مجلة حكمة
مآلات الممارسات التفضيلية، وخصوصية عزل الدين من الخطاب العام

مآلات الممارسات التفضيلية، وخصوصية عزل الدين من الخطاب العام

الكاتبعبدالله الحميدي

“وخير ما نفتتح به آيات من الذكر الحكيم”. هكذا جرت العادة والعرف في افتتاح الكثير من المؤتمرات والفعاليات الرسمية. حتى أصبحت جزءاً من الشكليات المصاحبة لتلك الافتتاحيات، بيد أن تقليدية هذه الممارسة تخفي وجهاً آخرَ يتضمن العديد من الإشكاليات والأسئلة المتعلقة بالهوية وانعكاساتها على مسألة حيادية الدولة، وهي مسائل من الممكن الوقوف على جديتها بمجرد أن نتصور أننا استبدلنا تلك الافتتاحية بأي نقيض ديني لها، كما لو شرعنا في قراءة آيات من العهد الجديد مثلا. على الرغم من كون هذا الأمر مستبعداً، إلا أن تصوراً معاكساً كهذا من شأنه أن يثير التساؤلات حول مدى حضور الدين في الخطاب العام، والإشكالات التي يمكن أن يثيرها حول مدى حيادية الدولة إزاء الدين في خطابها، ومدى أحقية الأغلبية في فرض تمثيل خطابها في المجال السياسي العام بشكله التشريعي والرمزي من ناحية، ومدى أحقية المجموعات الأخرى، من ناحية أخرى، في المطالبة بتحرير المجال العام من أية إحالات دينية، تشريعية كانت أم رمزية. ولماذا يمثل “الدين” أو “الرموز الدينية” على وجه الخصوص أحد أهم الموضوعات التي من شأنها أن تثير مسألة حيادية الخطاب العام عموماً، على عكس بقية الرموز والإحالات الثقافية الأخرى كـ الموسيقى مثلا؟ وما الفارق مثلا في إذاعة أدعية دينية في وسائل مواصلات عامة – دعاء الركوب في الطائرة 1 – عن صوت الخلفية الموسيقية فيها، فيما يتعلق بمسألة حيادية الخطاب العام للدولة؟

 تبدو قضية انجل ضد فيتال Engel v. Vital أحد أبرز هذه الأمثلة، ففي العام 1958-1959 قامت مجموعة من أولياء أمور بعض الطلبة في أحد مدارس نيويورك يتقدمهم ستيفن أنجل بالاعتراض على القرار الذي أقره مجلس أوصياء ولاية نيويورك Board of Regents of the State of New York   والذي يقضي بتخصيص افتتاحية اليوم الدراسي بتلاوة صلاة جماعية، حيث تم رفع قضية ضد رئيس مجلس إدارة المدرسة وليم فيتال. على أساس أن الصلاة التي ترعاها المدرسة تنتهك بند التأسيس للتعديل الأول والذي يقضي “بأن الكونجرس لا يحق له إصدار أي قانون خاص بإقامة دين من الأديان أو يمنع حرية ممارسته، أو يحد من حرية الكلام أو الصحافة، أو من حق الناس في الاجتماع سلمياً، وفي مطالبة الحكومة بإنصافهم من الإجحاف محتجين بأن ممارسة الصلاة تتضمن تعدياً على الحقوق الدينية لبعض الفئات الاجتماعية كاليهود والملحدين وحتى غير المتدينين، وهو ما أيدته المحكمة الاتحادية العليا بعدم دستوريته. من حيث كونه يحتضن الدين “كممارسة مفضلة ” 2

في المقابل، وفي إيطاليا قامت سيدة تدعى سويلي لوتسي Soila Latus برفع دعوى نيابةً عنها وعن ابنها، تشتكي فيها بأن وجود صليب معلق على الجدار في الفصل الذي يدرس فيه ابنها لا يتوافق مع حرية المعتقد والدين ومع الحق في التعليم والتدريس بما يتوافق مع قناعاتها الدينية والفلسفية، مشيرة إلى أنه في ضوء حرية التعليم والالتزام بالذهاب إلى المدرسة، فإن فرض وجود الصلبان على التلاميذ وأولياء أمورهم ومعلميهم يتضمن تفضيلاً للدين المسيحي على حساب الأديان الأخرى. غير أن المحكمة الإدارية في فينيتو قد قررت في 17 مارس من العام 2005 أن وجود الصلبان في المدارس الحكومية لا يسيء إلى مبدأ العلمانية، وهو ذات المبدأ الذي أشارت له سويلي عندما ذكرت في وقت سابق بأن محكمة النقض في حكمها رقم 4273 بتاريخ 1 مارس لسنة 2000، قضى بأن وجود صليب في مراكز الاقتراع المعدة للانتخابات السياسية يتعارض مع مبدأ الأساس العلماني للدولة.  بعد هذا قامت سويلي بالاستئناف أمام المحكمة الإدارية العليا. غير أنها أيدت قرار محكمة فينيتو الذي اعتبر أن الصليب في إيطاليا يرمز إلى الأصل الديني للقيم “التسامح، والاحترام المتبادل، وتقدير الفرد، وتأكيد حقوقه، وصون حريته، واستقلالية الضمير الأخلاقي للفرد في مقابل السلطة والتضامن الإنساني ورفض أي شكل من أشكال التمييز” وهي القيم التي ميزت الحضارة الإيطالية، وعليه فإن الإبقاء على الصليب لا يحمل أية دلالات دينية. 3

يندرج هذان المثالان في خانة الجدل حول الإشكالات التي يثيرها دخول الدين في الخطاب العام سواء على المستوى الرمزي أو على المستوى التشريعي. وسأحاول هنا رصد إشكاليات الانحياز التشريعي والرمزي في الخطاب العام الناتجة على تبني أو تحيز الدولة لدين أو لخطاب ديني معين. كما سأحاول الإجابة عن السبب الذي يجعل الدين – بأبعاده التشريعية والرمزية – أحد أكثر المقولات التي يشكل تبنيها انحيازاً في الخطاب العام للدولة.

إشكاليات الانحياز

ثمة جدل فيما إذا كان تبني أو حتى إبراز خطاب ديني محدد من قبل المؤسسات الرسمية من شأنه أن ينتهك مبدأ حيادية الدولة في الشأن العام، وهو مبدأ يستند في الأساس على فكرة أن تقف الدولة على مسافة متساوية من مواطنيها، الأمر الذي يعني أن الإخلال بهذا المبدأ من شأنه تقويض أو على الأقل تقليص مبدأ المواطنة. إذ يبدو أن المطالبة بمواطنة كاملة تتناقض والتحيز الذي تتخذه الدولة لصالح تشريعات أو رموز دينية معينة. وهي مطالبة نابعة في الغالب من مجموعات أو أفراد لا تشترك في ميولها الدينية أو الأيديولوجية مع التشريعات أو المضامين الأيديولوجية التي تنطوي عليها تلك الرموز أو تشريعات، أو على الأقل ترى في حياد الخطاب العام ضرورة يقتضيها مبدأ المساواة. وهي إذ تبدي اعتراضها ذلك، فإنما ترى في الإخلال به انتهاكاً لمبدأ المواطنة الذي يقتضي موقفاً مساواتياً يجب أن تتخذه الدولة إزاء كل فرد من أفرادها. فإذا كان الأساس في المواطنة هو التساوي أو التشابه على المستوى السياسي والقانوني في مقابل التعددية الدينية والسلالية، فذلك ما يجعل منها – أي المواطنة – مفهوماً قانونياً قابلاً لاستيعاب الاختلافات والتفاوتات الاجتماعية والاقتصادية والسلالية، الأمر الذي يكرس للوحدة السياسية للدولة. والتي من خلالها أصبح بإمكان الفرد – نظرياً على الأقل – الوصول إلى مجتمع سياسي مُعرفٍ بمصطلحات ومفردات قانونية، وعليه يصبح دخول أي تشريعات أو رموز تعبر بشكل مقصود عن تلك الاختلافات يمثل انتهاكا وخرقاً لتلك الطبيعة القانونية للمواطنة، وهي التي من شأنها إضفاء مفهومي على الفرد. حيث أن دخوله في المجال السياسي بصفته مواطناً يعني انتقاله من كونه فرداً ملموساً محسوساً معرفاً بأصوله التاريخية ومعتقداته الدينية وانتماءاته الاجتماعية، إلى اعتباره فرداً ضمن كيانات متساوية ومتماثلة قانونياً وسياسياً. لذا كان الانحياز بشكله التشريعي أو الرمزي يمثل، وفق هذه المقاربة، إخلالاً بمفهوم المواطنة، من حيث عدم تمثيله لجميع الأفراد بالتساوي. ومن ثم يصبح الأفراد الذين لا يشاركون أو يتبنون تلك التشريعات أو المضامين التي تمثلها الرموز منقوصي المواطنة. 

قد يقال بأن قصر فكرة الانحياز على الدين بشكله التشريعي والرمزي، يتضمن تحيزاً وتحاملاً ضد الدين نفسه.  بمعنى أن تبني الدولة لتشريع ديني معين لا يختلف عن تبنيها لتشريع دنيوي ما، من ناحية عدم ضرورة الاجماع. فكلا التشريعين لا يمثلان أو يعكسان بالضرورة وجهات نظر جميع المواطنين، فمثلما هناك من يرى في مضامين التشريع الديني ما يخالف قناعاته، كذلك يوجد من يرى في ذات التشريع الدنيوي ما يخالف قناعته سواء أكانت دينية أم دنيوية. وبسبب هذا التشابه في عدم الإجماع، يطرح السؤال التالي: لماذا لا يتم إقرار التشريعات والقوانين الدينية بذات الآلية التي تقر بها التشريعات المدنية أي من خلال رأي الأغلبية؟ بحيث تحوز كل دولة “هامش تقدير” تملك من خلاله حقها في تقرير سياساتها فيما يتعلق بالدين.

وهو اعتراض يرى في مثل هذا التحيز تحيزاً مقبولاً وطبيعياً. من حيث كونه يعبر عن الهوية الدينية والثقافية للأغلبية، ومن ثم فلا بد أن تنعكس هوية الأغلبية على الخطاب العام للدولة. فتلاوة الصلاة في الافتتاحيات الرسمية تصبح “من عاداتنا وتقاليدنا” مثلما يقول جان تريمبلي Jean Tremblay عمدة ساغينيه، مدافعاً لإبقاء ممارسة الصلاة في بداية اجتماعات المجلس البلدي، بوصفها تمثل جزءاً من الهوية الكندية الكاثوليكية الفرنسية لكيبيك “فإذا ما تخلينا عن كل ذلك، فما هو مصير الكنديين الفرنسيين خلال بضع سنوات؟” 4

كما يذهب هذا الاعتراض إلى أن هذا التحيز لا ينطوي بالضرورة على انتهاك حريات الآخرين في الاختيار. فلماذا مثلا يتم الإصرار أن فكرة أن المواطنة ستكون مهددة إذا ما تبنت الدولة خطابا دينياً يراعي قناعات الأغلبية، واعتبار أن الأقليات أو أولئك الذي لا يشاركون الأغلبية قناعاتها سيجدون أنفسهم مواطنين من درجة ثانية؟ فإذا كان الإصرار على ضرورة الحيادية التشريعية والرمزية من أجل الحفاظ على موقف محايد إزاء مواطنيها، فيجب أن لا يقتصر هذا الحياد على المسألة الدينية فقط، بل يجب أن يمتد ليشمل مجالات أخرى كالموسيقى مثلا والتماثيل والنصب التذكارية والتي ربما قد لا تحظى بالإجماع، بمعنى أنه إذا كان من الضروري – بحسب هذا الاعتراض – أن تمتنع الدولة عن وضع الإعلانات والشعارات الدينية في مؤسساتها الرسمية، حفاظا على مبدأ الحياد، فإنها يجب في المقابل أن تمتنع عن بث الموسيقى في احتفالاتها الرسمية وإقامة النصب التماثيل التذكارية حفاظا على ذات المبدأ، واحتراماً لمشاعر أولئك الذي يرون في ذلك انتهاكاً وتجاوزاً لقناعاتهم الدينية، وهو الأمر الذي سيبدو من وجهة نظرهم وكأن الدولة تميل إلى جانب أولئك الأشخاص الذين يفضلون الموسيقى ويستمتعون برؤية التماثيل. هذا مجمل ما يذهب إليه الاعتراض الأول.

يُغفل هذا الاعتراض نقطتين أساسيتين، وهي أن الإشكال الأساسي في دخول الدين في الخطاب العام، ليس له علاقة بمضمون التشريع أو شكل الرمز أو كونه مقبولا من الأغلبية، بل لأن أسس أو مضامين هذا التشريع تنطوي على اعتبارات غير مشتركة. أي غير قابلة للتداول في المجال العام، من حيث أن الأسس الميتافيزيقية للدين لا تتضمن أرضية عقلانية تتيح للجميع الاشتراك في مناقشتها، طالما كانت المبررات والمسوغات التي يتضمنها الخطاب الديني ليست ذات مقاصد نفيعة. بالتالي فإن إدخال مقولات الدين في الخطاب العام من شأنه أن يحرم البعض من فرصة المناقشة والحوار العقلاني بشأنها. فعقلانية الفضاء العام هي عقلانية مشتركة، المقصود منها خلق مساحات يمكن للجميع المشاركة فيها، بغض النظر عن المحتوى الموضوعي لهذا الخطاب من حيث كونه مقبولاً أو غير مقبول اجتماعياً. إذ أن مجرد كونه قابلاً للنقاش العقلاني يجعل منه خطاباً مشروعاً على المستوى النظري. ومن ثم تبقى مسألة صياغته في تشريعات أو قوانين راجعة للاختيار العام من قبل المواطنين. في حين أن القبول الاجتماعي لخطاب ما – ديني – لا يجعله مشروعاً ما دام من غير الممكن من الجميع مناقشته على أرضية واحدة.

وهذا هو السبب الذي يجعل من إدخال المقولات الدينية في المجال العام يمثل انتهاكاً لمبدأ المساواة، بحكم أن المسوغات الدينية التي يتم تعميمها على المواطنين لا يمكن مقاربتها إلا من داخل الدين نفسه، ومن ثم فإن أولئك الذين يقعون خارج الدائرة الايبيستيمولوجية للدين لا يمتلكون المسوغات الكافية لقبولها، وعليه فإنها تظل مسوغات غير مشتركة أي لا تُحسب تسويغاً عاماً، إذ أنها تستبعد بحكم بنيتها كل من لا يشارك في المنظومة المعرفية للدين. لذا كان إنفاذ أي قانون يفتقر للتسويغ العام من شأنه الإخلال بمبدأ المساواة. وبالتالي فإن تبني تشريعات أو رموز لا يمكن للاخرين مناقشتها ومقاربتها مقاربة عقلانية، قبولاً أو رفضاً، يتضمن بصورة أو بأخرى فرض هذه التشريعات أو الرموز على البعض بطريقة تُنتهك فيها حريتهم على الاختيار. فاستبعاد المقولات الدينية من الخطاب العام هدفه توفير إطار محايد يضمن فيه الأفراد التعبير عن اختلافاتهم الفعلية والنظرية بشكل ندي. فضلاً عن أن إدراج تلك المقولات في الخطاب العام من شأنه إزالة صفة العمومية عنه. وهي العمومية التي يتخلق فيها مفهوم المواطنة. فتنحية أو إزالة الديني من المجال العام لا يمثل موقفاً ضد هذه المقولات الدينية ذاتها بل موقفاً ضد الأسس النظرية لهذه المقولات بوصفها أسساً غير مشتركة وغير خاضعة للجدل السياسي العقلاني 5 أما ذات المقولات فيمكن قبولها شريطة أن يتم ترجمتها بوصفها مطالبات عقلانية قابلة للنقاش العام لا تتطلب فهماً دينياً خالصاً.  

بالتالي فإن الموضوعات التي من شأنها أن تشكل هذا الخطاب العام كالقوانين والتشريعات والرموز والمطالبات العامة، يجب تتم صياغتها بشكل يسمح للآخرين فهمها والتعاطي معها واختبارها. وعليه فإن تشريع الإعدام يصبح موضوعاً قابلاً للتداول في المجال العام حال تم طرحة بوصفه ذي غائية نفعية يمكن فهمها والتعاطي معها عقلياً كالحد من الجريمة مثلا. في حين يمكن لذات التشريع أن يكون غير قابل للنقاش في المجال العام في حال تم اعتباره تنفيذاً بحتاً لنص ديني. فالخطاب الديني إذا ما أريد له الدخول في الخطاب العام فإنه يجب ترجمته أو صياغته وفق أسس ومبادئ عقلانية يمكن للأخرين التعاطي معها. بناءً على ذلك يتيح الاستعمال العمومي للعقل دخول مقولات ذات دافعية دينية لكنه لا يسمح باللجوء إلى مبادئ دينية شاملة في التسويغ أو عند تقديم تفسير ما، أي أن يستند على أسباب متاحة للجميع، بصرف النظر عن التزاماتهم الخاصة تجاه ديانة ما. ومن ثم فإن عبء الترجمة أو تحويل الصياغة هنا إنما يقع على المؤمنين. وعليه فإن الغرض من التشديد على فكرة خلو المجال العام من الإحالات الدينية، هو استبعاد الممارسات التفضيلية قدر الإمكان، بحيث يصبح مكانا للتداول العقلاني الحر.

بيد أن اعتبار أن أغلبية ما تمتلك الحق في أن تفرض هويتها أو قناعتها على الدولة، يغفل في الواقع مصدر هذا الحق، فما هو الحق الذي تملك الأغلبية بموجبه أن تفرض قراراتها على الدولة، سواء من الناحية العملية المتمثلة في القوانين والتشريعات أو من الناحية الشكلية والمتمثلة في الرموز؟ يبدو أن هذا الحق ينبع من فكرة ارتباط القوة بالكثرة، فوفقاً لهذا تمتلك الأغلبية القوة في الغالب في فرض قراراتها. وعندما تنصاع الدولة إلى تبني قرار الأغلبية فإنها في الواقع إنما تفعل باعتبارها – أي الأغلبية- “أساسا ناجزاً لتأسيس الشرعية”، ومن ثم يصبح من غير ممكن من الناحية العملية معارضة هذا الحق، من حيث كون ميزان القوى يميل لصالح الأغلبية في الغالب. ونظرياً من حيث الاعتبارات الشكلية للديمقراطية القائمة على تفضيل رأي الأكثرية، لذلك تمثل الأغلبية معطى عملياً، يمكن أن تستند عليه الدولة في تأسيس شرعيتها. لكن إذا كان من حق الأغلبية أن تعمم آرائها بحكم كونها تتمتع بالقوة فإن أي شخص يتمتع بالقوة يستطيع هو الآخر أن يعمم آراءه حتى لو كانت آراءه تخالف رأي الأغلبية، ومن ثم فليس من حق الأغلبية حينها أن تعترض على ذلك. وكذلك الأمر فيما لو كانت هذه الأغلبية التي ترى الحق في أن تفرض آرائها بحكم كونها أغلبية، كانت أقلية فيه دولة ما وارتأت أغلبية هذه الدولة أن تفرض آراءها على هذه الأقلية. الأمر الذي يجعل من هذ الأقلية تفتقد للحق الأخلاقي والمنطقي في الاعتراض على ما كانت تمارسه فيما لو كانت تمثل الأغلبية.

أما الاعتراض بأن تعميم رمز ديني معين لا يعني بالضرورة فرض أو إجبار الآخرين على تبنيه، فتعميمه هو من قبيل كونه علامة على هوية الأغلبية أو أنه مجرد رمز تاريخي لا يحمل بالضرورة معاني دينية، وحتى إن حملها فإنها ستكون بمعنى إيجابي كالذي ذهبت إليه المحكمة الإدارية العليا في ردها على استئناف سويلي من أن الرمز الديني محل الخلاف، يحمل معانٍ تدل على “التسامح، والاحترام المتبادل، وتقدير الفرد، وتأكيد حقوقه، وصون حريته، واستقلالية الضمير الأخلاقي للفرد تجاه، في مقابل السلطة والتضامن الإنساني ورفض أي شكل من أشكال التمييز”. فهو اعتراض يحاول أن ينفي وجود علاقةٍ بين تعميم رمز ديني معين كقراءة القران في الافتتاحيات الرسمية أو تعليق صليب أو آية قرآنية على جدار مدرسة، وبين كون هذه الرموز تمثل إجباراً للآخرين على تبني المضامين المعيارية لهذه الرموز. وإن كان ثمة “ممارسة تفضيلية” لصالح هذه الرموز فذلك راجع إلى اعتبارات تاريخية وهوياتية سائدة وهي ذات الاعتبارات التي تفتقدها الرموز الأخرى.

يبدو أن ذلك صحيح إذا قصد بالإجبار المعني الإلزام القانوني، لكن ثمة نوع آخر من الإجبار لا يستلزم ذلك، بمعني أنه يكون أشبه بالترويج الغير مباشر لمضامين ودلالات الرمز الديني خاصة عند المجموعات التي لا تتبنى تلك الرموز، ومن ثم فإن حضور هذا الرمز في المجال العام يمثل تقويضا للحيادية التي يفترض أن يتسم بها. ليس مطلوبا أن تحظى الرموز التي يتضمنها الخطاب العام بإجماع الكل وأن تكون محايدة أيديولوجياً، فالرموز التي نقصد استبعادها من المجال العام هي التي تلك التي تحمل دلالات فكرية وأيديولوجية مباشرة وتنتظم في سياق فكري معين. بهذا المعني يكون الاعتراض على تعليق صليب في فصل أو قراءة القرآن في مؤتمر ما في محله، باعتباره ذي ارتباطات مباشرة بمنظومة فكرية وأيديولوجية معينة وذات بعد هوياتي. في حين أن تعليق لوحة أو عزف موسيقى وإن لم يكن مقبولاً عن البعض بحجة أنه يتعارض مع المبادئ الدينية والفكرية التي يتمسكون بها، إلا أن ارتباطاتها الأيديولوجية والفكرية ليست واضحة تماماً، أو غير مباشرة. لا شك في أن تصوير المجال العام بهذه الطريقة يبدو مثالياً، لكنه على الأقل يوفر نموذجاً مرجعياً يمكن قياس أي مجال عام واقعي عليه وتصحيحه. وعلى الرغم من أن كثيراً الدول التي يكون فيها مستوى حيادية المجال العام كبيراً، لا تخلو من وجود ممارسات تفضيلية في المجال العام مثلما رأينا في قضية لوتسي. وحتى لو لم تكن كون تلك التحيزات فاعلة عملياً في تلك الدول، إلا انها تظل تمثل ممارسة تفضيلية على مستوى معين، يمكن استثمارها باتجاه المطالبة بممارسات تفضيلية.

إن تخصيص الدين في وجوب أن يكون الخطاب العام للدولة محايدا في الدين بشكل عام والرموز الدينية دون بقية الموضوعات كالموسيقى والنحت، لا يتعلق بتاتا في كونه يتعارض أو يتوافق مع التفضيلات الثقافية والجمالية للأشخاص، بل إن تفضيلات الناس من عدمها ليس – بل لا يجب – أن يكون  لها علاقة بمسألة حيادية الدولة، بل إن السبب الذي بموجبه يتم تخصيص الدين بذلك هو أمر راجع إلى وضعية الدين نفسه، من حيث كونها وضعية هوياتية، وهذا ما يغفله الاعتراض حينما يساوي بين الدين وبين بقية الرموز والإحالات الثقافية الأخرى، متجاهلا البعد الهوياتي للدين وهو البعد الذي يجعل منه خطاباً قابلا للاستعمال الأيديولوجي، وخصوصاً عندما تتخذ هذه الهويات بعداً تشريعياً ورمزياً عاماً. مع ملاحظة أن تناقض هذه الهوية مع هويات دينية أخرى، يجعل من تبني الدولة لها بمثابة تحيز “مقصود” بمعنى أنه تحيز يعي الاختلاف والتعارض التاريخي والأيديولوجي مع بقية الهويات الأخرى، الأمر الذي يعزز من وعي هذه الأقليات بهوياتها الدينية بوصفها هويات متناقضة مع الهوية الدينية للدولة.  لا تكمن المشكلة في فكرة الهوية ذاتها، إذ ليس هناك مشكلة في أن تتناقض الهوية س مع الهوية ص، طالما كانت في إطارها الاجتماعي، إلا أنها قد تصبح مشكلة وعائقا أمام فكرة المواطنة حينما تكون الهوية س هي هوية الدولة. فما يميز فكرة الهوية أنها تعبر عن نفسها من خلال سلسة من المظاهر والممارسات، وتحيل بدورها إلى مجموعة من القيم المعيارية، الأمر يجعل من عملية تسيسها يؤدي إلى صراع مع الهويات الأخرى. فالانحياز التشريعي والرمزي للدين يعمل على تعميم هذه الهوية الدينية على بقية الهويات الأخرى بحيث تصبح هوية صلبة، أشبه ما تكون بهوية عرقية غير محددة بأية مقولات فكرية، وهي لهذا تصبح محصنة إزاء أية مقاربات نقدية، فضلا عن التعاطي الفكري والنقدي لها سيصبح مكلفاً.  

ذكرنا أنه لا يشترط بالرمز أو التشريع والذي هو أحد أوجه الخطاب العام أن يمثل كافة المجموعات المختلفة أن يكون سلبيا محايدا بشكل عام، بل يفترض فيه على الأقل ألا يكون له ارتباطات أيديولوجية أو هوياتية أو دينية مباشرة. وبهذا لا يضمن الخطاب العام الاحتواء الفعلي للاختلاف الديني والثقافي القائم فحسب، بل احتواء لكل اختلاف مستقبلي. فعلى الرغم من أن الهوية الدينية قد تكون معطى ناجزاً في تأسيس   الشرعية، إلا أنها هوية ينبغي تجاوزها واستبدالها بهوية وطنية أشمل بسبب “توقع التغيير” في الموقف الفكري للأفراد إزاء الدين. ويبدو الجدل حول البانشاسيلا أحد هذه الأمثلة على ضرورة مراعاة مبدأ “توقع التغيير”، في العام 1945 تم اعتماد البانشاسيلا وهي عبارة عن خمسة مبادئ تشكل الأساس الأيديولوجي للدولة الإندونيسية، أولى هذه المبادئ كان “الإيمان بإله واحد” حيث تم الاعتراف بالديانات الرئيسية الستة في البلاد وهي الإسلام والبوذية والبروتستانتية والكاثوليكية والهندوسية والكونفوشيوسية، وعلى الرغم من كون هذا المبدأ قد ساعد على احتواء جزء كبير من التنوع الديني والإثني في إندونيسيا إلا أنه من جهة أخرى ساهم في استبعاد كل موقف لا يتفق وهذا المبدأ الأول، كالإلحاد واللادينية على وجه الخصوص، وعلى الرغم من المادة 28 التي تنص على أن “لكل شخص الحق في حرية المعتقد والتعبير عن آرائه وأفكاره وفقًا لضميره” وحكم المحكمة الدستورية في قراراها بشأن قانون التجديف لعام 1965 ، بأنه لا يجوز معاقبة أي شخص بسبب معتقداته أو أفكاره الشخصية ، طالما تحدث بها في المجال الخاص، إلا أن هذا المبدأ قد وفر الأساس لمعاقبة المواطنين على معتقداتهم الشخصية التي يتم التعبير عنها علنًا إذا كان يُنظر إليهم على أنهم ينتهكون القانون. ومن ثم لا يمكن للمواطن أن يفصح عن إلحاده دون عواقب وخيمة، فخلال سنوات النظام الجديد، وحتى في حقبة ما بعد عام 1998، تم إضفاء الطابع المؤسسي على إدانة الإلحاد. فعلى سبيل المثال، أصبح الاحتفال بيوم البانشاسيلا في الأول من يونيو احتفالًا بالتقوى الإسلامية ومعاداة الإلحاد. 6

خاتمة

ربما أمكن القول بعدم وجود أثر فعلي لتلك التحيزات الرمزية والخطابية مقارنة بتلك المتعلقة بالتشريعات والقوانين، ومن ثم لا مجال للمقارنة بين تلك الاستهلالات الدينية في بداية المؤتمرات الرسمية وبين قانون معاقبة المجاهرة بالإفطار في نهار رمضان مثلاً. ومن ثم يبدو نقد هذا التحيز الرمزي ترفاً فكرياً ومغرقاً في الشكلانية فضلاً عن كونه يشي براديكالية علمانية، وإن كان ثمة نقد فيجب أن ينصب على الجوانب ذات الأثر العملي لتلك التحيزات. قد يبدو هذا صحيحاً إلى حد ما. بيد أننا لسنا هنا في معرض المفاضلة بين الأولويات، بل رصد كافة التحيزات بغض النظر عن مدى تبعاتها – المباشرة والغير مباشرة – على مبادئ المواطنية. فالمطالبة بخلو كافة التحيزات الدينية من الخطاب العام هو مطلب أساسي – من الناحية النظرية – من أجل تحقيق مبدأ المواطنة، في حين لا يبدو كذلك من الناحية العملية إلا فيما يتعلق بتلك الرموز والتشريعات ذات الأثر الفعلي المباشر. ومع ذلك تظل هذه التحيزات الرمزية قابلة للاستثمار في تعزيز وتكريس تحيزات ذات أثر فعلي، وهكذا تظل تلك الاستهلالات الدينية في افتتاحيات المؤتمرات الرسمية تمثل على الدوام شكلاً من أشكال الممارسات التفضيلية، والتي لا تتوافق ومبادئ المواطنة وحيادية الدولة.


 

  1. وهو ما دعا الكاتب خالد منتصر للإشادة بقرار الخطوط المصرية بخفض صوت دعاء الركوب على طائراتها واصفاً القرار بأنه ترجمة بسيطة لمعنى الدولة المدنية  أنظر :
https://www.masrawy.com/islameyat/others-islamic_ppl_news/details/2018/4/26/1333638/
https://www.strasbourgconsortium.org/common/document.view.php?docId=4687
  • Beaman, Lori G. (2015). Battles Over Symbols: The “religion of the minority versus the “culture” of the majority. Journal of Law Religion, xxviii, 76-78.
  • حول التسويغ العقلاني للمقولات الدينية أنظر كريغ كالهون. العلمانية والمواطنة والفضاء العام. في إعادة نظر إلى العلمانية. ترجمة شكري مجاهد. بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر.2018. ص 109-130