مجلة حكمة

حوار مع محمد الناجي: بين طيات حيل العبودية / ترجمة: سعيد بوخليط

حاوره: ادريس كسيكس وفاطمة أيت موس


خلال ذلك اليوم من سنة 2009 ،كان منكبا،مثل كل سنة على التحضير لمهرجان. لقد نظم العديد منها،مهرجان “ليزاليزي” في الصويرة وفيما بعد،”أوتار”بابن جرير. خلال كل مرة،تتجلى الموسيقى في قلب التظاهرات التي يشرف عليها.شغوف بالموسيقى،ومتعلق بالكلاسيكية وكذا المحلية،يعود ثانية إلى الطقس القرآني من أجل تفسير شغفه بالإيقاعات والسمفونيات.حتى وهو يكتب،يستمع إلى الموسيقى. ينتمي إلى بعض هؤلاء المفكرين الذين مهدوا مبكرا طريقا بين فجوات تخصصات.

 محمد الناجي صاحب تكوين اقتصادي مع نزوع نحو التاريخ،ولد بقلعة السراغنة سنة 1949 ،وانتمى إلى نواة هؤلاء الدارسين الأوائل للعالم القروي تحت إشراف عالم الاجتماع بول باسكون.أول كتابيه : “فلاحون بدون أرض”،”المخزن وسوس الأقصى،مراسلات دار إيليغ “.لازالا يحملان سمات هذه الرفقة التي وجهته نحو السوسيولوجيا والأنتروبولوجيا، وخولت له،إلى جانب آخرين،فهم مغرب متحول،انطلاقا من البادية.

أيضا،من أجل تطويق إشكاليات التخلف الاقتصادي وفهم أصوله التوسعية والثقافية، لم يخترق فقط الحقل المجتمعي،بل اقتحم كذلك أبواب التاريخ. قاده هوسه بتعدد الاختصاصات كي يستكشف موضوعات جديدة وحاملة للمعنى كي نفهم مجتمعاتنا الحالية في حاضرها.

هكذا توخى سبر أغوار ظواهر العبودية والاستبداد، من خلال النصوص وكذا ملاحظة فاعلين في البلاط الذي لم يكن بعيدا عنه.انكب في كتاباته على المسالك الضيقة للعبودية والعنصرية ،مفككا رموزها بالعودة إلى القرن التاسع عشر،وهي فترة أساسية من أجل فهم مغرب مابعد الكولونيالية . ثم  يعود أبعد بكثير إلى التاريخ قصد العمل على القيام باشتقاق لمعجم مجتمع البلاط الإسلامي.هذا الاشتغال على اللغة،النادر كثيرا في المنطقة أضفى على مؤلفاته نوعا من الشهرة الدولية.

ظلت ثقافته الماركسية، وفية لنقد الامبريالية الغربية،سيقاوم محمد الناجي ،تغليف حقائق محلية،بمفاهيم كونية (حداثة، ديمقراطية،الخ )عبر تبنيها من خلال مركزيتها الأوروبية. يبحث في الموروثات المحلية عن مرجعيات بل وشرح قوى الجمود الفاعلة في العالم العربي الإسلامي.

لم تمنعه هذه العلاقة الدائمة مع الماضي كي يكون فاعلا ثقافيا متصلا جدا بوسائل الإعلام :مقالات في الصحافة المكتوبة،ثم جراء خشيته من ابتذال اللغة العالِمة،يحضر بانتظام على مواقع التواصل الاجتماعي،باستعادته لمقاطع من نصوصه غير متردد في الانقياد خلف قريحة شعرية.اتخاذه لمواقف فورية،حول النسوية أو الهوية،عرضته أحيانا لتعليقات لاذعة.هكذا يجسد في الواقع باحثا جسورا مما جعله موضوع جدال.

*عبودية، رقّ، استعباد :

س-دراستكم الأخيرة : العبد والرعية،العبودية والسلطة والدين في العالم العربي،تعرضت لأصل الخضوع في العالم العربي.لا تتكلمون عن القرن العشرين ولا الواحد العشرين،لكن تحليلكم يدعو للاعتقاد بوجود ثبات واستمرارية بخصوص حكايات العبودية.هل يتعلق الأمر بحتمية تاريخية ؟

ج- نوع من عدم الرضى ،يتم الإحساس به بعد كل عمل حول المخزن لم يدرك جوهريا العبودية في المغرب،باعتبارها أصل هذا العمل.فهم ميكانيزمات الهيمنة،تذهب إلى جوهر الأشياء قصد الإمساك بالماهوي،هذا هو الهدف. إنها ببداهة قضية حاضر قبل كل شيء، وإلا تعلق الأمر بقراءة تاريخية غير ذات قيمة.تتجلى استمرارية بين البارحة واليوم : العبودية دائما هنا.وتطرح أهمية سؤال التاريخ أكثر من سؤال آخر،ارتباطا بالحركة الإسلامية وكذا مشروعها الاجتماعي،حيث يضغط الماضي بشكل ثقيل جدا.اهتدى بي هذان العنصران مترافقان نحو الأصل،والمنبع. على أية حال، بلغت هذا الموضوع دون أن أدرك ذلك.بل قادني نحو هذا الدرب تاريخ القائد عبد الله،بعد سنوات من التحسس.

س-في عملكم : الجنود، الخدام والجواري،أقررتم بتواضع أنه لايمكنكم بناء على مقاربتكم استخلاص نظرية للعبودية،مادام أنها ليست مشتركة بين مجموع العالم العربي.لكن هل استطعتم في نهاية المطاف بعد دراسة العبد والرعية، تطوير هذه النظرية ؟

ج-أعتقد بأن مسألة إدراك العبودية بقيت غاية الآن في إطار نفس منظور النموذج الغربي،أي تحت الزاوية المقتصرة على النظام الإنتاجي،احتُجز التأمل وفق منظور ضيق لعبودية الخدم مستبعدا كل إمكانية لمنح هذه المؤسسة وظيفة مهمة وأساسية في العالم العربي،لاسيما ما يتعلق بالنظام السياسي. هذه الوضعية أفقرت بعمق الفكر السياسي.بالتالي،تجلى مفعول  أن نترك جانبا العبودية المنتجة. لأنه توجد على أية حال أشياء…فمن المؤكد اختلاف  البلدان العربية مختلفة،لكن تظهر خاصية مشتركة لدى الملكيات كالجمهوريات،تتجلى في سلطة الحاكم المطلقة،وكذا الإحالة على الإسلام بخصوص شرعية السلطة.هي ثوابت.

س-هل حٌكم علينا بالاستبداد ؟أهو قدر؟

ج-لقد شكل التطبيق الميكانيكي لوصفات ديمقراطية مستعارة من الغرب أصل تصورات  يمكننا وصفها بالحماقات البذيئة. بحيث لم نكن قط ضمن منطق التطور الأوروبي لذلك يستحيل علينا أن نقيم بهذه السهولة على نحو مصطنع مؤسسات تعتبر هناك نتاج قرون عديدة من التطور.أيضا يلزمنا فهم أسس الاستبداد عندنا،كي نكون على بصيرة من ذلك والتفكير في المستقبل بوضوح.

س-في كتابه الإسلام والعبودية،استخلص مالك شبل بأن الإسلام :((يقول عكس ما يمارسه المسلمون،هو لغز في ذاته. إن النفاق البشري المرتكز على تحويل رسالة تحرر إلى غولاغ بشري يمثل جزءا مكملا ضمن هذا التناقض)).لقد أتى كتابكم خلال لحظة ننسب فيها إلى مرتكزات الإسلام مفاهيم أنتجتها ممارسات المسلمين تاريخيا.هل تعتقدون بوجود أصل نصي أو سياقي للاستبداد؟

ج-بالنسبة إلى،لم يغير الإسلام كل شيء.بخصوص بعض المستويات،لا توجد قط استمرارية بل رجوعا إلى الوراء،كما الشأن مع قضية الحرية.كان العالم العربي مجتمعا قبليا لحظة ظهور الإسلام.ثم أنشأ الإسلام، دولة في مجتمع كهذا، مما شكل أصلا ثورة.لكن كيف تقام بنية استبدادية لافتة حسب هذه الشروط؟الصلة الوحيدة للسلطة الفعالة والموجودة خلال تلك الحقبة هي العبودية.إذن،ينبغي الاستناد عليها.لكن القول بأن الإسلام أرسى أسسا لحرية العبيد لم تتبعها المجتمعات هو خطأ يتأتى من جهل بالنصوص.في كتابي،يكمن الجديد من خلال قراءة أخرى لنصوص،أقل ارتباطا بالتصورات،مثلا :المٌحَرَّرُ ليس هو الحر.حيث يتعلق الأمر بوضعيتين مختلفتين،إننا بعيدين عن إلغاء العبودية.

س-كتبتم في صداقة الأمير بأن السلطة : ”ترغب في العبودية”.هل مجتمع البلاط من أنتج ميكانيزمات العبودية أو كون الأخيرة تنتعش على ردة الفعل العبودي الاختياري؟

ج-لقد عممت العبودية الطوعية ويمكننا في أيامنا الحالية أن نتبينها،حتى مع الأنظمة الحديثة الغربية،حينما نلاحظ دوائر السلطة.طبعا فيما يخص الحاضرة العربية،الظاهرة قائمة.هذا واضح جدا. من جهتي،توخيت التركيز على آليات العبودية ،بمعنى وضع يد السلطة على ثروات معينة لاسيما الماء،والأراضي الخصبة،والتجارة.كل هذا يشتغل على أساس العبودية ولا يوجد خارجها،طرق أخرى بهدف الولوج إلى مجتمع البلاط والاقتراب من الملك.بالتالي نحن أمام نظام اجتماعي آخر مختلف عن الأوروبي.

س-لقد كنتم دائما شخصيا عند عتبة المجال الذي يدور حول السلطة. بخصوص أي شيء ساعدكم هذا الموقع أو غير ذلك،في فهم العبودية؟

ج-العلاقة مع السلطة ساحرة.لا ينبغي ادعاء عكس ذلك.حتى الملاحظين الأوروبيين أثارهم القصر و حاشيته،ثم خباياه وتجلياته.ملاحظة عن قرب هذه الصلة المتحركة يمثل بالتأكيد حظا يساعد على صياغة أفضل لهذه الأسئلة،وإدراك أمثل لتعقد الصلة بين السلطة وألغازها.أمر مفيد على مستوى سيكولوجيا العبودية.

س-بالنسبة لرجل العلم والباحث المشتغلان على عناصر مثل هذه،فأي نمط من التطابق مع الغير – أو عدمه – يخلقه ذلك؟وأي مسافة ينبغي الاحتفاظ بها؟

ج- تخلق الصدفة أشياء كثيرة في الحياة.بالنسبة إلي،يلزمني الإقرار لها بالمعروف.لا أعتقد بوجود موقف واضح،متميز،ونهائي لا يتغير قط .إنها مسألة نادرة في التاريخ :فقط الأولياء أو الأشخاص الموهوبين من ينذرون أنفسهم لمهمة تلامس حالة كهذه.أما بالنسبة للأغلبية، فالانكفاء نحو هذه الجهة أو تلك يمكنه التدخل خلال أي لحظة،لأن السلطة تغري دائما،ليس فقط كموضوع للبحث،لكن أكثر بقدرتها ذات التنويم المغناطيسي.

*الصلة مع الماضي والانفتاح الأكاديمي:

س-أنتم شغوف بالقرن التاسع عشر.هل تظنون مثل عبد الله العروي أن كل شيء (تقريبا)تحدد خلال هذا القرن ؟هل ينهض هذا الموقف على تحفظ أكاديمي أم احتراس سياسي؟

ج-لا،لا أعتقد ذلك.أظن في المقابل أن  نهاية العصر الوسيط ،ثم خاصة القرن السادس عشر،كان حاسما بخصوص تشكيل المجتمع.فقد ظهرت الدولة الشريفية خلال هذه الحقبة وليس في القرن التاسع عشر.أعتقد، بأن هذه القرون التي أهملنها مهمة جدا.بهذا الخصوص،فالدراسة الجديدة ل بيرنار روزنبرجي حول القرن السادس عشر وكذا عمل محمد قبلي يعتبران أساسيان جدا. مع ذلك،فالانتقال نحو الرأسمالية الحديثة بدأ خلال القرن التاسع عشر،وكان عبد الله العروي، صائبا بهذا الخصوص.

     

س-هذه العودة إلى الماضي تهمكم ،لأنه يسمح بإضاءة الحاضر. لكن هل ذات البنيات مستمرة؟وأي نسبية يمكن الإبقاء عليها قياسا للحاضر؟

ج-تعتبر العودة إلى الماضي مهمة من أجل فهم أفضل.مثلا من أجل قراءة آليات الاستبداد،وقراءة طبيعة الدولة،إلخ.تلزم العودة إلى الماضي كي نفهم على نحو أفضل.طبعا،تغيرت الأشياء بنيويا كثيرا.من الجلي جدا،أننا لم نعد قط ضمن مجتمع قبلي،ولم تعد اقتصادياتنا عتيقة،حتى لو بقيت الفلاحة ضعيفة،ولا الأفراد عند ذات مستوى الأمية…لكن فيما يتعلق بميكانيزم السلطة فقد ظل نفسه عند جوهره.

س-تستحضرون في كتاباتكم العديد من أنماط مقاومة الحداثة.فضلا عن ذلك،أكدتم مع خلاصة كتابكم الأول حول العبودية،الجنود،الخدم والجواري ،بأن  هذه الظاهرة منتهية إلى الزوال.هل ستختفي هذه الجيوب المقاومة للحداثة أيضا بقوة الأشياء أو تستلزم حقا تدخلا سياسيا؟

ج-لا أعتقد بأن تغيرا اجتماعيا راديكاليا يمكنه أن يحدث هكذا ،دون صعوبة،وبغير رؤية مستقبلية،ودون مبادرة ولا مشروع مجتمعي.والحال،أن مجتمعنا لازال أسير تصورات بالية للعالم،لذلك لا يتعلق الأمر فقط بقضية سياسية،بل هناك ضرورة ثورة ثقافية.وحينما أقول ثورة ثقافية،فمن خلال محتواها،لأن المفهوم يفترض اقتصادا،يُدبر بكيفية أخرى،ويتوسع بوجه مختلف مما يعني القطع مع تمثلات للعالم بالية ومتجاوزة،والعمل من أجل مجتمع يمتلك تطوره ويُفعِّل أسس مواطنة حقيقية،كل هذا بكيفية صريحة دون أن يتم مرة أخرى تغليفه بنسيج من الاعتبارات الدينية. بمعنى ثان،قرارات دولة عصرية وليس فتاوي.مثال من بين أخرى :المساواة بين المرأة والرجل،على جميع المستويات،ولاسيما وبالأخص ماتعلق بالإرث.

س-دراستكم المعجمية للألفاظ في علاقة بالسلطة يظهر العالم العربي مثل صنف في ذاته.هل العالم العربي متجانس ثقافيا؟

ج-قطعا لا، واضح !لكن هنا،أعمل على تقديم عناصر،ثم مواطئ أقدام.فيما بعد،ينبغي القيام بمقارنات قصد الوصول إلى أشياء أكثر عمقا،وتمحيصا،وأفضل تركيبا.مع ذلك،من الغريب أن دراسة المعجم العربي تساعد على تفسير أشياء كثيرة في البلاد المغاربية!من المهم الإشارة إلى أن ممارسات محلية سيئة (رق، عبودية، خضوع ،إلخ)تجد تفسيرها في ماض بعيد وبين طيات اللغة العربية.

س-يبدو بأن مقاربتكم المعجمية تستلهم فقه اللغة. من أي جانب هذه المنهجية مثمرة؟

ج-مثمرة،هي كذلك بالتأكيد !والسبب :أن الأصول الكلاسيكية التي يستثمرها تقليديا البحث التاريخي تصمت على جوانب كثيرة.إذن فضلت،كي أفتح دروبا جديدة،وأتبنى مسارا مغايرا ،يرتكز على مساءلة الكلمات وجعلها تتكلم.ولها ذاكرة مذهلة،كما ترون.

س- لدينا الانطباع أنكم عصامي بكيفية مستمرة؟

ج-نعم .فأنا لست صاحب تكوين فلسفي ،ولا تاريخي بالمعنى الحق للكلمة. في نفس الوقت حالة العصامية هذه تحرر،إنها لاتخصي قط بل تحث على المغامرة والتردد،اللذين يمكنهما أن يصبحا  منتجان  جدا. فخلال لحظة معينة،وعند مستوى معين،حينما يتوقف التأمل ولا يتقدم أبدا- حالة البحث المتعلق بالمخزن- ينبغي إذن طرح أسئلة جديدة،والتفكير في مسار يلزم اتباعه،هذا ضروري.

* موروثات فكرية :

س- هل شكلت مصاحبتكم ل بول باسكون مصدرا لهذه الفطنة؟

ج-نعم، في كل الأحوال،كل شيء تأتى من تلك المغامرة. وقد بدأ هذا أصلا مع كتاب ”المراسلة السياسية ”.يتحتم قراءة عناوين كبيرة،مثل المعسول للمختار السوسي.لذلك أظن بأن الأشياء قد بدأت مع بول باسكون وبفضله.كان أستاذا حقيقيا ينتقل بك صوب أبعد مما أنت عليه.

س-أنتم أحد الطلبة/ الرفاق ل بول باسكون.شاركتم في تجربة مجلة لاماليف.هل تعتقدون بأن التقاطع بين السياسي والثقافي،الممكن خلال تلك الحقبة،غير قابل للتبلور ثانية ؟

ج-لايبدو بأن الجامعة لازالت منتجة مثلما كان الأمر سنوات السبعينات.يسردون أشياء كثيرة حول عدد المنشورات،والثراء الثقافي،لكن ذلك غير صحيح تماما.اليوم،نحن ضمن منطق تطور عرف اختفاء :”المجلة المغربية للاقتصاد والاجتماع” و’لاماليف”،وليس فقط بسبب وزارة الداخلية. إنه حقا تطور أكثر خطورة،فلو ارتبط الحظر فقط بالبصري،لأمكن استدراك الأمر.انظروا إلى مجلة ” Hespéris-Tamuda”(أول مجلة جامعية مغربية صدرت فترة الحماية سنة 1917،هي متوفرة حاليا على الموقع الاليكتروني للمكتبة الوطنية) ، والتي تظهر بالتقتير.إنها إشارة عن أزمة جسيمة تمس الفكر عندنا.تأملوا كم صار السياسي لدينا بئيسا إلى هذا الحد،كنتيجة مترتبة عن الكآبة السائدة في الجامعات.ينبغي إعادة تشكيل الحقل العلمي وهيكلته ثانية،كي تتم استعادة البحث بجدية وفق أسس وطنية. تأملوا ما يجري حاليا :هو عمل أفراد،موصول في جل الأوقات ببنيات غير وطنية.ميكانيزمات التحفيز غير موجودة على المستوى الوطني.لذلك ليس صدفة أن الجامعة فقدت دورها السياسي الطليعي التقدمي واستغلال الإسلاميين هذا الوضع حاليا لصالحهم.أيضا خسرت دورها في التكوين وباعتبارها فضاء للبحث.

س-هناك أدب ليبرالي وفير مكتوب بالعربية.لكن لأنه صُنف يساريا،فقد أُهمل اليوم.هل تنضوون ضمن نفس التيار؟

ج-إنه مسار  نَفَس طويل.وليس عمل باحث أو باحثَين.تحدث منذ عهد بعيد باحثون عن قراءة عقلانية للقرآن… لكن ينبغي الذهاب أبعد قليلا فنخلخل شيئا ما بقوة،الأفكار المتداولة.هذا يعني أن نسائل ثانية الأصول،والتفكير في اللامفكر فيه،ثم إلغاء صفة القداسة عن البشر وكذا النصوص التأسيسية.أي في كلمة واحدة،اقتحام مركز القيادة.

س-بخصوص هذه الأسئلة،استحضر اسمي العروي والجابري :للذهاب سريعا صوب الحداثة،يمدح أحدهما قراءة جديدة للجواني،والأخر للبراني.يظهر بأنكم اخترتم طريق الجواني.لماذا؟

ج-إنه تحول اقتصاديّ.لقد تجسدت قوة الراديكاليين الجدد في معرفتهم الجيدة بالاقتصاد الكلاسيكي الجديد،ثم تناول فرضياته وانتقادها.إذن، هو انتقاد داخلي يفكك كل شيء.أظن بأن هذا ما يلزمنا حقا القيام به.

* ثقافة وتنمية اقتصادية :  

س-كتبتم في إحدى مقالاتكم بأن :”الجواب الجوهري عن مجموع الأسئلة المثيرة حاليا للاهتمام،من استراتجية التنمية،إلى مختلف المظاهر المرتبطة بكيفيات ممارسة السلطة وحقوق الإنسان،تتوقف تحديدا على المقاربة المخصصة لقضية الثقافة بمعناها الواسع”هل ينبغي أن نستشف بأن المواطنة لا تكتسب لكنها تستحق، ما إن تآلفت الشروط الثقافية؟

ج-حسب فهمي هي أساسية.فلم تحدث قط ثورة فلسفية في أوروبا عبثا،ولا جاءت الثورة الثقافية الصينية من أجل لاشيء.بدون ذلك،لا تتغير المجتمعات ولا تدرك خاصة الوعي بتغيرها.لكن حينما أقول ثقافة،ينبغي الاتفاق جيدا.بالنسبة إلي،الثقافة في المغرب رهينة بالبنية التحتية.فعلى امتداد كل قرون مانسميه بتشكل الوطنية المغربية أو الوطن المغربي،كانت الثقافة حاسمة.لم يتأسس الفضاء الوطني نتيجة الأقطاب الصناعية أو الاقتصادية،لكن بأقطاب دينية.لقد تهيكل الفضاء بثقافة دينية أساسا.لم ننفصل نهائيا عن هذا النموذج على الرغم من كل الزخم الذي يعيشه الاقتصاد المعاصر.تنبعث المشاكل تحديدا من هنا :تغير الاقتصاد والمجتمع أيضا،لكن الثقافة ظلت في أعماقها على حالها،بالرغم مما تعرفه من استهلاك.أود القول بأن الثقافة باعتبارها تصورا للعالم تقرر كل أجوبة مجتمعنا ووضعنا.

س-لقد كتبتم تحديدا أننا عند عتبة “قطيعة ثقافية”.هل تتكلمون عن علمانية منطلقة؟

ج-شيء مؤكد،أن الثقافة المهيمنة ليست عند مستوى استيعاب جيد دون مشاكل،للتحولات الجارية في مجتمعنا.القضية أننا لانقتحم العتبة بل ولا مجرد التفكير في احتمال عبورها.ولم تتوفر بعد الشروط المناسبة.يلزم أولا أن يلعب الاقتصاد دوره تماما.في أوروبا،يتدفق الاقتصاد،فيض كهذا يكسر كل شيء في طريقه.عندنا،لازال مصابا بالوهن ولم يلامس بعد هذه العتبة التي تعمل على تشظية الحواجز.لأن الأرياف كانت باستمرار ضعيفة جدا،والمدن هي التي شكلت خلال لحظة معينة،مراكز،لكنها انتعشت بالتجارة،وليس بالإنتاج،أي مايشكل الشرط الأول. أما الثاني،فيكمن في الثقافي.اليوم أتوخى حقا أن يقدموا إلي من يمتلك داخل هذا البلد مشروعا ثقافيا واضحا يطرح الإشكال،ويبين الصلات بين مختلف السلط .لاشخص يجرؤ على مجابهة الدين.ثم انظروا إلى الأرياف،غاية اليوم !كم هي متناقضة مع المدينة !نفوذ هذه الأخيرة على الأرياف لازال بعد ضعيفا :هو إرث تاريخي وأحد أسباب تخلف المغرب.

س-لقد كتبتم في : التمدد الأوروبي والتغير المجتمعي في المغرب (القرن1619)بأن الاقتصادي”مصدر قلق للسلطة.اعتُبر مدمرا،هكذا كُبح وتم احتواؤه.بحيث  وُضع نظام من الحواجز قصد السيطرة عليه”هل تعتقدون بأن النظام السياسي المغربي،القائم على أساس ديني،بوسعه حقا الدفع بليبرالية اقتصادية؟

ج-تحضرني قولة للرسول تندرج في هذا السياق :”تبَّا للذهب والفضة”.عميقة جدا :في الواقع،بكل بساطة تأثير انحلال البنيات،والعلاقات الشخصية بكيفية عامة.وهذا ماوقع تحديدا إلى غاية القرن التاسع عشر.لماذا أغلقت الدولة المغربية كل الأبواب ومتمسكة دائما بالسيطرة على مدارات انتقال ورواج البضائع؟لماذا مركزة العلاقات مع الخارج؟ولماذا السيطرة داخليا على مختلف مراكز السلع؟بكل بساطة لأنها تعرف عمليا  كونها مصادر للانقلاب ضدها.اليوم،مع العولمة،من الصعب جدا،لكنها مع ذلك تهيمن.أولا بإخضاع سيرورة القرار في الإدارة،الجوهري بالنسبة للمقاولات،ثم بالهيمنة على الأقطاب الاقتصادية القوية،وأخيرا توزيع الثروة والشرعية بالنسبة لمن هم أثرياء أصلا .

س-باعتباركم اقتصاديا،هل تعتقدون مثل ماكس فيبر،أن الإصلاح الاقتصادي من سيقود نحو الحاجة لإصلاح ديني؟

ج-بالنسبة إلي،تعتبر مركزية.لقد اشتغلت كثيرا على العصر الوسيط وأثارت انتباهي القوة التي بحسبها يقوض الاقتصاد العلاقات الاجتماعية.وحقا فالزراعة من قادت إلى حل أوصال كل  مِلْزَمة وهيأت عن بعد إفلاس الكنيسة !بحيث قامت الدولة الأوروبية  الحديثة بفضل  تلك التربة العضوية .اليوم الذي يُدار فيه عندنا الاقتصاد بطريقة مستقلة تماما، سيتخطى آليات الكبح…. يمكننا أن نرى في أشياء بسيطة جدا، مثلا العلاقات الأسروية ،كيف ينهي الاقتصاد مجموعة من السلوكات والعلاقات.فحينما يهاجر الفتيان والفتيات،إلى الخارج يتزوجون هناك،وتزاح كل الكوابح الدينية،على الرغم من احترام شكلي.إذن، الاقتصاد يجبر.

س-وبهذا الخصوص أيضا هل تعتقدون بوجود حركة مستترة تعمل وفق هذا الاتجاه؟

ج-يبقى النمو الاقتصادي ضعيفا وغير منتظم،وليس كافيا من أجل الإسراع بالتغيير.لسنا بعد في مرحلة علمنة مرحلية فيما بيننا، ضمن مضمر الممارسة اليومية.علينا الانتقال إلى مرحلة القطيعة المتبصرة والصريحة.خطابنا سنوات السبعينات،الراديكالي جدا ظاهريا،لم يأخذ بعين الاعتبار هذه التباطؤات ولاعبء البنيات… فكان ثمن ذلك غاليا. 

*شاطئ صاحب الحس المرهف:

س-في نص جميل،معنون ب : بقدر ما تحملنا الريح،تصفون ما تحدثه الريح من إثارة وتستحضرون الصويرة  كصنف يمثل أصل الانزياح المبدع. بحسبكم،أين تتموقع مواضع ذلك؟

ج-الصويرة،بالنسبة إلي،هي حركة الهبيين والريح في اتجاه الحرية ورفض النزعة الامتثالية.يبدو ذاك الشاطئ الفسيح كونه يفتح عددا من آفاق الحرية.أتموقع من الوهلة الأولى،ليس في مدينة الأثرياء،بل في تلك التحت-أرضية،للهوامش.أعشق الهامش المبدع.لدي صديق هو الرسام حسين ميلودي،بمثابة مرشد ممتاز وسط هذا الفضاء،ممتلكا أسرار تلك الأمكنة.

س-أنتم مولع بالموسيقى.تشعرنا كتاباتكم بعلاقة خاصة جدا مع الإيقاع والصمت.فكيف تعرّفون الصلة بين الموسيقى والكتابة؟

ج-لا أشتغل أبدا بدون موسيقى.وباندهاش،يعود تفكيري إلى المدرسة القرآنية التي لعبت تأثيرا بهذا الخصوص.لأن المدرسة القرآنية،هي الإيقاع أولا.أستمع للقرآن كثيرا،وهناك تراتيل مدهشة على نحو كامل.امتلك الرسول محمد وعيا ثاقبا بخصوص أهمية الشدو داعيا إلى ترتيل النص المقدس.كان الشدو جوهريا من أجل استمالة وإقناع القارئين.بالتأكيد يأتيني عشق الموسيقى من بعيد،حتى مع عدم تنظيمي لمهرجان صوفي.كل مافي الأمر،أني أعشق الموسيقى.


هامش:

Fadma Ait Mous et Driss Ksikes :le metier d intellectuel ;dialogue avec quinze penseurs du Maroc.en toutes lettres ;2014.pp :205- 219.