لتسعيبها بكل واقعيتها وكانت الرواية هي الشكل الوحيد التي استطاع استيعابها استيعابا تاما. وهذا يدل على أن هؤلاء الروائين موزيل وبروخ تحديدا قد جعلوا من الرواية فنا غاية في الشعرية ومركب معرفي طوعوها لتصير مجالا متميز داخل الحاصل الثقافي. إن هؤلاء الكتاب معروفون نسبيا في أمريكا، الشيء الذي دائما ما أعتبره فضيحة فكرية. وذلك في حقيقة الأمر يعود إلى سوء فهم جمالي والذي يبدو معقولا جدا حد الفهم حين يأخد بعين  الإعتبار التقليد المحدد للرواية الأمريكية.  فأمريكا أولاً لم تمر من الشطر الأول ل”نصف العمر” من تاريخ الرواية. وثانيا، في الوقت الذي كان الكتاب من أوروبا الوسطى يبدعون تحفهم الأدبية، في المقابل كان لدى امريكا جماعة من الكتاب الذائعي الصيت، كانوا يحدثون أثرا في باقي العالم، ومن أبرز هؤلاء هيمنغواي وفولكنر ودوس پاسوس. ولكن جماليات أعمالهم مغايرة تماما لما لدى موزيل! فعلى سبيل التوضيح : التدخل التأملي لكاتب من هؤلاء في البناء السردي لرواياته يظهر كجمالية تدفع نحو النزوح للعقلانية، كشيء دخيل على جوهر الرواية. ومن الذكرى الشخصية استحضر موقف لي مع مجلة ” The New Yorker ” حين قاموا بنشر الأجزاء الثلاثة الأولى من روايتي ” كائن لا تحتمل خفته ” وحذفوا مقاطع كانت متعلقة بفكرة العود الأبدي لفرديريك نيتشه! مع أن ما قلته عن العود الأبدي لا صلة له بالخطاب الفلسفي؛ بل هو إستمرارية للمفارقات التي لا تعدو تكون روائية (بمعنى ما، فقط تجيب لا أقل ولا أكثر عن ماهية الرواية ) منها إلى وصف لحدث أو حوار. 

– لويس : هل تقصد بأن هؤلاء الكتاب قد أثروا فيك على  نحو ملموس؟ 

– ميلان : أثروا في؟ قطعا لا. ذلك شيء آخر: إنني أتواجد تحت ذات السقف الجمالي الذي شيدوه. أنا لا أعتبر نفسي تحت سقف بروست ولا جويس. ولا حتى تحت سقف همينغواي ( رغم كل الإعجاب الذي أكنه له). إن الكتاب الذين ذكرتهم لم يتأثر أحدهم بالآخر. حتى أن بعضهم لم تعجبه أعمال البعض الآخر. كان بروش ممن ينتقدون موزيل دائما، وهو الآخر لم يكون معروفا بالنسبة للثلاثة الآخرين. ولو علموا أنني ضمتتهم إلى قائمة واحدة لربما أبدوا غضابهم تجاهي. قد أكون اخترعت هذه الكوكبة لأكون قادراً على رؤية السقف على مقروبة من رأسي. 

– لويس : كيف يرتبط مفهومك لأوروبا الوسطى بمفهوم “العالم السلافي” ، “الثقافة السلافية” ؟

– ميلان : هناك صلة طبعا، وهي الوحدة لغوية لللغات السلافية. بيد أنه لا توجد أي وحدة للثقافة السلافية. إذ لا وجود للأدب السلافي في الأساس. وإذا تمت موقعة كتتبي في سياق سلافي، فسوف لن أتعرف على نفسي. لأن برأي ذلك نوع من السياق المصطنع والزائف. أعتقد أن السياق الأورو أوسطي ( الذي يضم لغويا كل ما هو جرمانو-سلافو-مجري ) هو بالنسبة لكتبي يعد السياق الدقيق والأنسب. وغم ذلك فهو يبقى سياقا بالحجم غير الكافي إذا شئنا أن نضع أيدينا على المعنى وقيمة الرواية. فلذا أنا لن أمل أبدا من تكرار أن السياق الوحيد القادر على كشف معنى وقيمة عمل روائي ما هو السياق التاريخي للرواية الأروبية.

– لويس : إنك دائما ما تشير في معرض كلامك إلى الرواية الأروبية. هل هذا يعني بالنسبة لك أن الرواية الأمريكية في عمومها أقل من نظيرتها الأروبية؟ 

– ميلان : أنت محق في ذكر هذا. إن ذلك حقا يزعجني، إذ أنني لم أفلح في إيجاد مفهوم مناسب. لو كنت أقول الرواية الغربية سيُقال بأنني أتجاهل الرواية الروسيا. وإذا قلت الرواية العالمية فقد أبدو كما لو أنني ألمح من خلال قولي ذلك إلى الروية التي تربطها وشائج تاريخية بأوروبا. لهذا أقول الرواية الأروبية، لأنني أفهم هذا الوصف بالمعنى الهورسلي للكلمة: ولا أحصره في نطاق جغرافي محدّد، ولكننا إن شئنا حتى ذات البعد ” الروحي ” التي كُتبت في أمريكا وحتى في إسرائيل على سبيل المثال. إن ما أعنيه أنا بالرواية الأروبية هو ذلك الإرث التاريخي المُمتد من سريبانتيس حتى فوكنر. 

– لويس : يخل لي أن من بين الكتاب الذين تعتبرهم الأبرز والأهم في تاريخ الرواية، والذين تستشهد بهم وإن كاموا ينتمون لأماكن مختلفة، أولئك الذين لهم صلة بتطور الرواية وعلاقتها بأي تاريخ ثقافي، لا وجود للنساء بينهم. قد اكون مخطأ حيال هذه النقطة، ولكن أرجو أن تصحح لي هذه الفكرة،  لا أجد ذكر إسم لأي من النساء الكاتبات في مقالاتك أو مقابلتك قط. هلا وضحت ذلك؟ 

– ميلان : ما يفترض أن يشغل اهتمامنا هو جنس الرواية وليس جنس من يكتبونها. إن كل الروايات العظيمة، كل الأعمال الصادقة هي ثنائية الجنس. وهذا يحيلنا إلى القول بأنها تعبر عن كل من الرؤية الأنثوية والذكورية للعالم. أما جنس الكتّاب فهو شيء يقع ضمن خصوصياتهم ولا يجب برأي أن يستدعي الأمر منا الالتفات إليه.  

– لويس : يبدو أن جميع روايتك توثق بوضوح للتجرية التشيكية. وأنا اتسأل إذا ما كان بإمكانك كتاب قصة داخل سياق سوسيو-تاريخي آخر، كأن تكتب عن فرنسا مثلا، ويبدو ذلك كما لو أنك في الوطن، فيما أنت في باريس. 

– ميلان : سوف نرى. ولكن الآن، سأكتفي بقول هذا : لقد عشت في تشيكوسلوڤاكيا إلى ان بلغت الخامسة والأربعين. ومهنة ككاتب بدأت حين كنت في الثلاثين، وبوسعي القول أن قسماً كبيراً من حياتي الإبداعية قد انصرم في فرنسا. وأنا جد مرتبط بفرنسا أكثر مما يُعتقد. 

– لويس : – إن كتابك ” فن الرواية ” هو بالتأكيد شهادة شخصية رائعة. أعتقد أن جاذبيتها ترجع تحديدًا إلى حقيقة أنها، علاوة على نفاذ البصيرة التي قدمت للأبعاد العالمية للتجربة الجمالية، وهذا أمر مهم، شيء جعلها بمثابة نظرية شخصية للغاية لفن الرواية. 

– ميلان : إن هذا الكتاب لم يكن تنظيرا بقدر ما هو اعتراف ممارس. وعلى المستوى الشخصي فأنا أحب الاطلاع بشدة على اعترفات ممارسي الفن. لهذا فإنني أجد كتاب أوليفييه مسيان ” تقنية لغتي الموسيقية ” في غاية الأهمية بمرات من كتاب أدورنو ” فلسفة الموسيقى الحديثة “. ربما قد اكون أخطأت اختيار عنوان الكتاب الذي يحمل بين طياته ما يمكن أن يوحي بطموحات تنظيرية. وعلى العموم، فالعنوان كان من اقترح أيرون آشر محريري الخاص. وكان مقتبساً من الجزء الأخير من كتاب ” الإنسان يفكر، الإله يضحك “. واليوم، أرى أن الوقوع على ذلك اختيار ذلك كان شيئا صائباً. وكما أنني استبقيت العنوان ” فن الرواية ” لسببٍ آخر شخصي : حين كنت في السابعة والعشرون أو الثامنة والعشرون من العمر، ألّفتُ كتاباً عن روائي تشيكي كنت مولوعا به أشد الولع، كان ” فلاديسلاف فانورا “. وقد عنونت الكتاب حينها بفن الرواية. أعجبت بما كتب تواً ( بفضل فانورا ) وبما أنه بدا لي عملا غير ناضج، اعتزمت ألا يطبع مرة أخرى فأردت على الأقل الإحتفاظ بالعنوان كذكرى من الماضي. 

– لويس : أخيرا، هل ترى أن هناك أي نقط تحول رئسية في تطور فكرك عن الأدب، وفي علاقته بالعالم والثقافة والفرد؟ 

– ميلان : إلى حدود الثلاثين من عمري ألفت اشياء كثيرة : وتأتي الموسيقى في المقام الأول، ثم الشعر أيضا بل وحتى المسرح. كنت اشتغل في اتجهات مختلفة باحثا عن صوتي وأسلوبي الخاصيين وكذلك ذاتي. مع أول قصة ” غرميات مرحة ” التي كتبتها سنة 1959، كنت متأكد من أنني وجدت ذاتي. صرت منذئذ كاتب نثر، أصبحت روائي، ولا شيء غير ذلك. ومنذ ذلك الوقت لم تشهد جمالياتي أي تحولات؛ أو تطورات خطية إذ سمحت لي باستعارة عبارتك.

المصدر : 

https://www.dalkeyarchive.com/a-conversation-with-milan-kundera-by-lois-oppenheim/