مجلة حكمة
جدلية الصراع

جدلية الصراع بين القيم الذاتية والعنف الرمزي

الكاتبهند ياسر

مقدمة:

نلعب لعبة الحياة على طاولة مفاوضات، تخرج أين ما تشاء مقابل أن تلبس كما يشاؤون، تتحدث فيما تشاء مقابل أن تتحدث مع من يحبون، يدعمونك فيما تريد مقابل أن تختار ما يوافق هواهم.

يتعرض الأفراد للمساس في قيمهم الذاتية باستمرار، إما بالاستهجان والاستنكار أو القمع والإجبار، حيث تتم المساومة عليها مقابل قيم الجماعة، مقابل الوحدة والتماثل والانتماء للصحيح المطلق، وغالبا ما يميل الأفراد لقبول هذا الضغط الاجتماعي إما بسبب عدم قدرتهم على الفصل بين قيم الجماعة وقيمهم الذاتية فهي في حالة تماهي، أو لعدم قدرتهم على مواجهة الرداء الذي يتنكر به هذا الاستهجان سواء كان نصوصا مقدسة أو أشخاص ذو سلطة ومكانة في المجتمع، وهنا يفرض السؤال الاتي نفسه: كيف ينظر الانسان والمجتمع على حد سواء الى القيم؟ وهل هي حق فردي ام جماعي؟ يتعامل المجتمع مع القيم باعتبارها حقا اجتماعيا؟

قد تستدعي الإجابة على السؤال الأساسي المرور على مفهوم القيم أولا

إذ يتحرك الانسان _بقصد أو بلا قصد_ وفق لأولويات معينة، ففي كل خيار يختاره، وفي كل مفترق طرق يواجهه في هذه الحياة، وفي كل معضلة مهما بلغت تفاهتها مبلغ اختيار لعبة على أخرى، أو بلغت في تعقيدها اختيار شريك للحياة أو تحديد مسار وظيفي، فإنه يتحرك مدفوعًا باعتبارات معينة يلقي لها بالًا، وتلك الاعتبارات هي ما نسميه: قيم، ففي اللغة يقال: قيمةُ الشيء: قَدره. وقيمةُ المتاع: ثمنه، ومن ثم يمكننا القول إن (القيمة) هي كل ما يرى المرء فيه شيء قيمًا وثمينًا وذا أهمية وأولوية.

تمثل القيم مناط خلاف عند الفلاسفة، ما بين النفعيين منهم الذين يرون أن القيم في جوهرها نسبية، تختلف باختلاف الأزمنة والمواقف، والمثاليين الذين يذهبون إلى أن القيم ثابتة ومطلقة. اما علماء الاجتماع فإنهم يضفون عليها هالة من الغموض؛ إذ يزعمون أنها صفات يسبغها الإنسان على الأشياء فهي تكمن في العقل البشري وليست في ذات الشيء. ومما لا شك فيه أنه لا يمكننا النظر إلى قرارات الأفراد تجاه الموضوعات والمواقف التي يمرون بها في حياتهم على أنها قيم مطلقة، فقد يؤثر البعض العمل في مؤسسة ذات بيئة تنافسية وراتب عالٍ، مقابل العمل في مؤسسة أخرى براتب مجزٍ رغم اتسام بيئتها بالرتابة والجمود، وهم بذلك يعلون من قيمة المال أو الأمان المادي أو التحدي لإثبات الذات على حساب الاستقرار الوظيفي مع وجود الرتابة والملل، والحق إننا في هذه الحالة لا يمكننا الحكم على هذا التصرف بالجودة أو الرداءة، إذ الأمر هنا مردّه إلى الاعتبارات الذاتية والتفضيلات الشخصية، وهي تقديرات متغيرة ومرتبطة ارتباط وثيق بتطور الإنسان وكتابته لفهم جديد يسمح له بنقد قيمه وإعلاء قيم أكثر صمودا يوم بعد يوم.

ترتبط القيم كذلك بمفهوم الحياة الطيبة والبائسة من وجهة نظر المرء، فهو بتفضيله للأمان المادي على الراحة واختيار خيارات معيشية تتوافق مع ذلك، إنما ينطلق من شعور داخلي بأن الحياة ستطيب له، وأنه بامتثاله لها ستتعزز صلته بوجوده وتغنى، وبإهمالها سينقاد الى التعاسة والشقاء وسيشعر كالمغترب عن نفسه، فالصراع يحصل حين يعيش الإنسان حياة لا تتفق مع قيمه، وهنا تكمن أهمية القيم، فهي ميثاق المرء ورابطه بذاته، وهي العهد الذي يكتبه المرء بينه وبين نفسه، أو كما يعبر عنها عالم النفس فيكتور فرانكل ” القيم هي زاد البقاء “.

 يكمن جوهر الصراع هنا في الصدام التلقائي والحتمي بين ما يحمل الفرد من قيم وقناعات وبين قيم الجماعة التي تربى عليها، والتي لا يجد لها صدى في ذاته؛ لأنها ببساطة قد لا تناسب ميوله وتفضيلاته، وفي حين أن عدم قدرة الفرد على تلبية قيمه قد يدل على قصور ذاتي في تحديد أولوياته، إلا أنه قد يدل أيضا على أن الفرد يعاني من ضغوطات وصعوبات اجتماعية تعيقه عن تحقيقها والتوصل لها، وذلك من خلال ما يسمى “بالعنف الرمزي”.

العنف الرمزي

وهو نوع من أنواع العنف يتخذ رداء ثقافيا ويستمد شرعيته من إيمان المجتمع به، كأن يفرض الآباء سلطتهم على الأبناء في اختيار تخصصاتهم او أماكن عملهم باعتباره نوعًا من البر أو الطاعة، أو أن يفرض على الصغار الصمت في حضرة الكبار والخضوع لهم بالكلية، أو أن يتم منع المرأة من حقوقها في السفر، أو التعليم، او القيادة، او الاستقلال باعتبار تكوينها الضعيف او العاطفي والذي قد يعرضها للاستغلال والخطر وغيرها من الأمثلة التي تسعى لقمع وتهميش فئات معينة من خلال تكريس الصور والرموز الثقافية في المجتمع. وكثيرا ما نجد الفئات المهمشة ذاتها تعيد تكريس هذه الرموز القمعية وتتبنى هذه القيم عوضا عن مواجهتها او استبدالها، ولعل ذلك يعود الى الطبيعة الناعمة للعنف الرمزي، فتفضيلات الانسان وقيمه تتعرض للحجب بصوره شبه تلقائية خلف أكوام من القوانين والمصالح والمعتقدات التي قد لا تناسبه ولا تتفق معه بالضرورة إلا أنها تفرض نفسها بنعومة في التنظيم الاجتماعي الذي ينتمي إليه، بالإضافة الى كونه مرتبطًا بالقيم الثقافية في المجتمع، مما يجعل من الصعب تمييزه فلا يدرك ممارسوه ولا الممارس عليهم انهم واقعون في عنف رمزي.

ورغم أن عملية حجب قيم الإنسان الشخصية وقصره على اختيارات أو نمط سلوكيات معين هي عملية غير مدْرَكة تماما إلا أن دور المرء فيها لا يزال قائما، فهو يقبل هذا الحجب لقيمه ويرضخ بما يقدم له من خيارات؛ بسبب أنه يتحصل منها منفعة أو يتقي شرا أو يكسب رفقة أو يحظى بالمكانة، أو غيرها من المنافع قصيرة المدى، فمفهوم المنفعة أو اللذة كما يعبر عنه علم النفس هو ما يشكل جوهر القيمة، وبالاعتماد على ثلاث مفاهيم لتحصيل اللذة والمنفعة يميز علماء النفس بين ثلاث مستويات من القيم: مستوى الطفل، والمراهق، والناضج، فمنظومة الطفل القيمية تركز على المتعة اللحظية وعلى تحصيلها بأي ثمن، دون اهتمام بالعواقب أو الألم الذي يطال الأخرين، فيما تعتمد منظومة المراهق القيمية على المقايضة، فبعد ان عرف أن الحياة مسيّرة بأنظمة وقواعد وأن تحصيل المتعة وحده غير كافي، خاصة إذا كان يترتب على ذلك ألم محيط، يبدأ بالبحث عما يكسبه متعة ويجنبه الما، سأفعل (أ) لأحصل على منفعة، سأمتنع عن (ب) لأقي نفسي من الألم. ويستمر ذلك حتى يلاحظ المراهق أن معادلته المنطقية غير فعالة، فهو يتجنب ألم معين حتى يحل محله ألم من نوع آخر، ويسعى لمتعة دون أن تحقق له أي اشباع، مما يدفعه للتوقف عن النظر للعالم وكأنه مجموعة شروط يستدعي تحصيل مراده تلبيتها، ويلتفت للإيمان بالقيم التي تمده بشعور داخلي عميق بالرضا ويكفيه فيها التحلي بها لذاتها، لا للمنفعة التي تجلبها، يؤمن أن هذا هو الشيء الصحيح، حتى لو نتج عنه ألم الان، وحتى لو لم يكسبه منفعة مباشرة، فهو يرتجي تحصيل منافعها على المدى الطويل وتلك هي منظومة قيم الناضج. الا انه بسبب التعرض لهذا النوع من العنف الخفي يحصل ان يجد البعض نفسه في مأزق وجودي مضطرًا لأن يساوم نوعين من القيم ببعضهما، قيم يصادق عليها وتتصل بذاته ويستمد منها شعوره بالحق والاستقامة، بقيم تحقق نوعا من المنفعة أو الحاجة التي تجبر انسانيته للتواضع امامها، وهنا تكمن خطورة العنف الرمزي، فهو عنف متوارٍ يستهدف مرتكزات عميقة في الهوية الفردية والجماعية على حد سواء، ويمكن بسهولة ان يتحول الى أداة استبدادية في يد أصحاب السلطة والمكانة الاجتماعية، إذ يفرضون قيمهم على عامة الناس ويكرسون مشاعر بالدونية والعار لديهم من خلال إطلاق احكام قيمية مدمرة لهوياتهم تقودهم الى الشعور بالدونية وفقدان القيمة الإنسانية، مما يفاقم مشاكل في التكيف والانتماء، تنعكس على المستوى الاكبر في معدل العنف والانحراف والجريمة في المجتمع.

يدفعنا ذلك الى مسائلة العديد من العادات والموروثات الثقافية التي تحول بيننا وبين العيش المخلص، فالقيم ايجابية كانت أو سلبية، هي بالأساس مكون إنساني ذاتي يستدعي مشاعر وصدمات ومصالح شخصية حتى يتشكل ويتفاعل مع الإنسان بصورة حيوية، وحين يشار على جماعة أو مجتمع ما بامتلاكه لقيم معينه فهذه العبارة تحمل بعد آخر، لأن المجتمع ككيان جمعي لا يمكن أن يعبر حقيقة عن جميع الأفراد وقيمهم، ولكنه يعبر عن قيم الأفراد الذين يملكون مكانة أو شعبية أو سلطة في هذا المجتمع تخولهم بفرض قيمهم وتعاليمهم على الآخرين وإحلالها محل قدسية. 

خاتمة:

يرى المجتمع أن اختلاف القيم يؤدي بالضرورة إلى التنازع والتفكك، فيطالب أفراده بالحفاظ على الوحدة والتماثل، إلا أنه بذلك يفرض عليهم تعاسة وشقاء، وتفكك من نوع آخر يعوقهم عن استثمار امكانياتهم.

Pierre Bourdieu et Loïc Wacquant, Réponses : pour une anthropologie réflexive, Paris, Seuil,‎ 1992,pp:141-143.

مانسون، مارك. (٢٠١٩) خراب: كتاب عن الامل. (مترجم) الحارث النبهان، دار التنوير