مجلة حكمة
المحافظية

الإسلام وإعادة تجذير المحافظية التركية – جيهان توغال


الفصل الرابع “الإسلام وإعادة تجذير المحافظية التركية” من كتاب (ما بعد الإسلاموية) لآصف بيات

في العقود الأربعة الأخيرة، أحدث الحراك الإسلامي متعدد التيارات هزة للدولة التركية العلمانية. لقد حاز  المثقفون والجماعات الدينية، وهم الداعمون السابقون لسياسات يمين الوسط، تدريجيًّا على صوت خاص بهم وتحدوا أسس النظام السياسي. خلال العقود السابقة، عاد هؤلاء إلى منبعهم الأصيل وهو يمين الوسط، فيما نجحوا أيضًا في تغييره كثيرًا. سأجادل فيما يأتي بأن المجال الديني قد مال نحو “الإسلاموية” معارضًا الدولة التركية منذ السبعينيات حتى التسعينيات، بيد أن الإسلاميين قد تحولوا إلى “المحافظية” بداية من أواخر التسعينيات. ولأن معظم الحجج هنا سيشير إلى “المحافظية” (سياسات يمين الوسط)، يصبح التعريف لزامًا. تقوم المحافظية التركية على قبول التحديث و(في الحقيقة التغريب الجزئي)، غير أنها تقوم برد فعل تجاه التحديث من أعلى إلى أسفل الذي تقوم به النخب العلمانية. يعتبر المحافظون الأتراك الديمقراطية صوت “الأمة الحقيقية” في مواجهة النخبة مزعومة التغريب والاغتراب. في هذه المخيلة، تقوم الأمة على كتلة متجانسة للغاية، باعتبارها حاملة القيم الإسلامية والتركية الأصيلة. وتصبح الأقليات مثل (الأقلية العلوية الشيعية المارقة) موضعًا للشبهة، كما يعتقد أنها على علاقة وثيقة بالنخبة المغتربة. إن إيمان المواطنين (وأقل من ذلك مبدئيًّا) الحكام أمر في غاية الأهمية، غير أن جعل المؤسسات (الإجراءات، قواعد اللعبة والقوانين ..إلخ) أكثر إسلامية ليس أولوية. لقد نُظر إلى الإيمان الفردي أيضًا كسبب للنجاح[1] في مواجهة الأمم المنافسة والخصوم المنافسين بالداخل. وعلى غرار نظرائها الغربيين، تؤيد المحافظية التركية الملكية الخاصة وتعادي الاشتراكية بشراسة. باختصار، تدعم المحافظية التركية التنمية، غير أنها ترى في القضاء على الاختلافات الداخلية والمعارضة الاجتماعية شرطًا مسبقًا للتغير والنمو الصحي.

تعود جذور المشروع المحافظ إلى الإمبراطورية العثمانية (مثل مناوأة الأمير صباح الدين لحركة تركيا الفتاة)*. وكان ممثلوه الأكثر تأثيرًا في العقود الأخيرة الحزب الديمقراطي في الخمسينيات، وحزب العدالة في الستينيات، وحزب الوطن الأم في الثمانينيات. لقد تلقى كل من هذه الأحزاب دعم جماعات دينية معينة. كان معظم هذه الجماعات ذا أصل صوفي نقشبندي، على الرغم من أن بعضهم (مثل جماعة إسكندر باشا وبعض النورسيين) كان لهم منصات تقليدية أقل من الآخرين مثل (جماعة المنزل وجماعة إسماعيل أغا). فيما تتماثل العديد من أوجه المحافظية التركية مع المحافظية الغربية الكلاسيكية، فهناك اختلافات طفيفة مثل الدور الكبير الذي تقوم به الجماعات الدينية المنظمة والمتنوعة في المحافظية التركية في مقابل الهيراركية الكنسية في الغرب.

ارتكزت أجندة الإسلاميين منذ السبعينيات فصاعدًا، على زيادة دور الدين في التعليم والسياسة الخارجية وصناعة القرار الاقتصادي وفي الخطاب السياسي وفي الحياة اليومية. وبفضل القوانين العلمانية الثقيلة المناهضة للدعايا الدينية، لم تستطع الأحزاب الإسلامية (مثل السلامة الوطنية في السبعينيات وحزب الرفاه في الثمانينات والتسعينيات) أن تعبر عن هذه المطالب بصراحة في برامجها، غير أنهم نشروا عبر الممارسات والإيحاءات. على سبيل المثال، فإنه يحظر المطالبة بتطبيق الشريعة، مع ذلك وعبر أعمدتها القانونية، دعت الجرائد والمجلات الإسلامية مثل ميللي جازيت الناس إلى إعادة تشكيل حيواتهم طبقًا لمبادئ الشريعة (خاصة في الأمور التي تتراوح بين الطلاق والميراث). بعبارات أخرى، سعت الإسلاموية إلى إعادة تأسيس كلاً من المجتمع والدولة على المبادئ الدينية، حيث المحافظية الإسلامية، والتأكيد على الحفاظ على الثقافة الوطنية عبر تعبئة الإسلام بدلاً من التطهير الإسلامي لهذه الثقافة. لقد ميز الإسلاميون أنفسهم عن المحافظين الإسلاميين بزعمهم أن الثقافة الوطنية السائدة قد أفسدتها عناصر غير إسلامية عبر قرون، وينبغي إزالة هذه العناصر. وعلاوة على هذا، وفي سياق القطيعة الإسلاموية مع الإسلام المحافظ في أماكن أخرى (الأيوبي 1991)، نظم الإسلاميون المقاومة في مواجهة الدولة الفاسقة المزعومة، حيث كان يعتبر الحكام ومسؤولي الدولة الفساق شرعيين بالقدر الذي يحافظون فيه على الوحدة والنظام داخل الأمة الإسلامية. عبرت الكثير من أجنحة الحركة الإسلامية عن توصيف آصف بيات (2007، 11) للإسلاموية قبل الانعطافة ما بعد الإسلاموية، ويتمثل هذا في أن الحراك الإسلامي في تركيا أكد على فكرة الواجبات وسعى إلى التحدث بصوت سلطوي واحد[2]، كما أنه ارتكز على النصوص الجامدة، على الرغم من ان كل تيار يختلف من حيث تفسيره لهذه النصوص.

بيد أنه من الضروري ملاحظة أن كل الجماعات الإسلامية لم تلتحق بركاب الإسلاموية. في اللغة التركية، تستخدم كلمة جماعة Cemaat للإشارة إلى الطرق الصوفية، وتوابعها في أغلب الحالات. وعلينا أن نلاحظ أيضًا، أنه في الوقت الذي تعتبر بعض اتجاهات المدرسة البحثية الغربية الصوفية كنقيض للإسلام النصي وكممثل للبدعة الدينية في مواجهة الإسلام الصحيح (الأرثوذكسي) ( Gellner 1991)، فإن الصوفية العثمانية ثم التركية قد مزجت العناصر التي أطلق عليها بدعية مثل زيارة المقابر، والاعتماد على الحدس بدلاً من النص، التأويل الصوفي للنصوص، ووجود مشايخ للطرق، مع العناصر الأرثوذكسية المعبرة عن الالتزام الصارم غير  الشخصي للتفسيرات القروسطية للنصوص. والطريقة النقشبندية* هي تجسيد أمثل لهذه الحالة، فيما كانت الطريقة القادرية** أقل منها في هذا الاتجاه. كما أن هناك استثناءات مثل الطائفة العلوية*** الشيعية “المارقة”.

وبفضل وجود أتباع كثر لهذه الجماعات في تركيا الحديثة، فقد كان مواقفها السياسية حاسمة. ومن بين الجماعات الكبرى، انحازت جماعة إسماعيل أغا إلى جانب الإسلاميين بداية من السبعينيات، فيما كانت جماعة إرينكوي Erenkoy في اليمين الوسط. وكان لجماعة إسكندر باشا علاقات متقلبة مع الإسلاميين غير أنها قامت بتحول حاسم في النهاية بانتقالها إلى يمين الوسط في التسيعنيات. أي أن الجماعات الصوفية الكبيرة ظلت على ولائها للدولة العلمانية ويمين الوسط.

أخذت بعض الجماعات الدينية في تمييز مواقفها عن مواقف الطرق الصوفية التقليدية منذ الخمسينيات فصاعدًا. لقد زاوجوا بين أسس الإسلام الصوفي والتبني المنظم للعلوم الطبيعية وأيضًا الفهم العقلاني للنصوص إلى حد ما. أطلق على هذه الجماعات “ما بعد الصوفية”. لقد عمد هؤلاء ما بعد الصوفيون، ولا سيما النورسيين والسليمانيين**** في تركيا، إلى أن يكونوا أكثر قومية وأكثر تنظيمًا رسميًا مقارنة بالجماعات الصوفية. يتشارك النورسيون والسليمانيون نفس الجذور مع الجماعات الصوفية مثل المنزل وإسماعيل أغا، وإرينكوي وإسكندر باشا: فكلهم نقشبنديون يتميزون عن بقية الطرق التقاليد الصوفية بمزجها الإسلام الصوفي بالإسلام النصي. وأضاف النورسيون والسليمانيون إلى هذا المركب جرعة قوية من الحداثة خاصة من خلال التأكيد على العلم والتعليم الحديث وقبولها بالدولة – الأمة. ولا زالت جماعتا إسماعيل أغا وإسكندر باشا أكثر اهتمامًا بالحفاظ على الأخلاق التقليدية وأكثر تركيزًا على النص. وعلى خلاف  الإسلاميين، فإنهما تعطيان وزنًا أكبر للحديث والتشريعات التراثية.

أراد الصوفيون غير الإسلامويين وما بعد الصوفيين دولة ومواطنين أكثر تقوى. ولكن على عكس الإسلاموين، لم يعتقدوا أن هذا يستوجب الانقطاع عن المجتمع التركي وسياساته السائدة؛ فلم يكن تطبيق الشريعة أحد أولوياتهم.

إن تحول جماعات ما بعد الصوفية إلى القيم الغربية يسبق ما بعد الإسلاموية؛ ولم تكن هذه الجماعات أبدًا إسلاموية أو ما بعد إسلاموية. فإذا ما قمنا بتعريف ما بعد الإسلاموية على النحو الذي قدمه بيات (2005) باعتبارها حالة ومشروعًا تمتزج فيه الحرية والتحرر والحقوق مع الإسلام والتدين والإيمان، فباستطاعتنا أن نرى اختلافات جمة بين الحالتيْن. فبالنسبة لهذه الجماعات ليس الهدف الأساسي هو دمج الإسلام بالروح الحرة الغربية، ولكن بعلوم وقوة الغرب. إنها ترغب أيضًا في إقامة رابط بين الإسلام وقوة الدولة التركية والقومية التركية. وبقدر ما تهدف هذه الجماعات إلي جعل المواطنين والدولة أكثر تقوى، فإنها تريد أيضًا الإفادة من سلطة الأمة والدولة في مواجهة جيرانها وأعدائها الداخليين مثل المجموعات اليسارية والانفصاليين. تتسم هذه الجماعات أيضًا بتقديس مشايخها؛ فيزعم الإسلاميون الأكثر طهرانية أن جماعة النورسيين تقدس سعيد النورسي.

تميزت تركيا خلال العقد الأخير، على وجه التحديد في المرحلة التي أعقبت انقلاب 1997 ضد الإسلاميين بالانتصار الديني والفكري والسياسي المطلق لجماعات ما بعد الصوفية خاصة النورسية وجماعة كولن المنتمية إليها، على الإسلاموية. وتعتبر التوازنات المتغيرة داخل الأحزاب الإسلامية إشارة على هذا الانتصار. قامت الأحزاب الإسلامية في الثمانينات والتسعينيات باستبعاد الجماعات ما بعد الصوفية، غير أنها أشركت وأتبعت بعض الجماعات الصوفية، بيد أن الحزب الإسلامي الأكبر، وهو حزب العدالة والتنمية في العقد الأول من القرن الحالي، قام على دمج كلاً من الجماعات الصوفية الحداثية مثل (إرينكوي وإسكندر باشا) والجماعات ما بعد الصوفية. وكما سأوضح لاحقًا، فإن الرؤية الأيديولوجية للعدالة والتنمية قد اندمجت برؤية ما بعد الصوفية، حيث هناك آراء تذهب إلى أن جماعة كولن ما بعد الصوفية وتوابعها السائرين على نهج جماعة النور، قد حازوا سلطة أكبر داخل الحزب، أكثر من تلك التي حازها الزعماء الإسلاميون السابقون الظاهرون في العلن. ليست هذه إشارات على تحول تدريجي نحو ما بعد الإسلاموية، لكنها بالأحرى دلائل على إعادة تجذير المحافظية التركية.

العلمانية التركية: قومية ودولتية ومتنازعة

من أجل الفهم الدقيق لردود الفعل المحافظة للنخبة التركية، والتحديات الإسلاموية الأخيرة، فمن الضروري أن نفكر في المعنى الغريب الذي عنته العلمانية Laiklik للدولة الكمالية. بين عاميْ 1919 و1923، ومع هزيمة الدولة العثمانية التي تم تقسيمها من قبل دول الوفاق، كان لحروب التحرير التي قادتها قوات مصطفى كمال عامل جاذبية ليس فقط لحلم تحرير الوطن الأم، ولكن أيضًا للواجب الإسلامي القاضي بضرورة مقاومة الاحتلال الكافر. لقد كان الوفاق الديني عاملاً مكونًا للوحدة الوطنية، وشهد ميلاد الجمهورية طرد اليونان الأرثوذكوس على النحو الذي ذكر بمذابح الأرمن في العام 1915. وباختصار، أصبح “التركي” مرادفًا لـ”المسلم” فكان التعريف الكامن للأمة شبه ديني من البداية. لقد حمل مصطفى كمال اللقب الإسلامي “الغازي” Gazi أي المحارب من أجل الدين. ومن هنا يصبح السؤال الأحرى هو العلاقة بين الدين والدولة.

أصبحت العلمانية؛ بمعنى توسيع هيمنة الدولة على الدين بدلاً من الإقصاء البسيط للدين من مركز الحياة العامة، مشروعًا رسميًّا بداية من القرن التاسع عشر مع إصلاحات التنظيمات Tanzimat*. بيد أنه كان هناك مراجعتين محافظتين جادتين لهذا الاتجاه، ولا سيما تلك التي قام بها السلطان عبد الحميد الثاني. مع بداية القرن العشرين، تم التعبير عن العلمانية بوضوح، وأصبحت مكونًا أساسيًّا للأيديولوجيا الرسمية. في العام 1924، استبقى الدستور المؤسس للدولة المادة القائلة “إن الإسلام هو دين الدولة”، حتى مع إلغاء الخلافة والطربوش والمحاكم والمدارس الشرعية وغيرها، وتبني الحروف اللاتينية والنظام القانوني الغربي. ثم تم حذف هذه العبارة عام 1928. لقد أعلن أن العلمانية واحدة من المبادئ الستة لبرنامج حزب الشعب الجمهوري الكمالي عام 1931، ثم تم تضمينها رسميًّا في الدستور عام 1937.

في الرواية الرسمية، التي طالما رددها الباحثون الغربيون، تمثل تحديثات 1924-1925 دليلاً قاطعًا على تقويض الدين في تركيا[3]. فمع إزالة الدين من المواقع الرسمية العامة، تعمل مثل هذه الحجة، فستتكيف القطاعات المتدينة من السكان مع الحقائق الغالبة وسيتم علمنتها بشكل كامل. مع ذلك، جادل باحثون آخرون أن الدولة التركية قد قامت بالسيطرة على الإسلام ومأسسته بدلاً من تقويضه (Bromely 1994، Heper 1994، Keddie 1997، Mardin 1983). وبالتالي، مارست الإدارة العامة للشؤون الدينية غير المنتخبة سلطة احتكارية بتعيينها للوعاظ والأئمة عبر البلاد وتحكمها في توزيع الخطب. في هذه الرؤية، توجد استمرارية للنظام العثماني داخل الجمهورية التركية حيث تتداخل الدولة والدين بعمق.

مع ذلك، يمكن القول إنه من الأفضل النظر إلى العلمنة التركية كصراع مستمر على طبيعة ونمو “الإسلام الرسمي” بالشكل الذي عبر عنه استخدام الدين في إحداث التماسك الوطني. وبدلاً من إعادة إنتاج الرؤية العالمية أو العثمانية للدين[4]، كان يتم دائمًا إعادة تشكيل مشروع العلمنة، وكان من نتائج هذا، غير المقصودة جزئيًّا، تدخل العديد من القوى الاجتماعية. لقد تضمنت هذه العملية صراعات بين كتلة السلطة الحاكمة التي شكلها الإصلاحيون في أواخر العهد العثماني والسنوات المبكرة من عمر الجمهورية، والطبقات الاجتماعية التي تم إقصاؤها. منذ الثلاثينيات، أيدت القطاعات الغالبة في الكتلة الحاكمة، والمتمثلة في قيادة الجيش، والطبقات التحديثية في البيروقراطية المدنية والبرجوازية الصناعية المحمية رسميًّا، والانتلجنسيا ذات النزعة التغريبية والإقصاء السلطوي بدرجة أو بأخرى للدين من المجال العام. أما القطاعات التابعة في هذه الكتلة، والمتمثلة في عناصر البيروقراطية المحافظة، والطبقة الوسطى المهنية والبروجوازية التصديرية والتجار  ووجهاء الأقاليم، اتجهوا للدفاع عن مساحة أكبر للدين تحت السيطرة العلمانية. ربما حشد هذا الطبقات الشعبية الأوسع؛ مثل العمال والفلاحين والحرفيين والعاطلين وأصحاب الأعمال الصغيرة المحليين ورجال الدين، ضد القطاع المهيمن على الحكم، وغالبًا ما نجح في الحصول على تنازلات منه. لقد كان حزب الشعب الجمهوري الكمالي قاطرة للقطاع المهيمن من هذه الكتلة، فيما عبرت عن الطبقات الدينية التقليدية أحزاب متنوعة منذ نهاية نظام الحزب الواحد عام 1950؛ مثل حزب عدنان مندريس الحزب الديمقراطي في الخمسينيات، وحزب سليمان ديميرل، حزب العدالة في الستينيات والسبعينيات.

قطيعة الإسلاميين المتنازعة مع المحافظية

مثلت الإسلاموية تحديًّا لكل من الكمالية و المحافظية . ففي بداية السبعينيات، أصبحت السياسات الإسلاموية بشكل أساسي ملجأً لأصحاب الأعمال الصغار، في مواجهتهم لسياسات الدولة الصناعية، وارتفاع الروح القتالية لدى العمال، والتغريب السريع. لقد كان انعدام الاستجابة من قبل مؤسسات رجال الأعمال والأحزاب العريقة لاحتياجات المشاريع الصغيرة في ظل اقتصاد الإحلال محل الواردات، هو ما دفع رئيس اتحاد الغرف الصناعية، نجم الدين أربكان إلى تأسيس حزب النظام الوطني MNP عام 1970. وإلى جانب دفاعه عن مصالح رجال الأعمال والتجار المحليين، جذب الحزب إليه أيضًا مشاعرهم الدينية ورفضهم للثقافة الغربية الاستهلاكية. لقد كسب هذا الموقف دعم الفلاحين المزارعين والحرفيين الذين جذبهم أربكان بدلاً من برنامج التنمية السطحي القائمة على المشاريع الخاصة التي تحميها وتنظمها الدولة. لقد بدا وعد أربكان بقطاع ثالث للعوام حاجزًا في مواجهة القوة المتصاعدة للأعمال الكبيرة. وحول بعض المثقفين الدينيين والجماعات الدينية ولاءهم من يمين الوسط إلى الحزب خلال عقد السبعينيات. لقد كان هناك آليتان وراء هذا التحول: الأول هو أن الجماعات الدينية وجدت أن يمين الوسط هو علماني وحداثي. والثاني أنه في نهاية المطاف، أراد العديد من المفكرين والناشرين والباحثين، إلى جانب طلابهم، أن يوجدوا خطًا إسلاميًّا مستقلاً عن الدولة. وقد رفع هؤلاء في مواجهة الدولة والجماعات المتحالفة مع الغرب شعارًا هو “لا الشرق ولا الغرب”

بعد إغلاق الجيش لحزب النظام الوطني عام 1971، تم تأسيس حزب السلامة الوطنية MSP والذي لم يتغير برنامجه عمليًّا عن سابقه. كان المكسب الرئيس الذي حققه خلال السبعينيات هو زيادة حرية عمل مدارس إمام- خطيب التي تديرها الدولة، والتي سيصبح العديد من خريجيها قادة للحركة الإسلامية في العقود القادمة. وكان الهدف من هذه المدارس هو تدريب وتعليم وعاظ وأئمة للصلاة في المستقبل. وفي حين لم يكن ممكنًا لهؤلاء الطلاب أن يراقبوا تعاليم الإسلام في المدارس العام العادية، فقد جذبوا إليهم الأسرة المتدينة التي لم ترد لأبنائها أن يكون أئمة وخطباء. ولاحقًا، جاء هذا الجيل من خريجي مدارس إمام- خطيب ليشغلوا المناصب العامة الهامة، وأن يكونوا طبقة وسطى متدينة قادرة على منافسة الانتلجنسيا العلمانية في مختلف المجالات الدينية والاقتصادية والثقافية. وفي بلد كان المثقفون فيها رديفًا لليسار سابقًا، فإن الانتلجنسيا الإسلامية الجديدة ستشكل عنصرًا هامًّا في بناء الإسلاموية كبديل مهيمن.

كانت الثورة الإيرانية عام 1979 نقطة تحول للحركة الإسلامية. لقد رأى الكثيرون أن هذه الانتفاضة الجماهيرية التي أطاحت بواحد من أعتى النظم القمعية المدعومة من الغرب في المنطقة، قد هزت العلاقة المعتادة بين الإسلام والطاعة، وأعادت تعريف السياسة الإسلامية باعتبارها نضال المستضعفين الثوري. كانت هذه رسالة تحميسية للعمال الفقراء الصغار الذين اندفعوا نحو المدن الكبرى بحثًا عن فرص العمل. وفي ظل ظروف عدم المساواة المتزايدة، كان اليسار غائبًا أيديولوجيًّا وسياسيًّا عن الساحة بفعل الانقلاب العسكري عام 1980. أما حضريو الفترة النيوليبرالية الذين عرفوا ثروات المدن الاستهلاكية دون أن يشاركوا فيها لم يستطيعوا أن ينظروا إلى الاختيار الاجتماعي- الثوري الذي حشد الأجيال السابقة ولا إلى أمل الالتحاق بالطبقة العاملة الصناعية المتسعة. في هذه البيئة كان لدى الإسلاموية النضالية الراديكالية الكثير لتقدمه. لقد ازدادت الاستجابات الدينية لملء الفراغ السياسي، وحلت الإسلاموية الراديكالية القائمة على الإيمان محل نظام الضمان الاجتماعي الرسمي الذي تآكل بفعل خصم النفقات العامة. تم إغلاق حزب السلامة بفعل الانقلاب العسكري عام 1980، وعندما تم السماح بعودة الأحزاب السياسية مرة أخرى عام 1983، جسد حزب أربكان الجديد “الرفاه” RP الإسلاموية المتحولة.

كان انقلاب 1980 نقطة تحول في علاقة الدولة التركية بالإسلام. ففيما سحقت الكتلة الحاكمة التحدي اليساري، قامت بإطلاق انفتاح مسيطر عليه تجاه الجماعات الدينية؛ لقد تم إدخال الدراسات الإسلامية كجزء من المقررات في المدارس الوطنية، في الوقت الذي قل فيه التأكيد على النظريات العلمية مثل “نظرية التطور”. وحتى ذلك الحين، ازداد الحضور الاجتماعي للجماعات الدينية شبه السرية تحت حماية الدولة. وفي هذه البيئة، توسعت جماعات ما بعد الصوفية ولا سيما حركة كولن والسليمانيين، ونظر إليها من قبل الدوائر الرسمية باعتبارها سلاح في مواجهة اليسار والإسلاميين (Cakir 1990).

حمل دستور 1982 الذي أعده الجيش تعريفًا لـ”لنزعة التركية” بالإشارة إلى الإسلام على نحو غير مسبوق (Parla 1995). ويمكن النظر إلى هذه المحاولات كمحاولة لنزع فتيل الحماسة التي خلقتها الثورة الإيرانية والإسلاموية الراديكالية اجتماعيًّا عبر ثورة سالبة في الوطن بالمفهوم الغرامشي الكلاسيكي، واستيعاب المطالب الشعبية الفعلية أو المحتملة من خلال الثورة المضادة، كاستجابة نموذجية للثورات في الخارج. وكان الوجه الآخر لهذه العملية ضرب حراك القوى الثورية. لقد حافظت “استعادة الثورة”، كما عبر عنها غرامشي (Gramsci 1971, 114-120) في سياق الردود الأوروبية على الثورة الفرنسية ما بعد أحداث 1815، على نظم الطبقة الحاكمة بلا مساس فيما أرضت الطبقات الشعبية جزئيًّا. وخلال حكم الديكتاتورية العسكرية 1980-1983، قام النظام التركي باتخاذ خطوات نحو تطبيق المطالب الإسلاموية فيما روضت قدرتها الثورية.

لقد كان المقصود من هذه التحولات ترسيخ عملية العلمنة بدلاً من تقويضها، فقد فتحت طريقًا أخرى لمزيد من المواجهة، فيما زادت من وزن القطاعات الدينية في الأمة التي عرفت نفسها كأمة علمانية. وإذا كانت أحزاب يمين الوسط والجماعات المؤيدة للدولة الدينية هي المقصودة بالاستفادة من هذه الإصلاحات، فإن الدوائر والأحزاب الإسلاموية هي المنتصر غير المقصود منها. لقد ارتفع الصوت الإسلاموي من 8% عام 1987 إلى 16%  عام 1991، ثم وصلت إلى 20% (فيما بقيت الأحزاب الأخرى تدريجيًّا عند نسبة أقل من 20%).

على الرغم من توتراتهم الداخلية، ظهر الإسلاميون كحزب رئيس في انتخابات البلدية عام 1994، حيث تولوا إدارة معظم المدن الكبرى. لقد نجحت البلديات الإسلاموية في توصيل المزيد من الخدمات إلى الأحياء الأفقر فقامت بتوزيع الغذاء والملابس والوقود. وعلى النقيض من أغلبية الساسة الأتراك، الذين اتحدوا عبر أحزابهم للاستيلاء على غنائم الخصخصة، فإن حماسة حزب الرفاه الأيدولوجية مكنته من البقاء نظيف اليدين في بيئة ما بعد انقلاب 1980؛ وبمحاربتهم فساد المحليات، حقق الإسلاميون تحسنًا ملموسًا في جودة الخدمات الحضرية.

كان للتحديات الحضرية المتعاظمة بعد عمراني. في تركيا، كما في غيرها من بلدان الشرق الأوسط، طور المثقفون الإسلاميون في الثمانينيات نموذجًا للمدينة الإسلامية، وهي مدينة ترتكز حول المسجد الذي تتوزع حوله الأسواق والمدارس والمراكز الثقافية، وتتسم هذه المدينة بالبساطة العمرانية وبالانسجام مع الطبيعة، وسيكون على التطور الحضري أن يحترم النسيج التاريخي لهذه المدينة، وأن تعكس مبانيها التواضع أمام الله. ويجب أن تمنع الارتفاعات الشاهقة للمباني، وهي رمز أساسي من جماليات الحداثة العدوانية. وبالتالي ستزدهر الاستقامة الأخلاقية، بل والمساواة السياسية والاجتماعية[5].

لقد أحدث فوز أردوغان وحزب الرفاه عام 1994 بانتخابات بلدية استانبول، كبرى المدن التركية، فزعًا وحماسةً على السواء في المدينة، وذلك مع احتمال أن يتم تنفيذ الرؤية الحضرية الإسلاموية على كل المدينة. كما ثار جدل حماسي حول “الفتح الثاني” لاستانبول –ففتحها الأول كان بالاجتياح العثماني عام 1453- لقد قارن الإسلاميون ومناؤوهم سكان مركز المدينة العلمانيين بالمسيحيين البيزنطيين. وأصبح الاحتفالات بذكر فتح المدينة، والتي كانت نقطة ارتكاز لتعبئة يمين الوسط، رمزًا لنمو قوة الإسلاميين (Bora 1999).

في الواقع، انقسم المثقفون الإسلاميون حول خطط التطوير الحضري، خاصة في توجهاتهم نحو قاطني العشوائيات. فامتدح بعضهم هؤلاء السكان الأتقياء باعتبارهم جزاء وفاقًا للنخبة العلمانية الحضرية[6]. فيما كان آخرون أكثر ترددًا، ففي أوقات امتدحوا مساهمة العشوائيات الخلاقة في فضاء المدينة، وفي أوقات أخرى استهجنوها لتخريبها التاريخ والطبيعة. غير أن القسم الأكثر تأثيرًا من قيادة حزب العدالة والتنمية رأت أن “الفتح” والإطاحة المرتقبة بالمؤسسة العلمانية كوسيلة لدمج استانبول بشكل أكثر نجاحًا في الاقتصاد العالمي واستغلال التاريخ العثماني لجذب المزيد من السياح. كان هؤلاء الاستراتيجيون أيضًا أقل تسامحًا تجاه سكان العشوائيات الذين تصوروهم كبدو يقفون على النقيض من روح الإسلام الحضرية، ومشكلة محتملة بالنسبة لاستانبول التي سيعاد فتحها في المستقبل. لقد انزوت المساواتية والشعبوية المؤيدة للعشوائيات التي عبر عنها التفكير الإسلاموي القديم في لغة هذا التيار[7].

عبر حزب الرفاه، كحزب براجماتي عن كل هذه الاهتمامات. وتحت عُمودية أردوغان، شددت بلدية استانبول الكبرى على استهلاك الكحول وعملت على إعادة مركزة الرموز الإسلامية في الأماكن العامة، وعلى توفير غرف للصلاة في مباني البلدية (Cinkar 2005). لقد سعت إلى إعادة آيا صوفيا كمسجد، دون أن تنجح، كما سعت إلى بناء مسجد آخر في قلب ميدان تقسيم؛ الساحة العامة الأساسية في استانبول.

أثارت الإسلاموية المزيد من الأمل والخوف كلما حققت المزيد من النجاحات الحضرية والوطنية. لقد ظهر حزب الرفاه باعبتاره القوة الأكبر في الانتخابات العامة عام 1995 بالأساس على أرضية نجاحه في الحكم المحلي. وبعد عدة شهور من مقاومة المؤسسة العلمانية، نجح أربكان في تكوين ائتلاف حكومي يضم حزبه وحزب الطريق القويم. ومن بين قرارته الأولى، نفذ الائتلاف الذي يقوده الإسلاميون أكبر زيادة في الأجور منذ الثمانينيات، واتجه نحو تحديد أرباح الفائدة. وفي البلديات، بدأ الحزب في تنظيم فاعليات ذات دعاية جيدة للإعلان عن تضامنه مع القضية الفلسطينية والقضايا الإسلامية الأخرى. وقام أربكان في البداية بالإشارة عن نيته للعمل نحو ديمقراطية عالمية قائمة على تعاون الشعوب الإسلامية تحت القيادة التركية (Ozdalga 2002). غير أنه سيتسلم قريبًا إلى ضغوط النخبة العسكرية، حتى اضطره هذا إلى توقيع اتفاقية تعاون عسكرية مع إسرائيل.

أما أوضاع التيارات الدينية الأخرى في الثمانينات والتسعينات فكانت كالآتي: لقد أفسح مكان لممارسة الطقوس في الحياة اليومية خاصة في المناطق الأكثر فقرًا، وازدهر الناشرون الإسلاميون وقنوات الراديو والتليفزيون والصحافة الإسلامية. لقد نمت المدارس والمدن الجامعية الدينية، وازداد عدد المساجد والمدارس القرآنية، كما ازداد الصراع بحدة بين مختلف الجماعات الدينية حول التفسير والممارسة الصحيحيْن للإسلام. وإلى جانب الهجوم الإسلاموي على العلمانية، شهدت الجمهورية التركية بالتالي هجومًا إسلامويًّا على العديد من الاعتقادات والممارسات التي كان يعتقد حتى ذلك الحين أنها إسلامية مثل (زيارة المقابر، وحلقات الذكر الصوفية وحتى صلوات الجمعة في جمهورية علمانية). وفيما شاركت بعض جماعات ما بعد الصوفية في هذه التوجهات، فإنها أحجمت عن المشاركة في الهجوم على الممارسات الصوفية التقليدية (على الرغم من أنها قامت بنفسها بإنكار معظم هذه الممارسات ولا سيما الذكر).

تحدث أربكان مرارًا عن الحاجة إلى فتح المزيد من مدارس “إمام-خطيب” وهو الأمر المثير لمخاوف القادة العسكريين العلمانيين، كما أنه استضاف كرئيس للوزراء عشاءً دعا إليه مشايخ الطرق الصوفية. كان مثل هذا الاجتماع هو الأول من نوعه في تاريخ الجمهورية، وفسره العلمانيون المتشددون على أنه اعتراف رسمي بالجماعات الدينية التي تم حظرها منذ الإصلاحات الكمالية. لقد كانت كل هذه ذرائع قام الجيش بالتدخل على أساسها مرة أخرى في الحياة السياسية التركية في فبراير 1997، حيث طالب حكومة أربكان بتقليص عدد مدارس “إمام- خطيب”، وبزيادة التعليم العلماني الإلزامي من خمس إلى ثمانِ سنوات، والسيطرة على الجماعات الدينية. برهن حزب الرفاه على انقسامه وفشله في مقاومة الجيش بفاعلية؛ فاستقالت حكومته. ثم استمر الجنرالات فأغلقوا الحزب، ومنعوا أربكان من مزاولة الحياة السياسية، وبدأوا دورة جديدة من القمع والتعذيب، ربما لا تقارن بحجم ما ارتكب في الثمانينات. في تلك المرحلة، شرع الجيش في اقتلاع الإسلاميين من جذورهم.

في أعقاب أزمة 1997-1998، أعاد الإسلاميون تجميع أنفسهم في حزب الفضيلة FP، والذي بقي تحت مراقبة السلطات. غير أنهم وجدوا أملاً في الحصول على الدعم الخارجي من الاتحاد الأوروبي، الذي عمل في هذه المرحلة على تمويل العديد من مؤسسات حقوق الإنسان والمجتمع المدني غير الحكومي في تركيا؛ كانت البلاد على وشك أن تمنح حالة مرشح لعضوية الاتحاد الأوروبي في ديسمبر 1999[8]. لقد أخفض الإسلاميون من لهجتهم الناقدة للمؤسسة الأوروبية، غير أنهم غامروا بوضع امرأة محجبة كمرشحة برلمانية. كان حظر الحجاب في المؤسسات الحكومية بمثابة المحور الأساسي للعلمانية التركية، وعلى الرغم من أن حزب الرفاه قد أشار أكثر من مرة إلى وجوب إنهاء هذا الحظر، فلم يجرؤ على اتخاذ هذه الخطوة عندما كان في السلطة. الآن أخذ أيديولوجيو الحزب في إعادة تأطير الحجاب باعتباره قضية حقوق إنسان، بدلاً منها التزامًا دينيًّا، حيث توقعوا أن يتدخل الاتحاد الأوروبي دفاعًا عنها. على المدى القصير، كان لهذه التكتيكات نتائجها العكسية؛ فقد أجبرت مروة قاوقجي، النائبة المحجبة على مغادرة البرلمان قبل أن تحلف القسم، في الوقت الذي نست أحزاب المؤسسات العلمانية أن تنحي خلافاتها جانبًا وأن تتحد في الإدانة الشرسة لهذا “الدخيل”.

عودة الأمة المحافظة

كان التغير في موازين القوة عاملاً حاسمًا في تحول الإسلاميين نحو “الأمركة الشاملة”. لا يعني هذا المصطلح تلقي الدعم السياسي من واشنطن والنظام الرأسمالي العالمي فقط، ولكن إلى الولاء إلى النماذج الاقتصادية والاجتماعية والدينية الأمريكية أيضًا. وفي حين أن النموذجين الاقتصادي والاجتماعي الأمريكيين دائمًا ما كانا مفضلين لدى مؤسسة النخبة التركية، فإن التحول الإسلاموي سيكمن في إيجاد نسخة جديدة من النماذج الثلاثة بين الطبقات الأوسع من المجتمع.

بعد أزمة عام 1997، وعندما أصبح واضحًا أنه لابد من تنازلات أكبر لاسترضاء النخبة الحاكمة، أخذ جيل جديد في تحدي قيادة أربكان. وسابقًا، في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، كان الصراع الجيلي قد ظهر في الصدام بين جيل الشباب الراديكالي المتحمس، والتيار الغالب المحافظ. لقد كان هؤلاء الشباب قراءً نهمين لأعمال سيد قطب؛ المفكر المصري، وعلي شريعتي؛ المفكر الإيراني حيث غيروا خطابهم في اتجاه أكثر ثورية، فيما قللوا جزئيًّا من أثر المفكر الباكستاني مولانا المودوي المحظور من قبل الحزب. وعبر مفكرون آخرون مثل عصمت أوزل Ismet Özel عن أفكار راديكالية أخرى على الرغم أنها لم تكن عميقة أو متماسكة. كل هؤلاء المفكرين قدموا تصورًا لمجتمع ودولة إسلاميين مغايريْن كليًّا عن الرأسمالية العلمانية الديمقراطية، على الرغم من وجود اختلافات فيما بينهم. ففيما اقترح شريعتي نظامًا مساواتيًّا وظل المودودي على ولاء للملكية الحرة الخاصة، كانت الأفكار تتراوح بين الاثنين في هذا الخصوص.

بعد أحداث 1997، سرعان ما تحول الراديكاليون السابقون إلى تبني السوق الحرة، وفكرة “المسلم المعتدل”. وكان على رأس هؤلاء ثلاثة بارزون هم: رجب طيب أردوغان، وعبد الله غول، وبولنت أرينج. ويختلف الثلاثة عن الحرس القديم من حيث الاحترافية والدهاء الإعلامي والاهتمام بالبرامج المؤيدة لمجال الأعمال. ولد أردوغان في استانبول عام 1957، لأسرة من مدينة ريزي Rize على البحر الأسود، ونشأ في حي قاسم باشا حيث التحق بإحدى مدارس “إمام-خطيب”. واكتسب أردوغان، لاعب كرة القدم وخريج الجامعة، كاريزمته أثناء عمله في قواعد الحزب كناشط ومنظم. أما غول، فهو من مدينة قيساري بوسط الأناضول والمندمجة عن قرب بالأسواق العالمية. وقد ولد عام 1950 وحصل على الدكتوراه من جامعة استانبول عام 1983، وأكمل دراساته في انجلترا. كما عمل اقتصاديًّا في بنك التنمية الإسلامية حتى عام 1991؛ حينما رسخ وقته كله للعمل السياسي. وولد بولنت أرينج الذي يعمل كمحامٍ، عام 1948 في مدينة بورصة المدينة المحافظة الواقعة في منطقة مرمرة الصناعية، وأصبح ناشطًا سياسيًّا منذ شبابه. لقد حافظ أرينج على علاقاته بحزبه الإسلامي القديم، فيما عمل غول كصلة وصل بين الإسلاميين ومجتمع الأعمال الدولي، والأنتلجنسيا الليبرالية. كان هذا الجيل الجديد أكثر تقبلاً للتعاون مع الغرب.

لم يفسر هؤلاء القادة الجدد، الذين ظلوا يعملون في الإطار العلماني القانوني المقيد للتسييس الواضح للدين، الأساس الديني لتحولهم العميق. بيد أنهم حولوا انتباههم من المفكرين الراديكاليين مثل قطب والمودودي وشريعتي إلى مفكرين مثل عبد الكريم سوروش ومحمد عابد الجابري. وأخذت أفكارهم الإسلامية الليبرالية الرافضة لإمكانية وجود الدولة الإسلامية بل وحتى فكرتها في الهيمنة على النقاش العام. في الوقت نفسه، شرع صحفيون مثل عبد الرحمن ديلباك وعلماء دين مثل خير الدين كرمان، وهما معروفان بحديثهما عن تميز الإسلام وسمو نظمه السياسية، في القول إن الديمقراطية هي نظام الحكم الأقرب إلى المثال الإسلامي تحت الظروف الحالية. مع ذلك، ارتكزت معظم النقاشات الدينية حول “شرعنة الديمقراطية” وكانت النقاشات الفرعية التي تناولت قضايا مثل ضرورة التعايش مع الأديان الأخرى بدلاً من الصراع والحروب بينهم، والحاجة إلى تعزيز الدولة التركية، وهي فكرة محافظة قديمة، وضرورة العمل مع الدول الغربية، مع الانفتاح في الوقت نفسه على العالم الإٍسلامي، كانت شائعة في ذلك العقد. لم يعبر قادة الحزب عن هذه التحولات الدينية وحدهم، فأوضحها صحفيون مرتبطون بالحزب في جرائدهم مثل يني شفق Yeni şafak ووقت Vakit (تحولت لاحقًا إلى عقد Akit) وجزئيًّا وجدت في كتيبات الحزب المحافظ.

فسر بعض المتشددين هذه التحولات على أنها نفاق وتملق (كما عبرت عن ذلك جريدة “ميللي جازيت Milli Gazete)، فيما فسرتها الأغلبية بطريقتين مختلفتيْن ومتداخلتيْن في بعض الأحيان. الأولى، وهي الشائعة والمعلنة، هي أن الهدف القديم القائم على تكوين نظام إسلامي مختلف كليًّا هدف غير واقعي، وأن على المؤمنين أن يتكيفوا مع واقع تركيا والعالم. أما الطريقة الأخرى، والتي تم تداول معظمها بين النشطاء بدلاً من نشرها بين الجمهور الأوسع هو أن الهدف نفسه لم يمس، غير أن قادة الحزب اكتشفوا طرقًا بعيدة المدى وأكثر التفافية من أجل تحقيقها مع تكيفهم مع واقع تركيا والعالم الحديث. لقد وجدت في بحثي الإثنوغرافي الموسع حول المناطق الراديكالية السابقة في استانبول (Tugal 2009)، أن الناس ينتقلون بين هذه المواقف، وفي أحيانٍ أخرى يمزجون بينها على نحو أبعد ما يكون عن الاتساق. أما الرفض الصريح والحاسم لهذه التحولات قد ظل مرتبطًا بأقلية محدودة.

ظهرت التحالفات الجديدة من أزمة عام 1997. لقد أضحى واضحًا للعيان أن الاختلافات بين الإسلاميين أكبر من أن تبقيهم داخل حزب واحد. لقد كانت هناك توترات لا حل لها بين جناح الأعمال النيوليبرالي، وهؤلاء الذين يريدون الإبقاء على الإسلاموية في ثوبها القديم. ولم تسمح بنية الحزب التسلطية لهؤلاء الشباب الناشط الطموح أن يشاركوا في صناعة القرار. في عام 2001، أسس المتمردون حزبهم الخاص بهم وأسموه العدالة والتنمية AKP بعد أن فشلوا في أن يستولوا على مقاليد الأمور في الحزب أثناء انعقاد مؤتمره العام. لقد أخذ أردوغان مع بقية قادة حزب العدالة والتنمية في التأكيد للمؤسسة العسكرية والإعلام أن الحزب لن يستخدم الدين في الأغراض السياسية وأنه لن يعارض حظر الحجاب. أعلن الحزب تأييده لأوروبا على نحو صاخب. وقام قادته برحلات متعددة إلى الولايات المتحدة وعقد اجتماعات لا زالت محاضرها سرية إلى الآن. شرح غول إلى الجمهور الأمريكي قائلاً إن أعضاء حزبه هم واسب* تركيا   The WASP of Turkey. كان من الواضح أن القيادة الجديدة تريد أن تستصلح أراضي يمين الوسط في السياسة التركية؛ وذلك من أجل أن تعيد تكوين ذلك التحالف الذي يجمع بين رجال الأعمال بالأقاليم، والمثقفين الدينيين ونخبة الدولة، وهو التحالف الذي هدف القطاع التابع في الكتلة الحاكمة أن يكونه سابقًا ولكنه فشل عندما أصبح الأمر مستحيلاً بسبب الإسلاموية الراديكالية. الآن يستطيع مثل هذا التحالف أن يعزز من قدرات القطاعات النيوليبرالية والمتجهة نحو التصدير من الرأسمالية التركية. لذا، انخرطت أعداد كبيرة من ساسة يمين الوسط، والمثقفين والداعمين في صفوف هذا التحالف.

أطلق حزب العدالة والتنمية على هذا البرنامج الجديد “الديمقراطية المحافظة”، إذ أن الإسلاموية لم تعد كلمة مرغوبًا فيها، وكانت لعنة على المحافظين الإسلاميين في التسعينيات وما قبلها، وكان الخطاب العلماني قد دأب على قرنها بمفاهيم أخرى من قبيل “الدينية” و”الرجعية”، على أن الإسلاميين لم يكونوا راغبين في أن يصنفوا مع “المحافظين” أيضًا.

كان عامل جذب حزب العدالة والتنمية لليبراليين والمثقفين في عام 2002، هو موقفه المؤيد للديمقراطية ولأوروبا. مع ذلك، لم يظهر الحزب إلا التزامًا شكليًّا بالتحول الديمقراطي. فمن المعروف عن أردوغان ميوله التسلطية، وقد باشر عمله كعمدة بلدية استانبول في الفترة بين 1994-1998 بقبضة حديدية[9]. لقد تعهدت قيادة الحزب أثناء انعقاد اجتماعه التأسيسي بأن تلزم نفسها بالديمقراطية الداخلية، غير أنه سرعان ما تم الالتفاف على الخطوات الديمقراطية الأولى. في العام 2003، ألغى مجلس المؤسسين بالحزب انتخابات لجنته المركزية، ومنح رئيسه؛ أردوغان، سلطة تعيين وعزل أعضاء اللجنة. كان لمثل هذه الخطوات السلطوية داخل الحزب، ما يماثلها في علاقة الحزب بالشعوب. لقد شرعت حكومة الحزب سلسلة من الإصلاحات الديمقراطية لإثارة اهتمام الاتحاد الأوروبي. في المقابل، أهملت الحكومة القواعد الأساسية للتمثيل والمحاسبية فيما يتعلق بمطالب ناخبيه. وبدلاً من أن يتعامل أردوغان مع الاستياء الشعبي بجدية، وبّخ على العلن كل من تحدث إليه عن الجوع، والبطالة وأزمات الإسكان. وفي مسيرات الحزب، طالب أردوغان الفقراء بأن يتحدوا معًا ويقوموا باللازم من أجل أنفسهم بدلاً من أن ينتظروا شيئًا من الحكومة. ومؤخرًا في مايو 2010، قال لأسر الضحايا من عمال التنجيم أن معاناة ذويهم جزء لا يتجزء من عملهم، أي أنه “قدرهم”!

وعلى نحو مماثل، ألقى أردوغان باللائمة على ضحايا الفيضانات والزلازل في المناطق الفقيرة لكونهم مسؤولين عن الكوارث التي حاقت بهم؛ لاختيارهم مواقع خطرة لمنازلهم، وبنائها بمواد بناء رديئة، منكرًا المسؤولية الرسمية في مواجهة الاحتجاجات التي أعقبت هذه الحوادث. حينما أثارت مزاعم أردوغان حول “القدر ” في حادثة 2010 انتقادات واسعة في الصحافة، شكك رئيس الوزراء في إيمان منتقديه، وطالبهم بأن يناقشوا الأمر مع الإدارة العامة للشؤون الدينية. بعبارة أخرى، إن أردوغان استغل الخطاب الديني لإيقاف النقاش العام حول حوادث التنجيم.

باختصار، يلجأ أردوغان إلى ثلاثة أسلحة لمناهضة الاحتجاج الاجتماعي؛ الحديث عن المسؤولية الشخصية للمنكوبين، والسلطوية المشخصنة، واستغلال الدين. هذا المزيج من السلطوية والشخصنة والدين التقليدي أبعد من أن يكون إعادة تأويل ما بعد الإسلاموية للدين على نسق تقديم الحرية الفردية على الواجب الفردي. لا تجسد هذه المحافظية التركية الجديدة، بكلمات أخرى، التحول من التركيز على الواجبات إلى الحقوق، وهو أساس التحول ما بعد الإسلاموي، ولكن الانتقال من الفهم الجماعي للمسؤولية، وهي سمة إسلاموية، إلى المسؤولية الفردية.

هناك اختبار آخر للديمقراطية، وعقبة أمام دخول الاتحاد الأوروبي أيضًا، ويتمثل في طريقة التعامل الرسمية مع مذابح الأرمن 1915. دائمًا ما أنكرت النخب العسكرية أي مسؤولية تركية عن هذه الجرائم، ويعتبر القول إنها تمثل إبادة إساءة مجرمة. في العام 2005، مع تصاعد التوقعات الديمقراطية،حاولت مجموعة دولية من الباحثين أن تنظم مؤتمرًا لمناقشة فكرة الإبادة على نحو موسع وعلني. فسرعان ما أعلن وزير الداخلية جميل تشيشك Cemil Çiçek أن منظمي المؤتمر “يطعنون الأمة في ظهرها”. أوقف الباحثون اجتماعهم، ثم نقلوه إلى جامعة أخرى. على الأرجح سيكون عقد مثل هذا المؤتمر  أصعب بكثير، أو ربما مستحيلاً تحت أي حكومة سابقة، غير أن هذه الحادثة أوضحت على نحو كاشف التوجهات القومية-السلطوية داخل حزب العدالة والتنمية الذي يعتبر تشيشك أحد قيادته.

ينظر بعض المحللين إلى تقليم أظافر المؤسسة العسكرية وموقف الحكومة تجاه الأكراد كدلائل على انحيازها للديمقراطية. حتى هنا تختلط النعم. خلال أزمة قضية أرجنيكون، هاجم المدعون والصحفيون المؤيدون للحكومة بشجاعة المجموعات الإجرامية داخل الدولة. بيد أنه تم توقيف العديد من رموز المعارضة، لمجرد ارتباطهم الأيديولوجي أو البسيط بهذه المجموعات. وعلاوة على هذا، اعتبرت أي معارضة للحكومة تأييدًا لمؤامرة أرغنيكون بدون أي أدلة (مثل الإضراب الكبير الذي قام به عمال تيكيل Tekel الذين فقدوا حقوقهم بسبب الخصخصة). وحينما تم إلغاء القوانين القامعة للإثنيات، صعدت المحاكم وقوات الأمن حملتها في مواجهة الأحزاب والجمعيات الكردية بزعم أن لها صلات بالمتمردين الأكراد. حتى أنه تمت محاكمة أطفال لاشتراكهم في مظاهرات نظمتها الأحزاب الكردية الشرعية. في الوقت الذي احتفل فيه الليبراليون الإسلاميون والعلمانيون بالقضاء على أرجنيكون، وبالحملات ضد الأكراد، تصاعدت شكوك الناقدين، وهم الكماليون والأكراد القوميون العلمانيون والاشتراكيون الذين خسروا مكانهم لصالح الانتلجنسيا الليبرالية المؤيدة لحزب العدالة والتنمية، حول ديمقراطية الحزب التي قالوا إنها تتحقق بالقدر الذي يفيد الحزب. ويستطيع المرء أن يكون أقل انفعالاً من المعسكرين ليحاجج بأن حزب العدالة والتنمية قد عزز من الديمقراطية في إطار المحافظية التركية؛ وهي ديمقراطية تعكس الثقافة والأخلاق “الصحيحة” للأمة ومن ثم تهمش، إن لم تسحق، أعداء هذه الأمة المتخيلين[10].

مثلما كان للتحدي الإسلاموي أبعاده المكانية أثناء ذروته، فإن للمحافظية المستوعبة للإسلاموية الأبعاد نفسها. حتى فيما قبل 1997، عمل أردوغان على استخدام تراث استانبول الإسلامي كوسيلة لجذب السياحة ورأس المال العالمي بدلاً من أن يكون قاعدة لجمهورية إسلامية. لقد تسارعت هذه العملية بعد 2002، عندما أخذ الإسلاميون السابقون في بناء ناطحات السحاب في المركز المالي الجديد للمدينة. والأكثر أهمية من هذا، وعلى النقيض من الاحتجاجات ضد عمودية دالان* المؤيدة للشركات، نجح إسلاميو السوق الحرة المحافظون في تحقيق المزيد من دمج استانبول في الدوائر الرأسمالية العالمية دون تحريك معارضة سكان الضواحي البعيدة الفقيرة المحيطة بالمدينة. لقد كان هذا هو البعد المكاني لثورة تركيا السالبة القائمة على استيعاب تحدي الإسلاموية داخل أطلنطية السوق الحرة. لقد أصبح المسلمون الأتقياء داخل حزب العدالة والتنمية، الذين لم يعودوا بعد إسلاميين، بل بالأحرى محافظين، مستعدين من الآن فصاعدًا لتعبئة الدين من أجل إعادة بناء المدينة بطرق تتعارض مع طموحاتهم الراديكالية المبكرة.

كان لهذه الانعطافة نحو السوق الحرة في عملية أسلمة المدينة تعبيرات عديدة. خلال التسعينيات، كانت خيم الإفطار الرمضانية رمزًا لصعود التحدي السياسي للإسلاموية، لقد دللت أيضًا على إفقار الجماهير تحت حكم النخبة العلمانية وعلى وجود بديل يتقي الله “الإسلاموية” على السواء. غير أنه على نحو مضطرد، أصبحت خيم الإفطار أماكن للاستهلاك الجماعي؛ لقد أخذت البلديات التابعة للعدالة والتنمية في تنظيم مهرجانات رمضانية ليلية تقام حتى طلوع النهار، وفيها تستطيع كل الطبقات التي ترتادها أن تستمتع بالموسيقى الصوفية (إلى جانب موسيقى الروك والبوب)، وتدخين النرجيلة، واستعراضات الستاند آب، وتنويعات هائلة من الطعام. وفيما كانت بعض هذه الاحتفالات مجانية، فقد شارك التجار وأصحاب المحلات في دعمها ماليًّا. وساهم قدوم السياح المسلمون من كل بلدان المنطقة في إضفاء صورة المدينة العالمية على استانبول. هنا تكمن المفارقة؛ فقد اعتادت الصحف الإسلاموية على إظهار رمضانها المتطهر النقيض لحفلات الإفطار  الاستهلاكية التي يقيمها المسلمون العلمانيون. الآن اختلطت القطاعات بفضل الثورة السالبة التي جعلت من شهر الصيام مجالاً للهو العام.

كانت العثمنة Ottomanization هدفًا آخر. بنظرة سطحية، قد يبدو أن هذا الاحتفال بعصر الخلافة على اتساق مع التصور الإسلاموي الحضري. ولكن في الحقيقة، فبدلاً من اتجاه بلدية استانبول نحو الحفاظ على النسيج التاريخي للمدينة، يبدو أنها عملت على هدم المباني العثمانية الأصلية وبناء نماذج زائفة. لقد كان العلمانيون لا الإسلاميون هم من قاوم هذه التطورات؛ حيث اتهموا بلدية استانبول بأنها تريد أن تعيد خلق مركز  تاريخي في استانبول ولكن على طراز سياحي براق. على نحو مماثل إحياءً لذكرى عصر التوليب في عشرينيات القرن الثامن عشر الميلادي، أخذ حزب العدالة والتنمية في تزيين المدينة بالزهور. كان هذا بمثابة تحدي للإيديولوجية الكمالية المعادية للعثمانية الطهرانية التي اعتادت على مهاجمة استيراد بصيلات التوليب باهظة الثمن كدليل على انحطاط السلطنة. شهد عهد التوليب خبرة بسيطة للتصنيع الصغير، ودخول الطباعة، والولع الجمالي بالفن والعمارة. وانتهى على نحو كارثي عام 1730، بتمرد شعبي ضد الارستقراطية المترفة قاده الانكشاري السابق وتاجر الملابس المستعملة بطرونا خليل*. في هذا التمرد خربت القصور، وقتل قادة التحديث[11]. لم يكن ولع “العدالة والتنمية” الحالي بالتوليب احتفاءً بالإصلاحيين العثمانيين فقط، بل دللت أيضًا مع تدفق التوليب من أحياء الطبقة العليا إلى المناطق الفقيرة، على أن هذا الاستهلاك الفج هو الآن من أجل متعة الجميع. لقد دللت الإضاءة الصاخبة على جسر البوسفور التي هاجمها الكماليون الغاضبون لكونها إضاءة تليق بملهى ليلي، على الإرادة السياسية لجعل الترفيه متاحًا للجميع، حيث تم كسر احتكار البرجوازية له. كان من المقصود بهذه الاستراتيجية هو ضمان ألا يكون هناك بطرونا خليل في “عهد توليب الجمهورية”.

كانت موضة “العمرة” مساحة أخرى تلاقى فيها الإسلام بالاستهلاكية؛ (بدلاً من الإسلام والحرية كما هو في الصيغة ما بعد الإسلاموية). كان الحج والعمرة، في نظر النخبة العلمانية التركية، من علامات التخلف، وإعادة إنتاج للعلاقات غير الضرورية مع العالم العربي، وما إلى ذلك. الآن انقلبت هذه النظرة رأسًا على عقب؛ إذ أن أعضاء النخبة من رجال الأعمال، والمطربين ذوي الشعبية وكبار الصحفيين العلمانيين قد أدوا العمرة. وكتب أحد الصحفيين وهو إرتوغال أوزكوك، بكثافة عن خبراته في رحلة العمرة، مقدمًا ومطبعًا إياها للجزء الأكبر من النخبة. أطلق على هذا الاتجاه “موضة العمرة” للإشارة إلى تميز النخبة الذي صاحب تطبيع الطقوس الإسلامية.

ما بعد الصوفية: من العداوة إلى التحالف

من أهم التحولات الدينية في تركيا تحولات جماعات ما بعد الصوفية. كانت جماعة كولن، التي يقال إنها الأكبر في تركيا، عرضة للهجوم المتكرر قبل انقلاب 1997، من قبل الإسلاميين الذين تصوروا أنها حليفة للدولة التركية والولايات المتحدة. بيد أنها تحولت في بداية الألفية الجديدة إلى حليف وثيق في مواجهة العلمانية القمعية، كما انضم عدد كبير من أعضائها إلى المعسكر التركي/ الإسلامي/ المحافظ.

تقوم جماعة كولن على أفكار أساسية تسير على نهج بديع الزمان سعيد النورسي، تشمل هذه الأفكار فهمًا علميًّا للإسلام (يرى البعض أنه فهم وضعي)، والكفاح الخفي ضد اليسار ، ودعم يمين الوسط (بدلاً من دعم أي حزب إسلامي سياسي مستقل)، وخليط من العناصر الصوفية والنصية، واستراتيجية عامة تركز على أسلمة الفرد بدلاً من أسلمة الدولة (كما هو معلن على الأقل). مع ذلك، فقد تحولت الجماعة أكثر نحو اليمين عند مقارنتها بالجماعات النورسية الأخرى، خاصة تأييدها للتعاون بين تركيا والغرب والحوار بين الأديان. تعتنق الجماعة أيديولوجية قومية تركية. وتركز المدارس التي تبنيها حول العالم على التتريك أكثر من الأسلمة. وتعتبر منطقة وسط آسيا أحد مراكز نشاط الجماعة، وهو نشاط، يظن البعض، أنه يحظى برعاية الغرب؛ كون روسيا والصين وإيران والإسلاميين السنة الراديكاليين هم اللاعبين الرئيسيين في هذه المنطقة. ليس الحجاب من أولويات الجماعة، غير أن البعض يجادل بأن الجماعة، فيما يتعلق بالقضايا المتعلقة بالنوع، ذات بنية أبوية (Turam 2007). لا يقوم الخطاب العام للجماعة، كما تعبر عنه القنوات الإعلامية والصحف القوية مثل جريدة “زمان Zaman” وقناة ” سمانيولو  Samanyolu” التلفزيونية، على المرجعية الإسلامية بقدر ما يقوم على غرس الفخر  القومي، وتبني رؤية براجماتية في السياسة الخارجية، وتبني موقف معادٍ للعلمانية السلطوية. غير أن البنية الداخلية للجماعة في غاية التعقيد. فكلما اقتربنا من الدوائر الداخلية للجماعة (وهي الأكثر سرية)، تزداد أهمية الثقافة الإسلامية. وبالأخير، فإن الكلمة المفتاحية في الجماعة ليست “الحرية” وإنما “المسؤولية” التي تعيد صدى “الواجب” الإسلاموي غير أنها تتعارض معه؛ إذ أنها تفهم الحرية على نحو أكثر فردانية وأكثر توجهًا نحو السوق الحرة. وعلى هذا النحو، فإن جماعة كولن هي جماعة محافظة إسلاميًّا وقوميًّا أكثر منها إسلاموية أو ما بعد إسلاموية.

وعلى الرغم من توجهاتها الوسطية والقومية، يرى الكماليون أن جماعة كولن تمثل تهديدًا كبيرًا للعلمانية. ويجادلون بأن لها أجندة خفية تسعى إلى إقامة دولة خلافية ومحافظة للغاية. دعم هذه المخاوف تزايد عدد المؤيدين لكولن في بعض المؤسسات الحيوية مثل الشرطة والقضاء، وكذلك البنية الداخلية الغامضة للجماعة وولائها المطلق لزعيمها؛ فتح الله كولن.

قبل العام 1997، لم تكن علاقة الإسلاميين بالجماعة قاصرة على الصدام، ولكنها تطورت في بعض الأحيان نحو الاشتباك العنيف بين الطرفيْن. لقد أراد الإسلاميون حماية شبابهم من أفكار كولن وتفسيره للإسلام المؤيد للغرب. أي أن رؤية الإسلاميين للجماعة غالبًا ما كانت نقيضًا لرؤية الكماليين، حيث ارتكزت على كون الجماعة عقبة في مواجهة الأسلمة. في الثمانينيات والتسعينيات، سوّقت بعض القطاعات المحافظة في الدولة الجماعة باعتبارها نقيضًا للإسلاموية، إلى جانب غيرها من جماعات ما بعد الصوفية مثل السليمانيين، داخل تركيا وخارجها. ولغاية انتخابات 1997، أعلنت الجماعة على الملأ دعمها لأحزاب يمين الوسط، ولأحزاب يسار الوسط القومي مرة واحدة، وقامت بمهاجمة الإسلاميين على نحو واسع؛ مثلما قام كولن بالهجوم على حشد الإسلاميين لقضية الحجاب في الجامعة. وبالتوازي مع هذا، لم يكن للجماعة علاقة جيدة مع الجيش. لقد رحبت بانقلاب 1980، وتدخل عام 1997 ضد الجماعات والأحزاب الإسلامية بشكل ضمني، غير أنها قد وقعت ضحية لهذا التدخل.

بعد عام 1997، لم ينضم كل الإسلاميين للجماعة، غير  أنهم أخذوا في الاعتراف بأن لها أجندة أكثر واقعية من الطراز القديم للإسلاموية. أحد أسباب هذا التحول هو قمع الجيش لأتباع كولن في أعقاب الانقلاب؛ لقد هاجر كولن إلى الولايات المتحدة بعد الانقلاب مؤكدًا صورته كضحية للعلمانية المتزمتة، ويعيش كولن اليوم في بنسلفانيا ويأمل أن يقيم جسرًا بين العالم الإسلامي وواشنطن من خلال العشرات من المنظمات غير الحكومية المتأثرة بتفسيره للإسلام. في تركيا أيضًا، استعادت الجماعة تأثيرها بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002. في هذا السياق، حولت الصحافة الإسلاموية تدريجيًّا نبرتها من نقد الجماعة إلى مدحها والإعجاب بها. لقد أصبح ينظر إلى الجماعة الآن على أنها عضو  مؤكد في المعسكر  الإسلامي المناهض للكماليين. ويجب أن نلاحظ أن العلاقة بين حزب العدالة والتنمية والجماعة قد تجاوزت التحالف البسيط، وعلى الرغم من التوترات المؤجلة بين الطرفين، قد تشبه هذه العلاقة في بعض الأحيان الاندماج، مع التحاق العديد من أتباع كولن بالحزب كأعضاء وكقادة*.

ما بعد الإسلاموية، أم استيعابٌ للإسلاموية؟

كيف لنا أن نفسر هذه التحولات؟ سأقدم أطروحة مفادها أننا بإزاء استيعاب للإسلاموية داخل المشروع المحافظ بدلاً من ازدهار ما بعد الإسلاموية الكاملة. وأعتمد في هذه الأطروحة على نمط علاقة حزب العدالة والتنمية بالعلمانية، والحرية وغموض النص الديني والتعددية. مع ذلك، كما سيتضح في القادم، نستطيع أن نجد عناصر ما بعد الإسلاموية داخل خط “حزب العدالة والتنمية”، نظرًا إلى تحول الإسلاموية الكامل إلى المحافظية التركية.

تتضمن ما بعد الإسلاموية علمنة الدولة مع الحفاظ على الأخلاقيات الدينية، فيما تتضمن المحافظية المؤسلمة استغلال الدين وربما تؤدي إلى انهيار جزئي في الأخلاقيات الدينية. هناك عدد من التوجهات المتضاربة في تركيا فيما يتعلق بالإيمان والأخلاق الفردية. يستطيع المرء أن يجد قليلاً من الأخلاق والورع بين النشطاء السابقين، يثير هذا العديد من الانتقادات الداخلية؛ حيث يقوم الصحافيون الورعون بانتقاد رفاقهم، ويرثون اللاأخلاقية التي أصبحوا عليها. هناك كلمة مجازية تستخدم لوصف هذا الاتجاه، وهي الدنيوية  Dünyevileşme ، وهي تشير إلى تحول المناضلين السابقين من الولع بالدين إلى الولع المتزايد بالمال، والاستهلاك الترفي، والترقي الاجتماعي والمناصب. في الوقت نفسه، فإن أنماط الحياة المتدينة أخذ ينتشر بين القطاعات المعلمنة السابقة. وفيما يصبح الناشطون الراديكاليون والمهمشون سابقًا أكثر علمانية، تتحول النخبة والشخصيات العامة أكثر تدينًا.

علاوةً على هذا، في الحالة ما بعد الإسلاموية، تدور النقاشات العامة حول كيفية التوفيق بين الإسلام والحرية، أما في تركيا اليوم، تدور النقاشات والصراعات السياسية حول كيفية التوفيق بين الثقافة الإسلامية وقيم غربية معينة قائمة بشكل أساسي على نمط المحافظية الأمريكية بدلا من قيم الحرية الغربية. ويتمثل التداخل الأهم مع المحافظية الأمريكية في التأكيد على المسؤولية الفردية في السوق الحرة. ويرتبط بهذا، أن الغموض أحد أسس ما بعد الإسلاموية، أما المحافظية التركية فلا تحتوي إلا على القليل من الغموض. إن هذا المشروع المحافظ له سمات محددة يراد لها أن تكون محددة، وعلى وجه التحديد، فإن ما هو أقل غموضًا في المحافظية الأمريكية والتركيبة الإسلامية/ التركية هو أيضًا أقل غموضًا في المحافظية الإسلامية التركية. وتشمل الأمثلة على هذا إطاعة الزعماء، وقيمة الوحدة القومية، ومركزية القيم الإسلامية/ التركية بالنسبة للمجتمع والدولة الموحديْن.

في النهاية، بينما ترتبط ما بعد الإسلاموية بالتعددية، هناك قيود جدية على التعددية في المشروع التركي المحافظ الجديد. وبالتأكيد، فإن المحافظية الإسلامية التركية هي أكثر تعددية من إسلاموية السبعينيات. مع ذلك، هناك إقصاء فعلي للعديد من الفئات من إطار هذه المحافظية الذي يبدو قابلاً للجميع. هذه الفئات تتماثل مع الفئات التي تم إقصاؤها من المشروع الأمريكي المحافظ مثل الطبقة العاملة المنظمة، مع وجود خصوصية تركية تتمثل في إقصاء العلويين على الرغم من المطالب الواضحة بإدماجهم، وتعتقد قطاعات واسعة أن العلويين طائفة غير مخلصة.

على الرغم من وجود توجهات نحو الاستيعاب داخل المحافظية ، فقد كان للإسلاموية تأثيرها على المشروع التركي المحافظ من نواحي عديدة. فبداية، وهو الأكثر أهمية، كان المحافظون السابقون راضين عن حكامهم الذين يؤدون صلاة الجمعة، وبعض صلاوات اليوم الأخرى، أما اليوم فهناك ترصد عام لأدائهم الصلوات اليومية. لقد اعتاد بعض قادة الأقاليم من يمين الوسط أن يشربوا كميات ضئيلة من الكحول، مع أدائهم لفروضهم الدينية. أما الآن، فليس من الوارد أن يستهلك هؤلاء الكحول. مع ذلك فمن غير المؤكد إذا كانت صناعة النخبة الجديدة هي أسلمة للحداثة، أم أنها تهدئة للتهديدات المحتملة للعلمانية.

هناك مجالان آخران يمكن أن يمدانا بأدوات أكثر لمعرفة ما إذا كانت تركيا تتحول إلى الحالة ما بعد الإسلاموية، وهما العلاقات الدولية وقطاع الأعمال الجديد. في مجال العلاقات الدولية، من الجائز أن نتساءل إذا ما كانت السياسة الخارجية التركية تشهد انعطافة إسلامية، وهو الأمر المؤكد والمفهوم لدى قطاعات عديدة. تحت قيادة أحمد داوود أوغلو الفكرية والسياسية، وبتشجيع كبير من واشنطن والاتحاد الأوروبي في سعيهما نحو إيجاد بديل إسلامي معتدل لطهران، انفتحت أنقرة على جيرانها. لقد نظرت الإدارات التركية السابقة لهؤلاء الجيران على أنهم متخلفون وبلا فائدة وربما معادون للمصالح التركية. يجادل البعض أن هذا تحول واقعي في السياسة الخارجية أكثر منه إسلامي. غير أنه في داخل تركيا وخارجها، تعتبر جذور الحزب الحاكم الإسلامية إلى جانب سمعة داوود أوغلو كمفكر إسلامي، أدلة على الدوافع الإسلامية لهذا التحول. مع ذلك ستكون مراجعة تركيا لعلاقتها بإسرائيل في السنوات القادمة مصدقًا لهذه الادعاءات.

لا زالت القوة المتصاعدة لطبقة الأعمال المتدينة في نفس المنطقة الرمادية. هناك اهتمام حقيقي وعام برجال الأعمال الأناضوليين الجديد، الذين يبدون مختلفين ويتصرفون بشكل مختلف عن طبقة رجال ونساء الأعمال العريقة في المدن الكبيرة. بيد أن السؤال لا زال مفتوحًا عما إذا كانت هذه الطبقة فاعلاً للحداثة الحقيقية أو بديلاً عنها، أم نظيرًا محليًّا للتمرد العالمي ضد البرجوازيات والبيروقراطيات العلمانية والمنظمة، والمثال الرئيس لهذا التمرد هي طبقة الأعمال الأمريكية المحافظة. بالطبع، تفترض هذا المقارنة طبقة الأعمال التركية المتدينة باعتبارها طبقة أقل “حقيقية”، لكنها تلقي بظلالها على “أصالتها أو إسلاميتها المتميزة”.

ما الذي يجعل تركيا مختلفة عن إيران التي يوجد بها تيار ما بعد إسلاموي أكثر تميزًا؟ تتطلب الإجابة على هذا السؤال نقاشًا مطولاً. حاول هذا الفصل أن يقدم إجابة عليه اعتمادًا على أعمال آصف بيات. أشار بيات إلى السبب الذي أدى إلى اكتساب ما بعد الإسلاموية أرضًا واسعة في إيران في الوقت الذي بقيت فيه محدودة في مصر ، وتمثل في المسارات السياسية المختلفة بين البلديْن. لقد تعرضت إيران لثورة على الرغم من افتقادها لحركة إسلامية منظمة لعقود. أما مصر فعلى النقيض من هذا، فقد شهدت حركة إسلامية مستمرة ومنظمة بلا ثورة إسلامية، على الأقل في الوقت الذي كتبت فيه أطروحة بيات المبدئية. لقد سببت الثورة في إيران استياءً كان هو الداعي الأساسي للتحول نحو ما بعد الإسلاموية (Bayat 2007, 191). أما تركيا، فلم تشهد ثورة أو انتفاضات ثورية مستمرة، كما أن الإسلاميين الثوريين لم يكن حضورهم ملموسًا إلا من خلال الأحزاب الإسلامية الكبرى، أو اختاروا البقاء بعيدًا عن الصراعات السياسية الكبرى. لم تشكل الإسلاموية تحديًا على الدولة والسوق في تركيا في الثمانينيات والتسعينيات، غير أن هذا لم يتحول إلى عملية أسلمة منسقة وكاملة النطاق للمجتمع والدولة. لذا، ولفهم ضعف ما بعد الإسلاموية التركية، ربما سيكون علينا النظر إلى العمليات السياسية.


ملاحظات

نشرت أجزاء من هذا الفصل في دورية New Left Review 44 (2007): 5-34, 51 (2008): 65-80

مراجع الفصل

Armağan, Mustafa. 1997. Şehir, ey Şehir. Istanbul: İz Yayıncılık.

Ayubi, Nazih. 1991. Political Islam: Religion and Politics in the Arab World. New York: Routledge.

Bayat, Asef. 2005. “What Is Post-Islamism.” ISIM Review 16, no. 5.

Bayat, Asef. 2007. Making Islam Democratic: Social Movements and the Post-Islamist Turn. Stanford: Stanford University Press.

Bora, Tanıl. 1999. “Istanbul of the Conqueror: The ‘Alternative Global City’ Dreams of Political Islam.” In Istanbul between the Global and the Local, ed. Çağlar Keyder, 47–58. Lanham, Md.: Rowman and Littlefield.

Bromley, Simon. 1994. Rethinking Middle East Politics: State Formation and Development. Cambridge: Polity.

Çakır, Ruşen. 1990. Ayet ve Slogan: Türkiye’de İslami Oluşumlar. Istanbul: Metis.

Cansever, Turgut. 1997. Kubbeyi Yeri Koymamak. Istanbul: İz Yayıncılık.

Çınar, Alev. 2005. Modernity, Islam, and Secularism in Turkey: Bodies, Places, and Time. Minneapolis: University of Minnesota Press.

Davison, Andrew. 1998. Secularism and Revivalism in Turkey: A Hermeneutic Reconsideration. New Haven: Yale University Press.

Freely, John. 1998. Istanbul: The Imperial City. London: Penguin.

Gellner, Ernest. 1991. “Civil Society in Historical Context.” International Social Science Journal 43:495–510.

Göçek, F. Müge. 1987. East Encounters West: France and the Ottoman Empire in the Eighteenth Century. New York: Oxford University Press.

Gramsci, Antonio. 1971. Selections from the Prison Notebooks of Antonio Gramsci. London: Lawrence and Wishart.

Heper, Metin. 1985. The State Tradition in Turkey. Huntingdon, UK: Eothen Press.

Keddie, Nikki R. 1997. “Secularism and the State: Towards Clarity and Global Comparison.” New Left Review 1, no. 226: 30–32.

Keyder, Çağlar. 2004. “The Turkish Bell-Jar.” New Left Review 28:65–84.

Kutlu, Mustafa. 1995. Şehir Mektupları. Istanbul: Dergah.

Lerner, Daniel. 1967. The Passing of Traditional Society: Modernizing the Middle East. New York: Free Press.

Lewis, Bernard. 1961. The Emergence of Modern Turkey. New York: Oxford University Press.

Mardin, Şerif. 1983. “Religion and Politics in Modern Turkey.” In Islam and the Political Process, ed. James Piscatori, 138–159. Cambridge: Royal Institute of International Affairs.

Mardin, Şerif. 1989. Religion and Social Change in Modern Turkey: The Case of Bediüzzaman Said Nursi. Albany: State University of New York Press.

Özdalga, Elizabeth. 2002. “Necmettin Erbakan: Democracy for the Sake of Power.” In Political Leaders and Democracy in Turkey, ed. Metin Heper and Sabri Sayarı, 127–146. New York: Lexington Books.

Özdenören, Rasim. 1998. Kent İlişkileri. Istanbul: İz Yayıncılık.

Özyol, İdris. 1999. Lanetli Sınıf. Istanbul: Birey Yayıncılık.

Parla, Taha. 1995. Türkiye’nin Siyasal Rejimi. Istanbul: İletişim.

Sezal, İhsan. 1992. Şehirleşme. Istanbul: Ağaç Yayıncılık.

Tuğal, Cihan. 2006. “The Appeal of Islamic Politics: Ritual and Dialogue in a Poor District of Turkey.” Sociological Quarterly 47, no. 2: 245–273.

Tuğal, Cihan. 2009. Passive Revolution: Absorbing the Islamic Challenge to Capitalism. Stanford: Stanford University Press.

Turam, Berna. 2007. Between Islam and the State: The Politics of Engagement. Stanford: Stanford University Press.

* كان الأمير صباح الدين (1879-1948) حفيد السلطان عبد الحميد خان معارضًا للحكم المطلق، وانضم إلى حركة تركيا الفتاة في البداية، غير أنه عارض عبر حزبه “الحزب الليبرالي” إجراءات لجنة الاتحاد والترقي التي أطاحت بحكم عبد الحميد 1908، فتم حظر حزبه في العام التالي، وفي عام 1913 حيث تم نفيه، وبعد هزيمة تركيا في الحرب العالمية الثانية، عاد الأمير عام 1919، ليتم نفيه للمرة الأخيرة على يد حكومة مصطفى كمال عام 1924. كان مشروع صباح الدين يدور حول حكم مركزي للولايات العثمانية وتشجيع الاقتصاد الحر.

* تعتبر الطريقة النقشبندية، المنتسبة إلى الشيخ محمد بهاء الدين النقشبندي (القرن الرابع عشر الميلادي) من أوسع الطرق الروحية الصوفية انتشارًا بين عموم الأتراك في العالم الإسلامي، وكذلك لها تواجد مكثف في العالم العربي والهند. وتقوم الطريقة على سلسلة روحية تبدأ من النبي محمد “ص” عبر الخلفاء الراشدين وتنتهي إلى شيوخ الطريقة. وفي تركيا العثمانية، وانتشرت الطريقة عبر سيطرة الدولة العثمانية في أرجاء عديدة حيث بنت خانقاوات وأسست أخويات وجماعات كثيرة. ويعبر عنها في تركيا الحديثة العديد من الجماعات وعلى رأسها طريقة إسماعيل آغا وإسكندر باشا وإرينكوي.

** تنتسب الطريقة القادرية إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني (القرن الحادي والثاني عشر الميلادي) وهي أكثر انتشارًا في العالم العربي وأكثر التزامًا بأصول الإسلامي السني، وحرفية النصوص المقدسة.

*** يمثل العلويون الأتراك Alevis نسبة 15-20% من نسبة السكان وهم يتوزعون بين الأكراد والأتراك العرب والظاظا وأقليات عرقية أخرى، ويمزج علويو تركيا، وهم غير علويو الشام المعروفين بالنصيرية، في عقائدهم بين عناصر التصوفة والتشيع والتدين الشعبي. وعلى الرغم من أن هذه الأقلية وقعت عاملاً في الصراع التاريخي بين العثمانيين السنة والصفويين الشيعة، إلا أنهم مثلوا أساس الحركة الصوفية البكتاشية واسعة النفوذ في أوساط تشكيلات الانكشارية. وفي تركيا الحديثة، مثل العلويون قاعدة حركات اليسار العلماني وكذلك قاعدة لتأييد حزب الشعبي الجمهوري. وتلقت الطائفة وحركة اليسار ضربات قاصمة منذ الثمانينيات مع اتجاه الحكومة المركزية لدعم اليمين السني المحافظ.

**** ينتسب النورسيون إلى بديع الزمان النورسي (1873-1960) صاحب حركة النور ورسائل النور، أما السليمانيون فينتسبون إلى سليمان حلمي توناخان (1888-1959) وقد عارض الحركتان بقوة إصلاحات أتاتورك.

* بعد الهزائم المروعة التي منيت بها الدولة العثمانية أمام جيوش والي مصر محمد علي في حروب الشام (1830-1840)، وتدخل القوى الأوروبية لإنقاذها ووقف الزحف المصري على عاصمة السلطنة، اتجهت النخبة العثمانية في استانبول بقيادة الصدر الأعظم مصطفى رشيد باشا لإعادة هيكلة السلطنة قانونيًّا وتعميق سياسات الإصلاحات التي بدأها السلطان محمود الثاني للحفاظ على أقاليمها في مواجهة تمردات الداخل وضغط القوى الأوروبية، وعرفت هذه السياسات التي بدأت عام 1839 وانتهت بإقرار أول دستور عثماني عام 1878  بالتنظيمات الخيرية وكان أهمها إلغاء السلطنة لنظام المليات/ الطوائف الدينية واعتمادها حق المواطنة العثمانية لجميع رعاياها. وتمثل التنظيمات أول خطوات علمنة السلطنة التي وصلت ذروتها بسياسات الاتحاد والترقي ثم سياسات مصطفى كمال التي ألغت السلطنة ثم الخلافة الدينية 1924.

* الواسب WASP: اختصار لمصطلح Wight Anglo-Saxon Protestant البيض البروتستانت الأنجلوساكسون وهو تعبير ارتباط باليمين الجمهوري والديني الأمريكي والذي يعتبر أن هذا العنصر هو أصل الولايات المتحدة وأن بقية الأجناس دخلاء عليها. وبالتالي، تصبح إشارة غول إلى أتراك العدالة والتنمية باعتبارهم التعبير الصادق عن جوهر الشعب التركي.

* تولى بدر الدين دالان  Bedrettin Dalan  عمودية بلدية استانبول الكبرى في الفترة (1984-1989) وكان قياديًّا بحزب تورغوت أوزال الوطن الأم. وشهدت المدينة في عصره نهضة كبيرة على مستوى البنية التحتية والمواصلات وإعادة تنظيم المناطق العامة بتحالف مع الشركات الخاصة. واتهمته حكومة أردوغان بالضلوع في قضية أرجنيكون ورفضت الحكومة الألمانية ترحيله إلى تركيا للمحاكمة بناء على طلب أنقرة.

* امتد عصر التوليب في تاريخ الدولة العثمانية من عام توقيع معاهدة باسروفيتس 1718 بين الدولة العثمانية من ناحية وإمبراطورية الهابسبورج وجمهورية البندقية من ناحية أخرى بعد هزيمة الأولى عسكريًّا حتى تمرد بطرونا خليل 1730. وتميزت هذه الفترة التي حكم فيها السلطان أحمد الثالث والصدر الأعظم الداماد إبراهيم باشا  بتوجه النخبة العثمانية نحو أوروبا حيث انتشرت أنماط الترف والاستهلاك الأوروبي التي كان رمزها زهور التوليب والتي استخدمت كعنصر زخرفي وجمالي مميز في الفن العثماني وأصبح شعارًا مميزًا للنخبة. وعبرت الفترة عن أو صدام بين التغريب والتقاليد في الدولة، وشهدت إدخال أو مطبعة إلى الدولة العثمانية على غير رغبة فئات العلماء. أما بطرونا خليل (1690-1730)، فقد كان انكشاريا وبحارًا وتاجرًا ألبانيًّا قد أتباعه من الانكشارية الأرناؤوط الثائرين ضد نخبة التوليب حيث نجح في عزل السلطان أحمد وقتل الداماد إبراهيم وعين السلطان محمود الأول. وبعد شهرين من التمرد نجح تحالف من السلطان الجديد وقائد الانكشارية وشيخ الإسلام في القضاء على تمرد خليل حيث تم قتله مع 7000 آلاف من أتباعه.

* وصل التوتر بين جماعة كولن وأردوغان إلى حد التصادم والقطيعة في الفترة الأخيرة من حكم العدالة والتنمية. فعلى الرغم من التحالف والاندماج الذي تناوله توغال، اتجهت الأمور مع تصاعد النزعة التسلطية لأردوغان حيث وجد مع اتجاهه للهيمنة على كامل مؤسسات الدولة أن جماعة كولن بتوغلها في الأجهزة القضائية والأمنية والبيروقراطية بالإضافة إلى أذرعها الإعلامية قد أصبحت دولة داخل الدولة. وأخذ الصراع بين الطرفين محطات كثيرة باستهدافات قضائية وقانونية استهدفت رجال الحكومة والجماعة الأقوياء على نحو متبادل كما استغلت فيها الحركات الشعبية المعادية لنظام أردوغان (حركة جيزي بارك- 2014) وكذلك أسلحة الانتخابات.

[1] مع ذلك، كانت هناك منافسة بين المجموعات الإسلامية حول من سيملك الصوت الواحد نهائيًّا، لذا كان هناك مجال من الأصوات الإسلامية بدلاً من السلطة الإسلامية الواحدة. (Tuğal 2006).

[2] تتضمن النسخ الغربية (Lerner (1967 وLewis) )1961.

[3]  جادل أندرو دافيسون (Andrew Davison (1998 ضد كل من سرديتي (منظور “التأسيس” ومنظور “السيطرة”) بالقول بأن الفصل والسيطرة لم يكونا أهدافًا متصارعة في عقول المحدثين الأتراك. وبافتراض أن السياسات العلمانية تتشكل من عالم متماسك من المعاني، قام دافيسون بقراءة تأويلية فيها. وبشكل محدد، جادل بأن الكماليين سنوا الفصل بين الدين والتعليم والدين والقوانين، بطريقة من شأنها أن توسع هيمنتهم على المجتمع. لقد سمح لهم الفصل بين الدين والسياسة وخصخصة الدين لهم بأن يزيحوا المعارضة في الدخل وأن يمنحوا الجمهورية الجديدة الشرعية بالخارج باعتبارها بلدًا متغربًا في الخارج. وفيما يقدم دافيسون اجتهادًا بالغ التعقيد، فإن حله لتأطير التوازن بين الانفصال والسيطرة باعتبارهم متماسكين داخليًّا يطرح بعض الإشكالات. وأجادل هنا بأنه ينبغي امتلاك تصور أفضل عن تعقيدات وآليات العلمنة التركية إذ ما اقتربنا إليها من خلال أدوات حوارية، بدلا من تلك التأويلية، لاستكشاف تعدد الأصوات والصراعات، والتي تبدو في بعض الأحيان وبإدراك متأخر، أنها تمتزج في كلٍ منطقي، و”ثقافة” كاملة.

[4] للاطلاع على الأمثلة الأفضل، انظر

Armağan (1997),; Cansever (1997) and; Özdenören (1998.(

[5] للاطلاع على الخط الشعبوي، انظر؛

Özyol (1999).

[6] تم التعبير عن هذه الآراء في

Kutlu (1995); Sezal (1992).

[7] للاطلاع على تفاصيل عن انخراط الاتحاد الأوروبي في الشؤون التركية، انظر؛

Keyder (2004, p. 78).

[8] Mehmet Metiner, “Dünden Bugüne Tayyip Erdoğan,” Radikal İki, 6 July 6, 2003.

[9] تم الانتهاء من هذا الفصل في ديسمبر 2010. ومنذ ذلك الحين، أصبح حزب العدالة والتنمية، (أو يبدو أنه في طريقه لأن يصبح) أكثر إسلاموية في حدود إطاره المحافظ (على سبيل المثال، وسع الحزب من التعليم الديني ووضع قيود أكثر على الكحول). أيضًا أصبحت التوترات بين قياداته وكولن (والتي أشير إليها في نهاية الفصل) أكثر علانية. مثل هذه التطورات أدت إلى تدهور في التأييد الليبرالي والفكري للحزب، إذ أن هذه القطاعات أكثر ارتياحًا للمحافظية التي يمثلها كولن (على الرغم من تسويغ الليبراليين العلني لهذا التحول في التأييد يتم تأطيره  بأسباب متعلقة بالتزام الحزض الضعيف بالديمقراطية وبعملية الالتحاق بالاتحاد الأوروبي بدلاً من التغير في الموقف السياسي الديني).

[10]   سيطر خليل على المدينة لفترة، قام بعدها السلطان بذبحه مع  7000 من الإنكشارية (Freely 1998, pp. 252–253). وعن التأثير الغربي أثناء عصر التوليب، انظر  Göçek (1987) .

[11]  للاطلاع على حجة أن سعيد فسر الإسلام على نحو إيجابي، انظر Mardin 1989)).