مجلة حكمة
الكذب

تأملات في الكذب – ألكسندر كواريه / ترجمة تاجة بوحجّة


      ما أفرطنا في الكذب قط. وما كذبنا بصفاقة، وما كان ذلك دأبنا كما هي الحال اليوم. وقد يقال لنا إن الأمر على خلاف ذلك، فالأكاذيب قديمة قدم العالم، أو قل إن الإنسان، في كل الأحوال كاذب بالطبع، mendax ab initio؛ فالتاريخ ما انفك يعلّمنا أن الكذب السياسي، نشأ بنشأة المدينة نفسها؛ ومن دون العودة إلى الأزمنة الغابرة، بلغت عملية التعبئة في الحرب العالمية الأولى، وبلغت الأكاذيب الانتخابية في الحقبة اللاحقة لها، مستويات مرتفعة وحققت أرقاما قياسية يعسر تجاوزها.

هذا، مالا يرق إليه شك، أو يكاد. فالإنسان يعرّف حتما بالكلام، الذي يترتّب عليه احتمال الكذب، -ومن دون أن نثير استياء بورفير   Porphyre- يختص الإنسان بالكذب، أكثر مما يختص بالضحك. لا ريب أن الكذب السياسي وكذلك قواعد وتقنيات ما كنّا نسمّيه في الماضي “ديماغوجيا”، وما نسمّيه في الحاضر “بروباغندا”، قد تم تنظيمها وتقنينها باستمرار منذ آلاف السنين[1]؛ وما تزال آثار هذه التقنيات، وآثار بروباغاندا الإمبراطوريات المنسية المندثرة، تخاطبنا إلى اليوم من أعالي جدران الكرنك وجبال أنقرة. ولا مراء أن الإنسان لا يفتأ يكذب. يكذب على نفسه. وعلى الآخرين. يكذب بداعي المتعة – متعة استعمال هذه الملكة العجيبة في ” أن يخالف الواقع ” ويبتدع بقوله عالما يكون فيه مصرّف الكون ومدبّرَه. وهو يكذب أيضا لينافح عن نفسه، إذ الكذب هو السلاح المفضّل لدى الوضيع والضعيف،[2] الذي يثبت ذاته للخصم وينتقم منه حين يخادعه[3]. غير أننا لن نعرض هنا لتحليل ظواهري للكذب، ولا لدراسة المكانة التي يشغلها في تركيبة الكائن البشري، فهذا ما تتّسع له أسفار بأكملها. إن ما نريد أن نختصه بشيء من التأمّل هي أكاذيب العصر الحديث، لا سيما الأكاذيب السياسية. فعلى الرغم من ضروب الانتقاد التي ستسلّط علينا، والتي سنسلّطها على أنفسنا، فإننا نظل مقتنعين، وما بالعهد من قدم (quo nihil antiquius)، بأن عصرنا الراهن، أو تحديدا الأنظمة الشمولية قد جدّدت في الكذب أيّما تجديد. لا ريب بأن التجديد لم يكن كلّيا، إذ انحصر عمل الأنظمة الشمولية في دفع بعض التوجّهات، وبعض المواقف، والتقنيات السابقة للأنظمة، إلى حدودها القصوى. غير أنه لا جديد كلّيا في العالم، فكل شيء له أصول وجذور، وهو يحمل بذرة وجوده، وكل ظاهرة، وكل فكرة، وكل نزعة ندفع بها إلى أقصاها، تتغيّر وتتحوّل إلى شيء مختلف جدا. لذلك، أؤكد القول بأننا لم نفرط في الكذب كما هي الحال اليوم، وإننا لم نكذب على نحو واسع النطاق وشامل مثلما نفعل اليوم. ما كذبنا قط بهذا القدر… وإنه، ليغمر العالم سيل من الأكاذيب يوما فيوما، وفي كل حين، وإنّا لنكذب في المنطوق، وفي المكتوب، في الصحافة، وفي الإذاعة … وقد سُخّر كل التطور التقني في خدمة الكذب. إن إنسان العصر الحديث – وأعني هنا أيضا، الإنسان الشمولي – يسبح في الأكاذيب، ويتنفسها، يتحكم فيه الكذب في كل آونة من حياته[4]. أما من حيث الكيف – ونعني به الخاصية الفكرية – فقد تطور الكذب الحديث في اتجاه معاكس لمقداره، وهو ما سنتبيّنه لاحقا.  يتسم الكذب الحديث – وتلك خاصيته التمييزية – بكونه يُصنع بوفرة ليستهدف الكثرة. غير أنه لامناص لكل إنتاج ضخم – لا سيما الفكري- الذي يستهدف الجمهور، من أن يتدنّى بمعاييره. وإن كان لا شيء يعدِل تقنية البروبغندا الحديثة صعودا، فإنه لا شيء يعدل وضاعة مضمون مزاعمها، التي تفصح عن ازدراء مطلق وكلّي للحقيقة، بل وحتى لمجرّد الاحتمال.  ازدراء لا يضاهيه سوى- ما ينجر عنه – من استخفاف بذكاء من يلقى إليهم الخطاب.

وفي وسعنا أن نتساءل – وقد سبق منا السؤال– عن مدى مشروعية الحديث عن “الكذب. وبالفعل يقتضي معنى “الكذب” معنى الصدق، بما أن الصدق نقيض له وسلب لوجوده، تماما مثلما يقتضي معنى الخطأ معنى الصواب، غير أن الفلسفات الرسمية التابعة للأنظمة الشمولية تُجمع على القول، بأن لا معنى لمفهوم الحقيقة الموضوعية، المُتفق عليها؛ وأن معيار “الحقيقة” لا يكمن في قيمتها الكلّية، بل في توافقها مع روح العرق والأمة أو الطبقة، أي في منفعتها العرقية، والقومية أو الاجتماعية. لنوسّع آفاق نظريات الحقيقة ذات المنحى البيولوجي والذرائعي، والإجرائي ولنبلغ بها منتهاها معتمدين في ذلك ما وفّت تسميته بمعناه “خيانة المثقفين”. فالفلسفات الرسمية للأنظمة الشمولية تنفي قيمة الفكر الذاتية، إذ ليس الفكر بالنسبة إليها نورا، وإنما هو سلاح؛ ليست وظيفته ولا غايته على حدّ زعمهم، أن يكشف لنا الواقع، أي أن يكشف الموجود، وإنما وظيفته وغايته أن يعيننا على تغيير الواقع وتحويله، وأن يقودنا إلى اللاموجود. لأجل ذلك، وكما مضى به الاعتقاد منذ زمن بعيد، كانت الأسطورة في أغلب الأحيان، مبجلّة على العلم، وكانت الخطابة التي تثير الأهواء أرقى، من البرهان الذي يخاطب العقل.

 كذلك كان شأن منشوراتهم (حتى التي تدّعي العلمية)، وخطبهم، وطبعا دعايتهم، فنادرا ما يتحرّج ممثّلو الأنظمة الشمولية من الحقيقة الموضوعية. إنهم وبقدرة تفوق الإله عظيم القدرة بذاته يصرّفون الحاضر، بل حتى الماضي[5]، على هواهم. ويمكننا أن نستنتج– وقد سبق منّا ذلك أحيانا – أن الأنظمة الشمولية هي فيما وراء الحقيقة ووراء الكذب. ونعتقد، من وجهة نظرنا، أن الأمر خلاف ذلك. إذ يظل التمايز بين الحقيقة والباطل، وبين الخيالي والحقيقي، صالحا، في التصورات الشمولية وفي أنظمتها. ولم تتغيّر بوجه ما، سوى المكانةُ التي يحتلّها والدور الذي يضطلع به. فالأنظمة الشمولية تأسست على أولوية الكذب. إن مكانة الكذب في حياة الإنسان مثيرة للفضول. إذ تُؤثّم مدوّنة الأخلاق الدينية، أو على الأقل، مدوّنات الديانات الكونية العظمى، وخاصة المستمدّة من التوحيد التوراتي، الكذب على نحو صارم ومطلق. وهذا أمر جلي. عدا ذلك: بما أن إلههم هو إله النور والوجود، فإنه يترتب على ذلك بالضرورة أنه إله الحقيقة. فأن نكذب، يعني أن نقول ما يخالف الواقع، وأن نزيّف الحقيقة، ونحجُب الوجود، وهذه خطيئة. بل إنها لخطيئة كبرى، خطيئة الكبْر وخطيئة في حق الروح، تبعدنا عن الاله وتجعلنا عصاة له. لا يمكن لقول البشر، ولا للقول الصادر عن الإله إلا أن ينطقا عن الحق. ولا ينبغي له غيرُ ذلك.

وعلى وجه عام، وبغضّ النظر عن بعض مظاهر الصرامة البالغة التي ميّزت نظرية كانط Kant وفيشت Fichte، تبدو الأخلاق الفلسفية، أكثر مرونة وفي غاية الإنسانية.  ورغم تشدّدها فيما يخصّ السمة التقريرية والإجرائية للكذب وللإيحاءات الكاذبة، suggestio falsi, فإنها تبدو أقل تشدّدا بالنسبة إلى طابعها السالب والسلبي: suppressio veri النافي للحقيقة، فهي تعلم المثل القائل، ” ليس كل ما يعرف يقال”. على الأقل ليس دائما، ولا ينبغي أن يقال لجميع الناس.

وتأخذ الأخلاق الفلسفية في الحسبان أكثر بكثير مما تفعل الأخلاق ذات الأصول الدينية، حقيقةَ أن الأكاذيب تتأذّى بالكلام، وأن كل كلام [6]هو ملقى إلى شخص ما[7]. فالمرء لا يكذب جزافا.  وإنما يكذب – أو لا يقول الحقيقة لغيره. وإذا كانت الحقيقة حقا “غذاء الروح”، فإن الأخّص بها النفوس الكبيرة[8]. ويمكنها أن تكون خطرة على الآخرين. على الأقل حين تكون حقيقة محضا، ويمكنها حتى أن تجرح مشاعرهم. لذا ينبغي أن تقال لهم بمقدار، وينبغي تخفيفها، وتلفيفها. علاوة على ذلك، ينبغي أن نراعي نتائجها، واستعمالها لدى من ألقيت عليهم. لذلك لا يوجد إجمالا، أي التزام أخلاقي للبوح بالحقيقة للجميع. ولا حق لأحد في أن يلزمنا قولها [9].

إن قواعد الأخلاق الاجتماعية، والأخلاق العملية التي تتجلى في سيرنا، وتوجّه حقا، أفعالنا، أوهن تأثيرا من الأخلاق الفلسفية. فهذه القواعد تدين الكذب بوجه عام. ويعلم الجميع أنه من الشائن [10] ” أن نكذب. غير أن إدانة الكذب، ليس لها أن تكون إدانة مطلقة. ولا أن يكون تحريم الكذب تحريما كليّا. إذ توجد حالات فيها يتسامح مع الكذب، وبه يسمح، بل وبه يوصي.
في هذا المجال أيضا، سيذهب بنا التحليل الدقيق أيّما مذهب. يتضح أن الكذب جائز إجمالا، ما لم يعكر صفو العلاقات الاجتماعية، وما لم “يلحق ضررا بأحد”[11]. وهو مسموح به ما لم يفكّك أواصر وحدة المجموعة، أي ما لم يِتؤت داخلها، أي بين “النحن”،بل خارجها، نحن لا نخادع من يوالينا، أما الآخرون[12]…،أليسوا حقا “آخرين”؟

إن الكذب سلاح. لذلك يحق التسلّح به في الصراعات. وسيكون من الحمق عدم استعماله، لكن شرط إشهاره في وجه الخصم والامتناع عن تسليطه على الأصدقاء والحلفاء.
إذن على العموم يمكننا، أن نكذب على العدو، وأن نخادعه. فقليلة هي المجتمعات، مثل الماوريين Maoris، التي بلغت بها الشهامة، حد الامتناع عن استعمال خدع الحرب. وأقلّ منها عددا، على غرار الكويكرز Quakers والوهابيين les Wahhabites من يحظرون لتديّنهم، الكذب على الآخر، وعلى الغريب، وعلى العدو.  ففي كل أرجاء العالم تقريبا نقر بأن الخديعة* [13]جائزة في الحرب.

وعموما لا يوصى بالكذب في العلاقات السلمية. وعلى الرغم من ذلك (وبما أن الأجنبي عدو محتمل)، ما عُدّ الصدق بالخصلة الفضلى المميزة للدبلوماسيين. وقد يستجاز الكذب إلى حدّ ما، في التجارة: وفي هذا السياق أيضا، تُلزمنا الأخلاق حدودا لا تنفك تضيق[14]. ومع ذلك، فإن الأعراف التجارية الأشد صرامة تتسامح قطعا مع الكذب الفاضح في الإشهار.

يظل الكذب إذن، مسموحا به ومقبولا …لا غير. ومن الحالات التي يكون فيها استثناء، حال الحرب التي تستأثر بأحقية استعماله والانتفاع به. غير أنه ماذا عسى أن يحدث لو استحالت الحرب إلى حالة دائمة وطبيعية، بعد أن كانت عرضية، ظرفية عابرة؟ من الواضح أن الكذب بصورة عرضية يمكن أن يصير هو الآخر حالة طبيعية، ومن شأن فئة اجتماعية، تشعر بأن الأعداء يتربصون بها، ألاّ تتردّد في توخّي الكذب في مواجهتهم. لتصير بذلك قاعدة السلوك التالية:” الحقيقة من نصيب أتباعنا، والكذب من نصيب الآخرين”، عرفا من أعراف تلك المجموعة. ولنذهب أبعد من ذلك. ولنعمق القطيعة بين “النحن” و”الآخرين”.  ولنجعل من العداوة الواقعية عداوة أصلية، عليها تقوم بوجه ما طبيعة الأشياء [15].  ليكن أعداؤنا مهدّدين لوجودنا أشدّاء. من البديهي أن كل جماعة، متواجدة بين جمع من الخصوم، وتأبى الاحتواء والتوافق معهم، أن تدرك الهوّة التي تفصلها عنهم. هوّة لا يمكن لصلة وصل، أو لأي إلزام اجتماعي أن يجاوزها [16]. وبديهي ألا يكون الكذب عند هذه المجموعة – الكذب على “الآخرين ” طبعا – مجرد فعل مباح، أو قاعدة سلوك اجتماعي، وإنما سيكون سلوكا إلزاميا، ويستحيل إلى فضيلة.  مقابل ذلك، يصبح الصدق في غير موضع، والعجز عن الكذب، مثالب، لا علاقة لها بسمة النبل، وعلامات ضعف وهوان. إن هذا التحليل المقتضب الناقص – بل صعب الاستيفاء-، ليس مجرد عرض جدلي، أو محض دراسة مجّردة تتعلق بإمكانية نظرية خالصة. بل على العكس من ذلك، ليس ثمة ما هو أوفى واقعية وحقيقة من الفئات الاجتماعية التي حاولنا رسم معالمها. وليس بالعسير علينا أن نقدم الأمثلة، وأن نضاعفها بشأن المجتمعات التي تُظهر بنيتها العقلية، وإن بدرجات متفاوتة، تلك الخصائص الأساسية، أو بالأحرى، ذلك الانحراف الجوهري الذي كنّا بصدد تبيانه[17].

غير أن درجات الكذب، التي تدرجنا في سلّمها التصاعدي، تفصح، فيما يبدو، عن تأثير عوامل ثلاثة:

  1. درجة الاختلاف والتعارض بين المجموعات المعنية. فشتّان بين العداء الطبيعي للأجنبي، الذي يمثل عدوا بالقوة أو حتى عدوا بالفعل، والبغضاء المقدسة التي تلهم المقاتلين في حرب دينية [18]. وشتّان بين البغضاء المقدسة، والشراسة البيولوجية التي تحفز المقاتلين في حرب استئصال عرقية.

  2. علاقات القوى، أي درجة الخطر المحدق بالمجموعة التي يتدبّر أمرها جيرانها المعادون لها. فالكذب، كما سبق أن ذكرنا، سلاح، وعلى الأخص سلاح الإنسان الأضعف: لا تُستخدم الحيلة مع الذين نكون على يقين من سحقهم دون مخاطرة كبيرة؛ بل على العكس من ذلك، لا نلجأ إلى الحيلة الا اتقاء للخطر[19].

  3. درجة تواتر اتصال المجموعات المعادية لبعضها البعض، ودرجة تواتر اتصال أعضاء كل منهما. وفعلا، مالم تلتق هذه المجموعات مطلقا مهما تكن درجة عداوتها، أو لم تلتق إلا في ساحة المعركة، وما لم تتصل عناصرها بعناصر المجموعة الأخرى، فإنه يندر أن تجد – خارج سياق حيل الحرب- مناسبة للكذب على بعضها البعض. إذ يقتضي الكذب تواصلا بينهما؛ ويستلزم المبادلة ويقتضيها.

وتحملنا الملاحظة الأخيرة على أن نمضي قُدما في التحليل. لنلغي اعتبار وجود مجموعتنا المستقل. ولنزج بها في خضم عالم الجماعة المناوئة، ولنضعها بأسرها في صلب مجتمع يناصبها العداء، لتكون فضلا عن العداوة التي بينهما، في صلة دائبة بها: من الواضح أن الحاجة إلى ملكة الكذب في تلك المجموعة ستكون أشدّ إلحاحا، وستلقى هذه الخَلّة تقديرا أكبر كلما ازدادت وطأة الضغوط الخارجية، واحتدّ التوتّر بين “النحن” و”الآخرين”، واشتدت عداوة “الآخرين” “للنحن “، وتعاظم التهديد الذي يسلطه “الآخرون” على “النحن”.

ولندفع بالوضعية مرة أخرى إلى أقصاها؛ ولنؤجج نار العداوة بين المجموعتين حتى تبلغ قصاراها. من البيّن أن المجموعة الاجتماعية التي نحن بصدد رصد تحولاتها، ستضطر إما إلى الانسحاب انسحابا محققا، أو، إلى استعمال تقنية الكذب وسلاحه دون رادع، والتواري عن أنظار الآخرين، فرارا من الأعداء، وتحاشيا لتهديدهم وذلك باللوّذ إلى كنف السرية.

من هنا فصاعدا سينقلب وضع الكذب رأسا على عقب: سيكون بالنسبة إلى مجموعتنا، التي غدت مجموعة سرية[20]، أزيد من ميزة تمتاز بها. سيصبح شرط وجودها، ونمط كيانها المألوف، والجوهري، والأول.

وبحكم السرية، يتم إبراز بعض السمات المميزة الخاصة بكل مجموعة اجتماعية بما هي مجموعة سرية، والمبالغة فيها أيّما مبالغة. هكذا، وعلى سبيل المثال، تقيم كل جماعة حاجزا بينها وبين الآخرين يمكن إلى حدّ ما تعدّيه ومجاوزته؛ وتُفرد كل مجموعة أعضائها بمعاملة خاصة، فتُنشئ بينهم قدرا من الائتلاف، والتضامن، و”الصداقة”. وتولّي كل مجموعة،أهمية خاصة للحفاظ عل حدود التفريق بينها وبين “الآخرين”، ومن ثمة الحفاظ على العناصر الرمزية التي تِحدّد، بوجه ما، ماهيتها. إن كل مجموعة، أعني كل مجموعة فاعلة، تعتبر الانتماء إليها عزا وشرفًا[21]،  وترى  الولاء لها، فرضا على  أعضاءها. وما إن يأتلف أعضاؤها في النهاية، ويبلغوا أشدّهم، حتى يستقيم لها تنظيم خاص، وتراتبية معينة.

وتهيمن كل هذه الخصائص على الجماعة السرية: فرغم كونها تقبل الاختراق في وضعيات معينة[22]؛ إلا أنها تقوم سدّا منيعا لا منفذ له، ويصير الانتماء إليها انتماء لا فكاك منه[23] ؛ ويصبح التضامن بين المجموعة تعلّقا لا مثيل له. وتكتسب الرموز قيمة مقدسة. ويصير الوفاء للجماعة واجبا أسمى، وأحياناً الواجب الأوحد لأعضائها؛ أما ما يتعلق بالتراتبية، بما أنها أضحت سرية، فإنها ستكتسب هي الأخرى قيمة الاطلاقية والقداسة؛ ويتسع البون بين رتبها، ويغدو النفوذ مطلقا، وتصبح الطاعة العمياء perinde ac adaver، قاعدة العلاقة بين العضو المنتمي للمجموعة ورؤسائه، و معيار العلاقة بينهما.

بيد أن فضلا عن ذلك، أية جماعة سرية، سواء كانت جماعةً ذات مذهب أو جماعة ناشطة أو طائفة أو جماعة متآمرين – ولو أن الحدود بين الجماعتين يعسر تحديدها، فالجماعة الناشطة تتحول، على الدوام، إلى مجموعة متمذهبة – هي جماعة صاحبة سر، أو صاحبة أسرار. بمعنى أنه، حتى لو كانت جماعة ناشطة، مثل عصابة مجرمين، أو مثل متآمري الدهاليز، عديمة العقيدة الباطنية أو العقيدة السرّية، ملزمة بكتمان أسرارها ودرئها عن غير المنتمين، بل إن وجودها ذاته وثيق الارتباط بصون السرّ، بل إنهما لسرّان؛ سرّ يتعلق بذات وجودها، وسرّ يخص أهداف عملها.

ويترتب على ذلك، أن الواجب الأسمى لعضو جماعة سرّية، والفعل الذي يعبّر به عن تعلّقه بالجماعة ووفائه لها، والفعل الذي يثبت به انتماءه للفريق ويؤكده، يتمثل على وجه المفارقة في إخفاء حقيقته تلك[24]. إن إخفاء ما يوجد، وحتى نقدر على فعله، نظهر ما لا وجود له، ذلك هو نمط الوجود الذي يفرضه قسرا كل تجمع سري على أعضاء المجموعة.

وبديهي أن ينجر عن، إخفاء من نكون وإظهار ما لا نكون … ألا نقول مطلقا ما نفكّر فيه وما نعتقده؛ وأن نصرح دائما بخلافه. فليس الكلام في الواقع بالنسبة إلى أي عضو في الجماعة سوى وسيلة لمداراة أفكاره. لذلك، فإن كل ما يقال هو كذب. وكل قول أو بالأحرى كل قول يلقى على جمهور الناس، هو كذب. وحدها الأشياء التي لا نتلفّظ بها، أو بالأحرى التي نصرح بها لـ “أتباعنا”، صحيحة أو قد تكون صحيحة[25]. لا تنفك الحقيقة تكون ثاوية مستترة. لا يلّقاها العوام، ولا الهمج، ولا أهل الدنيا. وهي غير متاحة لمن لم يكن على الولاء المطلق. فكل عضو من أعضاء الجماعة السرية، جدير بخطته، يستيقن ذلك. فهو لا يصدّق ما يصدع به أحد أفراد جماعته الخاصة في الملأ. وعلى الأخص لا يأخذ مأخذ الحقيقة قولا يجهر به قادتها علانية. فما إياه يخاطب القائد بل الآخرين ” الذين حُق عليه أن يُغشي أبصارهم عن إدراك الحقيقة، وأن يظلّلهم ويخدعهم[26] هكذا تظهر، مفارقة أخرى، ففي عدم تصديق ما يقول، وما يعلن على الملإ، يعرب أعضاء الجماعة السرية عن ثقتهم في قائدهم.

ومن دون شك، قد يعترض على تحليلنا وإن كان صائبا، بأنه يتقصى عن الموضوع. فالحكومات الشمولية، للأسف، ليست سوى جمعيات سرية يتربص بها أعداء خطرون أقوياء، ومن ثمة تضطر بحكم الحال إلى الاحتماء بالكذب، والتخفّي [27]. وسيقال لنا أن “الحزب الواحد” الذي يشكل العمود الفقري للأنظمة الشمولية، لا يشترك في شيء مع مجموعة المتآمرين: فهو في الواقع يعمل جهارا. لا يبتغي في ذلك انغلاقا على نفسه، أو إقامة سد منيع بينه وبين الآخرين، وإنما غايته، الظاهرة والباطنة، هي على وجه الدقة، أن يستوعب “الآخرين” كافة، وأن يسع الأمة (أو العرق) قاطبة.

بل، يمكن الاعتراض بالمثل على العلاقة التي نزعم نسجها بين الأنظمة الشمولية والكذب. وقد يقال لنا، أن الحكومات الشمولية لا تعمل على إخفاء الأهداف القريبة والبعيدة لنشاطها، وأنها لا تنفكّ تصرح بأهدافها جهارا بهار urbi et orbi، وهو ما لم تجرؤ عليه أي حكومة ديمقراطية، وانه من السذاجة أن نتهم شخصا مثل هتلر بالكذب، وهو الذي أعلن على الملأ بأنه (خط سوادا على بياض في كتابه كفاحيMein Kampf البرنامج الذي عمل على تحقيقه فصلا. بل ريب أن كل ما قيل صحيح، غير أن جانب الصحّة فيه محدود. ممّا يجعل الاعتراضات التي عرضنا لها بالتقديم غير باتّة على ما يبدو. حقّا إن هتلر (إضافة إلى قادة الدول الشمولية الأخرى) أعلن صراحة عن برنامج عمله الكامل. لكنه أقدم على، ذلك لأنه كان يعلم أن الآخرين” لن يصدقوا أقواله “، وأن أتباعه لن يأخذوا كلامه مأخذ الجد، فهو بإخبارهم الحقيقة كان على يقين من تظليل خصومه وتعطيل تفكيرهم[28].

إنها حيلة مكيافيلية تليدة في الكذب من الدرجة العليا، وهي المضللة من ضمن جميع الحيل، تغدو بها الحقيقة نفسُها، مجرد أداة ومحض وسيلة للخداع [29]. ويبدو جليا أن هذه “الحقيقة” ليست من الحقيقة في شيء.

وصحيح أيضا، أن الدول والأحزاب الشمولية ليست مجتمعات سرية بالمعنى الدقيق للعبارة، وأنها تعمل علنا وبدعم واسع من وسائل الدعاية. مما يعني حقا – وفي هذا، يكمن التجديد الذي سبق منا الحديث فيه – إنها المؤامرات جهرا.

المؤامرة جهرا- شكل جديد غير مألوف لجماعات فاعلة، تخصّ الحقبة الديمقراطية، أي حضارة جماهيرية لا تحدق بها المخاطر، ولا تحتاج إلى التخفي، بل، التجلي في النور، وجلب الانتباه إليها، وخاصة، إلى قادتها، باعتبارها ملزمة بالتأثير في الجماهير، وكسبها، والإحاطة بها وتنظيمها. وبالمثل، لا يحتاج أعضاء الجماعة إلى التخفّي: بل على العكس من ذلك، يمكنهم إعلان انتمائهم إلى الجماعة، إلى “الحزب “، ويمكنهم الجهر به، وجعله معلوما لدى الآخرين ولأتباعهم، بوسم خارجي أي بالشعارات، والشارات، وبارتداء الأشرطة أو حتى التزيّ بالزي الموحد، وباستعمال إيماءات ذات صبغة طقوسية في الأماكن العامة. و- بالرغم من الواقعة، التي عرضنا لها بالذكر، والمتمثلة في كون مؤامرة الجهار، تنزع بالضرورة إلى أن تكون تنظيما جماهيريا – فإنه بقدر تخفّي أعضاء المجتمع السري، ينآى هؤلاء بأنفسهم عن الآخرين. ولن يؤدي اعتماد علامات بارزة دالة على الانتماء إلى “الحزب”، إلا إلى جعل التعارض بينهما أمضى، وجعل الفصل بينهم وبين غير الموالين أبين؛ وسيظل الولاء للمجموعة، الشيمة الجوهرية لأعضائها؛ وسيبرز التراتب الهرمي الداخلي للحزب “، وسيكون له هيكل منظمة عسكرية، وتكون قاعدة لا إيمان لغير المؤمنين non servatur fides infidebus الأظهر في سلوكهم. لأن التآمر جهرا، إن لم يكن يعني مجتمعا سريا، فهو يعني مجتمعا ينطوي على أسرار.

 ولن يطمس الانتصار، أي نجاح المؤامرة، السمات التي استبقنا إلى ذكرها. بل سيقتصر دوره على إضعاف البعض، ونصرة الآخرين، وسيعزز على وجه الخصوص، الشعور بتفوّق الطبقة الحاكمة الجديدة، ويعزز انتمائها إلى النخبة، إلى أرستقراطية منفصلة تماما عن الجمهور[30].

ولا تعدو أن تكون الأنظمة الشمولية سوى مؤامرات من هذا القبيل، ناجمة عن الكراهية والخوف والحسد، تغذّيها الرغبة في الانتقام، والهيمنة، والاستيلاء. وهي مؤامرات حقّقت نجاحا، أو بالأحرى- وهذه مسألة مهمّة – حققت نجاحا نسبياً، أي استتب لها الأمر في بلدانها، ودانت لها السلطة، واستحوذت على الدولة. غير أنها لم تتوفّق أو – ليس بعد – في تحقيق الأهداف التي رسمتها لنفسها[31]،   ومن ذات المنطلق، سوف تستمر في التآمر.

ويمكننا التساؤل إن كان مفهوم المؤامرة جهرا لا يضمر تناقضا in adjecto، إذ تلتئم عبارة المؤامرة على معنى الغموض والسرية فكيف يمكن إنفاذها جهرا؟

لا ريب، أن كل مؤامرة تقتضي السرّية؛ السرية التي تتعلق على وجه الدقة بأهداف عملها التي ينبغي التكتّم عليها حتى تتمكّن من تحقيقها، والتي لا يعلمها إلا أتباعها الذين ” ينسلون من الجماعة نفسها”. غير أن المؤامرة جهرا ليست استثناء من القاعدة، لأنه، كما ذكرنا في الحال، حتى وإن لم يكن المجتمع سريا، فإنه مع ذلك، مجتمع ذو أسرار.

ومع ذلك، كيف يمكن لمجتمع من هذا القبيل، أي لمجتمع ينشط في فضاء عام، ويبتغي تنظيم الجماهير، و​​ يشيع فيها دعايته، أن يحتفظ بسرّ؟ إن السؤال مشروع تماما. غير أن الإجابة عنه ليست عصيّة كما بدا للوهلة الأولى، بل في غاية البساطة، وذلك لوجود طريقة واحدة في حفظ السر؛ وهي إما كتمانه؛ أو ألا نكاشف به إلا من نثق فيهم وهم نخبة المنتمين.

والحال أنه في المؤامرة جهرا، يضطلع القادة طبعا، والأعضاء القياديون في “الحزب” بتكوين النخبة، التي تعكف وحدها على إنفاذ أهدافها الحق. وبما أن الحزب ينشط علانية وكذلك يعمل قادته في العلن وكان لزاما عليهم أن ينشروا في الناس عقيدتهم، وأن يبثوا بمحضر منهم خطبهم وبياناتهم، فإنه يترتب على ذلك أن الحفاظ على السرّية يعني التطبيق المستمر للقاعدة التالية: كذب ورسالة مشفّرة، كل بيان للعموم؛ وكذلك البيان العقدي، مثلما هو الوعد السياسي، والنظرية[32] ، أو العقيدة الرسمية، مثلما الإلزام المنصوص عليه في معاهدة.

وتظل القاعدة “لا وفاء لمن لم يكتم عقيدته” Non servatur fides infidelibus القاعدة الأسنى. وهذا ما يدركه المنتمون، والجديرون بالانتماء. فهم يعلمون السرّ وأخفى، ويفكّون ما استغلق منه، ويخترقون الحجاب الذي يغشى الحقيقة.

أما الآخرون، وهم الخصوم، والجمهور، بما في ذلك المنخرطين في الجماعة، فهم يتقبّلون البيانات العامة قبول الصدق، ليثبتوا بذلك أنهم غير جديرين بالحقيقة السرية وغير جديرين بانتسابهم إلى النخبة. ويعرف المنتمون وأعضاء النخبة، – بضرب من المعرفة الحدسية المباشرة [33]– ما يختص به الزعيم من تفكير دقيق عميق، وهم على دراية بالغايات الدفينة الحقيقية للحركة. لذلك لا يربكهم ما يسِم بيانات الزعيم العامة من تناقض وتهافت: وهم يعلمون أن غرضها إحباط الجماهير والخصوم و “الآخرين”، وهم منبهرون بالقائد الذي يستعمل الكذب ويتقن فنونه. أما ما يتعلق بالآخرين، الذين يعتقدون فيما يقول، فهم بحكم الواقع ذاته، غير مدركين للتناقض، لا ينالهم الشك، إنهم قاصرون عن التفكير.

ويترتب على هذا التوجه الفكري الذي سبق منّا وصفه، وهو توجّه جميع الأنظمة الاستبدادية، وعلى الخصوص، وكما هو معلوم، توجّه النظام الشمولي بامتياز، أي نظام هتلر[34] ، مفهوم خاص للإنسان، وانثروبولوجيا خاصة. ولا تقوم الأنثروبولوجيا الشمولية إطلاقا كي تكون مناهضة للأنثروبولوجيا الديمقراطية أو الليبرالية على قلب القيم الذي بإزرائه قيمة الفكر والعقل والذكاء  يضع القوى الغامضة، والأرضية”telluric” للغريزة والدم على رأس الوجود الإنساني .
بلا ريب، تؤكد الأنثروبولوجيا الشمولية، أهمية الفعل ودوره وأولويته، غير أنها ما تحتقر العقل البتة[35] وإنما، تحتقر بالأحرى، أشكاله العليا، أو على وجه الدّقة ترفضها كلّ الرفض، أي ترفض، الذكاء الحدسي، والفكر النظري، أو النوس  nousكما سمّاه الإغريق. أما فيما يخص العقل المنطقي، العقل المعقلن والاحتسابي، فإنها لا تتجاهل قيمته بأي حال من الأحوال[36]، وإنما ترفعه تمام الرفعة، حتى أنها تنكره على البشر العاديين. ولا يتحدّد الإنسان في الأنثروبولوجيا الشمولية بالفكر، أو بالعقل،أو بملكة الحكم، لأن السواد الأعظم، وفق تصورها قد حرموه. فهل مازال بوسعنا أن نتحدث إذن عن الإنسان؟ كلاّ، أن الأنثروبولوجيا الشمولية لا تعترف بوجود جوهر إنساني واحد ومشترك[37]، فالاختلاف بين البشر بين إنسان و” آخر” ليس في نظرها، اختلافا في الدرجة، وإنما اختلاف في الطبيعة. والتعريف اليوناني القديم، الذي يعرّف الإنسان بأنه حيوان ناطق zoon logicon، تعريف ملتبس: إذ لا توجد علاقة ضرورية بين النطقlogos – والعقل والنطق والكلام، كما لا يوجد تقايس بين الإنسان الحيوان والإنسان المتكلم. لأن الحيوان المتكلم هو قبل كل شيء حيوان ساذج، والحيوان الساذج هو الحيوان الذي لا يفكر[38]. وتعتقد هذه الانثربولوجيا أن الفكر بمعنى العقل، وفي معنى التمييز بين الخطأ والصواب والقرار والحكم، هو شيء نادر جدا، ونادر الوجود في العالم   فهو من شأن النخبة، وليس من شأن الجمهور. فالجمهور منقاد بالغريزة، تغلب عليه الأهواء، والمشاعر ويحرّكه الشعور بالضغينة. لا يعرف كيف يفكر وماذا يريد، لاحظّ له من المعرفة إلا الطاعة والاعتقاد[39]. وهو يصدّق كل ما يقال له شريطة أن يقال له في إلحاح، وشريطة أن يتمدّح القول أهواءه، ومكارهه ومخاوفه.  لا جدوى إذن من أن نتجاوز حدود ما يظهر بمظهر الحقيقة: بل على خلاف ذلك، كلما أفحشنا في الكذب وأمعنّا فيه وبلغنا فيه حد الفجاجة، وقع تصديقنا واتّباعنا. فلا جدوى من اجتناب التناقض: ذلك أن الجمهور لن ينتبه إليه أبدا. ولا فائدة أيضا من إيجاد التناسق بين ما يقال للبعض، وما يقال للآخرين: فلا أحد يصدّق ما يقال للآخرين، بل يصدّق ما يقال له [40]؛ ولا نفع من البحث عن الاتساق [بين الأقوال]: فما للجمهور من ذاكرة [41] ؛ ولا فائدة في مواراة الحقيقة عنه: فهو عاجز أصلا على إدراكها. ولا جدوى حتى في أن نداريَ تظليلنا إياه: فلن يتبيّن أن عليه مدار الأمر، أو أن الأمر يخصّ معاملتنا له[42].

وهذه الأنثروبولوجيا ذاتها، هي أساس البروباغندا التي يبثّها أعضاء المؤامرة جهرا، والنجاح الذي تحققه هو الذي يبرر ما يقع على الشموليين من ازدراء لا حدّ له – ونعني ازدراء أعضاء النخبة التي تعرف [مايصلح]- للجمهور، وللخصوم، وللأتباع؛ وما يصلح للحشود[43] أي لجميع الذين يصدقونها ويتبعونها؛ أو من يصدقونها، دون أن يوالوها. ولن نعترض على وجاهة هذا الموقف، الذي يبدو لنا متواضعا في تبريراته. و علاوة على ذلك، فإن ممثلي الأنظمة الشمولية وقادتها لهم من الكفاءة لتقييم ما يتحلّى به أتباعهم من قيمة فكرية ومعنوية، وتقييم سذاجتهم . وسنكتفي بالملاحظة البسيطة التالية: لئن ّعد نجاح مؤامرة الشموليين  دليلا خبريا على صحة نظريتهم الأنثروبولوجية، ودليلا على النجاعة  التامة لأساليب التدريس والتربية  التي قامت عليها، فهو دليل لا يعتدّ به إلا في بلدانهم  وبالنسبة إلى شعوبهم، ولا يعتدّ به في البلدان الأخرى، و لا عند شعوبها، لا سيما البلدان الديمقراطية التي، كانت في صمودها واستبسالها، متمردّة  على  الدعاية الشمولية: وعلى الرغم مما تلقاه البروباغندا من تأييد من المؤامرات الداخلية في هذه الدول، فإنها ما استطاعت في النهاية، إلا أن تخدع جزءا ممّا يسمى “النخبة الاجتماعية “. هكذا وبناء على مفارقة أخيرة – وما هي في الأصل بالمفارقة- تبين للحشود الشعبية في تلك الدول الديمقراطية التي يزعم أنها دمّرت وخرّبت، وفقا لمبادئ الأنثروبولوجيا الشمولية ذاتها، أنّها تنتمي إلى جنس الإنسانية الأرقى، وأنها تتألف من مفكرين، وأن الارستقراطيات الشمولية الزائفة، خلافا لما يقال، هي التي تمثل فئة البشر المنحطين، وفئة الإنسان الساذج عديم التفكير.

المصدر


[1]  نجد في محاوارات أفلاطون، وعلى الخصوص في كتاب الخطابة لأرسطو، تحليلا محكما للبنية النفسية لعملية الدعاية، ومن ثم تحليلا لآلياتها.

 [2]  يظهر الضعيف بمظهر الأقوى، حين يخدع خصمه أو سيّده.

[3]   في الخداع أيضا إذلال، وهو ما يفسر الكذب المجاني الذي يأتيه النساء والعبيد.

 [4]    يرتبط النظام الشمولي أساسا بالكذب وإننا لم نفرط في فرنسا في الكذب إلا يوم سلكنا السبيل إلى نظام شمولي، ويوم أعلن المارشال بيتان، “أنا أبغض الكذب.”

 [5]  من المهم أن نمحّص اليوم، تبعا لوجهة النظر هذه، الدرس التاريخي للأنظمة الشمولية وتعدد [معانيه]. وتطرح كتب التاريخ المدرسية الجديدة على المدارس الفرنسية أفقا واسعا للتفكير.

  [6]  يُحمل هنا مصطلح “الكلام” في أوسع معانيه على التعبير والاقتراح، ويتّضح أنه يمكن للمرء أن يكذب دون أن ينبس ببنت شفه.

 [7]    تجعل الأخلاق الدينية الحقيقة إلزاما تجاه الإله، لا تجاه البشر، وهي تحظر الكذب “في حضرة الإله ” و “تجاه البشر”

[8]  هذا التصور تعتمده أحيانا الأخلاق الدينية يقول سانت بول اللبن للأطفال، والخمر للكبار.

[9]    فنحن ملزمون بواجب الحقيقة إزاء الذين يحضون بتقديرنا، وتجاه أقراننا ورؤسائنا. وعلى العكس من لذلك، فإن في الامتناع عن قول الحقيقة عدم تقدير وعدم احترام.

[10]  ” إن النبيل لا يكذب”.  والصدق فضيلة أرستقراطية موصولة بمفهوم “الشرف”، أما بالنسبة إلى العبد فهو ليس بفضيلة وإنما واجب، وإلزام.

[11]  ليس نفاق الأشكال التوافقية، الخاص بالسلوك الاجتماعي الحضري، شأن التأدّب، وما إلى ذلك، كذبا.

[12]  يحق للأتباع معرفة الحقيقة؛ ولا يحق ذلك “للآخرين”؟

 [13]  في معنى الخداع. (N.D.E.)

[14]   في الماضي كانت عبارة تاجر وكاذب عباراتين مترادفتين، يقول المثل السلافي slaveالقديم: “من غشّ باع”. أما اليوم فنعتبر الأمانة بالنسبة إلى التاجر حسن تدبير.

[15]  أفضل طريقة لدفع التعارض إلى أقصاه أن نجعله بيولوجيا. وليس من قبيل الصدفة أن صار النظام الفاشي نظاما عنصريا.

[16]  الحرب حالة طبيعية … معاداة العالم الخارجي …  هي المرتكزات الثابتة للوعي الذاتي، التي رسخها الشموليون في أذهان شعوبهم.

[17]  نستعمل هنا كيف ما اتفق شاهدا على   التدرب على الكذب، نموذج الشاب الاسبرطي، والشاب الهندي، ؛ وذهنية الماران ، أو ذهنية اليسوعي.

 [18]  تترجم ذهنية الحرب الدينية في الصيغة الشهيرة، لا إيمان لغير المؤمنين: non servatur fides infidelibus. .

[19]  الكذب سلاح لا يستخدم ما لم نكن عرضة للتهديد، وللخطر. وينتج عن ذلك، أن المجموعة لن تعتمد قاعدة الكذب إلا في حال تعرّضها للعدوان والاضطهاد باعتبارها الأضعف. وإن لم يكن ذلك شأنها، فإن الزيغ الذي درسناه لن يشملها، حتى وإن كانت تلك حال التجائنا، والفرس، فإنها ستصنع جالية منغلقة أشد ما يكون الانغلاق.

[20]  لقد أهمل علم الاجتماع على وجه التخصيص دراسة المجموعات السرية. ولا شك أن لدينا معرفة نسبية بالمجتمعات السرية لأفريقيا الاستوائية، غير أننا، نجهل كل شيء، أو نكاد، عن تلك المجموعات التي وجدت وتوجد في أوروبا.  وإن كنا نعلم تاريخها أحيانا، فإننا نجهل بنيتها النمطية، التي كان سيميل Simel الوحيد على وجه التقريب،الذي تبين أهميتها .

[21]  ثمة، بلا شك، مجموعات – مجموعات المنبوذين – تعتبر عضويتها في الجماعة حظا عثرا، أو وصمة عار.  ومآل هذه المجموعات عموما الاندثار، غير أنها طالما كانت موجودة، فإنها ترى المروق منها خيانة.

[22] إن المجموعة السرية من النوع التقليدي، هي المجموعة التي تخضع عادة في تكوينها لتدريب متدرّج. وتوجد كذلك مجموعات سرية ترث بعضها البعض، غير أنها نادرة جدا، وفضلا على ذلك، تتلقى هذه المجموعات أيضا عمليات تكوين. وما يتوارث في الواقع أو يحافظ عليه بالتوارث، في هذه المجموعات، هو التكوين.

[23]  المجموعات التي تقوم بالتدريب مجموعات سرية بالضرورة.

 [24]  يختلف الأمر تماما إذا ما تعلق بجماعات الدعاية الدينية، أو السياسة المنفتحة، هذه الجماعة اليي يقبل أعضاؤها أن يستشهدوا فداء لها، أو يسعون إلى ذلك، دليلا على إيمانهم، وتكون الشهادة لديها وسيلتها إلى الدعاية والعمل.

[25]  من الضروري كذلك التمييز الحصيف بين الإعلان العام والتبليغ الذي يكون إلى حد ما سريا أو شاملا للحقيقة المستترة، الموجه للأعضاء المنتمين، أو للمرشحين للانتماء.

[26]  الاعتقاد في وجود معلومات وإثباتات خفية، هو في حد ذاته حجة على نقص في التدريب؛ واعتراف بعدم الأهلية.

[27]  ومع ذلك، نحن نعلم كيف ترسّخ الأنظمة الشمولية في أعضائها وشعوبها سيكولوجية الحق المهضوم و [ذهنية] الشعب المختار المحاط بالأعداء، المغصوبة حقوقه والمهدد في وجوده. إنه قلب خاص للوضع الحقيقي، الذي ينمي شناعة الإحساس بالدونية عند الشمولين.

[28]  نعلم حقّ العلم أن تقنية الكذب من الدرجة العليا، التي استعملتها الدبلوماسية البسماركية Bismarkاستعمالا موسّعا في مناظرة مع الكذب العادي. – وكانت نتيجتها إرباك الخصم – هي خصيصة الدبلوماسية الشمولية.

[29]  في مقابل خيبة أمل المعارضين، يصيب “الأتباع” والمنتمون والجديرون بالانتماء، في ذلك إبلاغا للحقيقة وإعرابا عنها.

[30]  يمكن أن ندعوها “أرستقراطية الكذب” ما لم تتضادد العبارات. وفي الواقع، إن نخبة الكذب لنخبة كاذبة في حكم الضرورة، وهي نخبة غوغائية cacocracy وما هي بالنخبة ألارستقراطية.

[31]  بالنسبة لأولئك الذين يجيدون القراءة، فإن هدف الهيمنة على العالم تمت صياغته بوضوح في كتاب Mein Kamp

[32]   مازالت النظرية موضوع دعاية عند غير المنتمين، الذين يؤمنون بها.

[33]  ينشأ ضرب من التواصل الخفي بين المنتمين- أو من يعتقد أنه كذلك – والقائد.

[34]   على الرغم من أن الفاشية الإيطالية، لم تكن حينها، سوى محاكاة واهية، هذا إن لم تكن صورة كاريكاتورية، من شمولية هتلر.

[35]  إنها تزري بالإنسان، وعلى الأخص، الإنسان الشمولي. انظر. Avord “الطغيان وازدراء البشر”، فرنسا الحرة، العدد 16، 1942.

[36]  هل يسعها ذلك؟ إن الشمولية، التي تحط فعليا (ادّعاء وبهتانا) من شأن العقل ومن التنظيم العقلاني، لصالح الرؤية العضوية والرابط العضوي، لا تجسد في الواقع، سوى الإوالية الأشد صرامة.

[37]  فيما يتعلق بالأنثروبولوجيا الشمولية يوجد الكثير من الاختلافات بين أعضاء “النخبة” وسائر البشر، وبين الإنسان العارف homos sapiens والإنسان المؤمنhomo credulus، والاختلاف ذاته موجود في الأنثروبولوجيا الغنوصية بين hylics الايليين والروحانيين أو في الأنثروبولوجيا الأرسطية، بين الحر والعبد.

[38]  يطلب الحيوان المفكر التفكرintellection؛ ويطلب الحيوان الساذج الاعتقاد. Credere

[39]  إن الاعتقاد، أو الطاعة obedire، والقتال – لهي من واجب الشعب، أما التفكير فهو حكر على القائد.

[40]  تجري تقنية الكذب المتعددة وَفق هذا المبدإ “أنا طائر، فانظر إلى جناحي، أنا فأر، لتحي الفئران” وهي تخول الثقة الزائفة امتيازا ذا شأن، بما هي المكافئ النفسي للتكوين الخاطئ الذي يرضي المخدوع (رضا زائفا) باعتباره يمثل استثناء، ويجعله يعتقد أنه ينشط في كنف”السرية”، ويشعره بالتفوق، والرضا، إذ يرى “الآخرين ” ينقادون للأكاذيب.

[41]  قال موسوليني ذات يوم، “الإيطاليون هم شماليون”، بعد أن سخر لسنوات علنا وتدوينا من عنصرية هتلر.

[42]  وكذلك سمح هتلر لنفسه بعرض نظريته في الكذب في كتابه “كفاحي”. غير أن قلّة قليلة أدركت أنها المعنية بقوله.

 [43]  يتخذ مفهوم الجمهور بهذه الكيفية، معنى هو على جهة ما معنى نوعي وظيفي: يعرّف “الجمهور ” بالقصور عن التفكير، ويتجلى ذلك ويستدل عليه من الاعتقاد في مذهب الفهرر Fuhrer الدكتاتور Duce وفي تعاليمه ووعوده، أو من الاعتقاد في غيره من قادة الأنظمة الشمولية، وفي هذا المعنى، لم يعد مصطلح “الجمهور” يحيل على فئة اجتماعية، وإنما على فئة فكرية، و” في معظم الأحيان “ينتدب أعضاء “الجمهور من “النخب الاجتماعية”.