مجلة حكمة
الفهم و اللافهم التعليم

الإنسانيّ في التّربية: في ضرورة تعليم الفهم بين البشر – إدغار موران / ترجمة: عبد الوهاب البراهمي


         إنّ تجديد الفعل التربوي رهين إحياء الفهم بين البشر“.( ادغار موران)

 

    “في البداية، نحن نعلم أننا نحتاج إلى الفهم في كل علاقة لنا بالمعرفة، لأننا إذا لم نفهم درسا يقدم لنا في المدرسة، وإذا كنا لا نفهم كلام الآخرين، وإذا كنا لا نفهم ما يقوله لنا مرشّح في انتخابات رئاسية، وإذا كنا لا نفهم بعضنا البعض، حينئذ كنّا بمثابة عميان. غير أن الفهم الذي أودّ أن أحدثكم عنه هو أكثر من هذا الفهم للأشياء، وللمعارف، إنه الفهم بين البشر، زد على هذا فقد أدركتم ذلك عندما وقع إشعاركم بالموضوعات التي سيتم عرضها: الفهم بين الأجوار، وفهم رجال / نساء، وفهم الطبيب والمريض ، أو لنقل بتعبير أوسع  عن المشكل، لدينا حاجة لفهم الآخر. الآخر بوصفه شخصا قريبا منا، عضوا في عائلتنا، مثلما هو أيضا الغريب، المختلف والمماثل لنا في آن واحد. إنها الحاجة لفهم البشر فيما بينهم.  والملفت للانتباه بالفعل أن يكون هذا المشكل الذي يبدو لي حيويا، مجهولا تماما من كل أنظمتنا التعليمية، في الثانوي والجامعي. إنه مجزئ إلى قطع صغيرة منفصلة، ويبدو لي أنه من المهمّ جمع هذه القطع ، لنشير بدقّة إلى أيّ حدّ هو مشكل محوري لكل منا: لأن اللافهم هو الذي يهيمن فعلا، وهو يهيمن داخل الأسرة حيث يجب أن يشعر الجميع مع ذلك بالقرب، لكن هناك لافهم متعدد الوجوه بين الآباء والأبناء وأحيانا بين الإخوة والأخوات ، وحتى بين زوجين، وليس  مشهد المشاجرة بين الأزواج فحسب علامة على اللافهم، إنما هي علاقات يمكن آن أيضا أن تتدهور وقد تقود كل منّا إلى أن يمتنع كليّا عن فهم الآخر.

يحصل هذا في العمل، وفي علاقاتنا مع أصدقاءنا في الفريق أو في الورشة، وفي العلاقات التراتبية، وفي الحياة المهنية إذن، ثم فيما يمكن أن يكون لنا من علاقات بأشخاص التقينا بهم، وقد أقول أيضا إن المشكل اليوم، وهو ما تشعرون به حقّا في هذه المرحلة حيث تعجّ بصعوبات في فهم الذات: فهم الشعوب، وأديان الآخرين، بل قد يكون المشكل عالميا وسأعود إليه في نهاية عرضي.

   سأقول عن اللافهم بأنه يوميّ، وحاضر باستمرار بل هو كوني. يولّد اللافهم بالأساس، خلافا يمكن أن يؤدي، مع الأسف، إلى ثورات غضب وغيظ وأحقاد وهيجان ولعنات وضروب من العنف، ونحن نعلم أن اللافهم يلازم دائما الدغمائيات وأشكال التعصّب، ثم إن اللافهم ينفلت بشدّة، في حالة حرب أهلية، وحرب أديان وبين الأمم، وفي هذه الحالات يضحى العدوّ مقزّزا، مشيطنا ووضيعا..

    وفي المقابل، نحن دوما على حقّ: هم يرتكبون جرائم، بينما نحن نقع في أخطاء. تدركون إلى أيّ حدّ يشكّل هذا اللافهم مشكلا مركزيا. لننطلق من لافهم بين شخصين، إنه لأمر غريب في الأصل، ومنذ وقت، في تطوّر حضارتنا، وفي تقدّم الفردانية. وماذا تعني الفردانية؟ إنها ما يجعل الاستقلالية والنقد الشخصي والتفكير ممكنا، إضافة إلى كون الفردانية تسمح بأن تكون لنا علاقات مع شخص قد يصير صديقا، ومعه تتوطّد العلاقات الوجدانية، هذه العلاقات التي لا تنحصر في العائلة، بل قد توجد بين أشخاص جمعهم لقاء، ويمكن أن نعتقد أن نزعتنا الفردية تساعد على فهم الآخرين وقد لا تساعد على ذلك. لماذا؟ لأن للفردانية مظهرين: من جهة، إنها مسؤوليات أكثر، وسيادة أكثر، وحرية أكثر ولكن من جهة أخرى هي تمركز على الذات أكثر، إنها تعني أن نضع أنفسنا في مركز العالم.

    تساعد هذه الفردانية المتمركزة على ذاتها على تبرير الذات. يحمل كل واحد منّا في ذاته هذا الميل إلى أن يسند لنفسه أحسن الأدوار وان يترك للآخر أسوءها؛ خاصّة حينما تكون هناك خصومة، وصراع وخلاف. ثمّة آلية نفسية سمّاها الأنجليز”self déception” أي الكذب على الذات وهو شيء متداول بكثرة خلاف ما نعتقد. فحينما نكذب على أنفسنا لا ندرك ذلك، وقد ننتهي بتصديق أكاذيبنا الخاصة التي اختلقناها.

       في هذه الظروف، من البديهي،  أنه في أكثر الحضارات التقليدية حيث تكون الأسرة متماسكة وفيها احترام وطاعة للأب، وحيث علاقة الأمومة  مقدسة، أن لا يكون هناك بالتأكيد نفس هذا النوع من اللافهم. إننا نحترم ونطيع. ولكن ما الذي حدث، لقد فقد الأب قداسته، وكذا الزواج ، وفقدت إرادة الاستقلال الذاتي قداستها، وهو الذي، وأكرّر ذلك، منح حريّات مفيدة ولكن أيضا كثيرا من ضروب اللافهم. ثمّ إن رابط الزوجية الذي هو ملاذ للحبّ في عالم اللافهم، حيث يفهم بعضنا البعض، قد عرف أو أصيب بذبول سريع للحبّ، أدّى إلى لافهم متبادل ينفجر في حال الانفصال والطلاق. وفضلا عن ذلك، حينما نفكّر في الحب، فإن نقصانه يجعلنا قاصرين عن الاعتراف بخصال شخص، غير أن المبالغة في الحبّ تجعلنا قاصرين عن فهم الاستقلالية التي يحتاجها هذا الشخص، لأنها تولّد فينا نزعة استئثار وغيرة. نتبين إذن في نهاية الأمر، أن اللافهعم مشكل يمكن أن يفسد وجودنا، وكما قلت، هناك بنى ذهنية تساعد على هذا اللافهم. إضافة إلى هذه البنية الذهنية، المتمركزة على ذاتها، والتي تبرر ذاتها باستمرار، توجد بنى ذهنية أخرى مترسخّة فينا أكثر، هي على استعداد دوما للظهور، أي بنية القصاص: العين بالعين، والانتقام، وحينئذ نكفّ تماما عن فهم ما يمكن أن يعنيه الآخرين، وهذا كله، وفي آن واحد، مصدر للخوف و الكراهية واللافهم ويشكل دائرة مفرغة. لقد انتشر سرطان اللافهم اليومي في كلّ مكان عمليا، مع قتلة نفسيين . فعندما نقول عن شخص” فليمت”، فتلك طريقة في القتل محض نفسية ، ومن حسن الحظّ أنها نفسية فحسب، إذ لو تجاوزنا ذلك إلى الفعل سيكون الأمر فظيعا، ما أكثر الأموات كل يوم؛ إضافة إلى ردّ الآخرين إلى الدناءة : حينما تقول عن شخص :” أيّ قذر هوَ” ” أيّ خسيس”، فمن البديهي أنك تختزله في قذارة، وكل هذا موجود حتى في أرفع الأوساط التي يفترض أن تكون أكثر تفهّما مثل وسط المثقفين، ولكن لماذا؟ لأنه يوجد في وسط المثقفين تضخّم للأنا، فالمثقف والكاتب يحتاج إلى الاعتراف وهو في حاجة إلى المجد، وحينما يفقده، يغتاظ ممّا يتمتّع به كاتب آخر من شهرة. بل إن الغريب، هو اللافهم بين الفلاسفة ولسنا في حاجة إلى ذلك فقد بيّن “موليير”في”البورجوازي النبيل” كل هذا اللافهم بين الأساتذة: أساتذة اللغات وأساتذة آداب اللياقة وأساتذة الفلسفة الذين يتخاصمون بضراوة.

       نحن في عصر اللافهم المتبادل والمعمّم. مع أن الجميع يقول بأننا في عصر، أو في زمن التواصل: هذا حقيقي، فالكلّ يتواصل، عبر الهواتف المحمولة والانترنت والفاكس الخ. ولكن ما الذي يحدث في هذا التواصل؟ إنه الإعلام، أي مجموعة من المعطيات: غدا سيكون الطقس جميلا، ودرجة الحرارة عشرون، وإعلام عن الطقس، وعن البورصة وعن الرياضة، وإعلام عن كل شيء ولكن الإعلام ليس الفهم. يمكن أن نقول بأن كثرة الإعلام تقتل الفهم. فحينما تذيع النشرة التلفزية أحداث اليوم حدثا بعد آخر ، فلا وقت لك للفهم : لماذا حرب لبنان؟ لماذا على شركة “أربيس” للطيران أن تأخر رحلاتها؟ ويمكنك بعد ذلك أن تتابع برامج ومقالات وتحاول الفهم، غير أن مكنة الإعلام تمنحك عند المساء غيمة من المعلومات تستبدل غدا بأخرى وفي الأخير إذا ما اقتصرت على ذلك ، فلن تفهم الشيء الكثير. وأنت مجبر على اللجوء إلى مساعدة المحللّين الذين يمكنهم عندئذ أن يوضّحوا لك بعض الشيء. نحن مع الأسف في عصر الاتصالات، والإعلام ولسنا في زمن الفهم.

    ينتج عن هذا مشكلات ثلاث:

° الأول:  أن نفهم ذواتنا. وهذا غريب، زد على ذلك أنه من العسير فهم الذات ذاتها ، نحن نجعل أنفسنا شاشة لأنفسنا، ولكي نفهم  ذواتنا علينا أن نفكّر في مثال بعض الكتاب الذين يحلّلون ذواتهم باستمرار شأن مونتانيي. فبقدر النظر إلى ذواتهم إذن وبقدر تحليلها يكتسب هؤلاء حينئذ قدرة ما على البدء في فهم ذواتهم، غير أن هذه الممارسة التي تسمي من قبل الاستبطان، أي النظر في باطن الذات، لم يعد لها أي قيمة اليوم ، نحن نطلب خاصة من الآخرين مساعدتنا على معرفة ذواتنا: نطلب هذا من علماء النفس والمحللين النفسانيين والأطباء الخ. إنه لمشكل كبير معرفة ذواتنا، فهم ذواتنا؛ وهو ما لن أتوسع فيه بل سأكتفي بمجرد الإشارة إليه، فهذه محاضرة افتتاح، في حين انه أمر يتطلب ما يمكن أن أسمّيه تربية نفسية، نحن نمارس التربية الجسدية أحيانا كل صباح ولكننا لا نقوم بتربية نفسية، أي لا نقوم برياضة الفكر التي تتمثّل في النظر في ذواتنا، في ملاحظتها ، في فهم ذواتنا الخ.

° الثاني: فهم الآخرين. ولكن كيف؟

° الثالث: كيف نتعلّم الفهم؟ خاصة أنّك لن تجد من يعلّمك الفهم.

  ثلاث مستويات للفهم: الفهم الموضوعي.

فهم تعني: الانضمام إلى، مسك المجموع. التفسير: بسط ، تحليل،كل العناصر.

     قد تجد في بطاقة تعريف معلومات عن شخص، قامته، لون عينيه، تاريخ ميلاده الخ.إن هذا الفهم الموضوعي يتطلب معلومات موضوعية عن شخص وقد يدمج هذا في تفسير (تركيب مجموع معلومات)، إنه لا يكفي إضافة طول القامة وأشياء من قبيل” هذا الشخص هكذا أو كذلك”. لكن هناك فهم ذاتي وبين- ذاتي ، أي حيث يكون الأنا بما هو ” أنا”، فأشعر بالآخرين من خلال ضرب من المحاكاة النفسية، وأقوم بإسقاط لذاتي، وأماثلها بالآخرين وأفهمهم من داخل، فمثلا: إذا ما شاهدت امرأة تبكي ، أشعر حينئذ بحزنها يلج فيّ ويمكنني عندها فهم سبب حزنها: إنها تبحث عن طفلها، لكن طفلها قد قتل في قصف مدفعي الخ. يمكنني بشكل ما أن أشعر بآلامها وبالتالي أفهمها. في كارثة تسونامي عندما كان هناك أشخاص يائسون لفقدانهم أقاربهم أمكن لنا فهم ما هم فيه من شدّة، ولم ندرك ذلك فحسب، ولكن شعرنا بعاطفة دفعتنا إلى مخاطبة أنفسنا” ماذا يمكن أن نفعل لمساعدة هؤلاء ؟”، قدمنا هبات بدّدها بالطبع البيروقراطيون…ولكي يكون هناك فهم حقيقي، لابد أن يكون هناك مدّ ضخم من التعاطف، بدونه لن يكون هناك فهم. وسأضرب لكم مثلا معروفا جدا لدى الجميع لا نفكر فيه كفاية، إنه الفهم الذي يصلنا من الآخرين عندما نقرأ قصّة، وعندما نذهب إلى المسرح وبالطبع عندما نذهب إلى السينما. لاحظوا كم هذا عجيب، ففي السينما تشاهد متشردا مثل “شارلو” ” تشارلي شابلن” فتتعاطف مع هذا المتشرّد، فتفهمه، غير انّك لو قابلته في الحياة الواقعية، فستصرف عنه وجهك ، وقد تجده مشمئزّا، إنك إذن لبشع. ولنأخذ مثلا أيضا شخصيات مثل شخصيات فيلم ” العرّاب” le parrain، سواء شخصية الأب التي تقمصها” مارلون براندو”أو ” الابن” الذي قام بدوره” ألباشينو” Al pacino، ورغم أنهم مجرمون ورؤساء عصابات مافيا، لكننا نشعر أنهم ليسوا كذلك، بل نحسّ أنّ لهم مشاعر حبّ عائلي وأبوي ومشاعر صداقة وهم مجرمون في ذات الوقت، إنه الفيلسوف هيجل الذي يقول:”إذا ما قلت عن شخص ما إنه مجرم، فإنّي أجهل ما بقي من شخصيته”، وأنه لا يمكن أن يختزل في هذا الفعل الإجرامي إذ يمكن أن يكون في حياته جوانب أخرى. يوجد أولئك الذين يرتكبون جرما ويكونوا قادرين على التوبة، والأدب يقدّم أمثلة جيّدة عنهم ، مثل ” البؤساء” حيث يبدو “جان فالجون” الذي ارتكب جرما صغيرا في البداية ميّالا إلى تكرار الجرم مثلما يحدث – مع الأسف- لكل من يدخل عالم السجون، ليخرج في نهاية الأمر وقد صار أشبه بقديس. في رواية” الجريمة والعقاب” لراشكولنيكوفRaskolnikov ، نجد أن شابا قّرّر قتل امرأة دائن برهن حيازة ثم نرى المسار الذهني الذي سيقوده إلى فهم أنه قد ارتكب جريمة شنعاء.

    نفتقر إلى الفهم في حياتنا الواقعية ، وثمّة من المثقفين من يقول إننا عندما نذهب إلى السينما، نكون في وضعية اغتراب تام، إنهم مسرنمونsomnanbules . وفي الواقع، هؤلاء الأشخاص أنفسهم يعرفون أنهم في السينما لمشاهدة فيلم، غير أن التعاطف الذي يشعرون به إزاء الشخصيات، والطريقة التي يفهمون بها أنها شخصيات مركّبة وغير بسيطة، كل هذا يجعلهم أكثر شفافية ممّا لو كانوا في حالة يقظة عادية خارج قاعة السينما حيث يصبحون ثانية نوعا من المسرنمين المتمركزين على ذواتهم. إنّ هذا كلّه، من أجل أن نقول لكم إلى أيّ حدّ يمكن للأدب والشعر والفنّ أن يساعدنا على فهم الآخرين، لكن يجب أن يٌفهم أنه لابدّ أن نٌفهم. إذا تحدّثت الصحف، في مجال الإعلام، عن هذه الشخصيات فستقول إنهم” رؤساء عصابة مافيا قتلوا” أو إذا كان لها مثلا معلومات عن ” مادام بوفاري” قالت: ” امرأة زانية تشرب الزرنيخ بعد أن أثقلتها الديون”. إنها عناصر موضوعية لكنها لا تسمح أبدا بفهم الحياة ، بفهم مشاعر مادام بوفري. تلاحظون جيدا أن الفهم الذاتي يجب أن يلتحم بالفهم الموضوعي ليجمّع هكذا ويدخل في فهم إنساني، فهم للطابع التركيبي للإنسان، وفهم خطأ الفكر، إنه اختزال شخص في تصرف سيء عامّة، نبرزه  في نسيان لكل الجوانب الأخرى. نختزل شخصا ما في ايديولوجيته التي نجدها مقيتة، غير أن هذا الشخص ليس سجينا تماما لإيديولوجيته. يجب أن نعتقد انه إذا كانت لنا هذه العقلية، لزم أن نستنتج أن عقولا عظيمة من العصور القديمة كعقل أفلاطون آو أرسطو يمكن أن تختزل في عقول متشيعة للعبودية، لأن العبودية في ذلك العصر كانت تعتبر شيئا عاديا تماما، وأنها (أي تلك العقول) لم تتخذ موقفا أبدا ضدّ العبودية فحسب، بل إن أرسطو ذاته قد كتب” إن العبد أداة نشطة”. لكن لهذه العقول العظيمة ضعفها، ولها نقائصها، وما أعتقده أنا ، هو أننا لا نقدر على نسيان أنه أمكن أن توجد سمات لا إنسانية و لافهم دون أن نقدر على اختزالها في هذه السمات اللاإنسانية.إنّ الكائن البشري في تركيبيته هو في الآن نفسه عاقل” إنسان مفكّر”ومجنون. إن العقل والجنون هما وجها الإنسانية ليس بينهما حدّ فاصل ونحن نمرّ من أحدهما إلى الآخر. للبيولوجي ماك لينMac Lean   نظرية تبقى صالحة في نظري: إنه يقول إنه لدينا ثلاث أدمغة في دماغ واحد، لدينا بقايا دماغ هاميّreptilien   ، دماغ زواحف، لقد كنّا في مسار التطوّر زحافيين ، ثمّ ثديين فرئيسيينprimate( نسبة إلى رئيسات) وأخيرا بشرا. إن الدماغ الزواحفي دماغ الخوف والعدوانية والنزوة. ثم أصبح لنا دماغا ثدييا طوّر السلوك الذكيّ والجانب الوجداني في نفس الوقت لأن الثدييات كائنات لها انفعالات كبيرة. انظروا إلى كلبكم كيف ينبح بلطف لقد طوّرت القردة هذه الحركة، لتضحى قادرة على العطف والغضب. ومع تطوّر الثديات، عرف الدماغ الثالث نموّا ضخما، إنها قشرة الدماغ العليا حيث توجد إنسانيتنا، عقلنا الخ. غير أنه لا يوجد تفاوت في الدرجة بين هذه الأدمغة الثلاث: فالعقل لا يتحكم في المشاعر، والمشاعر لا تتحكّم في الغريزة، وفي العنف والنزوة. نكون أحيانا قادرين على السيطرة، ولكن أحيانا تستولي علينا الانفعالات أو الغريزة الثائرة. وأنتم تعلمون أنه في البشرية، يضع التقنيون الذين صنعوا قاذفات القنابل والأسلحة النووية العقل الذكيّ في خدمة أبشع الجرائم وأفظع الحماقات الإنسانية.

     وبعبارة أخرى، ليس هناك علاقة قارّة، نحن في نوع من الدوران، يمكن أن نمرّ من مرحلة هيمنة العقل إلى مرحلة هيمنة الغريزة وهذا هو الكائن البشري، نرى بوضوح أننا لسنا نحن أنفسنا عندما نكون عاشقين وعندما نكون غاضبين، لسنا نحن أنفسنا مطلقا، عندما نكون عاشقين، نكون أرقّاء محبين للملاطفة رائعين. وعندما نكون ثائرين أو غاضبين، نكون غير ما نحن أنفسنا مطلقا، عندما نكون عاشقين نكون لطاف محبين للملاطفة، رائعين. وعندما نكون ثائرين أو غاضبين، نكون بغيضين خسيسين ولشخصيتنا أكثر من وجه. لابد من فهم كلّ هذا، فهم ممّ أُنشأنا نحن هؤلاء البشر، على نحو نقدر بموجبه على فهم أفضل لأنفسنا ولانحرافات وجرائم الآخرين. زيادة على هذا، لابد من فهم السّياقات، وهنا تحديدا قد نصل إلى مشكل يتجاوز الأفراد داخل ثقافة واحدة : إنّنا نرى مشاكل من ثقافة إلى أخرى ، فلكل ثقافة، خاصة مع ما لديها من دين خاص، ومدوّنة شرف خاصة، ومدوّنة خاصة للمقدس تختلف كلية عما لدينا، وغالبا ما نخطأ في ممارسة آداب اللياقة حتّى في أبسط الأشياء: فعندما يلتقي ياباني بغربي للحديث في مسألة تعنيهما، فإن الياباني لن يتحدث عن هذه المسألة مباشرة، بل يبدأ بالحديث عن الصحة، عن الطقس وفي الوقت الذي تبدو فيه المحادثة قد أوشكت على النهاية، يطرح الياباني المسألة. بينما يتكلم رجل الأعمال على الطريقة الأمريكية عن المال أولا. يجب أن نتعلّم ما للآخرين من آداب اللياقة وإلاّ عرّضنا أنفسنا لسوء فهم خطير، أن يكون الآخر شخصا فظّا والعكس بالعكس. ينقاد الناس إلى مجرى الأحداث فتغيّرهم، فالحرب والثورة تغير الأشخاص. والثورة الفرنسية لم تصنع سوى شبابا كان يمكن أن يكون منهم محاميا صغيرا مثل روباسبيار، وصحفيا صغيرا مثل “مارا”Marat، وشويعر غزل متواضع مثل “سان جيست”Saint just”، وقائدا صغيرا مثل بونابرت ولكنهم أصبحوا شخصيات ذوي قدرات خارقة، وعبقريات ولكنهم قدرات إجرامية في الآن نفسه. أعتقد أن أيّ كائن بشري له مبدئيا كل الاحتمالات، أسوءها وأحسنها، ولا تتجسّد أسوء الاحتمالات إلا في ظروف قصوى مثل التي عرفها الجندي الفرنسي في الجزائر أو الجندي الأمريكي، الذي ليس عليه تنفيذ أمر التعذيب فحسب من أجل الحصول على معلومة، بل الذي يجد لذّة حقيقية في التعذيب والإذلال. إذ يوجد بالقوة في كل منّا وحش وبطل في آن واحد.

    ما الذي يجعنا غير قادرين على الفهم؟ إنها الثقافة الفكرية، حينما نكون سجناء دائرة متصلّبة من الاعتقادات، خاصة الثقافة الفكرية للمجموعات الإرهابية، في الماضي “بدر” Bader كما هي اليوم، لابد أن نكون متوهّمين، وأن يكون لنا ضرب من الإيمان المرعب كي لا نرى أبدا العالم الخارجي. لابد من فهم اللافهم، لا من أجل ذاته لنلتمس له عذرا أو نبررّه، إذ بالعكس، قد يقول لك بعضهم:” إذا فهمت كثيرا فستَعذر”، هذا ما كرّره لي سياسي هو حاليا أحد المرشحين الاشتراكيين للانتخابات. كلاّ، لن يمنعك هذا من مواجهة شخص ولكن دون اعتباره شيطانا وتصوّره مقزّزا. أعتقد أنه إذا كنّا نخشى الفهم، فذاك لأننا نخشى الحقيقة والواقع. وحينئذ يجب أن نسلك اتجاه المعرفة فضلا عن ذلك. لا يكفي معرفة نفس الوقائع ليكون لنا نفس الإدراك. حدث مثلا في وقت قريب نقاش بين ثلاثة مرشحين لرئاسة الحزب الاشتراكي، وجد أنصارهم أنّ كلّ مرشّح أو مرشحة كان أفضل من غيره. وفضلا عن ذلك عندما تستمع إلى خطاب تأويل لنفس الحدث، وتكون من أنصار ساركوزي أو لاقيي Laguiller ، فإنه ينظر إلى نفس الحدث بطريقة مختلفة تماما.هناك ضرورة إذن للوصول إلى ما بعد وجهة نظر الذات عن ذاتها ، دون أن تفارق الذات ذاتها بل أن تنظر إلى ذاتها، وتراقبها وأن تنظر إلى الغير، كتب مونتاني في القرن 16م ، زمن الاستعمار الذي انهال على أمريكا، أنّ الأمريكان اعتُبِروا لوقت طويل بلا أرواح إنسانية، وأن تدخّل “بارتولومي”Bertholomé  من لاس كازاسLas Casas لدى الكنيسة هو الذي حمل على الإقرار بأنهم ذوي أرواح، غير أن ذلك لم يمنع من استغلالهم واضطهادهم. لقد كان لمونتاني هذه القدرة على النقد الذاتي لحضارته الفرنسية ، والغربية ، وكان يقول ” نسميّ همجيا من ينتمي من البشر لحضارة أخرى”، وفي الفصل الذي خصّه لآكلي اللحوم ، كان يقول عن هؤلاء الهمجين بأنهم – في الحرب- كانوا يأكلون لحوم أعدائهم الموتى .وكان يقول أن هذا بالطبع ليس أمرا حسنا، ولكننا نحن الذين استعمرنا هؤلاء البشر، كنا نعذبهم وندفنهم أحياء ونذيقهم عذابات مرّة، هل توجد همجية أكثر من هذه؟ هل تدركون هذا النوع من الشفافية التي لمونتاني والتي يجب أن نحتفظ  بها قدر الإمكان خاصة في اللحظات التي نحسّ فيها أننا نملك لوحدنا الثقافة والحضارة.

   هناك لامبالاة تجاه الآلام، تجاه إذلال الآخر، وهذا يمنعنا عن الفهم ويبعدنا عن مشاكل اللافهم، واللامبالاة تجاه البؤس المادّي والأخلاقي ، ذاك ما يمنعنا عن الفهم. لقد أشرت بسرعة إلى صعوبات فهم الذات لذاتها، فهم ثقافة لأخرى، وما هو جدّ صعب، هو أنه لا يوجد في ثقافة ما المقدّس فحسب، ولا المحرّمات فحسب، بل هناك أفكار واعتقادات، وهناك أرباب. عندما نعتقد في إله، يتملّكنا هذا الإله، ويعطينا أوامر:” مت من أجلي”، بمثل فكرة، يمكن أن نموت من أجل فكرة. وهؤلاء الذين تملكتهم أفكار ليست أفكارنا هم مجانين وهاذون. هناك ثلاثة أديان تدين بإله واحد: اليهودية والإسلام والمسيحية، ولكنها غير قادرة على بلوغ حدّ أدنى من الفهم، من أجل التوافق حول منزلة المكان المقدس للبعض وللآخرين على حدّ السواء، هناك القدس وآثار المسيح، وهناك مسجد عمر وعاصمة الدولة العبرية، هي غير قادرة على التوافق، يأمرنا الدين من جهة:” أحبوا بعضكم البعض”، وهذا ما يعني بوجه من الوجوه افهموا بعضكم البعض، غير أنه أمكن للدين نفسه الحثّ على التفتيش، والحروب الصليبية والزندقة، وحروب في صلب ذات الدين في القرن 16م بين البروتستانتيين والكاثوليك الخ.

   هناك إذن تمركز على الذات وتمركز على المجتمع، وهو جعل مجتمعنا في مركز الكل، و في مركز الذات،إنها مصادر اللافهم والعمى والتي يمكن أن تكون كارثية. نصل إذن إلى هذه الفكرة، يقول ل”روبار أنتالم”Robert Anthelme، وهو مقاوم وقع نفيه، كتب شهادة عن ذلك تسمى”الجنس البشري”، شهادة مباشرة جدا، وجدّ إنسانية فقال:” تريد المجتمعات أن تفصلنا عن الجنس البشري، إنها لن تقدر على ذلك، ولكن نحن أيضا لن نقدر على فصل جلاّدينا عن الجنس البشري، هم أيضا بشر في ذات الوقت الذي هم فيه جلادين” إنه درس عظيم يقدّمه لنا ” أنتالم” وقد أقول بأن الفهم ما يمنع أبدا من محاربة الجلاّدين.

  يقتضي فهم الآخر فهم ذواتنا، وفهم ذواتنا يقتضي فهم الآخر. هذا في اعتقادي مما يفتقر إليه التعليم وهو ما قد يأتي الحديث عنه لاحقا.”

 

المصدر

    *  ( مداخلة لإدرغار موران 20 أكتوبر 2006  )