مجلة حكمة
اللغة وتصميمها

اللغة وتصميمها

الكاتبنعوم تشومسكي
ترجمةإبراهيم الكلثم

محاضرة ديلهي، كانون الثاني/يناير 1996م.

أجدني حائرًا بين إغرائيين. الأول هو الحديث عن مجموعة من الأسئلة الهامة التي طُرحِت توًّا[1]. والآخر هو الحديث عن الموضوع الذي طُلب مني الحديث عنه، وهو موضوع مختلف. أود الحديث حول السؤال الذي طرحه البروفيسور أغنيهوتري (Agnihotri) للتو، لكن قد يكون من الأفضل لو أجلنا ذلك إلى المناقشة.

هل تسمعوني؟ ربما لا يمكنكم سماعي.

(جزء من الحضور): لا.

إذا قلتم: «لا»؛ فإذن يمكنكم سماعي.

الجواب المختصر لسؤال العلاقة بين الموضوعين هو: نعم بالفعل، أنا مهتم بكليهما. يتعلق أحدهما باللغة بوصفها عضوًا أحيائيًا – واضح للغاية بأنها كذلك – وهذا، أعتقد، يقدِّم الكثير حول جوهر طبيعة البشر. الموضوع الآخر يتعلق بحياة الإنسان ومشكلاتها واستعمال اللغة كأداة استغلال… إلخ. لكن في المجال الثاني، لا يوجد أي شيء معروف له عمق، على حد علمي. قد يتظاهر أناس بأن ثمّة عمقًا ما، وقد يجعلونه يبدو مُقعَّدًا، هذا هو عمل المثقفين. لكن حقيقة الأمر هي أن أكثر ما هو مفهوم لا يوجد إلا على السطح، ويسهل الوصول إليه على أي حال.

العلم نشاط فـي غايـة الغـرابـة، يكـون ناجعًا للمشكلات البسيطة فحسب، حتى العلوم الصلبة، عندما تذهب إلى ما وراء البنيات البسيطة، تصبح وصفيّة للغاية. على سبيل المثال، إذا وصلت إلى دراسة الجزيئات الكبيرة؛ فإن أغلب ما تقوم به هو وصف الأشياء. الفكرة التي تقول بأن التحليل العلمي المُعمَّق يخبرك بشيء حول مشاكل البشر وحياتنا وعلاقاتنا الداخلية مع بعضنا بعضًا… إلخ، هي في الأعم الأغلب ادعاء واهِم في رأيي، ادعاء يخدم ذاته، وذلك بدوره أداة للسيطرة والاستغلال يجب أن تُجتنب. بكل تأكيد يتحمل المتخصصون مسؤولية جعل الناس يصدقون بأن لهم معرفة خاصة من نوعٍ ما لا يُمكن للآخرين الوصول إليها من دون طرق معينة أو تعليم جامعي خاص أو أيًّا يكن. إذا كانت الأمور بسيطة؛ فيجب أن تُقال ببساطة، وإذا كان شيءٌ ما جديًا بمعنى أنه ليس بسيطًا؛ فلا بأس، هذا جيد ومشوق. ربما يُمكننا العثور على إجابات عميقة لأسئلة محددة تتعلق بشكل مباشر بقضايا تهم الإنسان وتعنيه، لكن نادرًا ما يحدث ذلك. على أي حال، هذا رأيي، لذا فأنا مهتم. بكلا الموضوعين[2] وأقضي جلَّ وقتي وجهدي عليهما، لكن لا يبدو بأنهما يتداخلان.

دعوني أتحدث عن المجال الذي تكون فيه وبشكل مفاجئ مقاربة البحث العقلاني (أي: مقاربة العلوم الطبيعية) تبدو بالفعل بأنها تقودنا إلى مكان ما في دراسة الكائنات الحيَّة المعقَّدة، أعني مجال اللغة الإنسانية. هذه واحدة من مجالات عمل الإنسان المعقَّدة القليلة حيث يمكننا أن نعثر فيها ظاهريًا على أشياء مُفاجئة – وربما حتى عميقة – أشياء من تلك الأشياء التي يُمكنك العثور عليها من خلال دراسة جوانب أخرى قليلة في العالم الطبيعي. لا يوجد العديد منها، لكن يوجد البعض، ويبدو بأن هذه إحداها، أو آمل أن تكون كذلك.

ما أودُّ القيام به هو أن أرسم خطوطًا عريضة لبضع مراحل أخيرة لبـرنامجٍ بحثي يعود إلى زمنٍ بعيد. أريد أن أتدرج بالحديث حتى أصل إلى الأمور الجاريـة في السنوات القليلة الماضيـة في ما أصبح يُسمى بـ «البرنامج الأدنوي». سأذكر شيئًا حول افتراضاته ودوافعه المُؤسسة، وبعض الاتجاهات المُتَّبعة، وعلاقة كل هذا بأسئلة كلاسيكية في دراسة الذهن واللغة. بالكاد سأتمكن من ملامسة الموضوع الأخير، يمكنني الحديث عنه إذا رغبتم ذلك طالما أن هذه الأسئلة لا زالت حاضرة وبقوة. سرعان ما تصبح الدراسة اللسانية نفسها تخصصية جدًا، لكن سأبقى عند الخطوط العريضة. لكن، أقولها مرة أخرى، إذا أردتم وأردتن ذلك؛ فسوف أتحدث بشكل موسَّع عن بعضِ الأجزاء التخصصية.

أولًا: هذه بعض الافتراضات المؤسِسة. هي مألوفة إلى حد بعيد، واعتقد بأنها مُتبنَّاة على نطاق أوسع مما يظنه العديد من الناس. لا أعتقد بأنها محصورة بهذا البرنامج. عادة ما تُتبنى ضِمنيًا، لكن إذا كنّا نحاول بحث الموضوع بجدية، فمن الأجدى إظهار ما هو مُفترض ضِمنيًا. القول بأنها مألوفة وشائعة لا يعني القول بأنه يجب أن تُتبنى بلا فحص نقدي، هذا أبعد ما يكون عن الصواب. عندما تُفكرين بهذه الافتراضات، ستجدينها مُفاجئة من عدة نواحٍ، وبالتالي مُثيرة للاهتمام، إلى درجة أنها مقبولة على جميع الأصعدة التجريبية.

أوَّل هذه الافتراضات هو وجود مَلكة لُغوية، بمعنى أن ثمّة جزء ما في الذهن – الدماغ مُخصص للمعرفة واستعمال اللغة. هذه وظيفة محددة للجسم، هي شيء قريب من عضو لغوي، مُماثل تقريبًا للجهاز البصري الذي هو أيضًا مخصص لمهمة مُعينة. الآن، هذا افتراض، لكن هناك أدلة معقولة على صحته. 

توجد فضلًا عن ذلك أدلة معقولة تدل على أنها خصيصة فعلية للنوع البشري بمعنيين. في البداية، يبدو بأن ثمّة اختلافات قليلة جدًا عبر النوع البشري، بصرف النظر عن الحالات المرضية الجادة. على نِطاق شديد الاتساع، تبدو الخصائص الأساسية للمَلكة قريبة إلى حد التطابق. وهي من هذه الناحية لا تختلف عن الجهاز البصري. مع هذا، هي تختلف عن الجهاز البصري البشري باعتبار آخر، حيث تكون فيها خصيصة للنوع البشري[3]، تحديدًا، تظهر على أنها خاصة بالنوع البشري. لا يبدو بأن ثمّة شيئًا مُطابقًا (أي: من الناحية الأحيائية) أو حتى مماثلًا – وهي خصيصة أضعف – مع أنواع قريبة أخرى.

إذا أردتم وأردتنَّ العثور على متشابهات لخصائص المَلكة اللُغوية في عالم الحيوان، يُمكنكم أن تجدوا بعضًا من ذلك، حتى وإن كانت مختلفة أشد الاختلاف، لكن لهو أمر مثير للاهتمام أن أكثر الأنظمة تشابهًا توجد في الحشرات أو في الطيور حيث لا وجود لأصل تطوري مشترك على الإطلاق، فيما يتعلق باللغة. لكن إذا ذهبت إلى كائنات حية (=عضويات) حيث يوجد أصل تطوري مُشترك – الرئيسيات على سبيل المثال – ببساطة لا وجود لأي تشابهات مُثيرة للاهتمام، مما يعني أن المَلكة اللغوية تبدو معزولة أحيائيًا بطريقة غير متوقعة ومُثيرة للفضول.

لقص حكاية مُتخيَّلة عنها، نقول: كان هناك حيوان رئيسي أعلى يتجول قبل زمنٍ بعيد، وحدثت طفرة عشوائية من نوعٍ ما – ربما حدثت بعد وابل أشعة كونية غريب – وأعادت تنظيم الدماغ، زارعة العضو اللُغوي في دماغ الحيوان الرئيسي. هذه حكاية، يجب ألّا تفهم حرفيًا. لكنها قد تكون أقرب للحقيقة من حكايات مُتخيّلة أخرى تُحكى عن العمليات التطوريِّة، من ضمنها اللغة.

لنفترض بأن هناك مَلكة لُغوية، وأن هذه المَلكة اللغوية تشتمل على الأقل على نسق معرفي واحد، أي: نسق يخزن المعلومات. يجب أن توجد أنساق (=أنظمة) تبلغ هذه المعلومات: الأنساق الأدائية (=أنساق الإنجاز). الآن، ثمّة سؤالٌ واقعي يطلُّ برأسه: إلى أي حد تعتبر هذه الأنساق التي تبلغ المعلومات المُخزنة في المَلكة اللغوية جزءًا من المَلكة اللُغوية؟ بمعنى، إلى أي حد الأنساق الأدائية نفسها مخصصة للغة؟ خذ على سبيل المثال الأنساق الحسية الحركية، الأنساق النُطقية – الإدراكية التي تبلغ المعلومات المُقدمة لها من المَلكة اللُغوية. هل هي نفسها مخصصة للغة؟ هذا غير معلوم في الحقيقة. الافتراض في الغالب هي أنها مخصصة للغة إلى حد ما، وإلى حد ما هي ليست كذلك. هذا سؤال بحثي، صعب حتى على مستوى العمليات الحسية الحركية، وهناك بالتأكيد عمليات أكثر غموضًا. إلى حدٍّ ما على الأقل، تبدو الأنساق الأدائية جزءًا من المَلكة اللُغوية.

سؤال واقعي آخر حول الأنساق الأدائية هو فيما لو كانت تتغير أو لا. هل هي قارة وثابتة؟ أم تنمو بنفسها؟ ثمّة الكثير من الجدل حول جهاز اكتساب اللغة، لكن لاحظوا بأنه يركز على النسق المعرفي للمَلكة اللُغوية. ذلك يتغير بكل تأكيد. المعلومات المُخزنة في المَلكة اللُغوية تتغير طوال الحياة، مُتحدث الهندية ليس متحدث الإنكليزية، لذا فثمّة شيءٌ ما قد تغير من حالة مُشتركة. هل تغيرت الأنساق الأدائية؟ لا أحد يعلم الكثير حول ذلك، مع أنها أسئلة صعبة وهامة عندما يفحص أحدهم الموضوع عن كثب. عادة ما يفترض البحث اللساني الفعلي الافتراض الضمني المُبسط أن هذه الأمور لا تؤثر بدراسة اللُغة ودراسة لُغات مُعينة. سيكون هذا غريبًا للغاية فيما لو صح؛ لذا فهو خاطئ على الأغلب. اُفترض هذا بناء على جهل؛ لا نعلم بأنه خاطئ. عندما لا تعرف شيئًا عن موضوع ما، ستفترض أبسط الافتراضات. أبسط الافتراضات تقول بأن ذلك صحيح على الرغم من أنه لا يُمكننا التأكد منه. قد نكتشف في وقتٍ قريبٍ أو بعيد أن نمو الأنساق الأدائية يجب أن يندمج بشكل أكبر في دراسة النسق المعرفي للمَلكة اللُغوية، لكن لا نستطيع معرفة ذلك حتى هذه اللحظة، لذا لنضعه جانبًا.

لنركِّز انتباهنا الآن على ما يُمكننا النظر فيه، أي: النسق المعرفي للمَلكة اللُغوية الذي من المؤكد بأنه يغير من حالته. حالته المُشتركة المُحددة وراثيًا لا تُطابق الحالات التي يتخذها في ظروف مختلفة. إمّا بسبب عمليات إنضاجية داخلية، أو بسبب تجربة خارجية طبعًا. هذا ما نُسميه: «اكتساب اللُغة». يُسمى أيضًا: «التعلُّم»، لكن هذا مصطلح مُضلل أشد التضليل؛ لأنها تبدو وكأنها عمليَّات نمو أكثر منها ما نُسميه بحق «تعلُّم». تضع طفلًا في موقف حيث المحفِّز المناسب متوفر، واكتساب اللُغة شيء يحدث له. الطفل لا يفعل أيّ شيء، إنها أشبه بعملية النمو إذا توفر لك الطعام. لذا تبدو كأنها عملية نمو، وتشابه بالأحرى الجهاز البصري الذي أيضًا يُمكنه اتخاذ حالات مُختلفة اعتمادًا على التجربة.

يُمكننا أن نكون في غاية الاطمئنان أن الحالات المختلفة التي تصل إليها المَلكة اللُغوية تختلف فقط في الصيغة الظاهرة، وأن كل واحدة منها تحددها المَلكة اللُغوية المُشتركة. السبب خلف هذا الاعتقاد مباشر وفي غاية الوضوح. ببساطة، التجربة ذات العلاقة بالموضوع محدودة جدًا. يُمكننا أن نتحقق من التجربة المتاحة، يمكننا النظر فيها ورؤية ما هي. سرعان ما سيبدو واضحًا مباشرةً بأنها محدودة للغاية، ومُتشظية بحيث لا يُمكنها فعل أي شيء عدا تشكيل شكل موجود قبلًا على نحو محدود[4].

ما يُثير الاهتمام – على نحو غير مفهوم – أن هذه النتيجة تُعتبر خلافيّة جدًا في موضوع المَلكات الذهنية، على أن نفس النتيجة تعتبر واضحة وبديهية في كل عمليات النمو الأخرى. خذ أي عملية نمو أخرى، مثلًا حقيقة أن الجنين ينمو له ذراعان وليس جناحين، أو خذ مثالًا لما بعد الولادة: أن الناس يبلغون في سنٍ معينة. لو أن شخصًا قال أن هذا كان بسبب التجربة، سيضحك الناس عليه. لذا لو أن شخصًا قال: إن طفلًا يبلغ بسبب – مثلًا – ضغط جماعي (الآخرون يفعلون ذلك؛ إذن سأفعل ذلك أنا أيضًا)، سيعتبر الناس هذا سخيفًا، لكنه ليس أسخف من اعتقاد أن نمو اللغة نتيجة التجربة.

في الحقيقة، يُعتبر من ناحية ما أقل سخافة. لا يُعرف الكثير حول ما يدفع كائنًا حيًا إلى إنماء ذراعين – مثلًا – أو جناحين أو البلوغ عند سن مُعيّنة، أو – أهم من ذلك كله – الموت (تقريبًا) عند سن معينة. كل هذه خصائص مُحددة وراثيًا، لكنها ليست مفهومة تمامًا. لكن دائمًا ما يُفترض بأنها مُحددة وراثيًا، وكل البحوث في علم الأحياء تأخذ هذا كمُسلَّمة، لسبب معقول جدًا: إذا نظرت في الشروط البيئية التي يتحقق فيها النمو، ببساطة لا توجد معلومات كافية لتوجيه عملية مُحددة للغاية ومنظمة بدقة. لذا تفترض – بعيدًا عن التفسيرات الخرافية – أن ذلك موجَّه توجيهًا داخليًا.

نفس الحجة تنطبق على المَلكات الذهنية. حقيقة أن هناك أشخاصًا لا يقبلون هذه الحجة، تعود إلى ترسبات لشكل لا عقلاني ما لثنائية الذهن والجسد التي يجب أن تُتجاوز. في الحقيقة، في حالة اللُغة، نعرف حتى شيئًا عن خصائصِ الحالةِ الذهنيةِ. لذا، بمعنى ما، حالتنا هنا أفضل من موضوع الذراعين والجناحين والبلوغ وما إلى ذلك. هذه مجموعة الافتراضات الأساسية.

يُمكننا أن نعتبر اللُغة ليست أكثر من حالة للمَلكة اللُغوية. هذا أقرب شيء ممكن لمفهومٍ يُقدِّمه لك البحث النظري في اللُغة، لمفهوم اللُغة البَديهي[5]. لذا لنعتبر لُغة ما (الهندية أو الإنكليزية أو السواحلية مثلًا) حالة محددة حققتها المَلكة اللُغويّة. والقول بأن فلانًا يعرف لغة ما، أو عنده لُغة ما، يعني ببساطة القول أن مَلكته اللُغويّة في تلك الحالة، تُقدِّم اللُغة – بهذا المعنى – تعليمات إلى الأنساق الأدائية.

السؤال التالي هو: كيف تفعل ذلك؟ هناك افتراضٌ آخر يطلُّ برأسه: تفعل ذلك من خلال ما يُسمى بـ «التعبيرات اللُغويّة (=اللسانية)». كل تعبير لُغوي هو مجموعة لخصائص. لو عبَّرنا عن ذلك بمفرداتٍ تخصصية نقول: أن اللُغة تولِّد مجموعة لا متناهية من التعبيرات؛ لهذا السبب نُطلق على النظرية اللغوية: «النحو التوليدي»[6]. عادةً ما يُفترض أن الأنساق الأدائية تُصنَّف تحت صنفين لا غير، يبلغان نوعين مختلفين من المعلومات: على وجه التقريب، الصوت والمعنى. لديك تمثيلات معينة للصوت، وتمثيلات معينة للمعنى. أصل هذا الافتراض يعود إلى آلاف السنين، علينا الآن أن نجعله أكثر ظهورًا. تمثيلات الصوت تبلغها الأنساق الحسية – الحركية، وتمثيلات المعنى (يجب علينا توضيح ما نعنيه بذلك): تستخدم المعلومات والتعبيرات للحديث عن العالم، ولطرح الأسئلة، وللتعبير عن الأفكار والمشاعر… إلخ.

يُمكن تسمية الأنساق التي تبلغ تمثيلات المعنى الأنساق «التصورية – القصدية»، حيث المقصود بالـ «قصدية» هو المصطلح الفلسفي التقليدي لهذه العلاقة الغامضة للـ «عنيّة»: أشياء عن شيء ما. لذا الأنساق التصورية – القصدية – التي غالبًا ما تكون غامضة – هي أنساق تبلغ جوانب تعبيرية مُعينة تُمكنك لفعل ما تفعله باللغة: التعبير عن أفكارك، أو التحدث عن العالم، أو أيًا كان ذلك.

الآن، الافتراض القائل أن هناك نَسَقي بلوغ لا غير، نسقين أدائيين، هو – مجددًا – مفاجئ. أُفترض ذلك من دون مُساءلة فاحصة منذ بدايات دراسة اللغة قبل آلاف السنين، عادة [ما يُفترض ذلك] ضمنيًا بلا نظر مُدقق. لكن إذا أردتم بحث الموضوع بجدية، فعليكم أن تجلبوه إلى السطح، وعندما تفعلون ذلك، ستلاحظون بأنه افتراضٌ في غاية الغرابة. في الحقيقة، نحن نعرف حتى بأنه خاطئ. منذ وجود لغة الإشارة ونحن نعلم أن في إمكان أنساقٍ أخرى غير الأنساق النطقية – الإدراكية بلوغ معلومات المَلكة اللُغوية. لذا لا يُمكن أن يكون [هذا الافتراض] صحيحًا حقًا بالمعنى الذي يُفترض به في العادة. لكن – مجددًا – يُفترض بأنه صحيح؛ لأنكم لا تعلمون حقًا بأنه افتراضٌ خاطئ من الأساس وسأواصل افتراضه هنا.

إذن، هناك أنساق حسية – حركية تصل إلى جانب من جوانب التعبير، وهناك أنساق تصورية – قصدية تصل إلى جانب آخر من جوانب التعبير، مما يعني أن تعبيرًا ما يجب أن يمتلك نوعين من الموضوعات الرمزية كأجزاء منه. يُمكن اعتبار هذه الموضوعات كشيء قريب من الوَجيهة بين المَلكة اللُغوية والأنساق الأخرى للذهن – الدماغ. حتى الآن، وصلنا إلى افتراضات تجريبية بعيدة المدى عن هندسة الذهن، لكن تبدو مقبولة وذات أساس جيد للمتابعة. 

مع توفر خلفية تأسيسية كهذه، فسيكون لديك أسس لبرنامج جدِّي في البحث التجريبي: محاولة اكتشاف مبادئ وبنيات العضو اللُغوي، ومحاولة معرفة ما نوع الحالات التي يُمكنه تحقيقها (أي: اللغات المعينة)، ما هي التعبيرات التي تولِّدها اللغة، وكيف تبلغ الأنساق الأدائية المختلفة إلى هذه التعبيرات؟.

هذه كلها أجزاء فرعية من حقل أعم للبحث التجريبي، أجزاء جديدة فُتحت ليُبحث فيها بطرق جديدة في الأربعين أو الخمسين سنة الماضية. ثمّة أجزاء نعرف عنها شيئًا، وأجزاء أخرى لا نعرفها عنها أي شيء. أعتقد بأن الدراسة نفسها أشبه ما تكون بدراسة الجهاز البصري، الذي يُمكن أن تُطرح عليه أسئلة مشابهة. وعلى ذكر هذا الموضوع، يُمكنك أن تقول بأنها أشبه ما تكون بالكيمياء التي تحاول معرفة ماهية طوب بناء عالمنا، ما بنياتها ومبادئها الحاكمة… إلخ. [البحث] له شكل جزء معتاد من العلوم الطبيعية. هذا غير اعتيادي؛ لأنه صادف أن يكون حول مَلَكات الإنسان الذهنية التي في جزء كبير منها تقع في ما وراء الدراسة الجادة. هذه تحديدًا وبشكل غريب لا تبدو وراء هذا المستوى، وذلك جانب من جاذبيتها.

في هذه المرحلة، تطل أسئلة أساسية برأسها حول المشروع البحثي بأكمله، أسئلة عن – أتحدث بشكل تقريبي – كيفية تعلق اللغة بجوانب أخرى من العالم. هذا جانب واحد من العالم، العضو اللُغوي: كيف يتعلَّق بجوانب العالم الأخرى؟.

الآن، هذه الأسئلة متجذِّرة بعمق غائر في التراث الفكري الغربي على الأقل (سأقتصر عليه؛ لأنه حدود معرفتي). هذه أيضًا مواضيع حيَّة في الفلسفة المعاصرة. وتتخذ عادة صياغة من صياغتين: تتخذ إحداهما صيغة السؤال التالي: (ما يُسمى على نحو تقريبي سؤال المادية أو المذهب الفيزيائي المادي أو مشكلة الذهن – الجسد أو أيًا كان) كيف يُمكن لخصائص المَلكة اللُغوية أن تتحقق في العالم المادي؟ الصياغة الثانية التي تتخذها تطرح على شكل سؤال يُسمى عادة سؤال التمثيل أو القصدية (العنّية): سؤال كيف تمثِّل الجمل الواقع، كيف تحيل الكلمات إلى الأشياء. هذا هو الجانب الثاني من سؤال العلاقة بين اللغة والعالم.

الآن، برأيي، فلقد أُسيء فهم كلا السؤالين من الأساس، ووجدت إساءة الفهم تلك منذ وقتٍ طويل. ثمَّة الكثير ليقال حولها، مما له علاقة بفلسفة العقل المعاصرة والأفكار التراثية كذلك. لا أعتقد بوجود أي سؤال ذهن – جسد معقول ومتماسك، لا أعتقد بوجود واحد منذ نيوتن على الأقل. وسؤال التمثيل مبني على مقارنة خاطئة، كما أظن[7]. على أي حال، سأعود لهذا إذا أردتم ذلك. سأضعه جانبًا وأقول فقط بأن هذا هو إطار العمل في الفكر التراثي الذي تقع فيه الكثير من البحوث.

دعوني أعود – لضيق الوقت – إلى السؤال الأدق للبحث في العضو اللغوي. خذوا هذه الافتراضات التي ذكرتها. قبل ما يقارب الأربعين عامًا، في بدايات النحو التوليدي الحديث، بدأ فحص استشكالات داخل هذا النطاق بطريقة أكثر جدية مما كان ممكنًا في الماضي، ويعود السبب في ذلك جزئيًا إلى تطورات العلوم الصورية. ثمَّة خصيصة لغوية هامة فُهمت بشكل بديهي لزمن طويل. في إحدى الصياغات الكلاسيكية لها، قيل بأن اللغة تتضمن استعمالًا لا محدودًا لوسائل محدودة، بمعنى، أن الذهن محدود بشكل واضح، لكن هناك عددًا لا محدودًا من التعبيرات في مقدور الشخص إتقانها واستعمالها.

هذه حقائق واضحة والسؤال هو: كيف يُمكن أن تستعمل استعمالًا لا محدودًا لوسائل محدودة؟ لم يكن هناك حقًا إجابة عامة وواضحة لهذا السؤال حتى بداية هذا القرن. عند منتصف القرن، قادت نظرية التحسيب وإنجازات مختلفة أخرى إلى إجابة في غاية الدقة عن بعض جوانب السؤال على الأقل.

سمح هذا بالرجوع إلى الأسئلة القديمة وإعادة صقلها بشكل يُمكِّنك من محاولة الإجابة عليها. لقد كان الأمر أشبه ما يكون بالتقاء القضايا التراثية لدراسة اللغة مع التطورات الجديدة للعلوم الصوريَّة، الالتقاء الذي وضَّح الأفكار الأساسية. أتاح اجتماع هذين الأمرين إمكانية فتح مجال النحو التوليدي.

وسرعان ما أصبح واضحًا بأن هناك إشكالية كبيرة. لم يكد يبدأ البحث في النحو التوليدي حتى ظهر تصادم بين نوعين من المتطلبات التجريبية. سُمّي أحد هذين المُتطلبين بـ «الكفاية الوصفية»: أن تُقدم وصفًا دقيقًا لظاهرة اللغة الإنكليزية أو الهندية أو غيرهما. بمجرّد ما بدأ البحث الجاد، بدا من الواضح تلقائيًا بأن كُتب القواعد والقواميس الشاملة والمُفصلة – قاموس أكسفورد الإنكليزي وكتاب من عشرة مجلدات لقواعد اللغة الإنكليزية… إلخ – لا تلامس إلا السطح[8]. كل ما فعلته هو إضافة إشارات تُمكِّن الشخص الذكي بطريقة ما من الحصول على معلومات حول اللغة، اعتقدوا بأنهم واصفون للغة، لكنهم لم يكونوا كذلك مطلقًا: كانوا سطحيين للغاية. بمجرد ما بُذل جهد لتقديم صيغة دقيقة لما هي خصائص التعبيرات حقًا، سرعان ما اكتشف أن – حتى بالنسبة إلى بنيات في غاية البساطة في أفضل اللغات التي تمت دراستها – الكثير ما زال مجهولًا ببساطة، ولم يكن ذلك ملحوظًا حتى.

من أجل محاولة التعامل مع تلك المشكلة بدا من الضروري افتراض وجود آليات في غاية الـتعقيد للتراكيب النحوية المختلفـة، وللخصائص الداخلية المختلفة للغة وبالتأكيد عبر اللغات. الدليل التجريبي لذلك كان غامرًا، لكن كان واضحًا أيضًا أن النتيجة لا يُمكن أن تكون صحيحة.

لا يُمكن أن تكون النتيجة صحيحة بسبب النوع الثاني من الشرط التجريبي الذي عُرف بـ «شرط الكفاءة التفسيرية»: مشكلة تفسير اكتساب اللغة[9].إذا كانت اللغة بذلك التعقيد والتفاوت والمعلومات المتاحة لمتعلم اللغة شحيحة للغاية (بالطبع، لا يكتسب الناس اللغة الفلانية أو اللغة العلَّانية وراثيًا)، وإلا كان اكتساب اللغة معجزة. وهو ليس بمعجزة، ليس إلا عملية طبيعية وعضوية. إذن النتيجة المذكورة عن تفاوت وتعقيد اللغة لا يمكن أن تكون صحيحة حتى وإن كانت النتائج تدفعك نحو ذلك الاتجاه. بعبارة أخرى، يجب أن تكون اللغات بطريقة ما بسيطة جدًا وتشبه بعضها بعضًا، وإلا لما كان في مقدورك اكتساب أي واحدة منها. على الرغم من ذلك، إذا نظرت فيها، ستكتشف بأنها معقدة جدًا، وفي غاية التفاوت وكل منها تختلف عن الأخرى.

يبدو ذلك تناقضًا صارخًا. هو على الأقل توتر جدِّي، ومنذ 1960م تقريبًا، كانت محاولة حل هذا التوتر هي القضية الموجِّهة في المجال. لن أعرض التاريخ، لكن المقاربة العامة – بدايةً من مطلع الستينيات –  كانت المقاربة الطبيعية: محاولة تجريد مبادئ عامة وخصائص الأنظمة القواعدية، واعتبارها – خصائص المَلكة اللغوية نفسها (بعبارة أخرى، اللغة بما هي كذلك) ومحاولة إظهار أنك عندما تفعل ذلك؛ فإن ما تبقى – ما بقي عندما تفعل ذلك – أقل تعقيدًا وتفاوتًا مما يبدو. وُجدت عدة محاولات لفعل ذلك منذ مطلع الستينيات، من في هذا المجال منكم ومنكن يعرف ما هي تلك المحاولات، لن أتكبَّد عناء الحديث عنها[10].

على أي حال، منذ عشرين عامًا تقريبًا، أُنجزت العديد من المحاولات وحققت تقدمًا كبيرًا. تلاقى الكثير من هذا الاشتغال حول عام 1980م في مقاربة تُسمى أحيانًا «مقاربة المبادئ الوسائط» التي كانت – فجأة – ذات معنى. لقد كانت افتراقًا جذريًا عن آلاف السنين من البحث اللغوي. لقد كانت قطعًا مع التقليد (التراث) أكثر مما كانه النحو التوليدي نفسه[11].كان النحو التوليدي نفسه مختلفًا كثيرًا عن المقاربات البنيوية – السلوكية السائدة آنذاك، لكن كان له مذاق النحو التقليدي إلى حدٍ بعيد، بدا كنسخة منقَّحة ومتقدمة من النحو التقليدي من عدة جوانب.

على الجانب الآخر، كانت مقاربة المبادئ والوسائط مختلفة بالكامل. اُفترض بأنه لا وجود للقواعد والتراكيب النحوية على الإطلاق. إذن، لا وجود لشيء اسمه قواعد لتكوين جمل الصلة في اللغة اليابانية أو قواعد المركب الفعلي في اللغة الألمانية… إلخ. هذه الأشياء حقيقية لكن كتصنيفات موضوعة، بالمعنى الذي تكون فيه، مثلًا، الحيوانات البرية حقيقية. هي ليست مقولة أحيائية، بل مجرد مقولة تصنيفية. يبدو وكأن القواعد والتراكيب النحوية – الخصائص الجوهرية للنحو التقليدي المتوارث حتى النحو التوليدي – تصنيفات موضوعة بالمعنى نفسه.

يبدو بأن كل ما هنالك مبادئ عامة هي خصائص المَلكة اللغوية بما هي كذلك، وخيارات مختلفة طفيفة تسمى: «الوسائط». تنطبق المبادئ عبر اللغات وعبر التراكيب؛ إذن لا وجود لأي مبادئ مُميِّزة للأسماء الموصولة أو أي تراكيب أخرى. يبدو بأن للتغيرات الوسيطة مساحة محدودة، وذلك يعني فيما لو صح بأن هناك عددًا محدودًا للغات التي يُمكن أن تنطبق عليها. فضلًا عن ذلك، يبدو بأنها محدودة لأجزاء معينة وصغيرة من اللغة: أجزاء معينة من المُعجم اللغوي، وجوانب ثانوية محددة للوجيهة الحسية الحركية. يُؤمل أن هذه الأشياء يسهل اكتشافها من معطيات التجربة.

الآن مقاربة المبادئ والوسائط هذه ليست نظرية محددة، إنها أشبه ما تكون بإطار عملٍ نظري، هي طريقة تفكيرٍ حول اللغة، والأولى على الإطلاق التي لها السِمة العامة الصحيحة، أي: إنها تقدِّم طريقة في حل النزاع بين الكفاية التفسيرية والوصفية. ستحل النزاع إذا استطعت إظهار أن المبادئ المطَّردة كافية لتقدم لك سِمة عامة عن اللغة، والظاهر أن التباينات السطحية ليست إلا تثبيت لهذه الوسائط بطريقة أو بأخرى ضمن نطاق محدود.

كما لو أن الطفل يذهب إلى مشكلة اكتساب اللغة برفقة استبيان كُتب فيه: «هذا عدد (س) من الأسئلة أحتاج الإجابة عليها» ويُمكن الإجابة على كل سؤالٍ من هذه الأسئلة بناءً على معطيات بسيطة جدًا. عندما أُدخل الإجابات وأستعمل المبادئ – التي تعكس جزءًا من طبيعتي – تخرج اللغة اليابانية، شيء قريب من هذا[12]. قد يبدو على السطح كما لو أن اللغات تختلف اختلافًا جذريًا عن بعضها، لكن هذا يعود لعدم معرفتك بالمبادئ. عندما تكتشف المبادئ، سترى أنها نفسها إلى حد بعيد في الحقيقة، وأن الاختلافات بينها سطحية إلى حد بعيد.

هذه صورة تقريبية عمّا وقع. لقد قادت إلى انفجار بحثي حقيقي، وتنامٍ عظيم في عدد العمل الوصفي والنظري. يتضمَّن عددًا كبيرًا من اللغات المتباينة نمطيًا. علي أن أقول بأنها كلها في تغير ويتطور، لكن لا أعتقد بأن ثمّـة فتـرة في تاريخ دراسة اللغة حيث نعـرف الكثير حولهـا.

ولقد أصبح من الممكن كذلك طرح أسئلة جديدة ورئيسية أكثر – بمعنى ما – حول طبيعة اللغة. هنا يأتي موضوع الاشتغال على البرنامج الأدنوي. النقطة التي تعرفونها – للمرة الأولى على الإطلاق – توجد فكرة متماسكة إلى حد ما حول ما قد تكونه اللغة[13]. ومن ثم يمكنك طرح أسئلة معينة وغير مسبوقة.

أحد الأسئلة التي يمكن طرحها: إلى أي حدٍ ما نعزوه إلى المَلَكة اللغوية محفِّز حقًا من الدليل التجريبي، وإلى أي حدٍ محفِّز من نوع الأساليب العلمية التي نتبناها؛ لأننا نريد تغطية فراغات الفهم [بها] وتقديم معلومات بشكل مفيد. الآن أسئلة كهذه دائمًا ما تكون ملائمة في العلوم من حيث المبدأ، لكنها عادة لا تستحق الطرح أو محاولة فحصها عن كثب في التطبيق. ولا يعود السبب في ذلك إلا إلى أن الفهم محدود للغاية، هذا ينطبق حتى على العلوم الصلبة. إذا نظرت في تاريخها – الفيزياء، وحتى الرياضيات – في الفترة الغالبة على تاريخها حتى فترة قريبة، لم يُطرح فيها أسئلة من هذا النوع. أغلب الرياضيات الكلاسيكية على سبيل المثال – حتى القرن التاسع عشر – كانت مبنية على ما عُرف بالافتراضات المتناقضة: لم يفهموا بشكل كافٍ لكي يحلُّوا التناقضات. واصل الناس معها فقط لأنها قادت إلى أنواعٍ من الاكتشافات والأفكار والتبصُّرات الجديدة… إلخ. وينطبق الأمر نفسه على الفيزياء والكيمياء. فمع كون هذه الأسئلة ملائمة من حيث المبدأ، عادة ما تكون سابقة لأوانها.

أحد عناصر البرنامج الأدنوي هو التأمُّل القائل أن هذه الأسئلة ملائمة الآن في التطبيق، ويمكن بحثها بشكل فاعل في الحقيقة. بمعنى، أنه من المعقول في هذه المرحلة طرح أسئلة عن أي أجزاء من الأساليب العلمية الوصفية التي نستعملها مُحفِّزة حقًا من الأدلة التجريبية، وما هي الأجزاء التي نستعملها بغرض ملء الصفحات بسبب قلة فهمنا وحاجتنا لتقديم تفسير مفيد عن المعطيات. هذا سؤال له جواب، سواء كان هذا هو الوقت المناسبة لطرح السؤال أم لا هو أمر غير واضح، لكن على الأقل السؤال له جواب من حيث المبدأ.

البرنامج الأدنوي قائم أيضًا على سؤال أعمق لا جواب له حتى من حيث المبدأ، وقد يكون سابقًا لأوانه بشكل ميؤوس منه حتى لو له جواب. هذا سؤال أدق، سؤال يُمكن صياغته على النحو التالي: إلى أي مدى تعتبر اللغة حلًا مناسبًا بالنسبة لشروط حدود معينة وضعتها هندسة الذهن العضو اللغوي مُدمج في نسق ذهني له هندسة معينة: له علاقات وجيهيّة مع ذلك النسق، يتصل بها؟ الافتراض هو أن هناك وجيهتين أشرت إليهما. تفرض هاتان الوجيهتان بعض الشروط حول ما الذي يجب أن يبدو عليه النسق. إلى أي حد تعتبر اللغة حلًا مناسبًا بالنسبة إلى الشروط الموضوعة من قِبل هذين الافتراضين الخارجيين؟.

دعوني أعود إلى تلك الحكاية المتخيَّلة التي أشرت إليها في بداية المحاضرة عن أصل اللغة. لنتخيل حيوانًا رئيسيًا أعلى يتجول في مكانٍ ما. ليس له عضو لغوي، لكن له شيء شبيه بدماغنا والأعضاء الأخرى، بما في ذلك أنساق حسية – حركية قريبة بما فيه الكفاية مما لدينا، وكذلك نسق تصوري – قصدي قريب بما فيه الكفاية مما لدينا بحيث يُمكنه التفكير حول العالم بشكل قريب مما نفعل، إلى الحد الذي يمكنه فعل ذلك من دون لغة. لكن ليس له لغة، ولا يمكنه الإفصاح عن هكذا أفكار، حتى لنفسه.

افترضوا بأن حدثًا عشوائيًا تسبب في تثبيت المَلكة اللغوية في ذلك الحيوان الرئيسي الأعلى، والمَلكة اللغويّة تلك قادرة على تقديم عدد لا محدود من التعبيرات التي يُمكن لأنساق الإنجاز الموجود قبلًا أن تبلغها، مثلًا، الأنساق الحسية الحركية والتصورية – القصدية. لكي تكون قابلة للاستعمال، يجب أن تكون تعبيرات المَلكة اللغوية (بعضًا منها على الأقل) مقروءة من قِبل الأنساق الخارجية. إذن يجب أن يكون في مقدور النسق الحسي الحركي والنسق التصوري – القصدي البلوغ: أن يكونا قادرين على «قراءة» التعبيرات، وإلا فإن الأنساق لن تعلم حتى بوجودها.

في الحقيقة، يمكن تصور ذلك، هو إمكانية تجريبية، وإن كان بعيدًا جدًا وقوعه على الأغلب، ذلك الحيوان الرئيسي الأعلى – الغوريلا على سبيل المثال أو أيًا يكن – في الحقيقة له شيء مثل المَلكة اللغوية الإنسانية لكن لا يمكنه بلوغها. إذن – للأسف الشديد – لم تتحقق شروط المقروئية. من المعقول تصوُّر أن ما تغير في البشر هو أن المَلكة اللغوية حققت شروط المقروئية. يمكننا أن نفترض بكل اطمئنان أن ذلك غير صحيح، ومع تطوُّر المَلكة اللغوية، كانت قابلة للاستعمال، محققةً شروط المقروئية الخارجية المفروضة في الوَجِيهة.

ثم يمكننا أن نسأل إلى أي حد هي تصميم مناسب؟ إلى أي حد قدمت قوانين الطبيعة حلًا أمثلًا لـ «مشكلة هندسية» معينة، أي: المشكلة الهندسية التي فرضتها شروط المقروئية على التعبيرات؟ هذا سؤال له معنى، يمكننا أن نجعله عينيًا بصورة مقبولة. لكن لا يوجد أي سبب لتوقع أي إجابة عنه، يُمكن أن تكون النتيجة هي أن اللغة حل في غاية السوء لتلك المشكلة، لن يكون ذلك مفاجئًا على الإطلاق. هذا غالبًا ما تكون عليه الأنظمة الأحيائية: حلول سيئة لمشاكل تصميمية معينة فرضتها الطبيعة، أفضل حل أمكن للتطور تحقيقه من الظروف المتاحة، لكنه قد يكون حلًا مضطربًا وأخرقًا.

لنرى ما الذي يتضمنه ذلك. خذ أي جملة شئت، خذ مثالًا قديمًا لم يفهم بشكل واضح حتى الآن: «John had a book stolen» (لزيد كتاب قد سُرق). خذ هذه العبارة باللغة الإنكليزية، لها الكثير من الخصائص التجريبية، بما فيها عدة التباسات[14] (محددة ومثيرة للفضول جدًا، لا نظير لها في لغات مُشابهة، غير مفهوم بدقة لماذا، لذلك هي مبتذلة ومعلقة منذ نحو ثلاثين عامًا. للجملة خصائص الصوت وخصائص المعنى، عدة التباسات، ترابطات الصوت – المعنى، كل تلك الأمور. وبعيدًا عن ذلك، لها الكثير من الخصائص الأخرى. لها خصائص رتبة الاكتساب، وخصائص فقدان عدة تأويلات في حالة حدوث ضرر دماغي، والبلوغ الإدراكي… إلخ.

بالتعريف، اللغة التي تولد التعبير هي حل لكل هذه الشروط التجريبية. البحث العقلي هو محاولة العثور على أفضل نظرية تحقق كل هذه الشروط التجريبية، هذه هي طبيعة اللعبة ليس إلا. إذا لم تلعب هذه اللعبة؛ فأنت لا تشتغل بالعلم. إذن – بالتعريف – اللغة حل لكل هذه الشروط التجريبية ونريد العثور على أفضل نظرية ممكنة لذلك الحل.

لكننا نطرح سؤالًا مختلفًا هنا. كل ما نفعله هو النظر في جزء فرعي من الشروط التجريبية، أي: شروط المقروئية، شروط القابلية للقراءة، شروط بلوغ التعبير من قِبل الأنساق الخارجية. إذن – على سبيل المثال – ستتطلب الأنساق الحسية الحركية أن يكون للتعبير ترتيبًا زمنيًا (الأنساق الحسية الحركية مبنية على نحو دقيق حتى يمكنها التعامل فحسب مع شيء يكون زمانيًا، هذه ليست ضرورة منطقية على الإطلاق). هي حقيقة حول أنساقنا الحسية الحركية أنها تتطلب أنواعًا محددة من الخصائص الصوتية والنماذج الإيقاعية… إلخ. في حال لم يمتلك تعبير ما هذه الأشياء، لن يكون في مقدور الجهاز الحسي الحركي «قراءته»، أو إدراكه، أو نطقه. ستتطلب الأنساق التصورية – القصدية، التي لا نعرف الكثير عنها، بشكل واضح أنواعًا محددة من المعلومات عن الكلمات والتركيبات، بالإضافة إلى نوعٍ محدد من العلاقات بينهم… إلخ[15]. فضلًا عن ذلك، هناك أيضًا علاقات الصوت – المعنى، لكن هذه تتجاوز شروط المقروئية. حقيقة أن «لزيد كتاب قد سُرق» لها عدَّة التباسات لا تستلزم أنه على المستويات الوجيهية، يُمكن بلوغ عناصرها. إذن، أيًا كانت علاقات الصوت – المعنى، هي شيء فوق ويتعدى خصيصة كونها قابلة لأن يبلغها عدَّة أجهزة إنجاز، خصيصة امتلاك النوع الملائم من التمثيلات الصوتية والدلالية، التمثيلات الوجيهية.[16]

إذا كانت لغة الإنسان كاملة بالمعنى الأقوى لهذه العبارة؛ فإن علاقات الصوت – المعنى للجملة التي ذكرتها – مثلًا -، أو لأي جملة في أي لغة، ستأتي من حل أمثل لشروط المقروئية، والأمر نفسه ينطبق على تشكيلة كاملة من الخصائص التجريبية للتعبيرات ولكل التعبيرات في كل اللغات. أفضل نظرية لا تأخذ بعين الاعتبار إلا استيفاء شروط المقروئية ستظل أفضل نظرية حتى لو أضفت كل الشروط الأخرى. لن يتوجب عليك تغيرها عندما تجلب بقية الشروط التجريبية.

افترضت دراسة اللغة منذ آلاف السنوات بأن عليك على الأقل أن تستعمل علاقات الصوت – المعنى حتى تكتشف خصائص لغة ما، كل البحوث افترضت ذلك، لكن هذا الافتراض هو ما نُسائله الآن. نحن نحظى باحتماليّة بأننا لو عرفنا بما فيه الكفاية عن شروط المقروئية؛ فإن علاقات الصوت – المعنى ستتبعها. لن نحتاجهما كدليل لتحديد خصائص لغات معينة، والأمر نفسه ينطبق على طيف كامل من الأدلة التجريبية الأخرى.

هذا في غاية الغرابة. لا شيء في علم الأحياء يشير إلى أن تصميمًا كاملًا بهذا المعنى ممكن. مع ذلك هناك شيء من الوجاهة في افتراض أن اللغة – وبشكل مفاجئ – قريبة من الكمال بذلك المعنى اللافت للنظر، أي: أنها شيء قريب من حل أمثل لشروط المقروئية، أو ما يُسمى أحيانًا «شروط خرج عارية»[17]. لو تبيّن أن ذلك صحيح جزئيًا حتى؛ سيكون مفاجئًا للغاية، وإلى ذلك الحد، فسيكون مثيرًا للاهتمام جدًا.

ومن المثير للاهتمام أيضًا محاولة تحديد وفحص النقائص الظاهرة. البرنامج الأدنوي قائم على افتراض أن هذا سؤال جدَّي كذلك. ثم لدينا الأشياء التي أشبه ما تكون بالحدوس التالية لنبحث فيها: أولًا: نحاول وضع الافتراضات حول اللغة تحت فحص دقيق لرؤية هل هي مبررة تجريبيًا، أم هي مجرّد مواءمة لأساليب علمية وتعتيم على فراغات الفهم؟. ثانيًا: إذا كان هناك عدول عن الكمال – عن تصوريّة طبيعية في استيفاء شروط المقروئية فحسب – سنضع علامة استفهام ونسأل فيما لو كان هذا العدول مبررًا؟ في كل حالة، عندما يبدو افتراض ما وكأنه غير ضروري تصوريًا (على افتراض شروط المقروئية)، ما نفعله هو محاولة إظهار أن هناك على الأقل تفسير مقبول عن الحقائق التجريبية إذا لم يفترض الشخص ذلك الافتراض. بتطلُّع أكبر، قد نحاول إظهار بأن هناك تفسيرًا أفضل حتى إذا حذفنا هذا الافتراض، أي: إننا نحصل على شرح أعمق وأبعد مدى مع نطاق تجريبي أرحب إذا تم تجاهل تلك التقنية (=الأسلوب العلمي) الإضافية، واحتفظنا بتصميم أكثر كمالًا، هذا هو البرنامج.

باتباعنا لهذا البرنامج، واجهتنا المشاكل التالية: قبل كل شيء، عليك أن تُظهر – خلافًا لما كان يعتقد دومًا – بأنه لا وجود لمستويات لغوية غير المستويات الوجيهية نفسها، التمثيلات الصوتية والدلالية. لا يجب أن تكون هناك مستويات أخرى؛ لأن المستويات الأخرى لا تُحفِّزها شروط المقروئية. إذن ما تريد أن تُظهره هو أنها هناك كأداة تقنية لتغطية فراغات الفهم ليس إلا. حالما تستغني عنها؛ فستحصل على شروحات أفضل، لا وجود لشيء اسمه بنية عميقة أو بنية سطحية بالمعنى التقني لهاتين الكلمتين، وكل ما فُسِّر على ضوء هذين المستويين أسيء فهمه ووصفه. ينبغي تفسيرها بواسطة المستويات الوجيهيّة، هذه مهمة في غاية الضخامة. وبلغة تخصصية أكثر: يعني هذا بأن عليك أن تظهر بأن مبدأ الإسقاط خاطئ،[18] وأن نظريتي الربط والإعراب لا تنطبقان على البنيـة س كمـا اُفترض ذلك دومـًا[19]، وغيرهـا من الأمـور الأخـرى.

المشكلة الثانية التي يجب عليك أن تتعامل معها هي محاولة إظهار أن الوحدة المعجمية – التي هي مجموع لخصائص تُدعى «سِمات» – لا تحتوي على سِمات غير تلك التي تُؤول في الوجيهة، ولا تقدّم عناصر أخـرى في فعلك لذلك. إذن، لا قرائن، لا بِنية مُركبيّة حسب نظريّـة س – خط، كل هذا يجب أن يُطرح جانبًا[20]. علينا أن نُظهر بأنه عندما نستغني عن نظرية س – خط، والقرائن، وكل هذه الأدوات المشابهة؛ فإننا سنعثر على حلول ليست بنفس الجودة فحسب، بل أفضل حتى. هذه هي المهمة الرئيسية الثانية. المهمة الرئيسية الثالثة هي إظهار أنه لا وجود لعلاقات بنيوية غير تلك التي فرضتها شروط المقروئية (بما في ذلك خصائص مثل المُتَاخَمَة، والبنية المحورية، والحيز في الصورة المنطقية) أو حتى التي تنتج بطريقة طبيعية معينة من خلال عمليات الاشتقاق نفسها. خذ مثلًا التحكُّم المكوِّني[21]. التحكُّم المكوِّني هو الخاصية التي تحصل عليها إذا دمجت مُركبين، وأحدهما متعلق بأجزاء من الآخر، ستعرف أي واحد هو من خلال شروط الخَرْج؛ لأن المستهدفة لم تعد مرئية بعد الآن، فيجب على الأخرى أن تكون هي التي تتحكم مكونيًا (لن يعني هذا أي شيء بالنسبة للذين لا يعرفون عمّا أتحدث عنه). يمكنك تعريف التحكم المكوِّني بهذه المصطلحات، وبالتالي هي علاقة مشروعة. العلاقات المَحلية  هي أيضًا علاقات مشروعة، لكن لا شيء غير ذلك على الأغلب. هذا يعني بأنه لا وجود للعَمل، ولا للعَمل المناسب[22]، ولا لنظرية الربط داخل اللغة، ولا أنماط أخرى من التفاعل.

أولئك الذين لهم ولهن دراية بالأدبيات التخصصية (أخشى أنني أضيق شريحة المتلقين الآن، لكنني لا أعرف طريقة أخرى في مواصلة المحاضرة) يُدركون بأن هناك حجمًا هائلًا من الأدلة التجريبية لدعم النتيجة المقابلة لكل نقطة أشرت إليها. فضلًا عن ذلك، مضمون الافتـراض الجوهـري والأساس للأعمال الأخيـرة ذات الإنتاج المثمر – وإنجازاتها المثيرة للإعجاب بحق – هو أن كل ما قلته للتو غير صحيح، أي: أن اللغات منقوصة إلى حدٍ بعيد في كل هذه الجوانب و- كما يمكنكم أن تتوقعوا بالفعل – لها قرائن ومستويات الإسقاط، والبنيات العميقة والبنيات السطحية وكل أنماط العلاقات، وما إلى ذلك. إذن ليس أمرًا هينًا أن تثبت المقابل، وعلى الرغم من ذلك، أعتقد بأن المقابل قد يكون صحيحًا. [23]

الآن ثمّة ما يبدو بأنها نقائص حقيقية، وهذه هامة. أحد هذه العيوب الهامة في لغة الإنسان هي خاصية النقل التي يبدو بأنها كُليّة، تبدو مُعقدة، ولم تبنى قط داخل أنساق رمزية مصممة لاستعمالات مخصوصة، والتي تُسمى أحيانًا باللغات الصورية. ما أعنيه بذلك هو تلك الحقيقة الواسعة الانتشار التي تقول بأن المُركبات تُؤول كما لو أنها في موقع مختلف في البنية، حيث تظهر أحيانًا هكذا وحدات. هذه خاصية كلية في اللغة ولها نتائج جَسِيمة في تأويلات الصوت والمعنى. على سبيل المثال، عبارة «the books seems to have been stolen» (يبدو بأن الكتاب قد سُرق) ما العلاقة بين «book» (كتاب) و«steal» (سرقة)؟ تفهم بأنها نفس العلاقة التي في «John stole the book» (سرق زيد الكتاب) حيث هناك علاقة طبيعية ومحلية بين «steal» (سرقة) و«book» (كتاب)،[24] لكن لا توجد هذه العلاقة في «يبدو بأن الكتاب قد سُرق». خاصية النقل هذه خاصية عامة في اللغة[25]. تبدو كنقيصة، فأنت لا تبنيها في أنساق كاملة تصممها لأغراض مخصوصة، لكنها موجودة في كل لغة طبيعية. يجب أن تُشرح هذه الخاصية أولًا، ويعتنى بها بطريقة ما ثانيًا.

اُفترض في بدايات النحو التوليدي أن الخاصية تكفلت بها عملية تنقل المُركب من موقعه التأويلي إلى الموقع الذي تُلفظ فيه. تلك العملية هي تحويل نحوي. كل نظريّة في اللغة لها طريقتها في ضبط خاصية النقل؛ فكلها لديها تحويلات أو ما شابهها[26]. السؤال الوحيد هو ما الشكل الذي تتخذه؛ لأن وجود هذه الخاصية للغة حقيقة ثابتة. أرى بأن هناك سببًا معقولًا لاعتقاد أن هذا الافتراض الأصلي صحيح بطريقة أو بأخرى. إذا كان ذلك كذلك؛ فهناك عملية لغوية تأخذ مُركبًا مبنيًا وتربطه في مكان آخر. سيكون أبسط افتراض – الافتراض الذي تفترضها بشكل أدنوي إذا ابتعدت عن الكمال – هو أن العملية نفسها ليست أكثر من ذلك: تأخذ مُركبًا ظهر في مكان ما وتربطه في مكان آخر. لاحظوا بأنه سيستلزم من ذلك ظهور المُركب مرتين. في أبسط الافتراضات: ظهر في الموقع الأصلي، وفي المكان الذي ربطته به.

الافتراض الأعقد من هذا هو أن هناك عملية مُركبة: تأخذ المُركَّب، وتربطه في مكان آخر، وثم تحذف الأصلي. هاتان عمليتان؛ بالتالي هي أعقد، على السطح، كلما بدا الافتراض أعقد كلما بدا صحيحًا، في حقيقة الأمر أنت تسمعها في موقعٍ واحد فقط. لا تسمع «the book seems to have been stolen [the book]» (يبدو بأن الكتاب سُرق [الكتاب]) أو – لأولئك الذين يعرفون عما أتحدّث عنه – لا تسمع

«the books seems [the book] to have been stolen»

([الكتاب] يبدو الكتاب سُرق [الكتاب]).

إنها في ثلاثة مواقع، هذا ما يجب أن يكون عليه الأمر في الحقيقة فيما لو اتبعت العملية بشكل صحيح. إذن يبدو بأن هذه هي العملية الأعقد، وليس الأبسط، كما كان الافتراض الأصلي. لكن اتضح بأنه خاطئ.

تبين أن هناك أدلة جيدة جدًا تُفيد أن المُركب في كلٍ من هذه المواقع: في الموقع الأصلي، وفي الموقع الأخير، وفي كل المواقع البينية[27]. تلك الحقيقة لها عدة نتائج فيما يخص التأويل الدلالي. فهي تعني أن أيًا ما كان الذهن يفعله؛ فهو يراه في كل هذه المواقع، هذه هي «صيغة النسخة» من نظرية الأثر. لكن دائمًا ما اُفترض على نحو خاطئ أن «صيغة النسخة» أكثر تعقيدًا، مما يتوجب عليك تبريرها تجريبيًا[28]. المقابل هو الذي يُطلب منه ذلك. صيغة النسخة من نظرية الأثر هي أبسط افتراض: مفادها أن العملية الوحيدة هي عملية الربط. عليك تبرير عدم وجود هذه النظرية. تبيّن أن اللغة كاملة بما فيه الكفاية، مما يعني أن الافتراض الأبسط صحيح، وهذا له العديد من النتائج.

لماذا تسمع المُركب مرّة واحدة فقط؟ هذا بسبب مبدأ في غاية السطحية في وَجيهة الخَرج الصوتي التي تمحي كل شيء ما عدا واحدة، وتفعل ذلك بطريقة عامة جدًا[29]. لكن بالنسبة إلى الذهن، فهي كلها هناك. إذا لم تتكبد عناء التحدث؛ ستكون كلها هناك. في حقيقة الأمر، هي كلها هناك في العمليات الذهنية لكن بعضًا منها قد نُطق، واحدة منها، تحديدًا.

لماذا يجب على اللغة أن تمتلك خصيصة النقل هذه؟ هذا سؤال هام نُوقش لما يقارب الأربعين عامًا من دون تقدمٍ كبير. لكنها تمتلك هذه الخصيصة، وثمّة بعض الأفكار عن لماذا يجب عليها ذلك. يُمكن إعادة تفسير هذه الأفكار باعتبار شروط المقروئية في السطح. على سبيل المثال، يبدو بأن هناك اختلافًا أساسيًا بين نوعين من الخصائص الدلالية: خصائص «البنية العميقة» و«البنية السطحية» في إحدى التصورات. يعتمد الأخير على نقل وحدة ما إلى موقع «أهم» على حافة (ربض) التركيب. إذا أمكن تطوير هكذا أفكار بنجاح، قد يتبيّن أن خصيصة النقل ليست نقيصة في نهاية الأمر، بل شرط مقروئية فُرضت بشكل خارجي يجب أن تستوفيه اللغة الإنسانية (لكن ليس لغاية خاصة للأنساق الرمزية التي تفتقر إلى «الدلالات السطحية» للغة الطبيعية، والتي لا يجب عليها أن تستوفي شروط مقروئية اللغات الطبيعية). مهما تكن الإجابة على سؤال «لماذا»[30]، يبدو بأن مبدأ النقل صحيح وهو موجود بشكل كُلّي؛ إذن المشكلة هي تحديد طبيعته. كان هذا أحد مواضيع البحث المركزية لما يقارب الأربعين عامًا.

هناك سبب معقول لاعتقاد أن العنصر الجوهري للنقل، في قلب خصيصة النقل، وهو حقيقة أن سِمات مُعينة للوحدات المعجمية ليست مقروءة في الوَجيهة الدلالية، بمعنى، ليس لها تأويل. هي هناك، لكن لا تأويل لها. إذا لم يكن لها تأويل؛ فيجب أن تُمحى، وإلا لن يكون في مقدور الوَجيهة الدلالية أن تقرأ الخَرج. فهناك سِمات الوحدات المعجمية التي يجب أن تمحيها الحوسبة في مكانٍ ما في حال سيقرأ التعبير. العلاقات الوحيدة الموجودة هي علاقات محليّة؛ فيجب أن تُجلب في علاقة محليّة مع شيء يُمكنه أن يمحيها. لكن العنصر الذي في إمكانه محيها عادةً ما يصادف أن يكون نائيًا، فيجب جلبها في علاقة محلية معه (ويجب أن تحمل معها عناصر أكبر لأسباب مستقلة). يبدو هذا هو جوهر خاصية النقل، تقنية تمحو السِمات الغير مقروءة في الخَرج.

ما نوع هذه السِمات؟ أحد الأمثلة هو الحالة البنيوية للأسماء. فيمكنك أن تفهم «كتاب» مثلًا بنفس الطريقة تمامًا إذا كانت في حالة الفاعلية أو في حالة المفعولية أو إرغتية (التعدي) أو [حالة] المطلق، لها نفس التأويل. فخصيصة الحالة البنيوية غير مقروءة في السطح؛ فلا تُشكِّل أي فرقٍ في التأويل. فيجب أن تُحذف. الطريقة الوحيدة لحذفها هي أن تأخذها وتضعها في مكان آخر في علاقة محلية مع شيء يُمكنه أن يزيلها. ثم كلاهما سيختفي ولن يكون هناك ما هو غير مقروء، لكن هذا سينتج خاصية النقل، ينطبق الأمر نفسه على سِمات تطابق الأفعال مثلًا. لو كان الاسم مفردًا أو جمعًا؛ ستفهمه على نحوٍ مختلف. لكن لو كان الفعل مفردًا أو جمعًا؛ فستفهمه بنفس الطريقة تمامًا. فسِمات مطابقة الأفعال غير قابلة للتأويل ويجب أن تُمحى، مما يعني أن شيئًا ما يجب أن يدخل في علاقة محلية معها، وهذا سيفرض نقل توافق لسِمات مطابقة الأسماء، ونقل المُركب حيث يظهرون إلى آخره عبر تشكيلة واسعة من الأمور.

ما حد المحلية التي يجب أن تكون العلاقة عليه؟ ربما العلاقة في غاية المحلية إلى درجة أنه يجب أن تكون داخلية بالنسبة إلى الكلمة. يبدو بأن هذا ما عليه الأمر (لم يُضمَّن هذا في الفصل الرابع، تجاوزت ذلك الآن بدون قصد، أقول ذلك لأولئك الذين اطَّلعوا على الكتاب)[31]. السِمات الغير قابلة للتأويل في كلمة ما يجب أن تُمحى، وهذا هو جوهر مبدأ النَقل. تبيّن بأن هناك الكثير من الأشياء التي يُمكن شرحها بهذه المصطلحات. فيبدو أن هناك نقيصة، لكنها نقيصة محدودة للغاية تتعلق بعدم قابلية تأويل سِمات صورية مُعينة للوحدات المعجمية، وقد لا تكون هذه نقيصة على الإطلاق، بل طريقة مناسبة لاستيفاء شرط مقروئية مفروضة بشكل خارجي، لو أُثبت أن للتأمل المذكور آنفًا بعض الوجاهة.

بعيدًا عن خصيصة النقل التي – قد – تختزل في سِمة نقل وبعض النتائج الآلية، ثمّة عملية أخرى في الحقيقة ضرورية في النسق الكامل. هي ضرورية بناءً على أسس تصورية تمامًا. تتطلب العملية موضوعين لغويين شُكِّلا قبلًا من خلال إجراءات تكرارية توليدية، وتركيب واحد أكبر منهما. إذن، لو شكِّلت قبلًا «الرجل» و«سرق الكتاب» يُمكنك أن تُشكِّل «سرق الرجل الكتاب». الآن، استنادًا على فرضيات أدنوية (أي: افتراضات كاملة)، يجب ألا يتضمن توليد التعبيرات أكثر من هاتين العمليتين، سِمة النقل لمحو السِمات الغير قابلة للقراءة، والدمج – أخذ تركيبين ووضعهما مع بعضهما بعضًا – عملية النقل التامة تجمع هاتين: جذب سِمة مزاوجة لمحو سِمة غير قابلة للتأويل، ومن ثم دمج مُركب يحتوي على سِمة مزاوجة (لو كان ضروريًا لأسباب أخرى، أحيانًا لا يكون الأمر كذلك، ولدينا سِمة الجذب لوحدها، كما فيما يُسمى «مطابقة المسافة الطويلة).

يبدو هذا على نحو مفاجئ أقرب للحقيقة، حينما نكتشف المبادئ التي تحكم العمليات الأولية – مبادئ المحلية، والاقتصاد، وإلى آخره – التي تُقيِّد بشكل جذري الطريقة التي ستشتغل بها هذه العمليات. لو كان هذا صحيحًا؛ فستكمن الاختلافات بين اللغات – إلى حدٍ بعيد – في الطريقة المحددة التي تتهجى بها السِمات الغير قابلة للتأويل في اللغات المختلفة (مثل التطابق الإعرابي والكلامي)، بالإضافة إلى مجموعة واسعة من النتائج التي تأمل بأنها ستلحقها بشكل تلقائي من الفئة الضيقة للغاية للخصائص المعجمية، على افتراض وجود القيود الكلية.

بالتأكيد تبدو اللغات مختلفة جذريًا في هذه الجوانب. فتسمع في السنسكريتية – التي لها نظام صرفي واضح وغني بحق – الكثير من التصريفات. لا تمتلك اللغة الإنكليزية شيئًا من ذلك تقريبًا، واللغة الصينية تمتلك أقل من ذلك حتى؛ فتبدو كلها مختلفة تمامًا. وبالإضافة إلى ذلك، تظهر في مواقع مختلفة تركيبيًا في كل مكان في اللغات المختلفة، مما يعني بأنه لا يمكنك أن تحصل على أي شيء بشكل منعزل، مثل ترجمات كلمة بكلمة.

اُكتشف بشكل متنامٍ مع ذلك أن هذه الاختلافات اختلافات سطحية، بمعنى أن اللغة الصينية التي ليس لها تصريفات، والسنسكريتية التي لها الكثير من التصريفات تبدوان متشابهتين إلى حد بعيد، ربما حتى متطابقتين بعيدًا عن السِمات المعجمية الثانوية. لو كان ذلك كذلك؛ فبالنسبة إلى الذهن، هما متشابهتان. تختلفان فقط في الطريقة التي يبلغ بها النسقُ الحسِّي الحركي الاشتقاقَ المُنتظم. كلها لها حالات إعرابية وتطابق وكل شيء آخر، حتى أغنى من السنسكريتية، لكن الذهن فقط من يمكنه رؤية ذلك.

ويبدو بأن هذا ينطبق أيضًا على المواقع التي تظهر فيها الكلمات. كلها متماثلة أساسًا، لكن النسقَ الحسي الحركي يبلغ جوانب مختلفة للاشتقاقات المُتشكِّلة في الذهن. إذا ما تأسست هذه النتائج على نطاق واسع، فسيمكننا مواصلة بحث المهمة الأساسية للبرنامج الأدنوي: محاولة إظهار أن الخصائص الكلية نفسها يُمكن تفسيرها بناءً على مبادئ التصميم الأمثل، على افتراض مَطلب المقروئية في المدخل.

تحدثت عن اتجاهات البحث ودوافعه، إلى حد الآن كانت تصورية منهجية. وحتى نمضى قُدمًا، علينا أن نبادر ببحث تجريبي مُفصَّل لتقييم هذه المقترحات النظرية. ثمّة مواد تحت الطباعة، وأكثر منها سيأتي لاحقًا[32]. ما مدة نجاحها؟ حسنًا، عليكم أن تحكموا بأنفسكم. تبدو بالنسبة لي مُشجِّعة للغاية ومفاجئة جدًا، مع أن [سؤال] إلى أي مدى يُمكن أن تصل إليه هذه الجهود؟ هو سؤال مفتوح على مصراعيه، وسؤال في غاية الصعوبة. في العلوم الخاصة عمومًا، لا تُفحص عادة هذه المواضيع التي لها رُتبة صعوبة جديدة في أي من هاته المجالات.

في حالة ما نجحت إحدى صيغ هذا البرنامج؛ فسنحصل على صورة للغة ستكون مفاجئة بالنسبة لنظام أحيائي. إنها أشبه من عدة زوايا بما تجده في دراسة العالم اللاعضوي حيث تجد – لأسباب غامضة –  محاولات إظهار أن الأشياء مُصممة على نحو كامل عادة ما تنجح. لا أحد يعلم لماذا؟ لكنه كان ولا زال نوعًا من الحدوس المثمرة للغاية في العلوم الصلبة أن تفترض أن الأشياء كاملة حقًا. لو حصل وعثرت على رقم مثل سبعة؛ فعلى الأغلب أنك ارتكبت خطأً، يجب أن تكون ثمانية لأن ثمانية هو تكعيب اثنين، واثنان وثلاثة عددان صحيحان، لكن سبعة ليست كذلك، إنها في غاية التعقيد. كان ولا زال هذا النوع من الحدوس مثمرًا للغاية في العلوم الصلبة. هذه أشبه ما تكون بافتراضات التصميم الأكمل، لكن للأنساق البسيطة فحسب، اُكتشفت من خلال تجريد بعيد المدى من ظاهرة الحياة العادية. لو صح شيء مثل هذا بالنسبة للغة؛ فسيكون الأمر مفاجئًا وهامًا.[33]

طالما ما كان شعوري الخاص بأنه في هذا النطاق تحديدًا تقع أهم جوانب دراسة اللغة الهامة. يبدو بأن لها خصائص في غاية الغموض، وخصائص غير متوقعة بالنسبة للأنظمة الأحيائية، وكلما فحصناها عن كثب، كلما بدت غامضة ومثيرة للفضول.


[1]     في كلمته الافتتاحية، ذكر راما كانتْ أغنيهوتري (Rama Kant Agnihotri) من جامعة دلهي – بالإضافة إلى أمور أخرى – الأسئلة التالية: لماذا لا تدفع سياسات تشومسكي إلى أن يرى اللغة بوصفها أداةَ استغلالٍ إضافية في المجتمع؟ كيف يتصالح شخص تأثَّر أشد ما يكون التأثر بالمعاناة الإنسانية مع اعتبار اللغة كنسق أحيائي إدراكي بالكامل، بـدلًا من اعتبارها مكونًا أساسيًا من ألعاب السلطة الاجتماعية؟.

[2]     عُنونت في (Chomsky 1986a) بـ«مشكلة أفلاطون»، و«مشكلة أورويل»، تباعًا. انظر: (Chomsky 1993a) لنقاشٍ حول علاقات محتملة بين هذه الإشكالات. انظر: في المراجع (Barsky 1997) لرؤى تشومسكي الاجتماعية والسياسية. انظر أيضًا: (Ray 1995) والفيلم المذكور في الهامش رقم (1) ص 16من مقدّمة المحررين. بما أن المحاضرة الحالية لم تتعرض بشكل صريح لمشكلة أورويل؛  فلن نُضمِّن مراجع لأعمال تشومسكي الهائلة في هذا المجال.

[3]     للاطِّلاع على التشابهات والاختلافات بين الجهاز البصري الإنساني والمَلكة اللغويّة انظر: (Chomsky 1980, chapter 6; 1988, chapter 5) من بين أعمال أخرى.

[4]     حجة شح المعطيات. انظر: (1980)  Piattelli ـ Palmarini لنقاش مطوَّل حول الموضوع. انظر: (Chomsky (1986, chapter 1 انظر كذلك في: (Wexler (1991 لنقاش حول مركزية هذه الحجة في أعمال تشومسكي.

[5]     انظر: النقاش حول اللغة الداخلية واللغة الخارجية في (Chomsky (1986a، وكذلك (Chomsky (1991.

[6]     المقطع التالي تقرير أكثر تفصيلًا لمفهوم «توليد» في النحو التوليدي، حيث «الأوصاف البنيوية» هي بشكل جوهري ما يُسمِّيه تشومسكي «تعابير» في المحاضرة:

       … يولِّد النحو الجملَ التي يصفها وأوصافها البنيوية، يقال: بأن النحو «يولِّد بشكل ضعيف» جمل لغة ما و«يولِّد بشكل قوي» الأوصاف البنيوية لهذه الجمل. عندما نتحدث عن النحو اللغوي بوصفه «نحوًا توليديًا»؛ فإننا نعني فحسب بأنه كافٍ لتحديد كيف يصف النحو الجمل حقًا في اللغة. «Chomsky 1980: 220».

[7]     انظر: (Chomsky 1993a, 1994, 1995c, 1999) لنقاش قريب زمنيًا لهذه المواضيع.

[8]     النقاط التالية من ضمن عدة ظواهر تركيبية (نحوية) تتجاهلها مثل هذه الأنحاء [جمع نحو]:

       تراكيب تُفهم على أن لها أكثر من تأويل واحد: «يُمكن أن تكون الطائرات الطائرة خطرة» «Flying planes can be dangerous»، «لي كتاب سُرق» «I had a book Stolen»،… إلخ. تراكيب يبدو أن لها نفس البنية، لكن في الحقيقة هي ليست كذلك، بما أنها فهمت على نحو مختلف.

       استدرجت جون إلى المغادرة/أتوقع أن جون سيغادر

I persuaded John to leave/I expected John to leave

[9]     زمجرة الأسد/رعاية الزهور/طلق الصيادين (مُلتبسة)

       يسهل إرضاء زيد/يحرص زيد على إرضاءه

John is easy to please/John is eager to please

       (جـ): جُمل تحتمل أن يكون لها علاقة مع بعضها من خلال إعادة الصياغة، لكن ليس لها نفس البنية:

       أتوقع أن مختصًا سيفحص زيد/I expected a specialist to examine John.

       أتوقع أن زيدًا سيفحصه مُختص/I expected John to be examined by a specialist.

       (د): الاختلاف في وضع الجمل النحوي، مثل الجمل التالية (كمثال لما أصبح يُعرف باسم: «لا تناظر الفاعل والمفعول»):

* Who does he think that Mary Saw

Who does he think Mary Saw

* Who does he think that came

Who does he think came

       (هـ): تأويلات لعناصر مفهومة في تراكيب كالتالية:

       استدرج زيد ماريا إلى الذهاب/John persuaded Mary to go

       وعد زيد ماريا بالذهاب/John promised Mary to go

       أوقفت الشرطة الشرب/The Police Stopped Drinking

       انظر: (Chomsky) (1957, 1965) من بين أعمال أخرى. فيما يخص خصائص الوحدات المعجمية المعقدة والهامة التي تجاهلتها القواميس المعيارية، انظر(Chomsky 1988 :  1993a, 1996).

       (انظر: Chomsky (1965, Chapter 1 لنقاش كلاسيكي حول الكفاية الوصفية والكفاية التفسيرية.

[10]    مثلًا انظر: (Chomsky (1982.

[11]    انظر: (Chomsky (1991 لمقطع بارع الإيجاز حول هذه النقطة.

[12]    عادًة ما يستعمل تشومسكي استعارة في غاية الوضوح للتعبير عن نفس الفكرة:

       يُمكننا أن نرى الحالة الأولى للمَلكة اللغوية على أنها شبكة ثابتة متصلة بصندوق مفاتيح كهربائي: تتكون الشبكة من مبادئ اللغة، بينما المفاتيح الكهربائية هي الخيارات التي تحددها التجربة. عندما توضع المفاتيح بطريقة معينة؛ فسنحصل على لغة البانتو، وعندما توضع بطريقة أخرى؛ فسنحصل على اللغة اليابانية. تُميِّز كل لغة محددة باعتبارها وضعية محددة للمفاتيح الكهربائية… (Chomsky 1997, part 1, p. 6).

[13]    انظر: على سبيل المثال النقاش الغير تخصصي في Chomsky (1982) حول أهمية إطار عمل المبادئ والوسائط، وكذلك الفصل 1 من  Chomsky (1995b)لعرض أحدث زمنيًا.

[14]    الجملة ملتبسة بسبب الاحتمالات التالية لها:

       (أ): سرق أحدهم كتاب زيد/Someone stole John’s book.

       (ب): لزيد شخص سرق كتابًا/John had someone steal a book.

       (جـ): كاد زيد أن ينجح في سرقة كتاب/John had almost succeeded in stealing a book.

       انظر: Chomsky (1962: 22).

[15]    الأنساق التصورية – القصدية تبلغ/تقرأ مستوى التمثيل اللغوي الذي يُسمى: «صورة منطقية» (ص.م)، حيث يقال بأن هكذا معلومات متوفرة هناك. انظر: Chomsky (1991) حيث يسرد العناصر التالية التي يجب أن تحتويها تمثيلات (ص.م):

[16]    1 – المواضيع، التي هي مرؤوسة بسلاسل موضوعة ومختومة من خلال عنصر في موقع موضوع. الأخير موسوم محوريًا، بينما الأول موسوم إعرابيًا.

       2 – المُلحقات، التي هي سلاسل غير محورية، مرؤوسة ومختومة من خلال في مواقع غير محورية.

       3 – العناصر المعجمية، التي هي سلاسل مرؤوسة ومختومة من خلال عناصر في مواقع س0.

       4 – المحمولات، التي هي سلاسل محمولة محتملة في حال صعود محمول، و نقل المُركب الفعلي في التركيب… إلخ.

       5 – تراكيب سور – متغيّر، كل واحد منها يتكون من سلسة ثنائية (س1، س2)، حيث يوجد السور س1 في موقع غير محوري، والمتغيّر س2 في موقع موضوع.

       هذه موضوعات ص.م المشروعة. على نحو مماثل توجد موضوعات ص.ص (الصورة الصوتية) المشروعة. يضمن [مبدأ] ت.ت (التأويل التام) أن الموضوعات المشروعة هي التي ترد فقط في المستويات الوجيهية ص.ص وص.م.

       انظر أيضًا: Chomsky (1995b, chapter 2).       

[17]    على سبيل المثال، مطلَب أن يكون مُكوِّنًا ما في جملة ما محوريًا (مثلًا، أن يستقبل بُؤرة): «سمكة» كما في (fish I like) (السمك أُحب). بمصطلحات فرضية «المركب الفعلي ذو الفاعل الداخلي» (انظر: الهامش(2) من قسم المناقشة أدناه)، كل من «سمكة» و«والألف» في أحب تنتج داخل م.ف (مركب فعلي)، وكلاهما يستخرجان من م.ف. تستخرج «سمكة» لكي تُموضع (تستقل بُورة). استخراج «الألف» في أحب يجب ألّا يشغلنا في هذا المقام.

[18]    مبدأ الإسقاط – كما هو مذكور في Chomsky (1981) – كالتالي:

       التمثيلات في كل مستوى تركيبي (مثل ص.م، والبنية – ع، والبنية – س) مسقطة من المعجم، وفي ذلك فهي تلاحظ خصائص التفريع المقولي للوحدات المعجمية.

       لضرب بعض الأمثلة لخصائص التفريع المقولي للوحدات المعجمية: الفعل «ضرب» يجب أن يأخذ مركبًا اسميًا (م.س) بوصفه مفعولًا مباشرًا له، والفعل die (مُت) يجب ألا يأخذ أي مفعول، والفعل give (أعطِ) يجب أن يأخذ م.س ومركبًا حرفيًا (م.ح).

       أًضيف لهذا المبدأ مطلَب إضافي هو أن تملك الجُملة فاعلًا، وسُميت في صيغتها المعدَّلة

       «مبدأ الإسقاط المُوسّع» (م.إ.م). انظر: Chomsky (1982). فيما بعد، عُرف هذا المطلب الإضافي لوحده باسم م.إ.م. الآن في المفهوم الأدنوي للنحو، الذي استغنى عن تمثيلات 

[19]    البنية س والبنية ع، ونفى تمثيلات ص.م التي تنتج كلامًا بلا معنى، لا مكان لمبدأ الإسقاط الأصلي Chomsky (1995b, chapter3). فيما يتعلق بالمَطلَب المُضاف (م.إ.م)، عُبر عنه الآن بطريقة مختلفة: الرأس التصريفي في المركب التصريفي (م.ت) له السِمة «الأقوى»، بمعنى أنه يجب أن يكون له مسند إليه (فاعل). انظر: Chomsky (1995b: 232) لمزيد من التفاصيل التقنية.

       نظرية الربط معنية بإسناد السوابق إلى العوائد نفسه (himself)، بعضهم بعضًا (each other)، إلخ)، وتحديد أي المركبات الاسمية في الجملة التي لا يُمكنها أن تكون سوابقًا لضمائر ( «هو، «هن»… إلخ) وضمان أن تبقى تعبيرات – ح («زيد»، الجو جميل»… إلخ)… بلا سوابق في جُملة ما. نظرية الإعراب ( نظرية الإعراب التجريدي) لها جوهريًا ناحيتان:

       (أ): إسناد حالة إعرابية (مُجرّدة) إلى المركبات الاسمية المعجمية، أي: تلك التي لها محتوى صوتي. مع ذلك انظر: ( Chomsky (1986حيث يشير إلى أن الضم – الفاقد لمثل هذا المحتوى – له حالة إعرابية. الضم (العائد الضميري) هو ما يُسمى بالـ«الفاعل المفهوم» في البنيات الغير مُتصرّفة، كما في «يريد زيد [[ضم] أن يذهب إلى المنزل]»، حيث يدل التقويس الخارجي إلى الجُملة الغير مُتصرّفة.

       (ب): تقييم سلسلة بوصفها غير نحوية تحتوي مركبًا اسميًا معجميًا بلا حالة إعرابية (تُسمى «مِصْفاة إعرابية»). يُفترض أن هذين ينطبقان على مستوى البنية – س، لكن مؤخرًا في البرنامج الأدنوي الذي تخلى عن البنية – س، والفحص الإعرابي وإسناد السوابق إلى العوائد… إلخ. تقع في مكانٍ آخر. مهمات نظرية الربط يجب أن تُنجز في مستوى ص.م. الإسناد الإعرابي لم يعد مطلوبًا بما أن المُركبات الاسمية دخلت في عملية اشتقاق مُصرفة قبلًا بالسِمات الإعرابية، يُمكن رؤية المِصفاة الإعرابية الآن بوصفها شرط وجيهي يتطلّب أن يُجرى الفحص الإعرابي خلال عملية الاشتقاق نفسها. انظر Chomsky (1995b: chapter 3 لمزيد من التفاصيل.

[20]    اُعتبر الـ «مركب» موضوع التركيب الأساسي. وفقًا لنظرية الربط العاملي، تعتبر المصطلحات التالية من النحو التقـليدي أمثلة للمركب: الجُمل الرئيسية، والجُمل المعطوفة، والجُمل التابعة، والمُركبات، مثالًا للمركب. في النسخ الأولى للنحو التوليدي المعاصر، اعتنت

[21]    قواعد البِنية المُركبيّة (قواعد ب.م) بالبِنية الداخليّة للمُركبات. ولا تزال بعض نسخ النحو التوليدي – مثل النحو المُعجمي الوَظيفي – تفعل ذلك. ثمّة محاولات لنبذ قواعد ب.م من أصلها، وأيًا ما تبقى منها في نموذج الربط العاملي فسيكون في شكل مخطط س – خط.

       قُدّمت نظرية س – خط في أواخر الستينيات. أحد أهم الأشياء التي فعلتها هو اعتنائها بالبِنية الداخلية لكل المركبات (س) في ضوء رأس (س)، والمُخصص، والفَضلة. في هذا المخطط، يُرى المركب باعتباره الإسقاط الأقصى لرأسه: على سبيل المثال، المركب الاسمي (م.س) (إبادة المدينة) هو الإسقاط الأقصى للاسم (س) (إبادة)، والمركب الفعلي (م.ف) (أُبيدت المدينة) هو الإسقاط الأقصى للفعل (أبادَ)… إلخ. اللغات التي تبدأ بالرأس (مثل الإنكليزية) لها ترتيب رأس – فضلة، واللغات التي تنتهي برأس (مثل الهندية) لها ترتيب فضلة – رأس. البِنية الداخلية لأي مركب في اللغات التي تبدأ برأس هي:

       [Xoc  SPEC [Xoc [X Head] COMPLEMENT]]

       فَضلة                                 رأس                      مُخصص

       يُمكن رؤية تنظيم س – خط بوصفه مُعيّرَة معطاة من النحو الكلي. هي قيد يجب أن تستجيب له قواعد ب.م في نحو ما حتى تمتلك مثل هذه القواعد. انظر: Chomsky (1972b) لمزيد من التفاصيل. انظر أيضًا: Chomsky (1995a) لعرض وافٍ لفكرة إمكانية التخلّص من نظرية س – خط.

       التحكم المكوني علاقة بنيوية بين كيانين في التشجير السُلمي. يوجد أكثر من تعريف واحد لهذه العلاقة في الأدبيات التخصصية. أحد هذه التعريفات كالتالي:

       يتحكم كيان «أ» بالكيان «ب» مكونيًا إذا كان كل إسقاط أقصى يشرف على «أ»، يشرف على «ب» [كذلك] في التشجير (=التشكيل) التالي، يتحكم V [الفعل] مكونيًا  بـNP

[22]    [المركب الاسمي] وPP  [المركب الحرفي]:

        V NP] PP]״[V״[V

       في ضوء تعريف آخر للتحكم المكوني، تتحكم V مكونيًا بـNP، لكنها لا تفعل ذلك بـPP

       مبدأ الإسقاط – كما هو مذكور في Chomsky (1981) – كالتالي:

       التمثيلات في كل مستوى تركيبي (مثل ص.م، والبنية – ع، والبنية – س) مسقطة من المعجم، وفي ذلك فهي تلاحظ خصائص التفريع المقولي للوحدات المعجمية.

       لضرب بعض الأمثلة لخصائص التفريع المقولي للوحدات المعجمية: الفعل «ضرب» يجب أن يأخذ مركبًا اسميًا (م.س) بوصفه مفعولًا مباشرًا له، والفعل die (مُت) يجب ألا يأخذ أي مفعول، والفعل give (أعطِ) يجب أن يأخذ م.س ومركبًا حرفيًا (م.ح).

       أًضيف لهذا المبدأ مطلَب إضافي هو أن تملك الجُملة فاعلًا، وسُميت في صيغتها المعدَّلة «مبدأ الإسقاط المُوسّع» (م.إ.م). انظر Chomsky (1982). فيما بعد، عُرف هذا المطلب الإضافي لوحده باسم م.إ.م. الآن في المفهوم الأدنوي للنحو، الذي استغنى عن تمثيلات البنية س والبنية ع، ونفى تمثيلات ص.م التي تنتج كلامًا بلا معنى، لا مكان لمبدأ الإسقاط

[23]    الأصلي Chomsky (1995b, chapter3). فيما يتعلَّق بالمَطلَب المُضاف (م.إ.م)، عُبر عنه الآن بطريقة مختلفة: الرأس التصريفي في المركب التصريفي (م.ت) له السِمة «الأقوى»، بمعنى أنه يجب أن يكون له مسند إليه (فاعل). انظر: Chomsky (1995b: 232) لمزيد من التفاصيل التقنية.         

[24]    العلاقة بين«سرق» و«كتاب» هي علاقة فعل – مفعول المألوفة (مثال لعلاقة «رأس – فَضلة» في ضوء مصطلحات س – خط النظرية)، والتي هي محليّة جدًا، ودلالية بمعنى من المعاني. في المقابل، لا توجد علاقة دلالية بين «يبدو» و«كتاب» (قارنها مع العلاقة بين «زيد» و«نام» في «نام زيد»، التي تعتبر دلالية)، فضلًا عن ذلك، وقعت «كتاب» في جُملة مختلفة (أي: الجُملة الرئيسية) من تلك التي تلقت تأويلًا دلاليًا (الجُملة التابعة).

[25]    لمزيد من التفاصيل التقنية والمفهومية حول خصيصة النقل «displacement» بوصفها نقيصة في اللغة، انظر.Chomsky (1995b: 4.7.1; 1997) :

[26]    على سبيل المثال، يدَّعي النحو المُعجمي الوَظيفي (ن.م.و) أنه توليدي، ولكنه ليس تحويليًا. له قواعد البنية المركبية، لكن ليس له قواعد تحويلية بالمعنى المألوف لها. على أي حال، النقطة التي يريد تشومسكي إيصالها هي أن الأدوات التقنية (=التخصصية) التي تستخدمها الأنحاء اللاتحويلية مثل ن.م.و، والأنحاء المُركبية المُعممة (ن.م.م) بدلًا من القواعد التحويليّة لتفسير حقائق النقل، هي ليست إلا محض بدائل مكافئة للقواعد التحويلية.

       لمزيد من التفاصيل حول ن.م.و، انظر: Bresnan (1982)، وحول ن.م.م، انظر: على سبيل المثال Gazdar (1985).

[27]    يبيّن هذا ما يُسمى بصيغة النسخة للنقل. ولتوضيح ذلك بشكل غير تخصصي متجاهلين الكثير من التفاصيل، نقول: عندما تحل حركة – oc محل مكون ما، تبقى نسخة مماثلة منها في المكان الأصلي. يُنطق المكون في الموقع الهدف، ويسند إليه تأويل دلالي (وبكلمة تقنية أكثر:محوري) في موقع أصله. المكون المنقول ونسخته يكوِّنان سلسلة.

       السؤال هو فيما إذا كان هناك أي مسوغ لوجود نسخة في الموقع الوسيط، حيث لا تُنطق ولا تؤول؟. ثمّة بالفعل شيء من التسويغ من بنيات كالبنيات التالية:

       «John seems it to have been expected to leave»

       يغادر  لـ  يُتوقع لـ   ضم حشوي  يبدو  زيد

       [يبدو أن [it] زيد تُتوقع مُغادرته]

       تُظهر استحالة وجود «it» في مكان فاعل الجُملة التابعة أن المكان مملوء قبلًا بنسخة للمكون المنقول «زيد». بعبارة أخرى، لم يقفز «زيد» مباشرةً من موقع فاعل الجُملة إلى موقع فاعل الجُملة الرئيسية، بل وصل هناك من خلال «تتابع سلكي». لمزيد من التفاصيل، انظر: Chomsky (1995b).

[28]    انظر: Chomsky (1975) لتفسير غير تخصصي لنظرية الأثر.

[29]    لشيء من النقاش حول الموضوع، انظر: Chomsky (1995b) خصوصًا في الفصلين الأول والثالث.

[30]    انظر: المراجع في الهامش رقم (1) ص 59.

[31]    الإحالة لـ Chomsky (1995b).

[32]    بعض من هذه الأدبيات التخصصية متوفرة في الأعداد الأخيرة لـ Linguistic Inquiry، وLinguistics and Philosophy، وغيرها من الدوريات. لأعمال بطول كتاب، انظر: المنشورات الأخيرة في سلسلة البحث اللساني للدراسات ذات الموضوع الواحد لمنشورات

[33]    الأخيرة في سلسلة البحث اللساني للدراسات ذات الموضوع الواحد لمنشورات معهد ماساتشوستس (Linguistic Inquiry Monograph Series of the MIT Press).