مجلة حكمة
تشوسر شاعر

لم يكن تشوسر شاعرا إنكليزيا فحسب، بل شاعر أوروبي عظيم  – ماريون تيرنر / ترجمة: سمر مرسي


في العام 2013 نُشر مقال بمجلة “بروسبكت” عن زعيم حزب “استقلال المملكة المتحدة” “نايجل فاراج“. وقد جاء وصف المقال لحزب “بريكزيت” على الطريقة التشوسرية؛ كما يلي:

  “إن حزب “استقلال المملكة المتحدة” هو في الحقيقة سلة تحوي أنماطا متباينة من رجال ونساء إنكليز؛ منهم العنيد والمعارض ومنهم ذو العزم والمحتج ومنهم الجموح الشموس ومنهم المولع بالمزاح، ومثلهم في ذلك مثل الذين عاشوا بيننا منذ “حكايات كانتربيري” .. إنهم حفدة “زوجة باث” تلك الوقحة الثرثارة وحفدة “هاري بيلي” ذلك الصخاب العبقري صاحب الخان في تلك الحكايا. فأولئك أنماط إنكليزية أنموذجية.”

ولمفهوم “الإنكليزية الأنموذجية” لـ”حكايات كانتربيري” (1387) تاريخٌ طويل .. تلك الحكايا التي ألفها الشاعر “جيفري تشوسر” “أبو الأدب الإنكليزي” والذي دُفن في العام 1400 ميلادية في دير ويستمنستر لا لشيء إلا لأنه كان يحيا في ضواحي “ويستمنستر”، غير إنه بعد مضي مئة وخمسين عاما نُقلت رفاته إلى مقبرة جديدة مهيبة في ركن الشعراء بالدير. وكان هو أول من دفن في ذلك الركن حيث أصبح يمثل حجر الزاوية للأدب الإنكليزي بالمعنى الحرفي للكلمة. هذا، وقد عده شعراء من أمثال “جون درايدن” أباً للشعر الإنكليزي مضيفا أن “حكايات كانتربيري” وهي أشهر قصائده قاطبة قد جاءت ممثلة “الأمة الإنكليزية جمعاء”.

أما كُتاّب العصر الفيكتوري الذين اعتنقوا فكرة “إنكليزية” تشوسر فقد تساءلوا “مَن مِن الإنكليز يُضارع تشوسر في إنكليزيته؟”؛ إذ أجمعوا على أن عبقريته كانت “إنكليزية حتى النخاع”. وفي القرن العشرين، اشتط “غ.ك. تشسترتون” في وصف “إنكليزية” تشوسر آخذا إياها إلى مدى أبعد، إذ زعم أن: “تشوسر كان أبا لأمته مثلما كان جورج واشنغطون أبا لأمريكا”. وفي الآونة الأخيرة صدر كتاب “تشوسر: حيوات موجزة” (2004) للكاتب “بيتر أكرويد”. وجاء في التعريف بالكتاب، الذي طبع على الغِلاف وصف لحكايات كانتربيري بأنها “ملحمة الروح الإنكليزية”، فيما وصف “أكرويد” تشوسر” بأنه “رمز االروح الإنكليزية العبقرية الوضاءة”.

لا ريب في أن مسوح الروح الإنكليزية الأبوية تلك كانت لتبدو مستغرَبة لـ “تشوسر” نفسه. فتشوسر استطاع تطوير الشعر الإنكليزي بالطريقة التي انتهجها، تحديدا بسبب عالميته لا محليته. فقد كان يتقن لغات عده شأنه في ذلك شأن المتعلمين من مجايليه؛ إذ أكبّ على فلسفات العصور القديمة المتأخرة والتهم بحوث العرب العلمية التهاما ..تلك المترجمة إلى اللغة اللاتينية، كما قرأ قصائد العشق الفرنسية. إن إجادته الفائقة للغة الإيطالية ورحلاته إلى إيطاليا قد مكنتاه من الاطلاع على أحدث ما نظم “دانتي” و”بوكاتشيو” و”بترارك” من أشعار.  وفي الواقع، يعد ولع تشوسر باللهجات المحلية ظاهرة أوروبية في ذاتها؛ فانحياز كل من “دانتي” و”بوكاتشيو” للهجة إقليم “توسكاني” قد شحذ همة “تشوسر” وشجعه كي يحذو حذوهما فيما يخص لهجة إقليمه.

إن تأثير أولئك الشعراء الإيطاليين قد غيّر من مسار الشعر الإنكليزي. فعلى سبيل المثال، يعد البحر الشعري خماسي التفعيلة الذي ابتكره تشوسر..ذاك البحر ذو البيت الشعري خماسي النبر ذو العشر مقاطع هو مستَلهم في الأساس من أحد بحور الشعر الإيطالية (الإنديكاسيلابو)، وقد أصبح ذاك البحر حجر الأساس للشعر الإنكليزي. كذا فإن “تشوسر” هو أول من ترجم السونيتة البتراركية إلى الإنكليزية.

إن تلك “العالمية” لتناقض فكرة “الأنماط الإنكليزية البحتة” لحجاج كانتربيري .. تلك الفكرة التي تسللت إلى المخيلة الشعبية رويدا رويدا.  فشخوص حكاية “زوجة باث” لتشوسر بعيدون كل البعد عن أن يكونوا أسلافا لأعضاء حزب استقلال المملكة المتحدة؛ فالشخصية المحورية بالحكاية لترتكن بالأساس إلى شخصية تدعي “العجوز” في قصيدة فرنسية بعنوان “قصة الوردة” وكذا فإن باقي الشخصيات استُقيت من شخوص جاء ذكرها في كتاب القديس جيروم “ضد جوفينوس” المكتوب باللاتينية. كما أن فكرة ظهور جمع من الناس يسردون قصصا قد تنوولت في أكثر من مصدر أشهرها حكايات “ديكاميرون” لبوكاتشيو.  وقلة قليلة من تلك الحكايا هي التي تمت بصلة لمصادر إنكليزية. وكذا فإن جل حكايات كانتربيري لا تدور وقائعها في إنكلترا؛ فهي إما في وسط آسيا أو في سورية أو في شمال إيطاليا أو في مقاطعة فلاندرز.

 

إن أولى رحلات تشوسر إلى أوروبا كانت في العام 1359 حينما انتظم في صفوف المقاتلين في حرب المئة عام وكان حينها مايزال يافعا. وقد أخذ أسيرا بالقرب من مدينة “رانس” الفرنسية. وقد زار فيما بعد “نافارا” وهي تقع الآن في شمال إسبانيا، بيد أنها في القرن الرابع عشر كانت مملكة مستقلة تُظِل مجتمعا متعدد الثقافات، يحيا فيه اليهود والنصارى والمسلمون في تعايش وسلام إلى حد بعيد. وقد سافر تشوسر إلى إيطاليا مرتين للقيام بمهام دبلوماسية حيث زار كل من “لومبارديا” و”فلورنسا” و”جنوا”. وسافر عدة مرات إلى فرنسا لإبرام معاهدات ومصاهرات. لقد كانت أجزاء كبيرة من فرنسا الحالية ومن بينها “كاليه” وأكويتين” تقع وقتذاك تحت سيطرة إنكلترا؛ إذ إن الحدود بين البلدين دائما ما كانت تتغير.

بيد أن تشوسر لم يحتج إلى السفر خارج إنكلترا كي تتكون لديه رؤي عالمية. ذلك أن الثقافة الإنكليزية ذات النزعة الميركانتيلية الأرستقراطية كانت أوروبية المنشأ بقدر كبير. فتشوسر سليل أسرة كانت تعمل في تجارة النبيذ وكانت ثروتها تعتمد بالأساس على التبادل التجاري بين إنكلترا وفرنسا. وقد شب تشوسر وعيناه لا تفتأ ترى السفن تغدو وتروح على نهر “التيمز”؛ إذ إنه وُلد في مقاطعة “فنتري” بلندن تلك التي كان بها من المهاجرين ما يربو على سواهم في أيٍ من مقاطعات لندن الأخرى. وفي أواخر القرن الرابع عشر كانت أسواق لندن ومتاجرها تحوي توابل من إندونيسيا وفراء من روسيا وزجاجا وورقا من إيطاليا وأخشابا وحبوبا ومعادن من أراضي البلطيق. لقد كان نظام التجارة في العالم حينذاك متطورا ومعقدا، وجاب التجار سواء أكانوا على اليابسة أم في البحار قارات آسيا وإفريقيا وأوروبا. لذا فالأرجح أن تشوسر الطفل قد كان ذا وعي باقتصاد عالمي متسع الرقعة.

 

وحينما عمل “تشوسر” لدى أبناء الملك ثم لدى الملك نفسه غشي حياة البلاط وما يرتبط بها من اتصال بالدول الأخرى في يسر وسهولة. فقد استقدمت كل من الملكة “فيليبا” والملكة “آن” حاشيتيهما الكبيرتين من وطنيهما الأم “إينو” و”بوهيميا” على الترتيب. وكانت هاتان الحاشيتان تضمان شعراء ينظمون في الغالب باللغة الفرنسية. كذا فقد تزوج تشوسر نفسه بامرأة هي “فيليبا دو رويه” التي انحدرت أسرتها من مقاطعة “إينو” التي يتبع جزء منها الآن فرنسا بينما الجزء الآخر يقع تحت السيادة البلجيكية.

أما في الحياة السياسية، كلما كانت كراهية الأجنبي والطموح في الاحتكار تُصاعد من حدة القضايا ذات الصلة بالهوية الإنكليزية، كان تشوسر يميل إلى فكرة “العالمية” أو بالأحرى “العولمة”؛ ففي سبعينيات القرن الرابع عشر حينما استشاط التجار الإنكليز غضبا من تفوق التجار الإيطاليين عليهم في تجارة الصوف المربحة للغاية، عمدوا إلى احتكار إنكليزي لتلك التجارة. ففي اجتماع البرلمان الإنكليزي المنعقد في العام 1376 والذي أُطلق عليه اسم (البرلمان الصالح) اتهم الأعضاء أولئك الإيطاليين باللواط أو بكونهم يدينون باليهودية خفية أو بالإسلام، وذلك سعيا إلى إبعادهم عن تجارة الصوف لتكون خالصة لهم دون منازع. أما تشوسر فنراه في بداية العقد الثامن من القرن نفسه كان قد سافر رفقة إيطاليين إلى جنوا لا لشىء إلا لعقد صفقة تجارية يتمكن أبناء جنوا بموجبها من تفادي الاحتكار وإرساء قاعدة تجارية لهم في الساحل الجنوبي. وكان تشوسر يعمل لدى الدوق “جون الغُنتيّ” المناهض الشرس للمحتكرين من تجار لندن.

لا ريب أن “الإنكليزية” عند تشوسر لم تعنِ إقصاء الأوروبيين الأُخَر ولا إبعادهم؛ فهو قد قضى حياته في تفاوضٍ وعملٍ معهم. فقد عمل تشوسر منذ العام 1374 مراقبا لضريبة الصوف في القلب من النظام التجاري العالمي بإنكلترا. وكانت تربطه علاقات صداقة برجال من أمثال “ماثيو جانين” وهو ذلك الإيطالي الذي أقرض الملك أموالا طائلة، و”ريتشارد ليونز” الذي كان أحد أسلافه ينتمي إلى أصول فلمنكية، وكان ريتشارد هذا صديقا قديما لوالده، وكان يعمل مراقبا للضريبة الجديدة[i]، وكذا “جاكوبي بروفان” و”جون دي ماري” وهما من “جنوا” وقد رافقهما تشوسر في رحلته إلى إيطاليا. ومن العام 1374 وحتى عام 1385 أو 1386 عاش تشوسر وعمل على أعتاب العالم مادا بصره إلى لندن ومن ورائها العالم بأسره؛ فبيته كان مطلا على بوابة عند أسوار المدينة ومكتبه كان مطلا على ضفة النهر.

إن تشوسر لا يكاد يشبه ذلك الأنموذج الأبوي الكئيب الماثل على غُلُف كثير من الكتب المؤلفة عنه. بل كان طفلا في شوارع لندن المكتظة، وشابا يجتاز شعاب جبال البرانس ودبلوماسيا في طور النضج متعطشا للشعر الإيطالي في “بافيا” ولتصاوير “جوتو” الجصية في فلورنسا ورجلا في حاشية الملكة “آن” من “بوهيميا”، وزوجا يعود إلى زوجته المتحدرة من “إينو”. وكان أيضا شاعرا يكتب عن أسواق “باريس” و”بروغ” وكذا عن طغاة “لومبارديا” وعن بلاط “جنكيز خان”، وحتى عن حلم السفر إلى فضاء خارجي. ولقد حلق تشوسر بخياله بعيدا متخذا من قراءاته لأعمال “أوفيد” و”بوتيوس” و”دانتي” و”ماشو” و”بوكاتشيو” جناحين طار بهما وراء الحُجُب. وعليه، فتلقيب تشوسر بأبي الأدب الإنكليزي لا يمثله تمثيلا مغلوطا فحسب وإنما يغمطه حقه كذلك. لذا فإنه ينبغي أن يُحتفى به واحدا من شعراء أوروبا العظام.

المصدر


هوامش الترجمة

[1]. أستاذ مساعد في اللغة الإنكليزية بكلية “يسوع” بجامعة أوكسفورد. وفد صدر أحدث كتاب لها وعنوانه “تشوسر: حياة أوروبية” افي العام 2019.

[i]  الضريبة الجديدة:  (petty custom)وهي ضريبة فُرضت في العام 1303 على التجار الأجانب يدفعون بموجبها

   الضريبة القائمة مضافا إليها ما قيمته 50% من تلك الضريبة.