مجلة حكمة
الفلسفة العربية في العُصُور الوسطى / ترجمة: بشار الزبيدي

الفلسفة العربية في العُصُور الوسطى / ترجمة: بشار الزبيدي

مقدمة

بالتزامن مع ظهور الفلسفة السكولاستية المسيحية كان هناك عدة فلاسفة في العالم العربي ممن اهتموا بالفلسفة اليونانية. وكانت وقتها الفلسفة العربية في مرحلة تطور أعلى من الفلسفة الأوروبية الغربية بسبب حقيقة أن الفلسفة العربية تضمنت كتابات أرسطو الكاملة. بدءاً عن طريق ترجمة الكتابات المكتوبة للغة العربية. ومن خلال امتلاك النصوص الكاملة لأرسطو حصل تجديد أدى إلى إعادة تقييم الفلسفة في المدرسة الفلسفية السكولاستية العليا.

في هذا المقال سنناقش أولاً المقومات الفكرية التاريخية للفلسفة العربية. بعدها سيتم تقديم أهم خمسة مفكرين عرب (الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد والغزالي). ولن تُناقش علاقات الفلسفة العربية مع نضيرتها اليهودية لأسباب استيعابية.

المتطلبات الفكرية التاريخية

بعد أن وحد النبي محمد (571-632) بتعاليمه القبائل الصحراوية العربية وفق رؤية دينية وقومية ، ظهرت بعد قرون من السياسة التوسعية إمبراطورية إسلامية امتدت من تركستان إلى إسبانيا. وبقي المركز الديني للثقافة الإسلامية في مكة مسقط رأس النبي محمد. وعلى أطراف العالم الإسلامي تم تأسيس مركزين للثقافة الفكرية: مركز شرقي يُعنى بالفن والعلوم في بغداد وآخر غربي في إسبانيا والذي فُتح في القرن الثامن واستمر حتى عام 1492. في إسبانيا المُسلمة في مدينة قُرطبة نشأت صناعة يدوية فنية متطورة للغاية وثقافة فكرية حية. تميزت هذه المراكز الثقافية بخلط ثقافة الفاتحين العرب وثقافة الدول المُهيمن عليها. بالإضافة إلى الدين الإسلامي كانت العلوم والفلسفة اليونانية القديمة عنصراً هاماً في الحياة الفكرية. انتشرت معرفة الثقافة اليونانية القديمة بسرعة في القرن الثامن الميلادي عبر ترجمات وتعليقات علماء الإسلام في جميع أنحاء العالم العربي. وسرعان ما أدت حاجة تأسيس وتوسيع علم اللاهوت الإسلامي إلى ظهور فلسفة عربية يونانية.

رواد الفلسفة العربية

بالتوازي مع تطور الفلسفة المدرسية (السكولاستية) اعتمدت الفلسفة العربية في الغالب على افكار الفلسفة الأفلاطونية والأفلاطونية المُحدثة. وفي المرحلة الثانية تطورت الفلسفة الأرسطية لتصبح عاملاً هاماً.

الكندي

يعتبر إسحاق الكندي (800-873) أول أرسطو إسلامي. بالإضافة إلى عمله الفلسفي عمل أيضًا كطبيب وعالم رياضيات وفيزيائي ومنجم وعالم جغرافي. وفي بغداد قام بترجمة العديد من كتابات أرسطو وأفلاطون وألكساندر أفروديسياس ويوهانس فيلوبونوس إلى العربية. وبنى الكندي على هذا الأساس أعماله الخاصة.

كانت هذه التأثيرات واضحة بشكل خاص في عمله الرئيسي ” الفلسفة الأولى”. ثم ذهب في نطاق بحثه وأوضح أن مهمة الفيلسوف هي البحث عن الحقيقة أي بمعنى البحث عن أسباب المادة والشكل والجنس والنوع. ووضح وجود الله وفق حجة أن تعدد الأشياء الحسية المرئية يعتمد على وجود الأصل الواحد. واستناداً إلى مبدأ الخلق من العدم  ادعى كذلك أن”الله الغائب لم يخلق العالم من الأبدية وإنما العالم ظهر بفعل الله من العدم”.  وشرح بأن العالم من صنع الله وتتنقل فاعليته من الأعلى إلى الأسفل وكل شيء في الأعلى يؤثر على كل شيء في الأسفل. وهكذا نتجت سببية مستمرة في العالم حيث مكنت معرفته من التنبؤ بالتطورات المستقبلية. ووفقًا للكندي أن العالم كان مكونًا من العقل الإلهي وعالم الجسد المادي والروح بينهما. وأن الروح البشرية مصب هذه الروح الدنيوية وبالتالي فهي مرتبطة بآثارها على الجسد ولكنها مستقلة عن طبيعتها الروحية.

كان العمل المهم الآخر للكندي هو ” رسالة في العقل” والذي يستند على عمل ارسطو ” النفس ” (التمييز بين العقل النشط والخامل).

 وفيه يُبنى التفكير على ثلاث مستويات:

1- الفكر المُمكن (مقدرة الإنسان على التفكير) .

2- الفكر المُكتسب (قدرة الإنسان على فعل شيء ما- على سبيل المثال الكتابة من دون  ممارستها  ويُسمى هذا النوع أيضًا الفكر المحدث).

3- الفكر المرئي (قدرة الإنسان في تطبيق المعرفة المكتسبة  ويُسمى أيضًا الفكر الملحوظ).

تناول المثقفون العرب واللاتينيون هذا البحث على نطاق واسع امتد لقرون. كتابات الكندي عن تعريف مصطلح “الفلسفة” تُميز فلسفته الخاصة بشكل مثالي. في غضون ذلك يبدأ الكندي من وجهات النظر الست التالية:

الاشتقاق: الفلسفة “حب الحكمة” ؛ المحتوى: الفلسفة هي الجهد المبذول لضبط الأعمال الإلهية وفقاً للقدرة البشرية ؛ الهدف: الفلسفة هي الاهتمام بالموت ، أي الاهتمام بخروج الروح من الجسد والاهتمام بقتل الرغبة ؛ الأصل: الفلسفة هي فن الفنون وحكمة الحكمة والمعرفة الذاتية للبشر: الأمور جسدية أو غير مادية. لكن الإنسان يتكون من الجسد والروح والصفات والروح تتكون بعد ذلك من الجوهر، وليعرف الإنسان جوهره يجب عليه معرفة ذاته. وإذا عرف الإنسان جميع مكوناته الثلاثة  فسيدرك العالم كله.

الفارابي:

اُعتُبِرَ الفارابي (870-950) في التاريخ الفكري للإسلام “المعلم الثاني” بعد أرسطو. من خلال ترجمة النصوص الفلسفية للمؤلفين اليونانيين حرصَ على أن تكون الفلسفة اليونانية راسخة في التعليم الإسلامي. كانت الطريقة الفكرية للفارابي أقرب إلى الفلسفة الأفلاطونيةإلا أنه ربطها مع الواقعية المنطقية الارسطية والعلوم التي تستكشفها. وبناءً على المنطق الأرسطي طور نُهُجه الخاصة والتي اُستُخدمت مرارًا وتكرارًا على مر القرون وتمت مناقشتها عميقاً. كان هناك تأثيراً خاصاً طور كتابه العلمي النظري ” إحصاء العلوم”. اعتبر الفارابي الحقائق الفلسفية صالحة عالمياً واعتبر الفلاسفة أنبياء توصلوا إلى علمهم من خلال الإلهام الإلهي.

ظهرت ما يُسمى بــ ” نظرية إخوان الصفا ” والتي تضم حوالي 50 رسالة حول الدين والفلسفة والعلوم الطبيعية كُتبت من قبل أعضاء الاتحاد السري لـ “إخوان الصفا” في القرن العاشر في المشرق العربي. كما أشاروا في كتاباتهم إلى توحيد الدين المحمدي والفلسفة الهلنستية.

كان للمؤرخان الأرسطيان ابن سينا وأبن رشد أهمية كبيرة في الفلسفة العربية.

ابن سينا

تعامل ابن سينا (980-1037) على نطاق واسع مع الأسئلة الفلسفية  كما أيضا مع الميتافيزيقيا والمنطق والأخلاق. ورفض علم التنجيم لأن فائدته لم تكن قابلة للتحقق من الناحية التجريبية وغير متوافقة مع اللاهوت الإسلامي. انغمس ابن سينا ​​في المشاكل الميتافيزيقية بالدرجة الأساس في أعمال أرسطو مع التركيز بشكل خاص على كتابات الفارابي في عمله المبكر ” الحكمة العروضية ” كما تعامل مع ميتافيزيقية أرسطو. كانت الإشارة إلى أرسطو واضحة بالفعل لأن ابن سينا كان طبيباً وباحثاً في الطبيعة. وتضمنت تعليقاته على أعمال أرسطو انتقادات بناءة لآرائه وبهذا خلق ظروف لمناقشة أرسطية جديدة. طور ابن سينا ​​وصفًا شاملاً للميتافيزيقيا عن طريق ربط الفكر الأفلاطوني بالتعاليم الأرسطية. لقد فهم العلاقة بين المادة والشكل بحيث تكون إمكانيات الأشكال موجودة في المادة. ويرى أن الله ضروري في ذاته وكل الأشياء الأخرى ضرورية من خلال أشياء أخرى. إذ قال: “الله هو الكائن الوحيد الذي لا ينفصل فيه الجوهر والوجود  وبالتالي ضروري في حد ذاته.” وحسب ابن سينا فإن الله خلق العالم ​​من خلال نشاطه الروحي. وأن العقل البشري لديه مهمة تنوير البشر. ويرى أن الله المحرك الغير المتحرك تتحقق الأشكال المتدفقة منه في المادة.

لقد طور ابن سينا ​​نظامه المنطقي الخاص والذي يُشار إليه أيضًا باسم “منطق ابن سينا”. ودرس نظريات التعريف والتصنيف  وكذلك القياس الكمي للمسندات والبيانات المنطقية الفئوية. كان ابن سينا ​​شخصًا متدينًا وكان يرى الشريعة المثل الأعلى له. ومع ذلك أدت أنشطته الفلسفية أحيانًا إلى تعارضه مع الأرثوذكسية الإسلامية. وانطلاقاً من أطروحة أرسطو الخاصة بالروح  قام بتمييز القدرات العقلية الثلاثوسخرها لروح العالم. وبهذا خالف المعتقدات المركزية. وكما فعلت الفلسفة المدرسية المسيحية من بعده حاول ابن سينا ​​أن يجمع بين الفلسفة اليونانية ودينه والعقل والإيمان. لذا استخدم التعاليم الفلسفية لدعم الأسس العلمية للعقيدة الإسلامية.

من أشهر أعماله “كتاب الشفاء” وهو موسوعة علمية. يغطي الكتاب الحساب وعلم الفلك والهندسة والمنطق والموسيقى  والعلوم والفلسفة وعلم النفس. وعمله الثاني هو “دانشنامه علائى” بالفارسية الذي يقدم راعيه ملخصًا لفلسفته المستندة إلى كتاب الشفاء. كما كتب ” الاشارات و التنبيهات ” ، وهو عمل يقدم  فيه تفكيره حول مجموعة متنوعة من الموضوعات المنطقية والميتافيزيقية.

أصبح ابن سينا في الفلسفة السكولاستية اللاتينية ​​أهم ممثل للفلسفة الفارسية ووسيطً للفلسفة الأرسطية والتاريخ الطبيعي. تناول اللاهوتيون أعماله مثل توماس اكويناس وجون دانز سكوطس. وبعض تصوراته الفلسفية اعتبرها الصوفيون في وقت لاحق من الصوفية كنقطة انطلاق لهم.

ابن رشد

كان ابن رشد (1126-1198) الشخصية المهيمنة في المغرب العربي. درس القانون والطب والفلسفة في قرطبة. كان يرى في أرسطو أعظم فيلسوف وكانت أعماله في معظمها تفسيرات مفصلة لكتابات المفكر اليوناني. بدأت فلسفته بمسألة ما إذا كان ينبغي على المرء أن يتفلسف على الإطلاق و ما إذا كان هذا الأمر مسموحًا ,محرماً أو موصى به أو ضروري في القانون الديني؟ رد في النهاية ابن رشد على هذا السؤال من خلال اقتباس آيات قرآنية مختلفة فيها دعوات للتفكير بالإيمان. وحسب رأيه سيكون من المهم إيجاد أفضل دليل ممكن على التفكير اللاهوتي الإسلامي.

كان أرسطو قد صور أصل الطبيعة الناتجة من المادة ليست حقيقة واقعة وإنما لديها مجرد إمكانية تقديم الأشكال كي تنشأ فيها الحقيقة. فسر ابن رشد ذلك بقوله أن الأشكال لا تقترب من المادة من الخارج وإنما يتم احتواء جميع الأشكال في المادة الأبدية وفقًا للقدرة وتتبلور منها في سير عملية التطور. كانت وجهة النظر هذه بعيدة كل البعد عن الاعتقاد في الخلق الإلهي من العدم كما رآها الدين الإسلامي. ولم تكن هذه هي النقطة الوحيدة التي تعارض فيها ابن رشد مع الدين الإسلامي لأنه أنكر أيضًا خلود الروح الفردية ولم يعرف سوى الروح فوق الشخصية. لقد فهم ابن رشد العلاقة بين الدين والفلسفة على أنها تعني الحقيقة الأعلى والأكثر وضوحًا التي ادركها الفيلسوف في فلسفته وظهرت في الدين بتركيبة صورية تتناسب مع الفهم الضعيف لجمهور المؤمنين.

كردة فعل على الأفكار الصوفية للغزالي قام ابن رشد بتقسيم القرآن وتفسيره في كتابه ” فصل المقال ” إلى ثلاثة أقسام: آيات واضحة ومفهومة بشكل مباشر للجميع (مثل ” لا إله إلا الله. “) في دلالاتها آيات واضحة ولكن يمكن أن تفسر وتنعكس من قبل أشخاص ذوي عقول فذة. على سبيل المثال ،” الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى” “بالنسبة للبسطاء” ستُفهم الآيَةِ على أن الله يجلس كالملك على العرش ، في حين أن “الأشخاص ذوي العقول الفذة” (سيدركون أن المقصود هو سلطان الله). وهناك آيات لا يكون من الواضح ما إذا كان ينبغي فهمها حرفيًا أو مجازيًا وفيها قد يختلف رأي اللاهوتيين ( مثل آيات عن يوم القيامة). تم إدانة فلسفة ابن رشد من قبل العقيدة المحمدية وحُرقت كتاباته وتم نفيه إلى شمال إفريقيا وتوفي بتاريخ 10 ديسمبر 1198 في المغرب. لا تزال أعمالهمرفوضة بصرامة من قبل الأرثوذكسية الإسلامية. ورغم ذلك لم يتم منع مواصلة تطوير أطاريح ابن رشد.

الغزالي

أنتجت الإشارة إلى الموقف الفكري لأرسطو حركة مضادة تتعلق بجوانب صوفية جسدها حامد الغزالي (1059-1111). كان حامد الغزالي مسؤولاً عن إدخال المنطق الأرسطي والمنهج في الفقه الإسلامي واللاهوت. تم تعيين الغزالي عام 1091 من قبل الوزير نظام الملك الطوسي كأستاذ في المدرسة النظامية الدينية ببغداد. بعد اغتيال نظام الملك عانى الغزالي من أزمة عقلية قبل أن يعتنق الصوفية والتصوف الإسلامي. وتخلى عن عمله كأستاذ في بغداد وانغمس في حياة تجوال قادته إلى فلسطين وسوريا. وعندما عاد إلى مسقط رأسه (مدينة طوس ) بدأ (كعلامة صوفي) حياة انعزالية حتى وفاته.

دعا في فلسفته إلى (شكوكية) ذات دوافع دينية تدافع عن حقائق الإيمان والوحي عن طريق الشك الفلسفي ضد الادعاء بحقيقة الفلسفة. كان هذا واضحًا بشكل خاص في عمله “تهافت الفلاسفة”.

واتهم ابن سينا والفارابي بفضح وخيانة العقيدة الإسلامية من خلال تبنيهما للفلسفة الأرسطية. كان الغزالي في المقام الأول ضد نظرية الصدور ودافع عن الخلق الإلهي للعالم من خلال الإشارة إلى أن ابن سينا ​​والفارابي لم يكن لديهما الحق في تطبيق مبدأ السببية على الأُخرَوِيات.

من خلال تنظيم الفكر الصوفي ساهم الغزالي بشكل كبير في الاعتراف العام بالصوفية في الإسلام. قام بتدريس الطريق إلى الوعي الإلهي الذي يجب أن يصدر من القلب من أجل “تحرير النفس من التأثيرات غير الإسلامية للعقل “. في رؤية الغزالي للعالم هناك توليفة من الحتمية الإلهية مع الإرادة الإنسانية المستقلة. وعلى أدنى مستوى كان العالم المادي المقدر من قبل الله. وبين هذه المستويات يكمن عالم البشر الذي يتم يتميز روحه ووعيه عبر المشيئة المستقلة. ويرى الغزالي  أن الله منح الإنسان روحًا وميولاً لكن البشر هم وحدهم مسؤولين عن الفعل التنفيذي.

خلاصة

كان الجهد الفلسفي في العالم العربي يتبع ثقافة تأثر دينياً على التسوية مع الإيمان الديني. ومع مرور الوقت كان هناك تطبيق للفلسفة الأرسطية مع استذهانها العميق للدين في الفلسفة العربية. انقطع هذا النوع من التفكير من خلال دخول الغزالي إلى الصوفية والتصوف الإسلامي.

ومنذ بداية القرن الثاني عشر وما بعده ومن خلال الوساطة العربية أصبحت أعمال أرسطو الكاملة معروفة في أوروبا وعلى وجه الخصوص الكتابات الميتافيزيقية والفيزيائية التي كانت غائبة. تمت ترجمة الإصدارات العربية إلى اللاتينية (من خلال مدرسة الترجمة في طليطلة) ومنذ القرن الـ 13 تمت أيضاً الترجمة مباشرة من اللغة اليونانية القديمة. كانت أعمال أرسطو تُعتبر ضماناً لكل حكمة دنيوية والتي بدورها استمرت حتى القرن السادس عشر.


المصدر:

Arabische Philosophie im Mittelalter von Michael Lausb