مجلة حكمة
الضحك ضروري

الضحك ضروري: كيف حلّ الضحك معضلة إنسانية عويصة؟ – ايميلي هيرنق /ترجمة: إبراهيم الفواز


وفقًا للفيلسوف هنري برغسون، يحلّ الضحك معضلة إنسانية عويصة، كيف نبقي عقولنا و حيواتنا الاجتماعية مرنة

يسأل مقدم برنامج ألعاب مبتذل (جون كليز)، في مشهد قصير لفرقة مونتي بايثون الكوميدية عام 1970، متسابقة عجوز عكرة المزاج، و عنصرية، وغير متعاونة (تيري جونز) سؤالًا لا تعقل صعوبته. يجري الحوار على النحو الآت:

كليز: أي خصم بارز للثنائية الديكارتية يعارض اختزال الظواهر النفسية إلى حالات جسدية؟
جونز: لا أعلم!
كليز: حسنًا ، خمّني.
جونز: هنري برغسون.
كليز: هو الجواب الصحيح!
جونز: أوه، كان هذا من حظي. لم أسمع به من قبل!

كانوا أعضاء فرقة مونتي بايثون على دراية جيدة بتاريخ الفلسفة (وبعادات الشرب للفلاسفة الغربيين). لذلك لم يغب عنهم أن هذا الفيلسوف الفرنسي بالذات كان أيضًا مؤلفًا لمقال شهير يركز على ظاهرة يأخذها جميع الفكاهيون على محمل الجد: الضحك.

قبل برغسون،  لم يعر الكثير من الفلاسفة أي اهتمام للضحك. لُقب المفكر ما قبل السقراطي ديموقريطس بلقب “الفيلسوف الضاحك” لاعتناقه البهجة كطريقة للحياة. ومع ذلك،  نعرف عن أفكاره حول الذرّية أكثر مما نعرف عن أفكاره حول الضحك. وبالمثل، فإن قسم الكوميديا في كتاب الشعر لأرسطو لم يصلنا. ومن بين المفكرين الرئيسيين الآخرين الذين قدموا تأملات حول الفكاهة، والتي غالبًا ما تفتقد للفكاهة، توماس هوبز و رينيه ديكارت، الذين اعتقدوا أننا نضحك لأننا نشعر بالتفوق؛ إضافة إلى إيمانويل كانط وآرثر شوبنهاور الذين جادلوا بأن الكوميديا ​​تنبع من المفارقة. وهيربرت سبنسر وسيغموند فرويد الذين اقترحوا أن الكوميديين يقدمون شكلاً من أشكال التنفيس الذي نحتاجه بشدة (عن “الطاقة العصبية” والعواطف المكبوتة على التوالي). لم يكن برغسون مقتنعًا بهذه الآراء. كان يعتقد أن مسألة الضحك تستحق أكثر من عدد قليل من الاستطرادات. و على الرغم من أن نظريته احتفظت بعناصر من نظرية المفارقة و نظرية التفوق الفكاهيتين، إلا أنها فتحت أيضًا منظورات جديدة تمامًا حول المسألة.

يمكن لمونتي بايثون أن يفترضوا بأمان أن اسم برغسون سيبدو غامضًا لجمهور الناطقين باللغة الإنجليزية – يلعب المشهد على مفارقة قول السيدة العجوز لهذا الاسم الغريب من فراغ. ومع ذلك، عندما نُشر كتاب برغسون “الضحك: مقالة في معنى الكوميديا ​​(1900)”، نوقشت فلسفته في معظم الدوائر الفكرية، وبعد بضع سنوات، أصبح واحدًا من أشهر المفكرين في العالم. لماذا انحرف فيلسوف من هذا القبيل عن هواجسه الفلسفية الأكثر تقليدية وجدية – طبيعة الوقت والذاكرة والإدراك والإرادة الحرة ومسألة العقل -الجسد – للتركيز على الدراسات التافهة على ما يبدو للتهريج، و المسارح الهزلية والتلاعب بالألفاظ، وماذا يمكن كسبه من تحليل كهذا؟ كان الموضوع معقدًا. قال برغسون أن للضحك ” قدرة خاصة على خداع أي جهد، علي الانزلاق بعيدًا والهروب لينتهي بالظهور مرة أخرى، وهو تحدٍ مثير للتحليل الفلسفي”. كان الأمر تقريبًا كما لو كان هناك شيء غير طبيعي حول إخضاع واحدة من أكثر التجارب البشرية متعة وشيوعًا للتحليل الفلسفي الجاف. أي شخص اضطر إلى شرح نكته يعرف أن الكوميديا ​​لا يمكنها النجاة من هذا النوع من التحليل. كما قال المؤلفان الأمريكيان E B White و  Katharine S White  في عام 1941:

يمكن تشريح الفكاهة، مثل الضفدع، ولكن الشيء يموت في العملية، و [رؤية] الأحشاء تثبط عزم أي عقل إلا العقل العلمي البحت.

في حين أن كتابه عن الضحك لا يكاد يكون يسيرًا، لم يرغب برغسون في تبني موقف عالم التشريح الذي يدرس أحشاء الضفادع الميتة. كان يعتقد أن الضحك يجب أن يُدرس على أنه “شيء حي” وأن يعامل “باحترام الحياة”. لذلك كان تحقيقه أشبه بتحقيق عالم حيوان يدرس الضفادع في البرية:

يجب ألا نهدف إلى حبس الروح الهزلية في تعريف … لنقتصر على مشاهدتها وهي تنمو وتتسع.

مثل جميع علماء الحيوان المجازيين الجيدين، بدأ برغسون دراسته من خلال التعرف على الموطن الطبيعي للضفدع المجازي: وبعبارة أخرى، الظروف التي من المرجح أن يظهر فيها الضحك ويزدهر. باتباع هذه الطريقة، وصل برغسون إلى ثلاث ملاحظات عامة.

أُولاها، وفقًا لبرغسون ، كان “مهمًا” و “بسيطًا” لدرجة أنه فوجئ بأنه لم يجذب المزيد من الاهتمام من قبل الفلاسفة: “لا يوجد المُضحك ​​خارج حدود ما هو إنساني صرف”. عندما كتب برغسون هذه الكلمات، لم يكن بإمكانه أن يتنبأ أنه، بعد قرن من الزمان، من خلال قوة الإنترنت، سيتم تقديم أحد أكثر أشكال الكوميديا ​​شيوعًا بواسطة حيواناتنا الأليفة في شكل مقاطع فيديو شائعة و ميمات وصور متحركة. لكنّه توقّع ذلك، بطريقة ما، في ما كتبه عن الضحك الموجه إلى غير الناس:

قد تضحك على حيوان، ولكن فقط لأنك لاحظت فيه بعض التصرفات أو التعبيرات الإنسانية.

لنأخذ على سبيل المثال القطة الغاضبة الشهيرة (grumpy cat) (المتوفاة الآن للأسف). إن تكشيرتها الدائمة تجعلنا نضحك لأنها إنسانية نسبيًا. يكمن جوهر الكوميديا هنا ​​في أنها قطة تشبه الإنسان. وينطبق الشيء نفسه على الأشياء الجامدة التي تُضحكنا. قال ويل روجرز ذات مرة ، وهو راقص فودفيل أمريكي، ساخرا: “يمكن للبصل أن يُبكي الناس ولكن لم يوجد قط خضار يمكنه أن يُضحك الناس”. لكن عندما تتصفح الإنترنت و محتواه المليء بملايين الخضروات المأنسنة سواء اللائقة للمشاهدة في العمل أم لا، ستثبت أنه مخطئ. وفقًا لبرغسون، من الممكن أن نضحك على الخضروات والأشياء التي لا تُحس، ولكن بشرط أن نتمكن من ملاحظة الإنساني فيهم:

قد تضحك على قبعة، لكن ما تسخر منه، في هذه الحالة، ليس قطعة من اللباد أو القش، ولكن الشكل الذي أُعطي لها من قبل الناس، – النزوة البشرية التي قولبتها.

قد تبدو ملاحظة برغسون الثانية غير منطقية لأي شخص سبق و أن دمعت عينيه من نوبة ضحك لم يتمالكها: “لا عدو أشد للضحك من العاطفة”. لكن وجهة نظره كانت أن بعض الحالات العاطفية – الشفقة ، الكآبة ، الغضب ، الخوف ، إلخ – تُصعّب علينا إيجاد الفكاهة في الأشياء التي قد نضحك عليها (حتى الخضروات المأنسنة). نعلم غريزيًا عن وجود مواقف من الأفضل فيها الامتناع عن الضحك. من يختار تجاهل هذه القواعد غير المعلنة يعاقب فورًا، كما تعلم الكوميدي الأمريكي جيلبرت جوتفريد بأسف. بينما توقفت معظم البرامج الكوميدية الأمريكية عن الإنتاج في الأسابيع التي أعقبت الهجمات الإرهابية في 11 سبتمبر 2001، قدم جوتفريد حالة تقليدية لمزحة “أبكر من أوانها” أثناء عرض كوميدي ​​أقيم قبل نهاية الشهر:

يجب أن أغادر في وقت مبكر الليلة، لدي رحلة إلى كاليفورنيا. لا يمكنني الحصول على رحلة مباشرة – قالوا إنني يجب أن أتوقف عند مبنى إمباير ستيت أولاً.

وذكر الممثل الكوميدي لاحقًا: “لا أعتقد أن أي شخص فقد جمهورًا أكثر مما فعلت تلك اللحظة.” سيقول برغسون أن المخاطرة العاطفية كانت عالية جدًا بحيث لا تسمح بـ “التخدير اللحظي للقلب” الذي يتطلبه الضحك. لكي يحدث الضحك، يجب أن نحوّر منظورنا بحيث نجد أنفسنا في موقف “متفرج غير مبال”.

هذا لا يعني أنه من المستحيل الضحك في أوقات الشدة. في كثير من الحالات، يبدو أن الفكاهة تعمل كآلية للتكيف في مواجهة المأساة أو المصيبة. في عام 1999 ، بينما كان يُنقل من منزله على نقالة بعد أن طعنه معجب مجنون، سأل عازف فرقة البيتلز سابقًا جورج هاريسون موظفًا حديثًا: “ ما رأيك في الوظيفة حتى الآن؟ ” و على فراش موته زُعم أن فولتير أخبر كاهنًا كان يحثه على نبذ الشيطان: “هذا ليس وقتًا لخلق أعداء جدد”. وفقًا لمنطق برغسون، ربما تكون الفكاهة تنفيسًا في بعض الحالات لأنها تجبرنا على النظر إلى الأشياء من منظور منفصل.

وأخيرًا، يبدو أن الضحك “بحاجة إلى صدى” ، وفقًا لبرغسون. قدم منظرو التطوّر عدة فرضيات حول القيمة التكيّفية للضحك ، خاصة في سياق الروابط الاجتماعية. ربما ظهر الضحك كإشارة ما قبل لغوية للسلامة أو الانتماء لجماعة. يستمر الضحك والفكاهة في لعب دور مهم في جماعاتنا الاجتماعية المختلفة. و تشترك معظم البلدان والمناطق والمدن في مجموعة كبيرة من النكات على حساب جيرانها. على سبيل المثال، يسخر بلجيكي من مواطني بلدي، الفرنسيين، قائلًا: “بعد أن خلق الله فرنسا، رأى أنها أجمل بلد في العالم. و كان الناس سيشعرون بالغيرة، و ليعدل بين الناس قرر خلق الفرنسيين”.

لا يجب أن تكون النكات ذات طابع قومي أو حتى ازدرائي لخلق الروابط الاجتماعية. يشارك معظم الأصدقاء “نكتًا” من المفترض أن يتم فهمها فقط في سياق جماعتهم الاجتماعية الخاصة، كما تفعل بعض المجتمعات التي يجمعها فريق كرة القدم أو الآراء السياسية أو المعرفة المتخصصة المشتركة (“لم تكتئب الزوايا المنفرجة؟ لأنها لا تكون على حق أبدًا “)1. ضحكتنا “ضحكة جماعة دائمًا” ، كما قال برغسون. حتى في تلك الحالات عندما نضحك فعليًا لوحدنا، أو ربما على أنفسنا، فإن الضحك يفترض دائمًا وجود جمهور أو مجتمع مُتخيل.

تخبرنا ملاحظات برغسون أين نجد الضحك، وفي ظل أي ظروف من الممكن أن يظهر، لكنها لا تخبرنا لماذا نضحك. ومع ذلك، فإنها تقدّم لنا دلائل مهمة. ليست محض صدفة أن نضحك حصرًا على الناس الآخرين، وأن الضحك تجربة جماعية: غرضه ، أو “وظيفته” ، كما كتب برغسون ، اجتماعي. بالإضافة إلى ذلك، ليس من قبيل المصادفة أن الضحك يتطلب إيقاف مؤقت لعواطفنا: على الرغم من كونه ممتعًا، إلا أن الضحك هو قبل كل شيء عقابي. ولكن ما الذي يعاقبه الضحك، أو من الذي يعاقبه، وكيف يفعل ذلك؟ لفهم منطق برغسون، نحتاج إلى انعطاف سريع لاستكشاف فلسفة الحياة عنده.

بعد أقل من عقد على نشر “الضحك”، انتقل برغسون إلى إحدى القضايا الملحة آنذاك: التطور الأحيائي. يصف برغسون في رائعته التي تصدّرت قوائم المبيعات “التطوّر الخلّاق”(1907)  الحياة بأنها حركة متغيرة باستمرار وخلّاقه (أي منتجة لأشكال جديدة تمامًا وغير متوقعة) وعفوية. بهذا المعنى، تظهر الحياة عكس الاتجاهات الآلية للمادة الجامدة التي تتميز بالصلابة وسهولة التنبؤ بها والتكرار. في الوقت نفسه، تتشابك الحياة والمادة بشكل لا ينفصم. يصف برغسون الحياة، مجازًا، بأنها “جهد”، “دافع حيوي” يسعى باستمرار إلى التحرر من قيوده المادية من خلال الابتكارات التطورية المعقدة. ومع ذلك، قال برغسون، “غالبًا تقصر هذه الجهود عن تحقيق مرادها”. على مدى تاريخ الحياة، انقرضت الكائنات الحية التي فشلت في التكيف مع التحديات البيئية. سواء على المستوى الفردي أو على مستوى الأنواع ، يعتمد البقاء على قدرة الكائنات الحية على إظهار “مرونة معينة” ، وقدرة تكيف كافية لإيجاد طرق لتخطي العقبات المادية.

كانت هذه الأسئلة حاضرة في ذهن برغسون عند كتابته كتاب “الضحك”. تصوّر الكوميديا ​​والضحك الذي تثيره، كحل معقد لمشكلة إنسانية معينة. وكنتيجة للتطور البيولوجي، كانت المجتمعات البشرية معنية أيضًا بالصراع بين الاتجاهات الحيوية والمادية (أو الآلية). كتب برغسون أن الحياة الاجتماعية تتطلب “تعديلًا دقيقًا للإرادة” و “التكيف المتبادل” المستمر بين أعضاء الجماعة. لذلك يحتاج المجتمع من أعضائه أن يظهروا “أكبر درجة ممكنة من المرونة والاجتماعية”، ويحتاج إلى حماية نفسه من “جمود معين في الجسم والعقل والشخصية”. هذه التعابير المتحجرة عن الحياة البشرية، وفقًا لبرغسون، هي مصدر الكوميديا​​، لأن هذا هو بالضبط ما يسعى الضحك إلى تصحيحه. بدلاً من تعريف الكوميديا، وصل برغسون إلى “ثيمة متكررة”، خيط مشترك يجمع أشكالًا مختلفة من الكوميديا: بشكل عام، نحن نضحك على “شيء آلي يتلبّس الأحياء”. بعض الأمثلة ستساعد في توضيح هذه النقطة.

يسير رجل في الشارع، ثم ينزلق ويسقط. ترتفع الأصوات بالضحك. لم تكون الأخطاء الفادحة من هذا النوع دائمًا مضحكة؟ وفقا لبرغسون، فإن الطبيعة اللاإرادية للعمل هي التي تجعلنا نضحك. تشير العثرات، والخطافات، والزلات، والأخطاء الفادحة، والخمول العام إلى انعدام التنوع والوعي على حد سواء: “حيث يتوقع المرء أن يجد قابلية التكيف مع الأناقة والمرونة الحية للإنسان” ، نجد بدلاً من ذلك “لا مرونة آلية معينة”.

تأمل مشهدًا من الفيلم الكلاسيكي Modern Times (1936) الذي يلعب فيه تشارلي شابلن دور عامل مصنع يعيش رتابة خط تجميع. حتى خارج المصنع، يواصل ربط البراغي الخيالية شاردًا، عالقًا في الحركة المتكررة التي كان ينفذها طوال اليوم. في مصطلحات برغسون، هذا مضحك لأننا نرى شخصًا يتصرف بعادات متأصلة بعمق على الرغم من أن الظروف تتطلب خلاف ذلك. في حالة الأخطاء العرضية وفي الكوميديا ​​الهزلية المصممة بعناية، نحن نضحك على الشخصيات التي تفتقر إلى “المرونة”، والتي تتبع آليًا مسارًا محددًا مسبقًا وبالتالي تفشل في التكيف مع محيطها.

يفسر هذا سبب اعتماد العديد من أفلام الحركة على مجاز “المار الغافل” للتنفيس الفكاهي: شخصية (عادة ما ترتدي سماعات الرأس) غير مدركة تمامًا للحدث المذهل الذي يقع خارج مدى بصرها: الأمثلة الأخيرة تشمل نادلة غافلة عن مبارزة سحرىة تجري في مقهاها في Harry Potter and the Deathly Hallows: Part 1 (2010) وعاملة مكتب لا تلاحظ رجلًا يحاول تسلق مبنى خارج نافذتها في Mission: Impossible – Fallout (2018). شخصية أخرى متكررة هي الأستاذ الساهي: شخصية منغمسة جدًا في أفكارها لدرجة أنه يفقد الانتباه إلى محيطه – على سبيل المثال، عالم الفلك في حكاية إيسوب الذي سقط في بئر أثناء التحديق في سماء الليل، أو غريب الأطوار دكتور إيميت براون في سلسلة Back to the Future (1985-90). من إيسوب إلى  تشابلن و)ما دونهما)، شخصيات تفتقر إلى الوعي، سواء بمحيطها أو بنفسها، هي عناصر أساسية من الكوميديا ​​لأنها تجسّد ما يسعى الضحك إلى تصحيحه: أوجه القصور في “مرونة العقل والجسد” التي تمكننا من التكيف مع المواقف الراهنة.

في مشهد رائع من كوميديا الأخوين ​​ماركس Duck Soup (1933)، نرى شخصتين (يمثّلهما هاربو وجروشو ماركس) يرتديان ملابس متطابقة، في جانبي مرآة مفقودة. يقلّد هاربو كل تحركات جروشو، لخداعه في أنه ينظر إلى انعكاسه الخاص. وفقًا لبرغسون، يستهدف الضحك الحالات التي يبدو فيها أن الحياة قد فقدت حيويتها واتّخذت، بدلاً من ذلك، منطق المادة والآلات. على سبيل المثال، وفقًا لبرغسون، بطبيعتها، لا تتكرر الحياة أبدًا. لن يكون هناك كائنان حيان متطابقان حقًا (حتى التوائم لا يشتركان في نفس التجارب). لذلك ، “عندما يكون هناك تكرار أو تشابه كامل ، نشتبه وجود آلية”، كما يكتب، وعندما يأخذ هذا التكرار، بطريقة أو بأخرى، شكلًا إنسانيًا، فإننا (ربما) في حضرة المُضحك. كلا التشابه الصدفي (على سبيل المثال، التشابه الغريب بين الممثل آدم درايفر وقطة إنترنت أخرى) وانتحال الشخصية الماهر مضحكين لأنهما يذكراننا بالنسخ المنتجة آليًا. يكتب برغسون أن “هذا الانحراف في الحياة تجاه الآلي” هو “السبب الحقيقي للضحك”.

عندما باركت الممثلة والكاتبة والمنتجة الإنجليزية Phoebe Waller-Bridge شاشات التليفزيون بموسم ثان من Fleabag في عام 2019، تدافع النقاد لقول أنها أعادت ابتكار الكوميديا ​​(لا سيما من خلال تقديم نوع جديد من كسر فوقي للجدار الرابع). برغم ذلك، نجد أن أحد أطرف المشاهد في الموسم هو نكتة عن إخراج الريح. وفقًا لبرغسون، ليس من المستغرب أن الكثير من الأدوات الكوميدية تركز على الجسم (ووظائف الجسم). تكمن القيمة الكوميدية للفكاهة التي تتمحور حول الجسد (مثل فكاهة المرحاض والتلميح الجنسي) كما قال برغسون، في حقيقة أن “انتباهنا يُسترجع فجأة من الروح إلى الجسد”. إن تعطّل الوظيفة الجسدية (يتصوّر برغسون “متحدثًا عامًا يعطس في أكثر اللحظات المثيرة للشفقة من خطابه”) أو التورية الجنسية، تركز انتباهنا على قيودنا المادية. يظهر الجسد على أنه “سترة ثقيلة ومرهقة … تحمل روحًا متلهفة للارتقاء عالياً”.

ومن المثير للاهتمام أن برغسون يرى أن هذا المنطق ينطبق أيضًا على التلاعب بالألفاظ. تقوم العديد من أشكال التلاعب بالألفاظ على أخذ العبارات التي نقولها مجازًا بشكل حرفي (“لدي قلب أسد ، وحظر مدى الحياة من حديقة حيوانات تورونتو”). من خلال تحوير معنى استخدام الكلمات السائدة و معناها، تكشف لنا هذه النكات ما هو “جاهز الصنع”، ما هو معتاد، وبالتالي آلي، حول اللغة. وبعبارة أخرى، فإن التلاعب و التلميح يفضح الحدود المادية والصلابة الآلية للغة. سواء في حالة جسم الإنسان أو “جسم” اللغة، فإن الصلابة المقصودة تتعارض مع المرونة وقابلية المرونة والتكيف التي تتطلبها الحياة، وخاصة الحياة الاجتماعية.

يتساءل عارض الأزياء ديريك زولاندر، (الذي مثّله بين ستيلر في فيلم يحمل اسمه عام 2001)، في لحظة نادرة من التبصر: “هل فكرت يومًا أنه ربما في الحياة ما هو أكثر من كونك وسيم حقًا، حقًا، حقًا، بشكل يثير التعجّب؟”، الغرور هو واحد من أكثر السمات المضحكة. و كما يؤدي نقص الوعي بالمحيط المادي للمرء إلى إصابات جسدية (غالبًا ما تكون مُضحكة)، فإن الهوس غير الصحي بالنفس، كما يرى برغسون، يشير إلى نقص في الوعي بالآخرين، مما قد يؤدي بدوره إلى الإضرار بالمجتمع. إن هذا الضرر طفيف، وبالتالي، يكتب، يتطلب ترياقًا طفيفًا:

إن الغرور، بالرغم من أنه نتاج طبيعي للحياة الاجتماعية، يخل براحة المجتمع، تمامًا مثل بعض السموم الطفيفة، التي يفرزها الكائن البشري باستمرار، التي ستدمّره على المدى الطويل إذا لم يتم تحييدها بواسطة إفرازات أخرى. يقوم الضحك بهكذا عمل بلا كلل.

بعبارة أخرى، وفقًا لبرغسون، يخدم الضحك وظيفة اجتماعية: الغرض منه هو تصحيح هذه المواقف “غير المريحة” اجتماعياً بلطف ولكن بحزم. نحن نضحك على الأشخاص شديدي الغرابة أو غير المرنين للسماح للمجتمع بالتطور وتحسين نفسه. وبهذا المعنى فإن الضحك عقابي:

يعلّق المجتمع على كل فرد، في جميع الأحوال، إن لم يكن التهديد بالتصحيح، فإحتمال الهجر، والذي على الرغم من أنه طفيف، ليس أقل رهبة. يجب أن تكون هذه وظيفة الضحك.

لكن بالنسبة لبرغسون، لا يعاقب الضحك حصرًا المواقف التي نعتبرها مستهجنة. إن جار هومر سيمبسون النزيه، نيد فلاندرز (في مسلسل الرسوم المتحركة The Simpsons)، هو دليل على أنه حتى الفضيلة يمكن أن يُسخر منها عندما يتم تصويرها كشكل من أشكال التزمّت. ينبّهنا الضحك إلى عدم مرونة سمات أو سلوكيات شخصية معينة، وبذلك، يثنينا عن أن نكون متزمتين بطرقنا الخاصة.

اشتكى منتقدو برغسون من أن نظريته الفكاهية مقيدة للغاية، وأن وصفه المتكرر للمُضحك ​​بأنه ” شيء آلي يتلبّس الأحياء ” يصبح مثيرًا للضحك بمصطلحاته الخاصة، لمحاولته تقييد ظاهرة معيشة معقدة وعفوية في نفس الصيغة الجامدة . لكن برغسون زعم ​​أن هذه الصيغة، بدلاً كونها تعريفًا واضحًا، كانت عبارة عن “ثيمة متكررة”: تكوّن تمثيلات الحياة الآلية خيطًا مشتركًا في العديد من أشكال الكوميديا ​​المختلفة. لم تستبعد نظريته أننا قد نضحك على أشياء ليست آلية بشكل واضح، ولا أن الآلي قد لا يكون المصدر الوحيد للضحك. ما يهم برغسون هو فهم الضحك كمنتج وجزء من الحياة.

من خلال إعطاء الكوميديا ​​الاهتمام الذي تستحقه، مهّد برغسون لمنظورات جديدة حول الأسئلة الفلسفية الصعبة حول العلاقة بين علم الأحياء والفن، وتطور المجتمعات البشرية، وإنسانيتنا. أدرك الفيلسوف أن الضحك لا يبرز دائمًا أفضل ما لدينا – يمكن استخدامه للسخرية من الآخرين وتحقيرهم. ولكن في صلبه، وظيفته هي تذكيرنا بأن تكون إنسانًا يعني أن تكون حياً وحراً. لذلك رفع كتاب بيرغسون عن الضحك شأن المسألة التي غالبًا ما اعتبرت غير جديرة بالدراسة الفلسفية الجادة. في “السيرك الطائر” لمونتي بايثون عام (2008)، كتب الباحث السينمائي دارل لارسن عن نظرية برغسون: “يبدو أنها كانت مؤثرة في فرقة مونتي بايثون” لأنه من خلال تقديم نظرية للضحك، رفع الموقّر برغسون دراسة الكوميديا ​​إلى مستوى أكاديمي أعلى يستحق البحث في الأعمال التي تبحث في الاستطيقا وفلسفات أشكال الفن. يفاجأ كليز (ممثلًا دور مذيع)، في مشهد قصير آخر، بالبث و هو في منتصف حديثه موضحا أنه يلتزم “بفكرة برغسون للضحك كعقوبة اجتماعية ضد السلوك غير المرن”. ربما كانت هذه هي طريقة مونتي بايثون لتكريم برغسون: على الرغم من سخفها، كانوا يعتقدون أيضًا أن الكوميديا ​​يجب أن تؤخذ على محمل الجد.

المصدر


[1]  كلمة right التي تعني “زاوية قائمة”، تعني أيضًا “محق”