مجلة حكمة
المألوف

الغير مألوف في المألوف، أو نقد الحياة اليومية – عبد السلام ديرار


I – تحديد مفهوم “اليومي”:

يعتبر لفظ “يومي” من الألفاظ العربية الفصحى، وهو مشتق من اسم “يوم”، وفي معظم المعاجم العربية، نجد هذا اللفظ يرتبط بما يتم تكراره كل يوم دون انقطاع، فتم التمييز بناء على ذلك بين “اليومي” و”الأسبوعي” و”الشهري”…الخ. وهو نفس المعنى الذي يشير إليه لفظ “quotidien” في الفرنسية في كل المعاجم الكلاسيكية (quotidien : de tous les jours). كما أنه نفس المعنى تماما الذي يحمله اللفظ في الإنجليزية (quotidian : recuring every day).

أما كلمة “اليومي” في بعدها العلمي، فلا تكتسب المفهومية إلا ضمن فرع محدد من فروع السوسيولوجيا جد حديث هو سوسيولوجيا الحياة اليومية، لأن الاهتمام بالحياة اليومية كموضوع للسوسيولوجيا حديث النشأة بالمقارنة مع جوانب أخرى من الحياة الاجتماعية، هذا بالإضافة إلى كون السوسيولوجيا نفسها كعلم، حديثة بالمقارنة مع فروع أخرى من المعرفة الإنسانية. يقول إرفينغ غوفمان Erving Goffman الذي يعتبر اليوم من أبرز الوجوه الأمريكية المهتمة بالحياة اليومية “يوجد مجال حيوي لم يكن بعد موضوعا للدراسة العلمية بالشكل الكافي، وهو المجال الذي توجده التفاعلات وجها لوجه في الحياة اليومية، هذه التفاعلات التي تبنيها معايير للاجتماع والتواصل”(1). ومعلوم أن بحوث إرفينغ غوفمان شملت جوانب متعددة من الحياة اليومية بالمجتمع الأمريكي، كالعلاقات الطقوسية (اليومية) بين نساء الحانات والزبناء المدمنين، وما يطبعها من إشارات ورموز وحركات إغراء… وكل ما هو مألوف بين جدران الحانة ويلزم تحليله وتفكيكه حسب غوفمان، وكالتفاعلات الحاصلة في محطات انتظار الحافلة أو الميترو وما يحدث من استفزازات (عنصرية) بين الرجل الأسود مثلا والنساء الشقراوات أو العكس. ثم أشكال الحركات والإشارات التي تعتمدها التعبيرات الجسدية (سواء عند الرجل أو المرأة)…، وغير ذلك من جوانب الحياة اليومية المتداخلة في المدن الأمريكية الصاخبة، هذه الحياة اليومية التي يرى غوفمان أنها العلاقات التي تكونها مجموعة من الأشخاص والأشياء، هذه العلاقات التي تحكمها قواعد مقيدة (restrictives) أحيانا وغير مقيدة أحيانا أخرى، يمكن الوصول إليها(2).

يبدو “اليومي” في دلالته العلمية المبنية كمفهوم يشير إلى مجال هو مجال الحياة اليومية، هذا المجال الذي لا يمكن اختصاره في تعاقب زمني للحظات مختلفة (صبح، ظهيرة، عشية، مساء)، ولا في مجرد انتقال الإنسان من العمل إلى تلبية الحاجات الحيوية، إلى “راحة” واستكانة”. كما لا يمكن رده إلى ما يتم تكراره يوميا أو أسبوعيا، أو شهريا…الخ، ذلك أن مجال الحياة اليومية مجال جد شاسع لأنه يشمل كل جوانب المعاش يوميا في كل أبعاده الإنتاجية والسياسية والنقابية والثقافية والترفيهية… ويمتد ليشمل التافه والعادي… في السلوك اليومي والذي قد تكون له قيمة أساسية في تفسير وفهم العديد من الظواهر.

والخوض في الحياة اليومية ليس جديدا كل الجدة، كما لا يرتبط بنشأة سوسيلوجيا الحياة اليومية، بل اتخذ مكانة بارزة -ومنذ أمد بعيد- ضمن اهتمامات المؤرخين والفلاسفة والصحفيين، والأدباء والفنانين على الخصوص، إلا أن الجديد في اهتمام سوسيولوجيا الحياة اليومية هو السعي إلى بناء “اليومي” علميا.

II – اليومي والمعرفة العلمية:

يتضح من خلال تحديد مفهوم “اليومي” أنه مفهوم يشير إلى مجال جد شاسع، وبالضبط إلى ميدان متعدد الجوانب، تتداخل فيه كل أشكال النشاط الإنساني، خصوصا وأن الأمر لا يقف عند حدود الإنتاجي والسياسي والنقابي والثقافي… المباشر، لأن الحياة اليومية الخاصة لبنية اجتماعية-مجالية ما “لا تعبر عن نفسها بطريقة جد مستقيمة وواضحة. إنها مكونة من نكث وأفعال بسيطة جد متعددة. إنها مرتجة ومنفجرة. إن لها غموض الظلمة القاتمة”(3). وقد سبق لهنري لوفيفر Henri Lefebvre صاحب الدراسات الكلاسيكية حول الحياة اليومية(4) أن اعترف بالقول: “بلغة واضحة وصريحة، فالغموض خاصية من خاصيات الحياة اليومية، ويمكن أن تكون خاصية أساسية”(5). بمعنى أن اليومي ليس مكشوفا وعاريا على الدوام، بل هو مجال للإخفاء والتظاهر والنفاق والزيف والاستلاب والتعبير الغير مباشر عن المواقف والحاجات… يتضح ذلك حين نأخذ في الحسبان المكانة التي تحتلها اللغة في اليومي، واللغة محددة كل التحديد، ليصبح اللسان لا مجرد شرط للحياة الاجتماعية، بل نمطا لهذه الحياة(6) بما يعنيه ذلك من إكراهات خاصة بكل نمط تساهم في تحديد الملامح الأساسية للحياة اليومية بهذا المجتمع أو ذاك.

يزداد -إذن- اتساع مجال اليومي كلما تجاوزنا المعطى المباشر إلى نقده وتفكيكه. وإذا كان تفكيك الأفكار/النصوص يفضي إلى مشاريع فكرية/فلسفية، فإن ممارسة التفكيك هنا بصدد مكونات الحياة اليومية، أي ممارسة تفكيك الوقائع من شأنها بناء نظرة علمية عن اليومي والجوانب المكونة له والفاعلة والمنفعلة فيه. بل لا يقتصر الأمر على إعادة إنتاج اليومي نظريا ونقديا فقط، وإنما (وهذا جد أساسي) إرساء قواعد وأسس للحياة اليومية الصحيحة والخلاقة على دعائم علمية وموضوعية. ومن شأن ممارسة التفكيك على اليومي أن تكشف العجيب (l ‘extraordinaire) في المألوف، إذ “من أجل الهروب من القلق والتوتر، يشكل القناع والحيلة والنفاق عناصر مهمة في سيرورة الطقسنة. فإذا كان كل واحد يتقدم مقنعا، وإذا كان الملبس والمسرح لهما أهمية كبرى في بناء اليومي، فلأن ذلك يعني أن الحياة اليومية تلتقي مع المسرح إلى حد بعيد، وتلتقي مع ألعاب الطفولة بشكل أكبر”(7). وهنا تزداد أهمية النقد القادر على إزاحة الأقنعة وكشف الحجب حتى تتسنى معرفة وقائع الحياة اليومية وبنائها علميا، هذه المعرفة المرتبطة بمعرفة المجتمع ككل، إذ لا معرفة بالحياة اليومية بدون معرفة للمجتمع ككل، ولا معرفة بالحياة اليومية، ولا بالمجتمع، ولا بوضعية الأولى في الثاني، ولا للتفاعل الحاصل بينهما دون نقد جذري لهما معا(8). إن جوانب الحياة اليومية متشابكة ومتكاملة، وعلى هذا الأساس تفهم الصعوبات الإضافية التي يتحدث عنها السوسيولوجيون المختصون في دراسة اليومي، لأنه لا مجال لشيء اسمه “ثانوي” أو “هامشي” في الحياة اليومية لبنية اجتماعية-مجالية ما أو لشريحة اجتماعية ما، بل إن “الثانوي” في مجال اليومي قد يكون فاعلا ومحددا. و”إنه لمعروف جدا في قرية أو في حي أن إغلاق مقهى أو دكان لأبوابه [والذي قد يبدو ثانويا] يعني شيئا من الحياة وقد توقف”(9).

وليس هذا التقدير لـ”الهامشي” و”الجزئي” و”الثانوي” حكرا على سوسيولوجيا الحياة اليومية، بل إن كارل ماركس كان قد أقام مشروعه العلمي بناء على دراسة أشكال الحياة اليومية في المجتمع البورجوازي. يقول لنين في هذا الصدد:” إن ماركس في كتابه رأس المال يحلل أولا كل ما هو بسيط، وكل ما هو مألوف، وأصلي، وكل ما هو متواتر عند جميع الناس في الحياة اليومية، وكل ما نلاقيه في كل حين… وإن تحليله يكشف في هذه الظواهر الأولية كل تناقضات (أو بذور تناقضات) المجتمع الحديث”(10).

إن اليومي يشكل -إذن- كلا متكاملا يطلب من الباحث السوسيولوجي أن يبنيه دون إغفال أو تجاهل لأي مكون من مكوناته قد يكون محددا. ففي دراسة مشهورة لجلبير إتيان Gilbert Etienne حول التحولات التي شهدتها الحياة اليومية للفلاحين بالريف الصيني في الستينات والسبعينات بفعل تزويد البادية بالماء/مفتاح الاقتصاد القروي، يتضح بشكل جلي الترابط العضوي بين كل جوانب الحياة اليومية، إذ بدل الفراغ الذي كان سائدا قبل مجيء الماء، وما ينتج عنه من تضخم للنقاشات السياسية العقيمة، والحضور المكثف للرجل بالبيت وآثاره على العلاقة بين الرجل والمرأة…، تحولت الحياة اليومية بعد تزويد البادية بالماء إلى نشاط دائم بات معه وقت الفراغ مطلبا في العديد من الحالات، فالوقت أصبح موزعا بين تصريف مياه السقي وتقديم الأعلاف للمواشي، ثم تنظيف الإسطبلات (علما بأن تربية الماشية مرتبطة بقدوم الماء)، ثم جمع المحاصيل، فالحرث، فزراعة النباتات العلفية… وهكذا. مما كان له كبير الأثر على جدية وواقعية النقاشات بخلايا الحزب الشيوعي، وعلى علاقة الرجل بالمرأة، وعلاقتهما معا بالأطفال، وعلى العادات المنزلية، وعلى كل جوانب الحياة اليومية بالريف الصيني(11). وإن ذلك ما يفسر كون اليومي هو موضوع رهانات متضاربة.

III – الرهانات حول “اليومي” ونقده:

يقول هنري لوفيفر في معرض تحليله للحياة اليومية التي تعمل الطبقات السائدة من أجل تكريسها وإعادة إنتاجها، وتلك التي يعمل من أجل تأسيسها وتجديرها كل من اكتسب وعيا بزيف الأولى ولا إنسانيتها: “إن الصراع بين الحياة اليومية كما تريدها البورجوازية وتلك التي يطالب بها ويسعى الإنسان المعاصر بكل قواه إلى تحقيقها، إن هذا الصراع هو الذي مزق كيركغارد (Soren Kierkegard). وصورين كيركغارد حل هذا الصراع بطريقته الخاصة أو بطريقة جد سيئة. إن هذا الحل المأساوي لصراع داخلي يحمل في علم النفس -دون أن يصل علماء النفس دائما إلى الجذور التاريخية، الاجتماعية والإنسانية للصراعات الفردية- اسم “عصاب القلق”(12). ومهما اختلفنا مع لوفيفر حول تفسير “كلية اليأس وشموله وكونه أعدل الأشياء قسمة بين الناس” و”كلية القلق وشموله” عند كيركغارد، وموقع ذلك ضمن فلسفته الوجودية الخاصة المرتبطة أشد ما يكون الارتباط بمزاجه السوداوي الذي يرجع إلى صحته السقيمة وتكوينه الجسدي الشائه من جهة، وبخياله العجيب وعبقريته الفذة ومزاجه الساخر من جهة أخرى، فإن ذلك لا يلغي قيمة اتخاذه كمثال للكشف عن أشكال الإحباط والاكتئاب، بل والضياع التي يحياها الإنسان ضمن المجتمع البورجوازي. وكثيرة هي الدراسات المعاصرة في علم النفس وعلم النفس الاجتماعي وعلم الاجتماع التي تؤكد العلاقات الثابتة بين الرأسمالية وتدمير العلاقات العاطفية/ الإنسانية والإحباط والعنف والاكتئاب ومحاولات الانتحار.

فاليأس الكامل والشك والعذاب والألم والخوف الذي سقط فيه كيركغارد، رائد المذهب الوجودي يجد تفسيره بالنسبة لـ: لوفيفر في الرهانات حول اليومي، لأن الطبقات السائدة تهدف إلى جعله مجرد انتقال الإنسان من العمل (إن توفر) إلى تلبية الحاجيات الحيوية، ثم إلى “الراحة” و”الاستكانة” بطريقة محددة. ويتم تقديم هذا النمط على أساس أنه النموذج الأمثل، علما بأن “الراحة” و”الاستكانة” يتم التحكم فيهما وتوجيههما ضمن فضاءات محددة تضمن “التكييف”(13). إلا أن الحياة اليومية يمكن أن تكون مسارا واعيا للإنسان، أي أنها يمكن أن تكون معرفة بالواقع حتى يمكن اتخاذ ذلك المسار الواعي فيه، وبالتالي تغييره أو العمل والسلوك في اتجاه ذلك التغير. هنا تصبح الحياة اليومية فعلا وليست مجرد انفعال، وهنا أيضا، تبرز الأهمية القصوى للحياة اليومية لشرائح اجتماعية محددة كالمثقفين أو المالكين للرأسمال الرمزي، لا لوصايتهم على باقي الطبقات كما أعتقد البعض، ولكن نتيجة مسؤوليتهم في “تلقيح” اليومي بالفكر النقدي والمساهمة في إزاحة الستائر عن الواقع وتركيز مظالمه في شعور الطبقات المستضعفة بشكل يجعلها تحيا هذه المظالم باستمرار ويجعل هذا الشعور من محاور حياتها اليومية. ومن جهة أخرى، نتيجة كون المثقفين يشكلون نخبة في علاقة مع فئات اجتماعية جد حساسة (طلبة، متعلمون…)، وهنا تطرح قيمة نموذجية (قدوة) النخبة التي ترتكز على الجاذبية والإغراء الذي تمارسه بعض القيم التي تقدمها أو تعبر عنها بمجموعة من الرموز، وقد يتعلق الأمر بقيم معروفة ومنتشرة في المجتمع، أو بالعكس، بقيم جديدة أو في إطار التشكل(14). وهنا بالضبط، تتحدد النقطة البؤرية في الرهانات المناقضة للأولى حول اليومي.

والحديث عن اليومي كمسار واع لا يعني أبدا أن للإنسان إرادة حرة بدرجة المطلق وأن سلوكاته قد تكون كلها محسوبة/مبرمجة بالعقل، بل إن العقل لا ينفصل عن اللاعقل، ويدان العقل اليوم لا من حيث كونه مفرطا في العقلانية، بل يدان كذلك على أنه غير معقول(15). والحديث هنا عن العقل في أرقى مستوياته، أي العقل وهو ينتج المعرفة العلمية بالخصوص. أما مجال الحياة اليومية فيعرف حضور الرومانسي والخيالي والوهمي والوجداني والعاطفي والعدواني والطقوسي…، ولا يستقيم إلا باللعب. وهذا ما دفع الباحثين في الحياة اليومية إلى التأكيد على أن لا استقامة ولا نضج ولا إيجابية للعمل دون استقامة البعد الترفيهي لأنهما يشكلان وحدة لا انفصام فيها على اعتبار أنهما يكملان أحدهما الآخر. يقول لوفيفر في هذا السياق: “إن الترفيه لا ينفصل عن العمل. إن نفس الإنسان يستريح أو يتسلى أو يتصرف على طريقته بعد العمل. وكل يوم، في نفس الساعة يخرج العامل من المعمل، والموظف من المكتب…الخ، وكل أسبوع يكون السبت والأحد للترفيه في نفس انتظام العمل اليومي. يجب -إذن- إدراك وحدة “عمل-ترفيه” لأن هذه الوحدة موجودة. وعموما، كل واحد يحاول برمجة قسطه من الوقت بعلاقة مع ما هو عمله وما ليس إياه”(16). فالعلاقة بين الترفيه والحياة اليومية لا يمكن اختصارها في علاقة بسيطة في الزمان بين “الأحد” وكل الأيام الأخرى من الأسبوع، ممثلين كخارجيين ومختلفين لأن “الراحة” لا يمكن أن ترد إلى مجرد التوقف عن العمل إلا ضمن حياة مشتتة ومستلبة، وضمن تصور لا جدلي للحياة.

وللإشارة، فحديث لوفيفر هنا هو حديث عن مجتمع محدد هو المجتمع المهيكل أو المجتمع الحديث الذي أفرز آليات لتنظيم وقت الفراغ، بل للتحكم فيه وتوجيهه. فالمسارح والنوادي والمركبات الرياضية والملاهي الليلية ودور السينما وجمعيات ونوادي الصيد والقنص، والسيرك والحدائق العمومية والنزه المنظمة والمعارض بكل أصنافها، ونوادي تعليم الرقص الكلاسيكي والعصري وفضاءات السهرات الغنائية…الخ، كلها آليات للمجتمع الحديث (المهيكل) للتحكم في وقت فراغ الجماهير وتوجيهه. إذ كل فرد يجد ضالته في واحدة منها. وإذا كان العديد منها يبدو بريئا وفي خدمة العموم، بل منها ما لا يمكن تجاهل أهميته الاجتماعية (المسارح، المعارض الفنية…)، فإنها تلتقي كلها في كونها توجه للتحكم في وقت فراغ العامل والموظف والتاجر والطالب…، وتقلص من وقت فراغ “حر” قد يكون فرصة للنكتة أو لما هو غير نمطي(17). “فالمدينة تمثل أكبر حلقة في الجحيم البشري” كما وصفها جان جاك روسو(18)، باعتبار أن الإنسان في المدينة يعيش تمزقات وصراعات (الوقت، تشابك العلاقات الاجتماعية وتشابك المهام، الإغراءات والإحباطات…)، ومن شأن هذه الوضعية أن تكون لها ردود أفعال يتم امتصاصها من خلال التحكم في جوانب الحياة اليومية وتنميطها.

أما في المجتمعات غير المهيكلة، يلجأ السلطان المركزي (Le pouvoir Central) إلى آليات للتكييف شبه مباشرة. ففي المجتمعات العربية مثلا، حيث الضعف المهول للتجهيزات الأساسية الحديثة المختصة في تنظيم وقت الفراغ، تعتبر ظاهرة “المقهى” الفاعل الأساسي في هذا الإطار إلى جانب منصات الملاعب الرياضية، علما بأن هذه الأخيرة محدودة على مستويين: على مستوى الفئات الاجتماعية التي تلجها وعلى مستوى الزمن، إلا أن هذا لا ينقص من أهميتها لأنها تغطي يوما مركزيا من أيام الأسبوع، بل حساسا إلى أقصى الحدود هو يوم “الأحد”.

وإذا كانت الملاحظة العادية وحدها كفيلة بتأكيد أن “المقهى” بهذه المجتمعات العربية ما يزال حكرا على الرجل رغم بداية تكسير هذه القاعدة بشكل خجول، نتيجة التمييز بين الرجل والمرأة، فإننا لن نجازف إذا افترضنا أن البحث العلمي في جوانب الحياة اليومية للمرأة بهذه المجتمعات سيفضي لا إلى كشف الغرابة في المألوف فقط، بل إلى تطوير المعرفة العلمية نفسها ما دام الباحث سيجد نفسه هنا أمام ظواهر تخص نصف المجتمع تتشكل بين الأسوار وبكر بكل معنى الكلمة من حيث الدراسات العلمية.

وتعتبر ظاهرة “المقهى” بالنسبة للرجل في المجتمعات العربية شبه إجبارية كمجال لقضاء وقت الفراغ، ما دام العامل والموظف البسيط والطالب والعاطل… الخ قد لا يجد بديلا عنه في الغالب. والملاحظة العادية وحدها أيضا كفيلة بالكشف على أنه بالمقهى ينقسم الزبناء إلى فئات متعددة (عمرية، مهنية…) تسقط كل منها في تكرار أفعال محددة تسمح -من خلال الشكل الذي تجري به والمساحات الزمنية التي تغطيها- بافتراض أنها تحول أصحابها إلى جماعات مرضية أو شبه مرضية على الأقل، خصوصا حين نأخذ في الاعتبار ما يصاحب ذلك من إقبال جنوني على التدخين في العديد من الحالات: هناك مقاهي “متخصصة” في لعب الورق بكل ألوانه، تلجها شرائح محددة، وتشتهر أخرى بألهوة الكلمات المتقاطعة، وأخرى بمن يلهثون وراء الثروة بدون مقدمات! من خلال الرهان على الخيول أو الفرق الرياضية أو حتى الأرقام الرابحة! وأخرى بمن يكرس حميمية علاقة روادها الإدمان المشترك على المخدر، كما تعرف أخرى بمجموعات خاصة تخوض في نقاشات ذات طابع نقابي و/أو سياسي إلا أنه نتيجة تكرارها، قد تتخذ طابعا طقوسيا…الخ. وقد تختلط الأفعال بنفس المقهى في العديد من الحالات، إلا أن الذي يظل مشتركا هو صفة التكرار. والتكرار مرادف لليأس والتمزق والضياع، بل إن “كرر” تحيل إلى “أنكر” الزمان، إنها علامة اللازمان(19). ذلك ما قد يؤكد البحث العلمي في الحياة اليومية أن أغلب الشرائح الاجتماعية بالمجتمعات العربية تحياه في غياب هياكل حديثة لاستقطاب الإنسان خارج وقت العمل. وعموما فإن العديد من مظاهر الجنون واستفحال الجريمة وتعاطي المخدرات والخمر بشكل جنوني، وغيرها من مظاهر الهروب من الواقع التي أصبحت تطفو على السطح بالعديد من هذه المجتمعات قد تجد تفسيرها في جزء مهم منها في كونها أشكالا مرضية/ انهزامية لحل الصراع بين أنماط الحياة اليومية كما تريدها الفئات السائدة، وتلك التي يسعى إليها الإنسان في هذه المجتمعات. هذا الإنسان الذي لم يتردد في بناء آمال وأحلام (مشروعية) على حياة ما بعد الاستعمار المباشر ظلت في الغالب دون تحقيق.

استنتاجات:

من جهة أولى، نعود للقول إن الخوض في اليومي ليس حكرا على السوسيولوجيا، لأن الروائي مثلا قد يصيغه بلغته الخاصة ونمطه الثقافي المتميز في شكل أكثر جاذبية. ونفس الشيء بالنسبة لرجل المسرح/المبدع. وإن قارئ الأعمال المشهورة لإميل زولا أو ماكسيم غوركي يلاحظ كون اليومي يشكل موضوعا خصبا للعمل الروائي. وفي الأدب المكتوب بالعربية، يمكن للقارئ أن يكتشف في رواية مثل “كوابيس بيروت” لغادة السمان قدرة الرواية على نقد الحياة اليومية (وللإشارة فرواية “كوابيس بيروت” رصدت جوانب الحياة اليومية لشرائح اجتماعية مختلفة ببيروت خلال الحصار الإسرائيلي المشهور عليها). ونفس الشيء بالنسبة لرواية “مدن الملح” لعبد الرحمان منيف في تعاملها مع جوانب الحياة اليومية المتناقضة لمجتمع الجزيرة العربية في المرحلة الراهنة.

أما سوسيولوجيا الحياة اليومية، فتعمل من أجل بناء اليومي علميا من خلال الصغير جدا (le minuscule) في الحياة اليومية، ومن خلال التافه والعادي جدا الذي قد لا يثير اهتمام فروع أخرى من المعرفة، انطلاقا من كون السوسيولوجيا عموما قد تخلت نهائيا عن “دراسة المجتمع” لصالح دراسة الوقائع. والتافه والعادي والبسيط هي الوقائع الفعلية للحياة اليومية التي يلزم أن ينصب عليها التحليل لفهم البنية الخفية للواقع(20). كما أنه لا معرفة بالمجتمع بدون معرفة نقدية لمظاهر الحياة اليومية كما تتموقع داخل تنظيمها وكبتها، داخل ممارستها للقمع والكبت في المجتمع عبر تاريخه، والمألوف والتافه هو مجال هذا القمع وهذا الكبت، إلا أنه ينجح على الدوام في إخفاء طابعه لألفته. فالعديد من العلاقات داخل البيت مثلا (وهي موضوع غني لسوسيولوجيا الحياة اليومية) قد يطبعها عامل اللاعقلانية، وتسودها الامتثالية والعنف والسلطة، إلا أنه نتيجة لألفتها، فهي تخفي طبيعتها/حقيقتها، وهنا تكمن أهمية البحث السوسيولوجي في الكشف عن العجيب/الغير مألوف في المألوف.

ومن جهة ثانية، إذا كانت نشأة سوسيولوجيا الحياة اليومية قد ارتبطت بدراسة جوانب الحياة اليومية الصاخبة بالمدن الأمريكية على الخصوص، فإن تفكيك المألوف في الحياة اليومية التي تبدو رتيبة قد يكشف عن ظواهر أكثر غرابة.

ومن جهة ثالثة، هناك ملاحظة نعتبرها أساسية بالنسبة للباحث في ميدان الحياة اليومية، وتتمثل فيما أصبح يلعبه الإعلام (المرئي على الخصوص) من دور بارز في توجيه اليومي والتحكم فيه، إلى حد أن بعض الدراسات المعاصرة في علم النفس تربط بين أشكال من الإحباط والاكتئاب والقلق التي تميز الحياة اليومية لفئات اجتماعية معينة، وبين أثر الصور الإعلامية.

وأخيرا نختم بملاحظة منهجية تفرضها طبيعة ظواهر الحياة اليومية المتشعبة والمتداخلة، والتي لا يمكن لتقنية من تقنيات البحث السوسيولوجي أن تدعي رصدها منفردة، فالمنهجية في العلوم الإنسانية بشكل عام ما تزال تعاني من النقص إلى حد يدفع البعض إلى الحديث عن علمية هشة فيها مقابل علمية صرفة في العلوم التجريبية، وبالتالي فالباحث السوسيولوجي في مجال الحياة اليومية مطالب بفتح حوار بين التقنيات والمناهج لاعتبارات متعددة: أولا لأن كل تقنية وكل منهج في حاجة إلى الآخر لتجاوز ضعفه وتقوية ذاته، وثانيا لتنوع جوانب الحياة اليومية التي منها ما يفترض الملاحظة المباشرة، ومنها ما يقبل المقابلة، ومنها ما يمكن ملامسته من خلال السير الذاتية، وأخرى تكون صعبة المنال بدون الاستناد إلى الملاحظة بالمشاركة…الخ. وثالثا، لكون التقنيات وإن تعددت، فإن ذلك ليس مرادفا للتشرد المنهجي، خصوصا حين يتعلق الأمر بظواهر متداخلة الجوانب أو الأبعاد يفترض كل منها تقنية خاصة لمقاربته كما هو الحال بالنسبة لظواهر الحياة اليومية.

 

مجلة الجابري – العدد الثالث عشر


الهوامش:

1 – Erving Goffman : La mise en scène de la vie quotidienne – Tome2 – les relations en public, les éditions de minuit collection: “le sens commun”, traduit de l’anglais par: Alain Kihm, Paris 1973, p.11.

2 – Erving Goffman: op. cit., p.12

3 – Michel Maffesolli: la conquête du présent, pour une sociologie de la vie quotidienne, PUF, Paris 1979, p.14.

4 – انظر على الخصوص:

– La vie quotidienne dans le monde moderne, collection idées, Gallimard, Paris 1968.

– Critique de la vie quotidienne, Tome I, Introduction Tome II, Fondements d’uen sociologie de la quotidienneté, Larche editeur, Paris 1961.

5 – Henri Lefebre: Critique de la vie quotidienne, Tome Iin op.cit., p.17

6 – Oswald Ducrot: Dire et ne pas dire, Herman 1972, p.4.

7 – Michel Maffesolli: op.cit., p.182

8 – Henri Lefebvre: Critique de la vie quotidienne, Tome II, op.cit., p.19

9 – Michel Maffesolli: op.cit., p.73.

10 – V.I. Lenine: Cahiers philosophiques, éditions socials 1955, p.280

11 – Gilbert Etienne: l’eau facteur clé de l’économie rurale en Chine . In: Etudes rurales, Laboratoire de l’anthropologie sociale avec le concour de : CNRS, Janvier-Juin 1984, n° 93-94, Edition de l’école des Hautes études en sciences sociales, Paris, pp.61-80.

12 – Henri Lefebvre: Critique de la vie quotidienne, Tome II, op.cit., p.153.

13 – Serge Moscovici: L’âge des foules, un traité historique de psychologie des masses, éditions complexes, Belgique (scorpion) 1985, p.37.

14 – Guy Rocher: Introduction à la sociologie générale, Tome 3, le changement social, édition: HMH, Ltée 1968, p.144.

15 – إدغار موران: من أجل عقل منفتح، ترجمة محمد سبيلا ضمنتساؤلات الفكر المعاصر، دار الأمان، الرباط 1987، ص 11.

16 – Henri Lefebvre: Critique de la vie quotidienne, Tome II, op.cit., p.38

17 – Serge Moscovici: Psychologie des minorités actives, PUF, Paris 1979, p.78.

18 – Jean Jacques Rousseau: in Reymond Ledrut: Sociologie urbaine, collection: SUP, Paris 1973, p.51.

19 – Michel Maffesolli: La conquête du présent, op.cit, p.96.

20 – Jean Claude Hauffman: la vie ordianire, voyage au coeur du quotidien, édition : Greco, Paris 1988, p.19.