مجلة حكمة
جبان الكلب

جبان الكلب ومعنى الكنايات الأخرى في الشعر العربي

الكاتبلارا هارب
ترجمةسارة إبراهيم الحماد

أنشد البحتري في قصيدة مدح مخاطبًا الخلفية العباسي المتوكل الذي حكم من سنة 847 إلى 861م في القرن التاسع عشر قائلًا:

طلعتَ لهم وقتَ الشروقِ فعاينوا           سنا الشمسِ من أُفْقٍ ووجهَك من أفْقِ

وما عاينوا شمسينِ قبلَهُما التقى          ضياؤهما وَفقاً من الغرب والشرق

في هذه الأبيات يتخذ البحتري حركة نموذجية في شعر عصره وذلك بأخذ استعارة حقيقية وبناء صورة ثانية عليها كأنها حقيقية، فهو في هذا البيت يشبه وجه الخليفة بالشمس المشعة ويصور بأن السماء فيها شمسين؛ شمس تشرق من المشرق وأخرى من المغرب. وقد وضّح الناقد الأدبي من القرن الحادي عشر عبد القاهر الجرجاني في حديثه عن هذه الأبيات أن البحتري سعى إلى إدهاش المستمعين بجعلهم يرون شيئًا لم يحدث من قبل. هذه الصورة الاستثنائية لشمسين في السماء ممكنة فقط لأن الشاعر “وارب” المستمعين إلى قبول الصورة الخيالية بأن الخليفة شمس حقيقية، ففجائية هذه الصورة وجدّتها هي التي تدهش المستمع ليستحسن هذه “المواربة”.

وإثارة التعجب كانت الهدف الأساسي للشعر العربي القديم حسب رأي نقاد الأب العربي القديم مثل الجرجاني. والتعجب هو التجربة الفريدة التي تكون في المنعطف من الجهل إلى العلم، وهو استجابة للمجهول والفجاءة والغرابة التي تدفع المرء إلى البحث عن المعرفة واكتشافها. ومن هذا المنطلق، فإن التعجب هو أساس البحث الفلسفي والعلمي والميتافزيقي وبسبب التعجب بدأ الناس يتفلسفون حسب ما قال أرسطو في كتابه “الميتافيزيقيا”.

في العالم الإسلامي في العصور الوسطى، كل شيء على وجه الأرض هو عجيب والتفكّر فيه وسيلة للتقرب إلى الله، لكنّ السبب الوحيد الذي يجعلنا لا نشعر بالذهول دائمًا هو أن “العجب يتلاشى مع كثرة النظر للأشياء واعتيادها” وقد شدد عليه مؤلف القرن الثالث عشر زكريا القزويني في موسوعته “عجائب المخلوقات”، ولكن يمكن استغراب المألوف بالانتباه الشديد لشيء ما ومراقبته كما لو كان لأول مرة والتفكّر فيه مثلما حث القزويني قرّاءه على فعل ذلك. كما أن الغرابة يمكن أن تحدث في اللغة، فاللغة قادرة على إعادة إنتاج تجربة الاكتشاف والتعجب بخلق أحوال غير طبيعية تثير التعجب، معنى ذلك أن اللغة قادرة على جعل المألوف غريبًا وغامضًا وغير متوقع ليُكتشف مجدّدًا كما في أبيات البحتري أعلاه. وقد صاغ علماء العصور الوسطى نظريات متطورة عما ينتج هذه الأحوال في اللغة التي تفسر تجربة التعجب الحاصلة لدى المستمع.

وكان الجرجاني الذي ذكرناه سابقًا أحد المفكرين الكبار الذين صاغوا هذه النظرية الجمالية عن التعجب. وقد أشار في كتابه “أسرار البلاغة” (الذي لم يترجم إلى الإنجليزية بعد رغم وجود ترجمة ألمانية له) إلى أن ” أنس النفوس موقوف على أن تخرجها من خفي إلى جلي، وتأتيها بصريح بعد مكنيٍّ، وأن تردّها في الشيء تعلِّمها إياه إلى شيء آخر هي بشأنه أعلم”. ووظيفة اللغة الشعرية بدورها هي خلق الأحوال التي تسمح للنفس “بالخروج من خفي إلى جلي”. ونتيجة ذلك، لا بد للغة الشعرية أن تجعل المعنى غامضًا وغريبًا ليكون الاكتشاف ممكنًا. والمحصول النهائي ليس بالضرورة معنًا جديدًا، رغم أن ذلك بالتأكيد ليس مستبعدًا، لكنها ترى المعنى القديم في ضوءٍ جديد ويصل إليها من مسارٍ جديد.

كلما زاد التعب في فهم المعنى، كان المحصول أثمر، قال الجرجاني “ومن المركوز في الطبع أن الشيء إذا نيل بعد الطلب له أو الاشتياق إليه، ومعاناة الحنين نحوه، كان نيله أحلَى.” وإحدى وسائل إطالة البحث هي إضافة التفصيل. تأمل الأبيات التالية لشاعرين عربيين في عصر الجاهلية، حيث يقارنان سيفهما ورمحهما باللهب.

يُتَابِعُ لا يَبْتغِي غَيْرَهُ                      بأَبْيَضَ كَالقَبَسِ المُلْتَهِبْ

جَمَعْتُ رُدَيْنِيّاً كَأَنَّ سِنَانَهُ                 سَنَا لَهَبٍ لم يَتَّصِلْ بدُخَانِ

فضّل الجرجاني تشبيه امرؤ القيس لأن فيه تفصيل إضافي وهو أن اللهب “لم يتصل بدخان”، هذا التفصيل يدعونا إلى أن نتروّى ونتساءل لماذا اقتصر التشبيه على مجرّد السنا! وأن نتصوّر منظر شعلة النار بلا دخان. ويعلل ذلك الجرجاني بأنه كلما كان التعبير يجبر المرء على “التروّي والتوقف والتأمل والتذكر” كان أحلى.

ما يمكن أن يتضح من هذه الأمثلة القليلة هو أن الوحدات الشعرية التي وضعها الجرجاني ونقاد آخرون في العصور الوسطى لم تكن عناصر سردية تتعلق بالحبكة والشخصية كما في شعر أرسطو مثلاً، بل ركزّوا على الأدوات الشعرية والنحو لصياغة نظريتهم في التعجب. وأساليب كالتشبيه والاستعارة هي بحكم تعريفها أجمل من توصيل نفس الفكرة مباشرةً أو بصراحة؛ لأن هياكل هذه الأساليب بطبيعتها تخلق الأحوال للبحث والاكتشاف، وكلما كانت المقارنة أقل كانت أفضل. كما أن التعبير المجازي والضمني والإيحائي يتطلب من القارئ التفكير لفهم المعنى المقصود، فكلما كان المعنى المقصود يتطلب مجهودًا في التفسير كان الوصول له أمتع حسب رأي نقّاد العصور الوسطى. وقد أشاد العالم السكّاكي الذي عاش في أواخر القرن الثاني عشر وبداية القرن الثالث عشر بهذه الأبيات التالية التي يُجهل كاتبها إشادة خاصة لأنها تتطلب مجهودًا في التفسير للوصول إلى المعنى المقصود:

ومَا يَكُ فِيَّ مِنْ عَيْبٍ فَإني                جَبَانُ الكَلْبِ مَهْزُوْلُ الفَصِيلِ

قد يتساءل المرء: ما الذي يمكن أن يعبره جبان الكلب ومهزول الفصيل عن شخص ما؟ فسرها السكّاكي بأن جبان الكلب هو الكلب الذي لا ينبح الغرباء المقبلين، أي أنه اعتاد رؤية من يدنو من دار صاحبه، وهذا دالٌ على جوده وكرمه، وهو المعنى النهائي الذي قصده الشاعر، وكذلك ولد الناقة يدل على نفس المعنى. فهو هزيل لحرمانه من أمه؛ لنحرها وتقديمها طعامًا للضيوف، مشيرًا إلى مدى استعداد صاحب الناقة لفعل أي شيء من أجل ضيوفه، ذلك أن الكرم صفة عالية التقدير في الثقافة العربية.

إن الصورة الجمالية سواءً كانت طبيعية أو في التعبير اللغوي تثير في المدرك عملية إدراكية من التفسير والاستنتاج مما يحصل منه حلاوة الاكتشاف. هذا البحث في الطبيعة يحصل منه اكتشاف الحقائق الفيزيائية أو الميتافيزيقية، إنما في الفنون الأدبية هو نوع من الاكتشاف الخيالي الذي يحاكي التجربة الحقيقية. لذلك لم يكن غريبًا عندما ورث فلاسفة العالم الإسلامي تصنيفًا من شعر أرسطو القديم في كتبه عن المنطق “الأورغانون”، وقد كان منطقيًا في الثقافة العربية الإسلامية أن يكون الشعر جزءًا من العلوم المنطقية. فالشعر هو نوع من القياس المنطقي -التخيلي- الذي لا بد للمستمع أن يستنتجه.  

المصدر