مجلة حكمة
جذور الرومانتيكية

جذور الرومانتيكية: مقدمة المحرر – ايزيا برلين / ترجمة: سعود السويدا

جذور الرومانتيكية
غلاف كتاب (جذور الرومانتيكية) لايزايا برلين

يمكنك شراء نسخة كندل من الكتاب عبر هذا الرابط


عن المؤلف والكتاب

عن المؤلف:

ايزايا برلين (1907 – 1998) مفكر بريطاني من أصول روسية. وقد عرف كمنظِّر سياسي، ومؤرخ أفكار بالدرجة الأولى. واشتهر بدفاعه عن الليبرالية والتعددية وهجومه على الأنظمة الشمولية والتعصب الفكري. وتُعدّ نظرياته حول الحرية نقطة انطلاق أساسية للكثير من المناقشات السياسية الحديثة والمعاصرة. في تأريخه للأفكار، عُرف برلين بتركيزه على عصر التنوير والعصر الرومانتيكي وصولًا إلى القرن العشرين. وبالإضافة إلى كتابه هذا عن جذور الرومانتيكية، فله كتاب آخر عن الفكر السياسي الرومانتيكي.

عن الكتاب:

كانت الرومانتيكية، إذن، بحسب برلين، تمثّل احتجاجًا على قيم عصر التنوير، بعقلانيته وتوازنه وإصراره على قابلية جميع الأسئلة للإجابة، إذا استطاع الإنسان الوصول إلى المنهج الملائم، وكان المنهج المقترح هو ذلك الذي حقّق نجاحات باهرة في العلوم الطبيعية وعلى يد نيوتن تحديدًا في الفيزياء والرياضيات. فالعلوم الإنسانية هي أيضًا، بمنطق عصر التنوير، ستتمكن من الوصول إلى الأجوبة الصحيحة عن كل الأسئلة الجوهرية، سواءً في السياسة أو الأخلاق أو الفنون (الاستطيقا).

هذا الكتاب إذن، يتتبع الحركة الرومانتيكية، والتي يعتبرها التحول الأعظم في الوعي الغربي منذ عصر التنوير، ويحاول تلمس إرهاصاتها الاولى، ومنطلقاتها الرئيسة وما بقي منها مؤثرًا إلى القرن العشرين. وهذا يشمل التأثيرات الإيجابية والسلبية. فهو يرى على سبيل المثال، أن الحركات السياسية الفاشية والنازية تجد منطلقاتها في الرومانتيكية، لكنه أيضًا، يرى أن فكرة التعددية، تعددية القيم وتعارضاتها، وهي فكرة محورية في مجمل فلسفة برلين السياسية، تجد جذورها أيضًا في الرفض الرومانتيكي لمقولات التنوير حول القيم الثابتة والصالحة لكل زمان ومكان.

وبرلين، يعرض الأفكار التي بثّها ممثلو ومعتنقو الرومانتيكية، من مفكرين وأدباء ومسرحيين ونقاد وموسيقيين، لكنه أيضًا يعرض التناقضات الهائلة التي كانت لدى الرومانتيكين بحيث يكاد يكون لكل رومانتيكي تعريفه الخاص، والمتناقض أحيانًا، مع التعريفات الأخرى. وطموحه المعلن في هذا الكتاب هو أن يقبض على ما هو جوهري في كل تلك التناقضات الظاهرية في الرومانتيكية، مثلًا بين الرومانتيكية باعتبارها عودة للبراءة الأولى والتصاق بالارض والريف والحياة الهادئة التأملية وبين الرومانتيكية باعتبارها حماسًا منفلتًا وأهوجًا واحتجاجًا ضد كل شيء، كما ظهرت لدى بايرون على سبيل المثال، وكذلك بين الرومانتيكية باعتبارها سخرية من السلطة ورفضًا لها بكافة أشكالها الاجتماعية والسياسية والدينية، وبين الرومانتيكية باعتبارها ولاءً للسلطة وللمجتمع والشعب والتراث.

ولعله من النافل القول، إن حركة مثل الرومانتيكية، هي مثلها مثل عصر التنوير، كانت ذات تأثير عالمي، على كل مستوى، في الفكر، في الأدب والفنون، في السياسة والأخلاق. ولم يكن العالم العربي بعيدًا عن هذه التأثيرات، في كافة تلك المجالات. من هنا فالكتاب يقدم مرجعًا مهمًّا لدارسي تحولات الوعي في العالم العربي، باعتباره كان دائمًا في نطاق التأثر بالحركات الفكرية الغربية بالتحديد، منذ عصر التنوير ومرورًا برومانتيكية القرنين الثامن والتاسع عشر، ووصولًا إلى وضعية ووجودية القرن العشرين.

وهناك، بالطبع، الكثير من الدراسات العربية عن الرومانتيكية، لكنها غالبًا ما تتوقف عند تناول آثارها الفنية والأدبية، مع إحالات ثابتة وغير مساءلة، لعلاقتها بالثورة الصناعية والثورة الفرنسية، كتمهيدٍ تاريخي للحركة، والتركيز على تأثيراتها في الأدب العربي، من زاوية الأدب المقارن أحيانًا ومن زاوية النقد التطبيقي أحيانًا أخرى. دون تناول البطانة الفكرية للرومانتيكية وامتدادتها في الفكر والثقافة العربية عمومًا، ودون الانتباه، في المجمل، للتحولات والمفارقات في النسخة العربية من الرومانتيكية.

من هذه الزاوية، يعيد كتاب برلين، التعقيد للكثير من المسلمات الثابتة في نشوء الرومانتيكية وتحولاتها ويركّز على بعدها الفكري والفلسفي وامتداداته الثقافية منذ القرن السابع عشر ووصولًا إلى القرن العشرين. وهو بهذا، يمهِّد الطريق لإعادة فهم المناخ الفكري للقرن العشرين، والذي يتجاوز فيه تأثير الرومانتيكية الفنون والآداب، إلى الفكر السياسي والأخلاقي ويُسهم في إخراج الرومانتيكية من الزاوية التي انحصرت فيها في الأفق الثقافي العربي، ضمن رفوف الأدب والنظرية الأدبية.


تمهيد بقلم المحرّر

“كل شيء هو ما هو عليه، وليس شيئًا آخر.” (جوزيف بتلر)

“كل شيء هو ما هو عليه...” (ايزايا برلين)

ملاحظة (بتلر) هذه هي إحدى الاقتباسات المفضلة لـ برلين، وهو يحاكيها في أحد أهم مقالاته. وأنا أتخذها كبداية هنا لأن أول ما يُقال عن هذا الكتاب الحالي، ولإبعاد أي سوء فهم ممكن، إنه ليس أبدًا الكتاب الذي يدور عن الرومانتيكية والذي كان (برلين) يأمل في كتابته، منذ تقديمه لمحاضرات (ايه. دبليو. ميلون) غير المخطوطة، حول ذات الموضوع، وقد كان ذلك في شهري مارس/آذار وابريل/نيسان من عام 1965، في متحف واشنطن للفنون. في السنوات الي تلت ذلك، وخصوصًا بعد تقاعده من رئاسة كلية ولفسون في أكسفورد عام 1975، استمر (برلين) يقرأ بصورة موسعة، وهو ينوي تأليف كتاب عن الرومانتيكية، وتراكمت لديه كمية كبيرة من الملاحظات. وفي العقد الأخير من حياته، جمع هذه الملاحظات في غرفة منفصلة وبدأ من جديد في مهمة الربط بينها: لقد جَهز قائمة بالعناوين الرئيسية وبدأ يملي في شريط كاسيت مختارات من هذه الملاحظات، مرتبًّا إياها تحت العناوين أثناء ذلك. وقد فكر أيضًا في استعمال هذا المحتوى كمقدمة طويلة لطبعة من أعمال (اي. تي. ايه. هوفمان)، عوض أن تُنشر كدراسة مستقلة له. لكن المؤلَّف الجديد لم يتشكل، ربما لكونه تأخر فيه كثيرًا، وعلى حدّ علمي لم يكتب جملة واحدة في العمل المزمع.

ويمثّل ذلك بالطبع، مصدرًا للأسف بالنسبة لقرائه، كما كان لبرلين نفسه دون شك، إنه لم يتمكن من كتابة رؤيته المنقحة. لكن هذا الغياب ليس خسارة بالكامل: فلو قدر للكتاب أن يكتب، فلن يكون للكتاب الحالي، والذي هو مجرد نسخ محرّر للمحاضرات، أن ينشر. ثمة إحساس بالطزاجة والمباشرة، والتكثيف والإثارة في هذه النسخة، والتي ستنمحي إلى حدّ ما، في عمل موسّع أعيدت صياغته بعناية. هناك العديد من المحاضرات غير المخطوطة التي قدّمها (برلين) والتي تتوفر على شكل تسجيلات أو نسخ، ويمكن مقارنتها مباشرة مع نصوص منشورة مستمدة منها، أو مع نصوص مؤلفة في السابق مبنية عليها. وهذه المقارنة توضّح كيف يمكن للمراجعات المتكررة التي اعتاد (برلين) على عملها تمهيدًا للنشر، ومع كونها تثري المحتوى الفكري وتزيد من الدقة في العمل، إلا أنها أحيانًا ما يكون لها تأثير متعقل على الكلمة الارتجالية المنطوقة. أو بالمقابل، توضح كيف يمكن لنص طويل ضمني – «جذع» كما كان يدعوه (برلين) – أن يستطيع اتخاذ حياة جديدة وفوريّة عند استخدامه كمصدر لمحاضرة لا تُقرأ مباشرة من نص مكتوب. إن المحاضرة التي تلقى باستخدام ملاحظات والكتاب المؤلف بعناية هما، إذا استخدمنا مصطلحات تعددية – غير قابلين للمقارنة. وفي حالة هذا الكتاب، للأفضل أو للاسوأ، لا يتوفر سوى شكل واحد لأحد مشاريع (برلين) الفكريّة الأساسية.

العنوان الذي استخدمته لهذا الكتاب هو من اقتراح (برلين) ذاته في مرحلة مبكرة. وقد جرى تعزيزه عند إلقاء المحاضرات بعنوان «مصادر الفكر الرومانتيكي»، وذلك لأنه في الصفحات الأولى من رواية (سول بيلو) بعنوان «هيرزوغ»، والمنشورة عام 1964، فإن البطل، وهو أكاديمي يهودي اسمه «موسى هيرزوغ»، يعاني من أزمة فقدان ثقة، ويصارع دون نجاح لتقديم دروس في محاضرات معدّة للكبار في مدرسة ليلية في نيويورك – محاضرات تحمل عنوان «جذور الرومانتيكية». وفي حدود علمي، ليست هذه أكثر من مصادفة – وقد أنكر (برلين) ذاته أي علاقة مباشرة بالموضوع – ولكن أيًّا كان الحال، فإن العنوان المبدئي كان بالتأكيد أكثر جاذبية، وإذا كانت هناك مبررات للتخلي عنه في السابق، فهي لم تعد موجودة الآن .

وحتى لو كانت ملاحظات (برلين) التقديمية قبل أن يبدأ المحاضرة هي أكثر عرضية من أن تظهر في صلب النص المنشور، فهي تحتفظ بقيمة استهلاليّة. وبناء عليه، هذا هو الجزء الأكبر منها:

«إن هذه المحاضرات موجهة أساسًا لخبراء الفنون – مؤرخي الفنون، والخبراء في الأستطيقا، والذين لا أستطيع أن أعتبر نفسي أحدهم. والمبرر الوحيد المشروع لي لتناول هذا الموضوع هو أن الحركة الرومانتيكية، بطبيعتها، مرتبطة بكل الفنون: وحتى لو كنت لا أعرف الكثير عن الفنون، فإنه لا يمكن إغفالها، وأعد بأن لا أبالغ في ذلك.

ثمة بُعد أعمق للعلاقة بين الرومانتيكية والفنون. وإذا كنت أزعم أي كفاءة في تناول هذا الموضوع، فذلك لأنني أزمع تناول الحياة السياسية والاجتماعية والأخلاقية، ومن الحق، فيما أرى، أن يقال إن الحركة الرومانتيكية لم تقتصر على الفنون، فهي لم تكن حركة فنية فقط، لكنها كانت اللحظة الأولى ربما، في تاريخ الغرب، التي احتلت الفنون فيها الجوانب الأخرى من الحياة، وسيطر نوع من استبداد الفنون على الحياة، وهو ما يُمثّل بصورة ما جوهر الحركة الرومانتيكية، أو على الأقل، هذا ما سأحاول إثباته.

ينبغي أن أضيف، أن الاهتمام بالرومانتيكية ليس أمرًا تاريخيًّا ببساطة. فثمة الكثير من الظواهر الكبرى في الحاضر – القومية، الوجودية، الإعجاب بالرجال العظام، والإعجاب بالمؤسسات اللاشخصية، الديمقراطية، الشمولية – هي متأثرة بعمق بصعود الرومانتيكية والتي تخترق هذه الظواهر جميعًا. وبالتالي فهي موضوع وثيق الصلة بحاضرنا».

والفقرة التالية أيضًا تمتلك بعض الأهمية، ويبدو أنها كانت مسودة افتتاحية للمحاضرات ذاتها، كتبت قبل تقديم المحاضرات. وهي الفقرة الوحيدة التي وجدتها بين ملاحظات (برلين):

«إنني لا أنوي محاولة تعريف الرومانتيكية من خلال خصائصها أو أغراضها، فكما حذّر (نورثروب فراي) بحكمة، إذا ما حاول أحد تحديد خاصية جليّة للشعراء الرومانتيكيين – الموقف من الطبيعة أو من الفرد مثلًا – قائلًا إن ذلك يقتصر على الكتاب الجدد في الفترة بين 1770 إلى 1820، مع معارضتها بكتابات (بوب) و(راسين)، فإن أحدًا آخر سيقوم بتقديم أمثلة مخالفة من (أفلاطون) أو «الكالدياسا»، أو الأمبراطور هادريان (كما فعل كينث كلارك) أو من كتابات هليودوروس (كما فعل سيليي)، أو من شاعر إسباني قروسطي أو من الشعر العربي ما قبل الإسلام، وأخيرًا من (راسين) و(بوب) أنفسهما.

ولا أرغب في الإيحاء بأن هناك حالات «نقيّة» – أي حالة يمكن أن يقال عن فنان أو مفكر أو شخص إنه رومانتيكي بالكامل، ولا شيء آخر، كما لا يمكن أن يقال عن شخص إنه فرد بالكامل، أي إنه لا يحمل أي خصائص يشترك بها مع أي شيء في العالم، أو إنه اجتماعي بالكامل، أي لا يحمل خصائص ينفرد بها لوحده. ومع ذلك، فهذه الكلمات ليست بلا معنى، ولن نستطيع أن نتدبّر أمرنا دونها: فهي تشير إلى خواص أو ميول أو نماذج مثالية يفيد تطبيقها في إلقاء الضوء أو تحديد أو المبالغة في إبراز ما يمكن أن نسميه، لافتقارنا لكلمة أفضل، «جوانب» من شخصية الإنسان، أو نشاطه، أو رؤية ما، أو حركة أو عقيدة، إذا لم تكن قد جرت ملاحظتها بصورة كافية من قبل.

وعندما نقول عن شخص إنه كان مفكرًا رومانتيكيًّا أو بطلًا رومانتيكيًّا فهذا لا يعني أننا لم نقل عنه شيئًا ذا دلالة. ولنقول شيئًا عنه أو عن ما يفعله، فإن ذلك يستدعي أحيانًا أن يجري توضيحه ضمن غرض أو مجموعة من الأغراض (التي قد تكون متعارضة داخليًّا)، أو رؤية أو ربما ملامح أو إيحاءات قد تشير إلى حالة أو نشاط لا يمكن تحقيقه من حيث المبدأ – شيء يتعلق بالحياة أو بحركة أو بعمل فني وينتمي إليه جوهريًّا، ولم يجر توضيحه، ولعله يستعصي على الفهم. وقد كان ذلك بالتحديد هو غرض معظم الكتّاب الجادين الذين تناولوا الجوانب اللامحدودة للرومانتيكية.

إن ما أنوي القيام به هو أكثر محدودية. ويظهر لي أنه يمثّل تحوّلًا جذريًّا للقيم حدث في النصف الثاني من القرن الثامن عشر – قبيل ما يُدعى بالحركة الرومانتيكية – وقد أثر ذلك في الفكر والشعور والفعل في العالم الغربي. وهذا التحول يجري التعبير عنه بوضوح فيما يظهر أنه الجانب الأكثر رومانتيكية داخل الرومانتيكية: ليس في كل الجوانب الرومانتيكية، ولا فيما هو رومانتيكي في كل منها، بل في جانب جوهري، جانب لم يكن ممكنًا بدونه أن تحدث الثورة التي أنوي الحديث عنها ولا النتائج المترتبة عليها والتي أدرَكها كل من أقرّ بوجود ظاهرة الحركة الرومانتيكية – الفن الرومانتيكي والفكر الرومانتيكي. وإذا قيل لي إنني لم أدرج الخصائص التي تمثّل جوهر هذا الجانب أو ذاك من تجليّات الرومانتيكية، فإن ذلك اعتراض مشروع – وأنا مستعد للموافقة عليه سريعًا. فليس غرضي هو تعريف الرومانتيكية، بل فقط تناول الثورة التي تجد في الرومانتيكية، على الأقل في بعض وجوهها، تعبيرها ومظهرها الأعمق. ليس أكثر من ذلك: لكن ذلك يساوي الكثير، لأنني آمل أن أبيّن أن تلك الثورة هي الأعمق والأطول تأثيرًا من بين كل التغيرات التي حدثت في حياة الغرب، وليست أقل تأثيرًا من الثورات الثلاث العظمى التي لا يُنكر تأثيرها – الصناعية في إنجلترا، السياسية في فرنسا، والاجتماعية والاقتصادية في روسيا – والتي ترتبط الحركة الرومانتيكية بها على كل المستويات».

عند تحرير مخطوطات المحاضرات (على ضوء تسجيلات البي بي سي)، حاولت إجمالًا أن أقيّد نفسي بالحدّ الأدنى من التعديلات اللازمة لضمان الحصول على نصّ سلس وقابل للقراءة. واعتبرت أن بساطة الأسلوب والعبارات التي أحيانًا تكون غير مألوفة هي من طبيعة المحاضرات التي تُلقى بناءً على ملاحظات، وهي ميزات ينبغي الحفاظ عليها، ضمن حدود معينة. ومع أنني احتجت إلى الكثير من التدخل في ضبط الجمل، كما هي الحالة في معظم حالات تدوين الجمل المنطوقة بعفويّة، إلا أنه نادرًا ما كان هناك شك حول المعنى الذي يقصده (برلين). وقد قمت بإدراج تعديلات طفيفة كان (برلين) قد قدّمها مسبقًا، وهو ما يبيّن سبب بعض الاختلافات القليلة التي سيلاحظها من يقوم باستخدام هذا الكتاب كنص بإزاء التسجيلات المتوفرة لها .

وقد حاولت جهدي دائمًا في تتبع اقتباسات (برلين)، مع القيام بالتصحيحات اللازمة عند الاقتباس الحرفي بوضوح من مصدر إنجليزي، أو لترجمة مباشرة عن لغة أخرى، في مقابل إعادة الصياغة. لكن هناك من بين عُدّة (برلين) اللغوية، ما يتوسط بين إعادة الصياغة وبين الاقتباس الحرفي، وما يمكن أن ندعوه «شبه الاقتباس». وأحيانًا تقدم الكلمات شبه المقتبسة بين علامات تنصيص، لكنها تحمل صفة ما يمكن للمؤلف الأصلي أن يقوله، أو ما يعنيه بالفعل، عوض أن تكون إعادة إنتاج (أو ترجمة) لكلماته المنشورة بالفعل. وهذه ظاهرة مألوفة في الكتب التي ألفت قبل زماننا ، لكنها غدت غير مرغوبة في المناخ الأكاديمي المعاصر. في مجموعة مقالات (برلين) التي نشرتها في حياته، كنت عادة ما أقيّد نفسي بالاقتباسات المباشرة، والتي يجري مقارنتها بمصدر أصلي، أو إعادة صياغة معلنة. لكن، في كتاب من هذا النوع، بدا لي أن محاولة إخفاء هذه الوسيلة الطبيعية والفعالة بلاغيًّا والتي تتوسط بين الاقتباس وإعادة الصياغة أمرًا مصطنعًا وتدخلًا غير مبّرر، عبر الإصرار على قصر علامات التنصيص على الاقتباسات الدقيقة فقط. وأنا أشير إلى ذلك لتفادي تضليل القارىء، وكخلفية لبعض الملاحظات الإضافية حول اقتباسات (برلين) التي أوردها في بداية قائمة الإحالات.

لقد قامت البي بي سي ببثّ المحاضرات في برنامجها الثالث في أغسطس وسبتمبر/آب وأيلول 1966، ومرة ثانية في أكتوبر ونوفمبر/ تشرين الأول وتشرين الثاني 1967. وقد أعيد بثّها عام 1975 في أستراليا، وفي بريطانيا، على إذاعة البي بي سي  Radio 3 )، عام 1989، وهي السنة التي بلغ فيها (برلين) عامه الثمانين. وقد جرى إدراج مقاطع منها في برامج لاحقة حول أعمال (برلين).

وقد رفض (برلين) بحزم السماح بنشر المادة في حياته، وليس ذلك فقط لكونه كان يأمل حتى في السنوات الأخيرة من حياته أن يكتب الكتاب «الفعلي»، لكن أيضًا، لعله اعتبر من الغرور نشر محاضرات غير مخطوطة مباشرة من التسجيل دون تكبّد عناء المراجعة والتوسع. وكان واعيًا لكون بعض ما قاله عامًّا ، وتأمليًّا ويفتقد للدقة أكثر مما ينبغي – ربما يكون مقبولًا من المنبر، لكن ليس من الصفحة المطبوعة. وبالفعل ففي رسالة شكر من (برلين) إلى (بي. اتش. نيوبي)، والذي كان مدير البرنامج الثالث في البي بي سي آنذاك، وصف نفسه بأنه يرمي «ذلك الفيض الهائل من الكلمات – أكثر من ست ساعات من الحديث المحموم، وغير المترابط أحيانًا، والمتعجل ومتقطع الأنفاس – والذي يبدو لسمعي هستيريًّا» .

وهناك من يرى أنه لا ينبغي نشر هذا المخطوط حتى الآن – إنه حتى وإن احتوى على مواد مثيرة للاهتمام إلا أنه سيؤثر سلبًا على مجمل أعمال (برلين). وأختلف مع هذه الرؤية تمامًا وأستمد الدعم من آراء عدد من الأكاديميين الذين أحترم حكمهم، وخصوصًا (باتريك غاردنر) المتوفى حديثًا، وهو أحد أكثر النقاد صرامة، وقد قرأ المخطوط المحرّر قبل بضع سنوات وارتأى نشره كما هو دون تردد. وحتى لو كان من الخطأ نشر مواد من هذا النوع أثناء حياة مؤلفيها (وأنا غير مستقرّ على رأي حول هذا الأمر)، فإنه يبدو لي ليس فقط مقبولًا بل مرغوبًا كثيرًا عندما يكون المؤلف بهذا التميّز والمحاضرات بهذا المستوى من الإثارة، كما هي الحالة هنا. وفوق ذلك، فقد قبل (برلين) بوضوح نشر هذه المحاضرات بعد وفاته، وأشار إلى هذه الإمكانية دون إبداء أي تحفظات جادة. فالمنشورات التي تقدم بعد وفاة المؤلفين تخضع لمعايير مختلفة تمامًا عن تلك التي تخضع لها أثناء حياتهم، حسب رأي (برلين). ولا بدّ أنه كان يدرك، حتى لو لم يكن ليعترف بذلك، أن محاضراته هذه هي تحفة رائعة لفنون المحاضرة المرتجلة، والتي تستحق أن توفر بصورة دائمة، بعيوبها وميزاتها. وقد حان الوقت لهذه الرؤية – إذا اقتبسنا كلمات (برلين) ذاتها حول كتابه الذي يقرّ بكونه إشكاليًّا حول (جيه. جي. هامان) – «أن تُقبل أو ترفض بالكامل من القارىء الناقد» .

ولا بد الآن من تسجيل الإقرار بالفضل لعدد من الناس – أكثر، دون شك، مما أستطيع تذكره. تلك التي تتعلق بتوفير الإحالات التي ذكرتها في صفحة 150 . فيما عدا ذلك، فإني ملزم (كما في معظم الكتب السابقة) بالإقرار بفضل الرعاة الكرام الذين موّلوا منحتي الجامعية في كلية وولفسون. وللورد (بولوك)، الذي عمل على توفير رعاة أستطيع أن أشكرهم، ولكلية وولفسون لاستضافتي أنا وعملي وإلى (بات أتشن) سكرتيرة المؤلف، والتي هي صديقة صبورة وداعمة لأكثر من خمس وعشرين عامًا الآن. وإلى (روجر هوشير) والمتوفى حديثًا (باتريك غاردنر) لقراءة المخطوط وتقديم الإرشادات حوله، ولأشكال كثيرة من المساندة التي لا غنى عنها. وإلى (جوني شتنايبرغ) لمقترحات تحريرية قيّمة، وإلى الناشرين الذين تحمّلوا طلباتي الكثيرة والدقيقة خصوصًا (ويل سالكن) و(روينا سكلتون والاس) في تشادو وويندوس، و(ديبورا تيغاردن) من مطبوعات جامعة برنستون، وإلى (سامويل غاتنبلان) لدعمه المعنوي وارشاداته المفيدة، وأخيرًا (وقد كنت من الرعونة بحيث لم أشر إليهم من قبل) إلى عائلتي لتحملهم هذا الشكل الغريب نوعًا ما من الحزم الذي تمليه مهنتي التي اخترتها. وآمل أن يكون من النافل القول أن مديونيتي الأعظم هي لإيزايا برلين ذاته لكونه عهد إليّ بالمهمة الأكثر إرضاءً والتي يطمح إليها أي محرّر، ولإعطائي الصلاحية الكاملة في تنفيذها.

هنري هاردي

كلية ولفسون، أكسفورد

مايو/أيار 1998