مجلة حكمة
العرب والعولمة

العرب والعولمة: العولمة والاقتصاد والتنمية العربية – إسماعيل صبري عبد الله


العرب والعولمة

يقتضي الحديث في هذا الموضوع من ناحية تحديد مدلول ظاهرة الكوكبة ومحتواها، ومن ناحية أخرى موقع الأقطار العربية على الخريطة الاقتصادية لعالمنا المعاصر.

وفي صدد الكوكبة يستند حديث اليوم إلى دراستي السابقة عن “الكوكبة: الرأسمالية العالمية مع بعد الامبريالية” المنشور في مجلة المستقبل العربي، العدد 222، أغسطس 1997. واكتفى هنا بالإشارة إلى مقولات أساسية فيه. وأذكر منها أولا سبب رفض كلمة “العولمة” وتفضيل “الكوكبة”. وعلاقة هذه الظاهرة بالتطور المتسارع في التكنولوجيا. وأثنى بحقيقة أن هذه الظاهرة هي أحدث مرحلة وصل إليها قانون أساسي من قوانين الرأسمالية وهو الاتجاه الثابت نحو المزيد من تركز رأس المال والسيطرة والقوة الاقتصادية. وثالث المقولات هي استغناء الشركات متعدية الجنسية المتزايد عن الدول القومية التي نشأت مع نشأة الرأسمالية ولعبت دورا حاسما في نمو الرأسمالية وانتشارها وما صاحب ذلك من حروب متعددة. وبلغت الدولة القومية ذروة سلطانها في مرحلة الإمبراطوريات الاستعمارية الواسعة وما شهدته من حربين عالميتين أعقب أولاهما أعظم كساد في تاريخ الرأسمالية وأعقب الثانية ما يسمى اصطلاحا دولة الرفاه. وأشير أخيرا إلى مقولة “أيدلوجية السوق” أو تحول علاقات العرض والطلب والثمن من مجرد آلية اقتصادية إلى عقيدة تعود بنا إلى بدايات القرن التاسع عشر من تمجيد لمبدأ “دعه يعمل ودعه يمر” والإيمان بأن “حرية السوق” ستنشر التقدم وتصفى التخلف وتقضي على الفقر. وباسم هذه العقيدة تصبح الدولة شرا دائما وإذا كان من العسير الاستغناء الكامل عنها فلابد من تدني دورها باستمرار وتعليم “بيروقراطيتها” أساليب إدارة الأعمال.

أما موقعنا كعرب فلا يمكن تحديده إلا ضمن “العالم الثالث” وهو مجموع الدول التي خضعت لفترات مختلفة للاستعمار القديم والتي لم تعرف بالتالي إلا تنمية جزئية مشوهة وموجهة لخدمة الخارج، والتي مازالت الغالبية من شعوبها تعيش في مستويات متفاوتة من الفقر. وهي التي يسميها كتاب الغرب حياءا “الدول النامية” لأن التخلف سبة. والتي تسمى في رطانة الأمم المتحدة مجموعة السبع وسبعين وإن تجاوز عددها الحالي ذلك العدد إلى ما يقارب الضعف، تنتشر في القارات الجنوبية الثلاث. فأقطارنا جزء لا يتجزأ من العالم الثالث الذي يظل رغم تقدم بعض بلدانه الملموس وتراجع أخرى خاضعا للاستغلال والتبعية. الاستغلال بمعنى خروج جزء كبير من الفائض الاقتصادي المتحقق من عمل أهل القطر ليذهب إلى الدول الصناعية المتقدمة من خلال التجارة غير المتكافئة uneven exchange وتحويل فوائد القروض وأرباح الاستثمار الأجنبي المباشر، وأخيرا استثمارات أبناء العالم الثالث في خارجه. والتبعية بمعنى القيود الخارجية على حرية الإرادة الوطنية في صنع قراراتها والتأثير الإعلامي والإعلاني المكثف في تغيير القيم الحضارية وأشكال السلوك في اتجاهات كثيرا ما تضر بقضية التنمية (وأخطرها في تقديري محاولة محاكاة أنماط الاستهلاك المبدد التي تسود في مجتمعات الغرب). وتأكيد الانتماء للعالم الثالث ضرورة لفهم مخاطر وفرص التنمية العربية.

ويمكن أن ندلل هذا الانتماء إذا نظرنا إلى مستويات الدخل المتوسط في أقطارنا وفقا لتصنيف البنك الدولي. ففي “تقرير التنمية في العالم 1997” الصادر عن البنك الدولي نجد بين الخمس عشرة دولة عالية الداخل (أكثر من 9000 دولار في السنة) ثلاث دول عربية (الكويت والإمارات العربية المتحدة وقطر) عدد سكانها 6،4 مليون من مجموع سكان الدول العربية البالغ 252 مليون في 1995 (التقرير الاقتصادي العربي الموحد 1996). أما بقية أقطارنا بما فيها أكبر مصدري النفط فيوزعها البنك الدولي كالآتي: خمسة أقطار ليس لديه بيانات كافية للتعرف على حجم الناتج المحلي الإجمالي وبالتالي تحديد متوسط دخل الفرد (ليبيا، العراق، السودان، الصومال، جيبوتي) ونقص البيانات في ذاته دليل تخلف لأن الناجحين يزهون بإعلان نجاحهم النسبي. ونجد كلا من اليمن وموريتانيا بين الدول الأقل دخلا في العالم (أقل من 770 دولار في العام). ويقدر أن متوسط الدخل في اليمين 260 دولار، وفي موريتانيا 460 من الدولارات. وتقع بقية أقطار العرب في مجموعة الدخل المتوسط الذي يتفاوت بين 790 دولار (مصر) و7040 دولار (السعودية). فأقطارنا تتفاوت في الفقر أكثر مما تتفاوت في الثراء. وفي ضوء ذلك نعرض بالتوالي إلى الاستقطاب المتزايد بين الأقلية الغنية والأغلبية الفقيرة في عصر الكوكبة. ثم نستعرض أهم عناصر المقاومة.

1 – التركز والتهميش

نشأت ظاهرة الكوكبة وتنامت في النصف الثاني من القرن العشرين. وهي حاليا في أوج الحركة فلا يكاد يمر يوم واحد دون أن نسمع أو نقرأ عن اندماج شركات كبرى أو انتزاع شركة السيطرة على شركة ثانية، أو تنازع شركتين على السيطرة على شركة ثالثة(*). ومن المعروف أن تعبير التنمية الاقتصادية بمعنى تطوير أوضاع الدولة الفقيرة حتى تلحق بقطار المتفوقين ولو في مؤخرته ظهرت في لغة السياسة والاقتصاد بعد الحرب العالمية. وأنشئ برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP في أوائل الستينات. وعرفت الدول ما يسمى مساعدات التنمية التي تقدمها الحكومات الغنية إلى دول العالم الثالث. وظهرت قروض التنمية من الدول الغنية والمؤسسات متعددة الأطراف وأشهرها البنك الدولي وبنك التنمية الإفريقي وبنك التنمية الأسيوي وبنك التنمية للدول الأمريكية والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي… الخ. ومعنى ذلك أننا بصدد ظاهرتين متعاصرتين: الكوكبة في الشمال والتنمية في الجنوب. وإذا كانت قضية اللحاق catch-up لم تخدع العقلاء، فإن محاولة تضييق الهوة بين الشمال والجنوب بدت أمرا مأمولا فيه لدى الكثيرين من رجال السياسة ومن أغلبية أهل الفكر. وبوسعنا الآن أن نختبر بالأرقام الموثقة في البنك الدولي كي نرى حقيقة الأمور. ومن واقع تقارير التنمية التي يصدرها البنك الدولي سنويا منذ أواخر السبعينات يمكن أن نقارن الأرقام الخاصة بالناتج المحلي الإجمالي للعالم ولغالبية دوله خلال ثلاثين عاما بين 1965 و1995. وحتى نتأكد من تصور الاتجاه العام ونصحح ما يمكن أن يرد من خطأ عند مقارنة سنة واحدة بسنة أخرى أخذنا بيانات 1988 كسنة متوسطة.

الدول الصناعية السبع الكبرى:

وقد وصلنا إلى الجدول التالي الذي يبين من ناحية نصيب الدول الصناعية الكبرى السبع، ومجموع دول العالم الثالث بما فيها أقطار النفط والنمور الآسيوية، من ناحية أخرى. والتركيز على الدول السبع (الولايات المتحدة، اليابان، ألمانيا، فرنسا، بريطانيا، إيطاليا، كندا) له ميزة إظهار مفعول قانون التركز حتى داخل الدول الصناعية المتقدمة نفسها. وكدليل على ذلك نذكر أن هذه الدول تضم المقار القانونية home country لعدد 426 شركة من الخمسمائة أكبر شركات كوكبية وفقا لما جاء بالمجلة الأمريكية Fortune Magazine في عددها الصادر في 4/8/1997. أي أن القوى الاقتصادية الفاعلة في تشكيل الكوكبة ترتبط ولو شكليا بالدول السبع التي يجتمع رؤساؤها مرة كل عام. وهذا ما حمل بعض الكتاب إلى وصف قمة مجموعة السبع 7-G بمجلس إدارة اقتصاد العالم. ومن ناحية أخرى أنفقت تلك الأقطار في عام 1996 على ” أعمال البحث والتطور” أي أبحاث تحويل المعرفة العلمية التطبيقية إلى تقنيات إنتاج، مبلغ 345 مليار دولار مقاسمة بين الدولة والقطاع الخاص. وليس من العسير أن يتصور المرء تمتعها بحقوق الملكية الفكرية للأغلبية العظمى من التقنيات الرفيعة high technologies.

ومن الملحوظ أن القطاع المالي يمثل جانبا أساسيا من أنشطة الكوكبة. وهنا أيضا نرى السيطرة في إطار السبع الكبار. فبين الشركات الكوكبية في قائمة “فورشن” نجد 69 بنكا كوكبيا منها 58 مقرها الأصلي في واحدة أو أخرى من تلك المجموعة. بالإضافة لذلك نجد في القائمة المذكورة خمس شركات كوكبية تشتغل بالأعمال المالية مقارها جميعا في نفس المجموعة. وفي نشاط التأمين بأنواعه المختلفة تذكر القائمة 47 شركة منها 37 داخل مجموعة السبع. وفي مجال التخصص في عمليات الاستثمار وأدواته نجد أربع شركات منها ثلاث في الولايات المتحدة ومقر الرابعة هونج كونج.ومعروف أن النشاط المالي يلعب دورا جوهريا في تجميع المدخرات وتوزيع الاستثمارات وفي أسواق صرف العملات والسوق النقدية العالمية والبورصات الكبرى التي تشكل في الواقع سوقا واحدة مفتوحة للتعامل طوال الأربع وعشرين ساعة. ونظرا لكثرة الحديث عن ثورة الاتصالات، تورد قائمة “فورشن” أسماء 22 شركة كوكبية منها 19 في دول مجموعة السبع. وفي مجال ثورة المعلومات تتضمن القائمة المذكورة تسع شركات منتجة للحاسوب وما يلزمه من برمجيات منها ثلاث من اليابان والست الأخرى من الولايات المتحدة. ومن الجلي أن ما هو ملحوظ من زيادة نصيب قطاع الخدمات في تكوين الناتج المحلي الإجمالي في الدول الصناعية يرجع إلى الأنشطة التي عرضناها للتو.

توزيع مجموع الناتج المحلي الإجمالي في العالم

نسب مئوية

1965

1988

1995

الدول الصناعية السبع الكبرى

7،69

4،69

4،67

دول العالم الثالث

5،15

8،14

4،13

بقية الدول الأوروبية والصين

3،15

8،15

2،19

المصدر: حسبت هذه النسب أساسا من بيانات البنك الدولي في تقارير التنمية في العالم مع مراجعة أرقام أخرى

منشورة في مجلة OECD Observer (أعداد مختلفة).

ولا يحتاج هذا الجدول إلى تعليق من حيث ظاهرة الاستقطاب بين الفقر والثراء في عصر الكوكبة والتنمية المدعاة. فنصيب العالم الثالث من مجموع الناتج المحلي الإجمالي للعالم في تراجع منتظم. وهذا لا يتنافى مع واقع النمو الاقتصادي القوي في عدد محدود من دوله والمتواضع في معظمها ونمو سالب في عدد آخر. وعلى أية حال فإن الفجوة بين الشمال والجنوب تزايدت وكان المأمول أن تضيق. والتراجع المحدود في نصيب السبع الكبار كان لصالح دول صناعية (بقية أوروبا) وكذلك الصين. ومن المفيد هنا أن نشير إلى مكان العرب في هذا كله. ووفقا لما جاء بالتقرير الاقتصادي العربي الموحد (1996) بلغ مجموع الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية 7،528 مليار دولار في 1995. وهذا الرقم يمثل 9،1% من مجموع العالم. ونضيف لأغراض المقارنة أن الوطن العربي يضم 4،4% من إجمالي سكان العالم.

وينعكس هذا الاستقطاب المتزايد في تراجع مكانة الأمم المتحدة ومنظماتها المتخصصة وتصاعد سلطة الثلاثي الذي يهدر قاعدة صوت واحد لكل دولة وبالتالي تخضع لسيطرة الدول السبع الكبار في إطار إيديولوجية السوق: البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، منظمة التجارة العالمية. وقد عانت شعوب العالم الثالث كثيرا على يد البنك والصندوق وما زالت تعاني. وساءت سمعتها بين الشعوب وكثرت الكتابات في نقدهما. ولكن المولود الجديد أخطر منهما نوعيا. فنحن بصدد قانون يحكم المعاملات الدولية في السلع والخدمات والأموال (جات 1994). ومن العسير للغاية على أية دولة مهما كبر حجمها أو ثقلها الاقتصادي أن تخرج عليه دون خسارة فادحة. وبالإضافة إلى هذا “الدستور” تعد منظمة التجارة العالمية مشروع قانون دولي للاستثمار الأجنبي، وتطرح للمناقشة فكرة قانون دولي للعمل. وإلى جانب هذه السلطة التشريعية التي تمارسها المنظمة توجد لها سلطة قضائية للفصل في المنازعات المتعلقة بتنفيذ اتفاقية جات 1994. وهي تسيمها هيئة التحكيم ولكنها تسمي الأفراد الذين يشكلونها “قضاة” كما أنها تحتكر أعمال التحكيم لأنه إجباري بنص الاتفاقية. وأخيرا لديها شرطة إذ تنص الاتفاقية على لجان فحص الأداء والالتزام بأحكامها تفتش في شئون كل عضو في المنظمة مرة كل خمس سنوات. وهكذا تضع الرأسمالية الكوكبية قواعد التعامل الدولي والداخلي التي ترضيها. ولكن “إيديولوجية السوق” هذه مكنت نشاطا خطيرا هو المضاربة في البورصات العالمية مع الإفلات من كل أشكال الرقابة. وفي هذه السوق يبلغ التعامل اليومي أحيانا تريليون دولار في حين أن حجم التجارة الدولية تصديرا واستيرادا لا يتجاوز إلا قليلا 4 تربليون في العام (1995). وفي هذه المضاربات تتجمع ثروات تقدر بعشرات المليارات لا يقابلها أي إنتاج عيني. وتعتمد المضاربة أساسا على قروض البنوك، ولكنها لا تخضع لسلطة سياسية على أي مستوى منذ شارك القطاع الخاص الدولة في عملية خلق النقود بما يسميه الاقتصاديون أحيانا “النقود الكتابية” لأنها لا تتجسد في معدن أو ورق البنكنوت، وهي الآن تتمثل في علامات حاسوبية bites أو بطاقات ائتمان.

وهكذا يتبين أن آليات الكوكبة تعمل أساسا لصالح الشركات الكوكبية التي أسميناها بصدق متعدية الجنسية. ولكن هذه الشركات نشأت بالضرورة حيث كانت الرأسمالية مستقرة راسخة الأقدام، وحيث توافرت البنى التحتية المادية والمالية والاتصالية، وحيث استفادت من تمويل الدولة الضخم للبحث العلمي والتكنولوجي، وتوافرت العمالة المؤهلة وبلغت إنتاجية العمل أعلى المستويات. وهكذا وجدنا مقار 426 شركة من أكبر الشركات في العالم تنتسب أو ترتبط بمجموعة السبع الصناعية الكبرى. كما أنه من المعروف أن أكثر من ثلثي تدفقات رأس المال من دولة إلى أخرى تركز خلال أربعة عقود فيما يمكن أن نسميه الاستثمار المتبادل بين الدول السبع المذكورة cross investment. وهذا التركز على مستوى اقتصاد العالم كله كان أساسا لصالح القوى التي حققته. كما أن له ثمنا كبيرا في داخل مجتمعات تلك الدول يتمثل في نسب بطالة عالية وتزايد عدد من يعيشون تحت حد الفقر وقد تعروا من غطاء التأمينات الاجتماعية، وبدأت تلك الدول تشهد النمو الاقتصادي الذي لا تصاحبه فرص عمل جديدة. ودخلت الشركات الكبرى فيما يسمى إعادة الهيكلة restructuring وتصغير حجم أجهزتها الإدارية down sizing والتخلي عن أسلوب المجمعات الصناعية الضخمة ونشر صناعات المكونات components في شركات تابعة أو بطريق التعاقد من الباطن Sub contracting. فالتركز الشديد في الملكية والسيطرة يقابله التخصص الضيق في وحدات الإنتاج الصناعي. وهكذا اتسعت الهوة بين أعلى الدخول وأدناها وتكونت في المجتمعات الصناعية الغنية فئات من الفقراء الجدد يجب أن يشغلنا مصيرها إذ من الوارد أن تغذى التيارات السياسية العنصرية الرجعية المعادية للديمقراطية مما قد يفتح الباب أمام فاشية جديدة، ومن الوارد كذلك أن تنجذب إلى اتجاه أممي ينسق النضال المشترك مع كل فقراء العالم.

الفقر والتبعية والتهميش:

والمستودع الكبير لفقراء هذا الكوكب هو العالم الثالث الذي تراجع نصيبه من الناتج المحلي الإجمالي للعالم خلال العقود الثلاثة الماضية كما رأينا بالأرقام. وبرغم أيديولوجية السوق وسياسة الليبرالية الجديدة ألزمت ظاهرة استمرار الفقر في العالم وتزايد أعداد الفقراء بانتظام البنك الدولي بأن يتخلى عن واحد من أهم مسلمات الليبرالية وهو ما يسمى “مفعول التساقط” trickling down effect، ومقتضاه أن تزايد ثراء الأغنياء سيصفي تلقائيا وتدريجيا ظاهرة الفقر لأن الغنى المتزايد يعني تزايد الاستثمار وخلق أعداد متصاعدة من فرص العمل بحيث تنحصر البطالة وما يترتب عليها من فقر في الكسالى والمعوقين، وهذا ما يمكن أن يعالج بفعل الخير charity أي ما يتبرع به الأغنياء. وفي هذا الإطار المفهومي ليس للدولة دور يذكر فيما وراء حفظ النظام. وقد تبنى البنك بالتالي ضرورة التصدي المباشر لحل قضية الفقر direct attack on poverty وأن يكون بين مكونات السياسة الاقتصادية لكل دولة إجراءات تخفف من وطأة الفقر على المجتمع poverty allocation policies. وقد دفع هذا التوجه إدارة البنك إلى محاولة حصر أعداد الفقراء وتصنيف درجات الفقر.

وقد افترض البنك أن المعدم هو من يحصل على دخل يقل عن دولار واحد في اليوم محسوبا على أساس مقارنة القوة الشرائية لما يقابله من سعر صرف العملة المحلية، أو ما يسمى تعادل القوة الشرائية للعملتين كل في سوقه ppp. وقدر في 1995 أن عدد المعدمين في العالم 1180 مليون نسمة. ورأى خبراؤه أن ثمانين مليون منهم سيتجاوزون هذا الحد إلى أعلى في حدود عام 2000. وأضاف أنهم سيكونون من الأسيويين وسكان أمريكا اللاتينية. أما “أفريقيا والشرق الأوسط” فقد توقعوا لها زيادة ملموسة في أعداد المعدمين. وإذا ارتفعنا عن الدولار الواحد في اليوم إلى ثلاثة دولارات في اليوم (أي 1092 دولار متوسط دخل الفرد سنويا) نجد أن متوسط دخل الفرد أقل من ذلك في 57 دولة (وفقا لبيانات تقرير التنمية في العالم 1997) وهي تضم 6،3576 مليون نسمة، أي 63% من إجمالي سكان كوكبنا. وكل هذه الدول في قارات الجنوب فيما عدا ثلاث أوربيات لا يتجاوز إجمالي سكانها 10 مليون (مولدوفا، مقدونيا، ألبانيا). ومنها بالطبع دول عربية كثيرة (اليمن، موريتانيا، السودان، مصر…). ونظرا لأنماط توزيع الدخل القومي السائد ليس أفقر من فقراء الدول الفقيرة. وهذا يعني أن الدول التي يتجاوز متوسط دخل الفرد فيها مبلغ 1092 دولار الذي اخترناه عشوائيا، تضم أعدادا كبيرة من الفقراء. ومن الحقائق المؤلمة والمسلم بها ولو على مرارة، أن التفاوت في الدخول يقل في الدول الصناعية الغنية عنه في دول العالم الثالث الأقل فقرا. وإذا نظرنا في جدول تحديد نصيب كل فئة من فئات الدخل على فرض أن إجمالي الدخل القومي 100 وكذلك إجمالي دخول المواطنين وأن البحث هو عن نصيب كل عشر من السكان يشكلون فئة من الدخل من الناتج المحلي الإجمالي، الوارد في تقرير التنمية في العالم المشار إليه للتو نلاحظ أمورا هامة. ففي الدول الصناعية مرتفعة الدخل نجد أن نصيب العشر الحاصلين على أعلى الدخول يتراوح بين 8،20% من الناتج المحلي الإجمالي (السويد) و 9،29% (سويسرا). وبالمقابل يأخذ الخمس الأقل دخلا نصيبا لا يقل عن نسبة تتراوح بين 4،4% (استراليا) و 7،8% (اليابان). أما في العالم الثالث فإن قائمة الدول منخفضة ومتوسطة الدخل تضم 107 دولة منها 89 دولة من العالم الثالث (18 دولة أوروبية كانت اشتراكية). ولم يجد البنك أي وسيلة لتقدير توزيع الدخل القومي لأربعين من تلك الدول. ومن ثم اقتصرت بياناته المنشورة على 49 دولة فقط. في عشر دول (منها الهند) تراوح نصيب العشر الأغنى بين 25 و 9،29% من الناتج القومي الإجمالي. وعلى الطرف الآخر تسع دول تجاوز فيها ذلك النصيب 40% ومن بينها شيلي التي بلغ متوسط دخل الفرد فيها 4160 دولار ولكن العشر الغني استولى على 1،46% من الناتج القومي الإجمالي. ومع ذلك يسوقها الليبراليون نموذجا للنجاح الاقتصادي. وفي البرازيل حيث متوسط الدخل 3640 دولار استولى العشر الغني على 3،51%. ولا يكفي أن نقارن نصيب العشر الغني بنصيب العشر الفقير لأن الفقر أفدح من ذلك ويشمل في أقل تقدير الخمس. ونجد أدنى نصيب للخمس 1،2% في كل من البرازيل وغينيا بيساو. وبالمقابل أعلى نصيب 5،9% في رواندا، وبنجلاديش ولاوس.! وإذا اخترنا نسبة متواضعة ومعقولة مثل 5% نجد أن نصيب الخمس الفقير في 20 دولة أقل من ذلك ومنها دول غنية مثل ماليزيا والمكسيك وبالطبع شيلي والبرازيل..ويضاف إليها روسيا الاتحادية. وتتراوح النسبة في 19 دولة بين 5% و 9%.

ولا تهتم الحكومات العربية وأجهزة الإحصاء الرسمية بموضوع نمط توزيع الدخل القومي بين فئات الدخول. وأغلب من هم في مواقع اتخاذ القرار لا يعرفون شيئا اسمه منحنى لورينز أو معامل جيني. ورغم ارتباط معظم الحكومات العربية باتفاقيات وقروض وشروط مع البنك الدولي لم يجد خبراؤه بيانات تصلح للنشر إلا عن ست دول فحسب هي: موريتانيا، مصر، المغرب، الجزائر، تونس، الأردن. وصورتها لا تخرج عما سبق وصفه من أقطار العالم الثالث. فحصة الخمس الفقير في موريتانيا 6،3% وفي مصر 7،8% وتندرج الدول الأربع بين هذين الحدين. ومن نافلة القول أن هذه الأقطار لا تضم أغنى الدول العربية (ذات الدخل العالي) ولا أفقرها (مثل الصومال أو اليمن).

وخلاصة القول إن العرب مثل شعوب العالم الثالث يعيش أغلبهم في حالة فقر ويسقط عدد كبير منهم في هوة الحرمان. ولما كان أغلب أقطارنا قد تعود الحصول على تمويل من الدول الغنية فإنه يتعين أن نشير هنا إلى ظاهرة جديدة في هذا المجال. لقد أدى نجاح الكوكبة وفشل التنمية في الوقت ذاته إلى توجه لدى “الدول المانحه” نحو تصفية ما يسمى “معونات التنمية الرسمية” أي المنح والقروض الميسرة المقدمة من دولة إلى دولة ويرمز لها بالإنجليزية بحروف ODA. وقد تم تحول كبير في الرأي العام الأوروبي والأمريكي إلى أن فساد حكومات العالم الثالث أضاع المليارات الكثيرة فيما لم ينفع الفئات الفقيرة في شيء. كما أن انتشار البطالة المستقرة وتزايد الفقر بين شعوب الدول المانحة يدعم دعوى أن الأفضل مساعدة الفقراء في الداخل قبل فقراء الخارج. ولكن الأهم من ذلك هو سلوك الشركات الكوكبية. فقد كان من المعروف أن الجزء الأكبر من المعونات يعود لشركات الدول المانحة. والآن في إطار تراجع دور الدولة أو استغناء الرأسمالية الكوكبية عن وساطة الحكومات تفضل تلك الشركات التعامل المباشر مع مجتمعاتنا من حكومة إلى قطاع عام إلى قطاع خاص لأنها لا تحتاج إلى مساندة دول المقر لتفتح لها الباب فأهل الجنوب يهرولون لطرق الباب من جهتهم. ومن هنا برز المفهوم الجديد المسمى الشراكة parternership التي تهتم بتوفير أطر من العلاقات الدولية تيسر عمليات الكوكبة. ومن الإنصاف أن نذكر أن في المجتمعات الغنية أفرادا وجماعات يؤلمهم ما يرونه على شاشات التليفزيون من محن ومآسي إنسانية. ولهذا يقول صناع القرار إنهم يشجعون “المساعدات الإنسانية” في حالات الكوارث الطبيعية والبشرية التي تحل ببلدان من العالم الثالث. وإن كان من الوارد أن حسن النية لا يمنع الفساد من أن ينجح في توريد سلع غذائية أو أدوية انتهت صلاحيتها أو من تسليم أجزاء مهمة من المساعدة الإنسانية إلى مافيا محلية تتخفى وراء ادعاء سياسي أو مسمى اجتماعي. وعلى الجانب الآخر نقرأ ما يكتبه بعض أهل الغرب من أصحاب عقيدة السوق وأساسها الفلسفي الدارويني إن من لا يستطيع تدبير طعامه بجهده لا يستحق أن يعيش. ويضيفون أن تقدم البشرية خلال آلاف السنين كان عبر اختفاء المجتمعات والحضارات الأضعف وبفضل غلبة أهل العزم والقدرة والإبداع. ويذهب بعضهم إلى حد القول إن مساعدة من يعجزون عن تدبير غذائهم تجعلهم عبئا ثقيلا يعطل تقدم القادرين على غزو كواكب مجاورة للأرض.

وهكذا نصل إلى بداية الاستغناء عن دول كثيرة ودفعها إلى الهامشية. فنهاية الحرب الباردة واستحالة الحرب بين الدول الصناعية المتقدمة أفقد كل بلدان العالم الأهمية الاستراتيجية المرتبطة باحتمالات الحرب. لقد أوصلت المواجهة بين الشرق والغرب خلال العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية أهل الغرب وبصفة خاصة الولايات المتحدة إلى حد الحفاظ على أي نظام حاكم في العالم الثالث أيا كانت جرائمه ما دام يعلن عداءه للشيوعية ولا يحرص حتى على علاقة عادية مع الاتحاد السوفييتي، والمسارعة إلى تقديم مختلف أشكال العون لأي قطر له صلات جيدة مع الاتحاد السوفييتي يريد حكامه أن يستفيدوا من سخاء الغرب. وبذلك بدا سطح الأرض كرقعة الشطرنج لا يكاد مربع فيها أن يخلو من نفوذ أحد القطبين حتى يسارع الآخر إلى الحلول محله قدر الطاقة ووفقا للخيارات العسكرية قبل الإيديولوجية. أما الآن فالسائد هو إيديولوجية السوق وبالتالي حساب الأرباح والخسائر لكل تحرك سياسي أو التزام عسكري. وأبواب العالم الثالث كلها مفتوحة ودوله مرحبة بالوجود الاقتصادي الغربي دون أدنى حاجة لوجود عسكري مكلف. كذلك فقدت المواد الأولية التي تنتجها أقطار الجنوب ما كان لها من دور حاسم أيام بناء الامبراطوريات الكبرى. فنصيب المادة الأولية اليوم في ثمن أي سلعة لايزيد عن 10%. وتتجه جميع أسعار السلع الأولية اتجاها طويل المدى أو قرنيا secular كما يقال عبر تذبذبها في الأسواق في الأجل القصير. كما أن التكنولوجيا الحديثة نجحت في تخليق مواد جديدة تتفوق في مزايا أساسية عن المواد الأولية، كما أنها تتسم في جميع المجالات بالتدني بمكون الطاقة والمادة الأولية في قيمة السلعة أو الخدمة(*) وعلى العرب جميعا أن يتأملوا واقع أننا في السبعينات (مع حرب 1973) كنا نهدد بحظر تصدير البترول لمن يعادينا وأن الأوبك تمكنت من مضاعفة سعر البترول عدة مرات خلال فترة لا تزيد عن سبع سنوات. أما في التسعينات فالغرب يعاقبنا بحظر استيراد النفط من بعض أقطارنا. وعندئذ ندرك كيف أصبح “الذهب الأسود” سلاحا فاسدا كتلك التي زود بها فاروق جيش مصر في حرب 1948. وعلينا أيضا أن ندرك حقائق الأمور، فسعر البترول اليوم لا يتجاوز خمسة من دولارات 1973 ويجب ألا تغشنا الأرقام التي تزفها وسائل الإعلام عن زيادة في الأسعار(**). وفي مجال حركة رؤوس الأموال لم ننتظر استقرار البنوك والشركات ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) وهذا نتيجة لسياسة في البحث التكنولوجي تهدف لذلك أي لإبداع

Energy and material saving technologies.

ويؤكد هذا الوعي البيئي الذي يطالب بالتكنولوجيا غير الملوثة للبيئة technologies clean

(**) بدأ الدولار يفقد من قوته الشرائية ومن سعر صرفه في مواجهة العملات الأخرى في 1969 حين خفضت الحكومة الأمريكية محتواه من الذهب، وفي 1971 فصلت الولايات المتحدة الدولار عن الذهب تماما وأرغمت العالم كله على استبعاد الذهب من العملات جميعا، وأصبحت كلها عائمة. وانتهى بذلك الدور الوحيد الذي أنشئ من أجله صندوق النقد الدولي وهو تثبيت أسعار صرف العملات بين الدول الأعضاء. وثمة اتجاه قرني لهبوط القوة الشرائية لكل العملات لأسباب بنيوية في الرأسمالية العالمية المعاصرة، أنظر في ذلك:

I.S. ABDALLA: Monnaie et structure . Economique: Paris 1951.

الأجنبية في بلادنا بل سارعنا إلى الاستثمار في الغرب. ولا أتحدث هنا عن دول النفط لأن ظاهرة الاستثمار في الخارج واضحة في كل أقطار العرب وفي أفقرها. وأعرف أن استثمارات المصريين في الغرب أكبر من استثمارات أهل الغرب في مصر، وأحسب أن أكثر من قطر عربي آخر في نفس الوضع أو قريب منه. ولا حاجة في الغرب لعمالة من العالم الثالث والدليل الواضع هنا هو “حائط الصين العظيم” الذي يبنيه الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ضد الهجرة من الجنوب إلى الشمال. ولكنه يلتقط من عندنا أصحاب الكفاءات العالية (في الجامعات الأمريكية والكندية بصفة خاصة) أو الخبرات الرفيعة المنتقاة (الشركات متعدية الجنسية)، وبالطبع من يملكون ثروة في البلد الذي يهاجرون إليه.

وبقدر هذا الاستغناء المتزايد، ذبل اهتمام الدول الغربية بمساندة نظم الحكم في العالم الثالث التي تمكنت بمساندة المال والسلام الغربيين من أن تسوم شعوبها عذاب الفقر والجهل والذل والمهانة ورتعت في موارد البلاد الطبيعية والمعونات الأجنبية والدولية وأموال الفساد والنهب فكون أفرادها ثروات خرافية. وكان اختفاء السند الأجنبي الفاعل إيذانا بانهيار “الدولة ذات السيادة” وليس حلول حكم عادل محل حكم ظالم. وكان من الطبيعي إزاء انهيار الدولة الفاسدة الظالمة أن يرتد الناس من الوطنية إلى القبلية وأن تكتسب المنازعات طابع العنف وتنتشر الحروب الأهلية وحروب الحدود. وليس هذا الحديث توقعا لمستقبل نخشاه، ولكنه حاضر نعيشه. فأين الدولة في الصومال ورواندا و بوروندي والكونغو برازافيل والكونجو (زائير سابقا) وسيراليون وليبريا وأفغانستان؟. ولماذا نذهب بعيدا، ألم تستمر الحرب الأهلية في لبنان 15 عاما اختفت فيها سلطة الدولة ويعد الكثيرون نهايتها وعودة الدولة إلى الوجود نوعا من المعجزات؟ ومن يملك التنبؤ بنهاية قريبة للحرب الأهلية في السودان دون أن يتجزأ إلى عدة دول، أو عدم تجدد الحرب الأهلية في اليمن؟. ولا أريد قول المزيد في هذا الباب حتى لا أنكأ جروحا ما زالت دامية. ولكن الأحداث -لأسفي الشديد- أثبتت صحة ما قلته قبل حرب الخليج الثانية من أن عدم توجه العرب نحو التكامل والوحدة ينذر بمزيد من التجزئة داخل عدد من أقطارنا. لقد قلنا الكثير ضد التبعية ومسؤولية حكام دول العالم الثالث ونحن الآن في وضع أسوأ إذ ضاعت الدولة أصلا. والمستفيد الأول والأخير من هذه الحروب هم تجار السلاح. ويبقى دائما سؤال يحتاج إلى مزيد من البحث هو من يمول هذه الحروب وقد استمر بعضها أكثر من ربع قرن كحرب أنجولا التي لم تصف تماما حتى الآن؟ هناك عناصر للإجابة تتمثل في بعض حالات ظاهرة. فقادة “المجاهدين” المتحاربين في أفغانستان يشجعون زراعة الأفيون ويبيعونه بثمن بخس (أقل مما يدفع في شراء أفيون المثلث الذهبي). كما يبيع قادة حركة يونيتا الانفصالية في أنجولا الماس للشركات متعدية الجنسية بأقل من نصف الثمن الذي تحصل عليه جنوب أفريقيا. ومسارعة شركة أمريكية لعقد اتفاق مع كابيلا قبل أن يطرد موبوتو ويدخل العاصمة كينشاسا يرجع لأن جيشه كان قد سيطر فعلا على إقليم كاتنجا أكبر مصدر للماس في أفريقيا وربما في العالم. والقضية تستحق الاهتمام والبحث. فالمال عصب الحرب. وكل حرب تستمر عدة سنوات لا بد أن يكون لها جهة أو جهات ممولة. وهكذا على أية حال تدمر المجتمعات نفسها بدل أن تنميها(*).

2 – التنمية المستقلة في زمن الكوكبة:

يتوهم البعض من دعاة الكوكبة globalism أن الكوكبة قد محت الحدود السياسة وأهدرت قيم الوطنية والقومية، وأن الحضارة الغربية في طريقها إلى العالمية على أساس دفع الحضارات الأخرى إلى عالم المتاحف والذكريات الحلوة أو المرة على حسب هوى المتذكر. وأن هذا التغيير الشامل لوجه كوكب الأرض حتمي ونافع -ولو بعد زمن- لكل البشر. وقد أوضحنا فيما سبق الحقيقة الكريهة لمحتوى الكوكبة. فالتنمية الشاملة لمجتمعات العالم الثالث في حاجة إلى دولة ديموقراطية قوية بالتأييد الشعبي، فاعلة من خلال المشاركة الشعبية تصفى التنمية الشوهاء التي ورثتها من أيام الاستعمار قديمه وجديده ومن نظم القهر والفساد والعجز والتبعية. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) انظر:

Luc Van de Goor, Kuùar Rupesinghe and Paul Sciarone (ed.) Between Development and

Destruction. An Enquiry into the causes of Confict in Post-Colonial States”: Mc Millan 1996.

وهو نتيجة بحث أجرته وزارة الخارجية الهولندية (وزارة الدولة للتعاون والتنمية) ومعهد هولندا للعلاقات الدولية، شارك فيه وكتب فصوله عشرون باحثا من جنسيات مختلفة منهم أربعة من مواطني العالم الثالث أحدهم مصري. ومن أطرف ما قرأت فيه ما قاله باحث من جامعة هامبورج من أن “مولد ونشأة الرأسمالية تقترن دائما بالحروب. هكذا كان الحال في أوروبا، وهو الحال الآن في دول العالم الثالث. ص 54 وما بعدها.

والقول بغير ذلك ضلال تولده خديعة أو قصر نظر أو جهالة. فالتنمية مستقلة أو لا تكون إلا تنمية محدودة خاضعة لقوى خارجية مهدرة لمصالح الجماهير العريضة لا تعيش إلا لأجل محدود وفي إطار من القهر والاستغلال والفساد والتخلف رغم ما قد ينتشر في بلادها من أكل “ماكدونالد” وشرب الكوكاكولا وارتداء “الجينز وتي شيرت”، والإعجاب بموسيقى الروك ومشتقاته حتى الارتباط بشبكة انترنيت واقتناء الهاتف المحمول وتركيب “الدش” في البيت ومحل العمل.

والتنمية المستقلة ليست مظاهر خارجية (علم، نشيد وطني، تبادل السفراء، عضوية الأمم المتحدة…) كما أنها ليست اقتناء وتكديس أحدث الأسلحة التي لا تستخدم في الغالب إلا في الانقلابات، أو قمع المواطنين حماية لحكم مستبد أو في حرب أهلية أو غزو دولة مجاورة لا تهددها بأي تهديد جاد. وخبراء الاستراتيجية العسكرية في بعض دولنا على الأقل يؤكدون أن توفير الأمن الخارجي يكون ببناء “القوة الشاملة” الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعسكرية. وبلغة الاقتصاد تسمى هذه العملية التنمية الشاملة والمطردة. وجوهر الاستقلال هو توفير أعظم قدر من حرية الفعل للإرادة الوطنية المؤيدة شعبيا إزاء عوامل الضغط الخارجي وفي مقدمتها آليات الرأسمالية العالمية. وحين ناقش أعضاء الجمعية العربية للبحوث الاقتصادية موضوع التبعية في مؤتمرهم الأول قال زميل فاضل معروف بدفاعه عن الليبرالية إنه يعرف ما نسميه التبعية على أنه “الهشاشة والعجز أمام الصدمات الخارجية Vulnerability to external shocks. ولست أرفض هذا التعريف بل وأستند إليه في تعريف التنمية المستقلة بأنها القدرة على مواجهة الصدمات الخارجية والتحرر من القيود الخارجية external constraints. ولا يجوز الاستهانة بدور الدولة استنادا لسوء ما وقع من البيروقراطيات في هذا البلد أو ذاك ولكننا نؤكد إلى جانب ضرورة الدور الفاعل للدولة على ضرورة الديموقراطية والمشاركة الشعبية والتعددية السياسية والانتخابات النظيفة والنزيهة التي تحد في مجموعها من خطر البيروقراطية.

ولكن من حق القارئ أن يتساءل ألم تحمل الكوكبة جديدا يستدعي مزيدا من التوضيح لمفهوم التنمية المستقلة؟ لقد ثارت مناقشات كثيرة بين مفكري العالم الثالث في الفترة من 1975-1985 حول الموقف من المعاملات الدولية. وكنا جميعا مقتنعين تماما بأن نسق الأسواق العالمية تحكمه قوى الرأسمالية العالمية وأن كل مبادلة بين دولة في الجنوب وأخرى في الشمال هي بالضرورة غير متكافئة تفيد الدولة الشمالية على حساب الدولة الجنوبية. ولكن انقسم الرأي إلى اتجاهات ثلاثة: من كانوا يرون أنه “لا بد مما ليس منه بد”، وفي الطرف الآخر من نادوا بالانسلاخ الكامل عن هذا النسق، وكنت في اتجاه ثالث تبنى مفهوم الانسلاخ الانتقائي selective delinking أي الاستيراد بقدر حاجتنا المخططة بعد دراسة، والتصدير بما يكفي لتغطية تكلفة الاستيراد. فالأساس هو الاعتماد على النفس في كل قطر ثم الاعتماد الجماعي على النفس على المستوى الإقليمي. وكان معنى ذلك رفض دعوى “الإنتاج للتصدير” كمحرك للتنمية(*). وأعتقد أن الكوكبة وما ولدته من مواثيق وقوانين تحكم العلاقات الدولية وقعتها معظم دول الجنوب ومنها غالبية الدول العربية ينهى بشكل قطعي خيار الانسلاخ الكامل فضلا عن أنه بذاته ليس كافيا لتحقيق التنمية المستقلة، فدولة بورما “مغلقة” إلى حد كبير منذ ثلاثة عقود ولم تحقق في مضمار التنمية أي سبق. وأضيف هنا أن الانسلاخ الانتقائي صار أكثر صعوبة وأعصى منالا ولكنه ضروري في أشكال متعددة لتحسين وضع بلادنا داخل النسق الكوكبي. فنحن نتمسك بأن التنمية المستقلة لا تتجسد إلا بالاعتماد على النفس قطريا وإقليميا. ولكن هذا الاعتماد لا ينفي ضرورة التعامل مع الخارج. وفي عصر تنهار فيه الحواجز الجمركية لن تبقى التنمية مستقلة إلا بقدر دعمها “للقوة الشاملة” والقدرة التنافسية لمنتجاتها لا في الأسواق الخارجية فحسب ولكن أولا وقبل كل شيء في الأسواق الداخلية التي تفتحها جات 1994 أمام المنتجات المستوردة من سلع وخدمات ورؤوس أموال. فالخطر الأعظم اليوم لا ينحصر في علاقات القوى في شبكة المعاملات الدولية وإنما في السقوط خارج هذه الشبكة تماما أي في الاستبعاد والتهميش كما أوضحنا أعلاه. ويجب أن نعي تماما آليات التهميش. فهناك عدد كبير من دول العالم الثالث تقع في أطراف الشبكة أي في وضع يسميه الاقتصاد الأكاديمي “المنتج الحدي”. ويعرف بأنه المنتج الذي يغطي تكلفة إنتاج السلعة ولا يحقق ربحا في حين -كما يؤكد الاقتصاد الأكاديمي- يحقق المنتجون الكبار ربحا أعلى من متوسط الأرباح جزء منه، يسمونه “الربع” rent مرتبط بكبر حجم الشركة. وما يعنينا هنا أن اقتصاديات السوق تؤكد أن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) انظر تفصيل ذلك في كتاب: “دراسات في الحركة التقدمية العربية” الصادر عن منتدى العالم الثالث في إطار مشروع بحثي رعته جامعة الأمم المتحدة “المستقبلات العربية البديلة” وقد نشره مركز دراسات الوحدة العربية، يونيو 1987.

المنتج الحدي يفلس إذا انخفض سعر السوق لأن عائده يقل عندئذ عن تكلفة إنتاجه. وهذا الأمر في نظر الليبراليين محمود لأنه إعمال لقانون البقاء للأصلح الذي هو وحده سبيل التقدم المستمر، ومن ثم فإن التهميش يهدد كثيرا من أقطار العالم الثالث. وبالتالي لا بد لبلادنا أن تتجاوز الوضع الحدي بمسافات كبيرة.

ومن ناحية أخرى لا بد أن نأخذ في الحسبان ظاهرة استغناء الشركات الكوكبية عن الدولة بمفهومها التقليدي. فهي توظف الدولة في فتح أسواق جديدة وواسعة. ونرى الآن أمثلة لرؤساء دول أو حكومات يزورون رسميا دولا أخرى وفي رفقتهم “رجال أعمال” وفي حقائبهم مشروعات عقود كبيرة. وأصبح نجاح أو إخفاق الزيادة الرسمية مرتبطا بحجم ما تم التعاقد عليه. وهو ما يبدو عبر وسائل الإعلام كعملية تنشيط ودعم لشركات من جنسيه الزائر يؤدي بدوره إلى خلق فرص عمل جديدة. ولكن الشركات الكوكبية التي تستفيد من العقود لها مصانع في أقطار متعددة ويمكن أن تورد منها ما يعادل نسبة عالية من قيمة العقد الذي فاز به الرئيس الزائر. ومن ناحية أخرى كشفت التحقيقات الجنائية في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا على سبيل المثال أن معظم الأحزاب السياسية الكبيرة تتلقى دعما ماليا كبيرا من الشركات المعنية. وثبت أن بعضها يمول حزبين متنافسين حتى لا تأتي نتيجة لانتخابات بأي شيء سلبي يمكن أن يضايقهم. وهكذا تحول رجال الدولة من statesmen إلى بياعين salesmen وظهرت في أمريكا دعوة قيادات الشركات الكبرى corporate leaders لأن يتحلوا ببعض صفات رجال الدولة، أي أن يراعوا الجوانب السياسية والاجتماعية وضرورات الاستقرار إلى جانب اهتمامهم الأصيل بتعظيم الربح. لكن قادة الشركات الكوكبية لهم حسابات تختلف عن حسابات السياسيين في أحيان كثيرة. وهنا يضغطون في أحوال معينة على الحكومة لتغيير سياستها. وأكبر مثل على ذلك تخلي الولايات المتحدة عن تسوية قضية الأسرى والمفقودين من الجنود الأمريكيين كشرط حاسم لعودة العلاقات الدبلوماسية مع فيتنام. فقد أعيدت تلك العلاقات لتأخذ الشركات الأمريكية نصيبا من سوق انفتحت على التعامل الخارجي وتسابقت الشركات متعدية الجنسية إلى أرضها. وترك موضوع الأسرى والمفقودين للتفاوض الهادئ والإجراءات المتدرجة التي لا يعلن عنها. وفي مثال آخر يطالب قادة الشركات الكبرى التي مقرها الولايات المتحدة برفع الحصار الذي تفرضه واشنطن على كوبا، وبشكل خاص إلغاء التشريع الذي يحظر على الشركات الأمريكية التعامل مع هذا البلد. ولكنهم يلقون مقاومة شديدة من “مافيا المخدرات” الكوبية المستقرة في فلوريدا أساسا والتي تشتري ذمم عدد كبير من أعضاء مجلسي الكونجرس. ومهما يكن من أمر هذا الصراع سارعت شبكة CNN إلى افتتاح مكتب لها في هافانا العام الماضي. ولم تتخذ الإدارة الأمريكية أي إجراء قانوني ضدها حتى هذه اللحظة. وقد أصدر الكونجرس الأمريكي منذ أكثر من سنتين قانونا بمعاقبة الشركات غير الأمريكية التي تتعامل مع إيران. والعقاب هنا يكون بحظر نشاطها في الولايات المتحدة أساسا. وفجأة أعلن أن شركة توتال الفرنسية المقر قد وقعت مع إيران عقدا في صناعة البترول قيمته ثلاثة مليارات من الدولارات. ولم يثر هذا الأمر أي نزاع بين واشنطن وباريس، ولا سمعنا عن معارضة شركات بترول أمريكية لانفراد شركة فرنسية بهذا العقد الدسم. والسبب عندي يرجع إلى أسلوب عمل الشركات الكوكبية القائم على استخدام شركات تابعة لها أو التعاقد من الباطن مع شركات أمريكية أو شركات تابعة لتلك الشركات.

وأسوق هذا الحديث لإبراز واقع جديد على حكامنا وهو أننا سنتعامل أكثر فأكثر مع شركات متعدية الجنسية وأن مكانة العلاقات بين الحكومات تتراجع أكثر فأكثر في إطار ما يسمى الشراكة أو إقامة منطقة حرة…الخ. وترجع أهمية هذا الوضع الجديد إلى ضرورة تعزيز قدرتنا التفاوضية مع هذه الشركات. ومن ثم يتعين البحث عن عناصر القوة التفاوضية التي تحترمها هذه الشركات بعيدا عن الإيديولوجيات والعبارات الإنسانية والصيغ السياسية المعدة للاستهلاك العام. وفيما يلي أقدم ما توصلت إلى أنه عناصر قوة لأي قطر من العالم الثالث.

1 – حجم السوق الحالية أو الاحتمالية:

من نافلة القول تأكيد أن الشركة الرأسمالية تسعى دائما إلى أسواق متنامية لتصريف ما تقدمه من سلع أو خدمات. ويسعدها انسياب منتجاتها بين عشرات الملايين وعبر مساحات شاسعة دون إجراءات تصدير أو استيراد أو مرور بالجمارك أو ضرورة جواز سفر عليه تأشيرة دخول…الخ. ومن هنا يأتي إهمالها الكامل للأقطار الصغيرة الفقيرة التي تشهد الانقلابات العسكرية أو أعمال عنف سياسية أو حرب أهلية. وهذا الإهمال قد انعكس في حرص الرأي العام الأمريكي على رفض أن يموت جنود أمريكيون في معارك من أجل فض قتال في أفغانستان أو محاولة إقامة دولة في الصومال. حتى مأساة البوسنة (وهي بلد أوروبي) تدخلت الولايات المتحدة في إطار حلف الأطلسي وبأسلوب يضمن حياة جنودها إلى أقصى حد ممكن. وعلى العكس مارست الشركات الكوكبية كل صنوف الضغط لدعم العلاقات التجارية مع الصين رغم كل ما قيل عن عدم احترام حكومتها لحقوق الإنسان، وبرغم انفراد الحزب الشيوعي بالسلطة فيها، هذا مع العلم بأن الصين لا تقدم أي إعفاءات ضريبية للمستثمرين. ومن المعروف أن “النمور الآسيوية” عاشت تجربة النمو الاقتصادي في ظل حكم دكتاتوري مستبد لم تتخلص منه إلا كوريا الجنوبية في التسعينات. وكمؤشر جزئي على أهمية حجم السوق نذكر بأن الهند في السنوات الأربع الأخيرة تلقت أكبر حجم من الاستثمار الأجنبي المباشر في بلدان العالم الثالث. وفي تفسير هذا الإقبال الكبير نجد حقيقة ذكرها رئيس وزراء الهند عند لقائه بمثقفين مصريين أثناء زيارته لمصر في أكتوبر 1997 من أن ثلث الهنود حاليا طبقة وسطى، أي حوالي 300 مليون لهم تطلعاتهم الاستهلاكية المشروعة ويمكنهم دخلهم من شراء ما يرضونه. ولما كانت تعاملات الشركات الكوكبية محكومة بما يسمى “التخطيط الاستراتيجي” وهو دراسة لاحتمالات المستقبل في مجالات نشاط الشركة في المدى المتوسط، كان من الطبيعي أن تأخذ في الحسبان إمكان تحول فئات جديدة من الناس إلى طبقة وسطى في السنوات الخمس القادمة مثلا، وهو ما أسميه السوق الاحتمالية.

2 – معدلات نمو اقتصادي عالية ومطردة:

وبديهي أن تحول السوق الاحتمالية إلى سوق فعلية يتوقف قبل أي شيء على الزيادة في الدخل القومي واتساع قاعدة من يستفيدون من تلك الزيادة. ولا يعني في هذا المقام ضرورة تحقيق معدلات نمو استثنائية تقترب أو تتجاوز 10% سنويا، بل يكفي معدل ثلاثة أضعاف معدل زيادة السكان السنوية، حوالي 6%. وذلك لأن الأهم هو اطراد النمو عبر عشر أو خمس عشر سنة. والارتفاع الكبير يمكن أن يكون استثناء ولفترة محدودة. كما يمكن إذا كان الارتفاع بسبب حدث معين (كشف بترولي مثلا) أن يليه انخفاض حاد. وعلى العكس من ذلك يعني اطراد معدل نمو مرتفع أن الاقتصاد القومي يسير بخطى ثابتة وبطريقة مامونة يمكن أن تكون أساسا يعتمد عليه الأطراف الخارجية في تخطيطهم الاستراتيجي. ونعود لحالة الهند لاختبار صحة ما نقول. لقد كان متوسط معدل النمو الاقتصادي 8،5% خلال السنوات العشر 1980-1990. وفي النصف الأول من التسعينات الذي شهد تراجعا عاما في معدلات النمو وخاصة في جنوب شرقي آسيا كان معدل المتوسط السنوي 6،4%. ونجد وراء هذا الأداء زيادة معدل الادخار المحلي (في هذا البلد الفقير) فقد ارتفع من 17% في 1980 إلى 22% في 1995. كذلك ارتفع معدل الاستثمار المحلي من 21% إلى 24%. وفي مجال توسيع السوق المحلية يلعب نمط توزيع الدخل القومي دورا أساسيا. فتركز الدخل في يد العشر الأكثر دخلا يخلق طلبا على السلع الترفيهية ولكنه طلب محدود بقلة عدد الأغنياء في حين يقف الفقراء وراء أسوار السوق لأنهم محرومون من القوة الشرائية اللازمة لدخولها. وكلما كان التوزيع أكثر عدلا اتسعت السوق أساسا باتساع قاعدة الطبقات الوسطى. ومن ثم تكون عدالة التوزيع عامل قوة اقتصادية في التفاوض وليس مجرد إرضاء الرغبة المشروعة في توفير قدر من العدل الاجتماعي، ناهيك عن التخفيف المستمر لوطأة الفقر الذي يدعو إليه البنك الدولي.

3 – القدرة العلمية والتكنولوجية:

لم نكف نحن العرب عن ترديد مقولة “عصر العلم والتكنولوجيا” الذي يجب أن ندخله طيلة العقود الثلاثة الماضية. ومع ذلك لا أعتقد أن أوضاعنا قد تحسنت كثيرا عن الصورة التي قدمتها دراسة أنطوان زحلان في أواسط السبعينات. في حين تقدم غيرنا في العالم الثالث في نواحي كثيرة. ونكتفي هنا بالإشارة إلى جانبين هامين في هذا الشأن. وأولهما أن الإنتاج الحديث للسلع والخدمات لا مكان فيه لعامل غير مؤهل علميا. وما لا نمتلكه من المعارف والمهارات ننجح أحيانا في شرائه بثمن باهظ أبرز أمثلته أجور العمالة الأجنبية من ناحية وحقوق الملكية الفكرية من ناحية أخرى. وليس لنقل بعض التقنيات الجديدة في مواقع محدودة مفعول مضاعف ينشر بذاته المعرفة التقنية في جنبات المجتمع. كما أن اقتناء الأدوات الحديثة لا يأتي معه بالقدرة على الاستفادة منها إلى أبعد حد. والمثل الذي يقلقني شخصيا هو عدد أجهزة الحاسوب التي انتشرت في مكاتب وبيوت كثيرة في مصر والتي أعتقد أننا لا نستخدم من طاقاتها الكاملة إلا في حدود 10%. وما زالت صناعة البرمجيات Software في الوطن العربي تحبو خطواتها الأولى. في حين أن الهند مثلا ثاني مصدر للبرمجيات في العالم بعد الولايات المتحدة. فالآلة الأكثر تقدما لا تعطي كل قدرتها إلا إذا تعامل معها أفراد مؤهلون يتقنون التكنولوجيا المستعملة فيها ولديهم طلب اجتماعي يقتضي استخدامها. وإذا كان كلينتون في خطاب افتتاح مدة رئاسته الثانية قد نادى بإتاحة التعليم العالي للجميع، فإنه لم يكن يصدر عن شعور عميق بالتضامن مع الفقراء أو اقتناع حميم بالعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص. وإنما دفعه إلى هذا ما تتطلبه الشركات الأمريكية من عمالة حاصلة على هذا المستوى من التأهيل. فإذا أردنا أن ننافس المتقدمين وأن نحسن موقعنا على نحو ملموس ومتزايد في اقتصاد العالم فلا سبيل لذلك إلا بالتعليم والتأهيل والتدريب وإعادة التأهيل وتكرار التدريب وبث التطلع إلى المزيد من المعرفة لدى أجيالنا الشابة وإعلاء قيمة الإتقان في العمل. والأمر الثاني هو بناء قاعدة علمية وتكنولوجية وطنية قادرة على تطويع المستورد من التقنيات وتحديث ما هو قديم عندنا وإبداع حلول تكنولوجية جديدة. وفي حدود دراستي للأوضاع في مصر وجدت أن المشكلة الأساسية هي ندرة الطلب الاجتماعي على منتجات البحث العلمي والتكنولوجي. لقد أنشأت مصر -لا سيما بعد ثورة 1952- عشرات من مراكز البحث العلمي والتكنولوجي المتخصصة بالإضافة لما أنشأته من جامعات. وتضم هذه الوحدات العلمية الألوف المؤلفة من حملة الدكتوراه. ولكنها تبقى طاقة عاطلة يعلوها صدا القدم والإهمال. فما دام أصحاب القرار في الحكومة والقطاع العام والقطاع الخاص لا يدركون تماما أهمية البحث العلمي ذكرناها بالرغم من أهميتها لعمليات البحث والتطوير. هل يعرف أحد تكلفة البحث والتطوير في أقطار العرب الغنية أو الفقيرة أو متوسطة الحال؟وحيث يوجد أنفاق على مراكز بحوث هل يتجاوز إجمالي مرتبات العاملين ويسمح باقتناء المراجع وأدوات البحث العلمي الحديثة.

4 – الاستقرار السياسي:

ولا يعني هذا التعبير تجميد الأوضاع القائمة والحفاظ على بقائها لأن هذا هدف مستحيل في المدى الطويل، ويمكن أن يكون في الأجل المتوسط سببا لقلاقل اجتماعية وهزات سياسية وأعمال عنف وتدمير. وإنما يتحقق الاستقرار بوجود آليات سلمية لتداول السلطة بين قوى سياسية (وليس مجرد أشخاص) نشيطة في المجتمع. وهذا لا يتصور إلا ملاصقا للتعددية السياسية وحرية العمل السياسي وتكوين الأحزاب وحرية حركتها. ولا تزدهر التعددية ولا يتحقق التداول السلمي للسلطة إلا بالانتخابات المباشرة بين مرشحين متعددين يصدق عليها وصف النظافة والنزاهة كما يقول رجال القانون وكذلك الإعلام الغربي. ومثل هذا التغيير من طبيعة الأمور فلا شيء في الكون يبقى على حاله. ولكل مجتمع تناقضاته الداخلية وبه مصالح متعارضة ووجهات نظر بل وفلسفات متنوعة. وميزة الديموقراطية هي أنها تنظم قواعد الصراع الاجتماعي وتفتح باب انتقال السلطة من حزب (أو أحزاب مؤتلفة) إلى حزب آخر (أو مجموعة أخرى من الأحزاب). ولكل حزب سياسته المعلنة وبرامجه التي يروج لها بحيث لا يفاجأ المجتمع بحكام لا يعرف عنهم شيئا كثيرا يطبقون سياسيات لم تكن منتظرة. وكان نمو الديموقراطية الغربية الديموقراطي الذي تحقق أساسا بسبب نضال الجماهير ودفاعها عن حقوقها المشروعة واقتحام ممثليها مواقع صنع القرار، فرصة للرأسمالية للبقاء بقبول تداول السلطة في إطار مجتمع رأسمالي دون تهديد بالإطاحة بالرأسمالية كطبقة حاكمة. ومن ثم ظهرت الدعوة إلى المشاركة الشعبية المباشرة في صنع القرار. ومن وسائل هذه المشاركة تمتع الحكم المحلي القائم على الانتخاب الحر والمسؤولية أمام ناخبيه بسلطات حقيقية تنتزع من جهاز الدولة المركزي. ومن أشكاله أيضا مشاركة العاملين في إدارة الشركات في القطاع الخاص (وهذا مطبق في ألمانيا منذ الستينات) ومشاركة المنتفعين في إدارة الخدمات: المدارس، المستشفيات…الخ. وفي تقديري أن انتقال المجتمع من الرأسمالية إلى الاشتراكية يكون بالطرق السلمية، أي حين تقتنع أغلبية المواطنين الواضحة (وليس المطلقة فقط) بعناصر نمط الإنتاج الاشتراكي المحدد النابع أصلا منها والمطروح عليها. ولا يجوز أن يكون الانفراد بالسلطة السياسية وحرمان المجتمع من تداولها السلمي ثمنا للحصول على العدالة الاجتماعية. فأنبل ما في الاشتراكية هو النزعة الإنسانية العميقة التي تدفع إلى النضال من أجل أن يتحرر المواطن من القهر السياسي والظلم الاجتماعي معا.

وقد تنبه المفكرون ونحن نقترب من نهاية القرن العشرين إلى انتشار ظاهرة الفساد المرتبط بالحكم والسياسيين على نطاق لم يكن معروفا من قبل. وتوفر الديموقراطية إلى حد كبير وسائل الكشف عن الفساد ومحاكمة الفاسدين(*). وأعتقد أن حجم الفساد السياسي في الدول الديموقراطية الغنية مرتبط بتراجع دور الدولة وهيبة كبار المسؤولين فيها أمام ما تملكه ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) ولا يفوتنا هنا الإشارة إلى المثل الرائع الذي ضربته إيطاليا في الحرب ضد الفساد والمافيا المتداخلة مع الأحزاب الحاكمة وأدت إلى تصفية شبه كاملة للحزب الديموقراطي المسيحي الذي حكم البلاد أكثر من أربعين عاما بعد أن دخل عدد من أبرز قياداته السجن بأمر القضاء، وكذلك الحزب الاشتراكي الذي فر رئيسه إلى تونس. وتم كل ذلك بإجراءات قانونية عادية وعلى يد قضاة نزيهين وهذا ما يثبت أنه من الممكن بالديموقراطية تصفية بنية الفساد الأساسية.

الشركات الكوكبية من نفوذ وسلطان وأموال تتزايد باستمرار. وفي ظل الكوكبة أصبحت مراكز القيادة في الشركات الكبرى أهم في نظر الكثيرين من مناصب الوزارة. وأصبحت مناصب الدولة وسيلة للإثراء حتى لو أدى الحصول على الأموال إلى فقدان المنصب السياسي. ولكن أثر الفساد في أقطار العالم الثالث أعظم بكثير. فهو فساد مصحوب بجهل وانعدام كفاءة يعود بأضرار بالغة على جهود التنمية. فالمسؤول السياسي الذي يقبل رشوة من شركة يتعاقد معها يقبل أن تدفع بلده ثمنا أعلى من المتاح في الأسواق أو تقبل سلعا أو خدمات من مستوى أدنى بكثير من المتاح. وقد كتبت قبل 15 عاما “إن الفضيلة في مجتمع فقير قيمة اقتصادية وليست قيمة أخلاقية فقط” وأكرر أن مجتمعا لا يميز بين الحلال والحرام أيا كان مقياس ذلك يسير بالضرورة إلى الهاوية. وعلة أية حالة فإن أحدث صيحة ظهرت بعد أن فجر الرئيس الحالي للبنك الدولي خطر الفساد هي شعار “الحكم الجيد” وهذه ترجمة غير دقيقة للمصطلح الإنجليزي good governance.

3 – التوحد ضرورة بقاء:

قصة نجاح متوقع:

ولا ننفرد نحن بالقول باستراتيجية التغلب على التبعية والفقر والتهميش. بل إن أحد معاقل البحث العلمي الجاد وفي الوقت ذاته التحبيذ المطلق للكوكبة ودراسة سبل التطور على مستوى العالم في ظلها يقدم ما يؤكد ما وصلنا إليه من أفكار حول إمكان الإفلات من القيود التي تربط معظم بلدان العالم الثالث بالتخلف والاستبداد والظلم الاجتماعي والعنف السياسي، وهو منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية OECD التي تضم كل الدول الصناعية المتقدمة في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية بالإضافة إلى ثلاث دول أوروبية شرقية انضمت بعد سقوط الحكم الاشتراكي فيها ومذلك ثلاث من العالم الثالث واقعيا وضمت لأسباب سياسية (ومجموع العضوية 29 دولة). وقد سارت هذه المنظمة (التي تعتمد على البحث والدراسة واقتراح الحلول ومتابعة تطورات الاقتصاد في كل دولة عضو فيها ومقابلة كل هذا بما يجري في العالم خارجها، إذ أنها لا تصدر قرارات ولا تتبنى إجراءات عملية وإنما توفر سبل التعاون والتنسيق من خلال اجتماعات على مستوى الوزراء تعد لكل منها الإعداد الجيد). بين أمور أخرى على إجراء دراسات مستقبلية عن أوضاع أعضائها وبقية دول العالم لمدة 25 سنة قادمة. وفي 1975 أعدت المنظمة مشروعا بحثيا بعنوان Interfutures لتصور نمو اقتصاديات أعضائها وعلاقة هذا النمو بما يجري في العالم الثالث حتى نهاية القرن. وفي 1995 أجرت دراسة أخرى تمتد إلى 2020 اسمها Interdépendance أو الاعتماد المتبادل. وتمت الدراسة عن طريق إعداد نموذج توازن عام(*) صمم على أساس معطيات ثابتة عن السكان والموارد الأولية (أي متغيرة في حدود معروفة وواحدة أيا كان سيناريو التطور) وبنت اعتمادا على هذا النموذج سيناريو أول يفترض نمو اقتصاد أعضاء المنظمة بمعدل ثابت 3% سنويا طول الفترة، ومعدل نمو الدول غير الأعضاء يبلغ 7،6%. ويستند تقدير هذه المعدلات على نجاح الإصلاحات الاقتصادية والسياسية التي توفر الحرية الكاملة لحركة المبادلات والاستثمار بين كل الدول، لأنها ترى أن تلك الحرية تدفع إلى زيادة كبيرة ومتسارعة في الإنتاجية. أما السيناريو الثاني فإنه يتعلق بالتطور الذي يخفض معدله تأخر عدد من الدول عن إجراء التحرير الكامل للتجارة الدولية والاستثمار الدولي. والمقدر أن يكون عندئذ معدل النمو 3% في دول المنظمة و 5،4% في الدول الأخرى. ما يعنينا هنا هو ما وصلت إليه الدراسة من أن خمس دول ستصبح في 2020 من الدول الكبرى التي تأخذ نصيبا وافرا من مجموع الناتج المحلي لدول العالم وكذلك من إجمالي التجارة الدولية. وهذه الدول الخمس الكبرى الجدية هي: روسيا، الصين، الهند، البرازيل، إندونيسيا. وذلك على النحو التالي:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) General Equilibrium Model

OECD: L observateur de l’OCDE, n° 207 Août – Septembre 1997.

 

 

الناتج المحلي الإجمالي للعالم وتوزيعه

1995

2020ب

2020أ

العالم(تربليون دولار)

8،30

66

101

دول المنظمة (% من المجموع)

61

49

38

الخمس الكبار الجدد

21

31

37

بقية دول العالم

18

20

25

(المرجع السابق: أ – السيناريو المتفائل، ب – السيناريو المتحفظ).

وأول ما يلفت النظر في هذه النتائج هو تراجع نصيب الدول الأعضاء في المنظمة في جميع الأحوال (وإن بنسب مختلفة وبفروق بينها كبيرة). كما نلاحظ أن الدول غير الأعضاء في مجموعها تحسن وضعها وإن كان الفائز الأكبر هو الدول الخمس الكبرى الجديدة التي يرتفع نصيبها بعشر نقاط مئوية في السيناريو المتحفظ و 17 نقطة في السيناريو المتفائل. في حين أن بقية دول العالم تحقق تحسنا متواضعا للغاية (2 نقطة مئوية بعد 25 سنة) في السيناريو المتحفظ، أما في السيناريو المتفائل فتحقق 7 نقاط. ومن ثم يبدو تراجع دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية يتناسب بالذات مع تقدم تلك الدول الخمس.

وتعطى أرقام التجارة الدولية المتوقعة انطباعا مماثلا مع شيء من الاختلاف في النسب.

حجم التجارة الدولية وتوزيعه

1995

2020ب

2020أ

العالم(تربليون دولار)

6،7

17

28

دول المنظمة (%)

61

59

49

الخمس الكبار الجدد(%)

10

14

21

بقية دول العالم

23

27

30

وواضح في الجدول التراجع الملموس لنصيب دول منظمة التعاون والتنمية في التجارة الدولية بصفة خاصة في السيناريو لمتفائل، ولكن ما يلفت النظر هو التواضع النسبي للزيادة في نصيب الخمس الكبار الجدد. ويفسر ذلك الاتساع المتوقع الداخلية في هذه الدول كثيفة السكان تحت التأثير المزدوج لزيادة السكان والارتفاع المطرد في الدخول.

وإذا تركنا جانبا كلا من روسيا والصين على أساس أنهما في جميع الأحوال من الدول الكبرى ذات الأسواق الواسعة. ونحن في العادة لا نعد الصين من دول العالم الثالث. وهي ليست في مجموعة السبع والسبعين في الأمم المتحدة ولا في حركة عدم الانحياز. ويتعين علينا النظر في الدول الثلاث التي لاشك في أنها من دول الجنوب وأن ليس بينها دولة غنية بمقياس متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي. وبالرجوع إلى أساس اختيار منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية للدول الخمس نجد أنها تركزت في أمرين عدد سكان لا يقل عن مائة وخمسين مليون نسمة وناتج محلي إجمالي لا يقل عن مائة وخمسين مليار دولار وفيما يلي أرقام الدول الثلاث في 1995.

عدد السكان (بالمليون)

الناتج المحلي الإجمالي (مليار دولار)

الهند

3،929

1،323

إندونيسيا

2،159

1،198

البرازيل

2،159

1،688

(المصدر:

البنك الدولـي – تقريــر

التنمية في العالم 1997)

مجموع الدول

العربية

8،252

7،528

(المصدر: التقرير الاقتصادي العربي الموحد، سبتمبر 1996. ويلاحظ أن النفط والغاز الطبيعي يمثلان خمس هذا الرقم).

الاختيار الحاسم:

وفي ضوء ما تثبته التجارب الناجحة ومقارنتها بما يجري في معظم الدول الأفريقية يتضح بجلاء أن وحدة العرب الاقتصادية هي طوق النجاة من الأخطار التي تهدد مجمل الدول العربية مستقبلا والتي لمسنا بعض مظاهرها المدمرة والدموية في ربع القرن الفائت: غزو الكويت، حرب الخليج الأولى والثانية وضياع فرصة التنمية المتسارعة في العراق أغنى أقطار العرب في المياه والطاقة الأحفورية ومساحة الأرض القابلة للاستصلاح والزراعة مقارنة بعدد السكان، الخمس عشرة سنة التي ضاعت من عمر لبنان، الحرب الأهلية في اليمن، أوضاع الصومال المنهارة، محنة الجزائر، الحرب الأهلية في السودان… الخ. وعلينا أن نواجه الواقع بصراحة وجسارة: لقد أخذت مظاهر التبعية، وبدايات التهميش، والتدمير بديلا عن التنمية تعمل عبر كل الوطن العربي. ووصلت العلاقات العربية-العربية إلى أدنى وضع عرفناه فيما بعد الحرب العالمية الثانية، كما أن مكانتنا الدولية قد تراجعت كثيرا حاليا. كذلك أوضاعنا الاقتصادية والاجتماعية أبعد ما يكون عن ما يمكن أن تكون لو أخذنا بأسباب التقدم والنمو الاقتصادي والعدل الاجتماعي والديموقراطية.

ويجب أن نتذكر أننا أمة فقيرة بالمقاييس الاقتصادية المتعارف عليها. فمتوسط دخل المواطن العربي حاليا لا يتجاوز 2091 دولار في السنة. وإذا أخذنا في الاعتبار التفاوت الشديد في الدخل بين دول عربية محدودة السكان والدول العربية كثيرة السكان من ناحية، وسوء توزيع الدخل القومي داخل كل قطر عربي يتضح لنا أن ثلث الأمة العربية على الأقل يعيش عند حد الفقر أو دونه. كما أن نسب الأمية مرتفعة في عصر لا تكفي فيه معرفة القراءة والكتابة ولا حتى اجتياز مرحلة التعليم الأساسي بنجاح. ومنذ الآن فرضت التكنولوجيا المتقدمة ضرورة إكمال المرحلة الجامعية ليصبح الإنسان عاملا منتجا. وما زالت المرأة العربية كقاعدة عامة مقيدة الحرية ومتدنية المكانة، محرومة في كثير من الأحوال من فرص العمل ومن المشاركة السياسية. وتراجعت مكانة العقلانية في خطابنا السياسي والإعلامي بل والتعليمي مفسحة المجال للعنف السياسي والتطرف الأعمى والاستجابة لأعمال الشعوذة وأحاديث الخرافات. وليس من المبالغة القول بأننا أهدرنا تراث النهضة العربية في هذا المجال. ومن ناحية أخرى لا بد من التخلص من أوهام ثراء مواردنا الطبيعية. فمعظم أرض الوطن العربي صحراء،وفيما عدا الاعتماد على الصناعة الاستخراجية وحدها لم يخلق مطلقا ثراء متجددا وارتفاعا مطردا في مستوى المعيشة وتقدما علميا وتكنولوجيا مرموقا في أي بلد في تاريخ البشرية الحديث. وخير مثال هنا هو الكونغو (زائير) فهي من أغنى بلاد العالم في الموارد الطبيعية الثمينة والمتنوعة وشعبها من أفقر شعوب الأرض. وإنما تحقق كل ذلك في الأقطار التي استخدمت ما يستخرج من جوف الأرض كمادة أولية أو مدخل أولي في صناعات وخدمات متطورة ومتنوعة.

وعلينا أن نعي أن “الثراء المفاجئ” الذي عرفته الأقطار المصدرة للبترول في الفترة من 1974 إلى 1982 كان ظاهرة استثنائية، وأن النفط شأنه في ذلك شأن كل المواد الأولية يباع في سوق يسيطر عليها المشترون لا المنتجون. ودون دخول في مناقشة أرقام الإنتاج والأسعار يكفي أن نتأمل تطور العلاقات الدولية. ففي السبعينات كنا نهدد الدول التي تعادينا بحظر توريد البترول إليها. وها نحن أولاء في التسعينات أمام حظر الغرب استيراد البترول من إيران والعراق وليبيا أعضاء الأوبك وكبار المصدرين بعد السعودية. ومن المعروف أن سعر البترول الحالي لا يزيد مهما ارتفع عن ستة دولارات بقيمة الدولار في 1973. كما أن دول الفائض الرأسمالي تحولت بعد حرب الخليج الثانية إلى الاقتراض والسعي لجذب الاستثمار الأجنبي. وتعود مرة أخرى لدراسة مشروع “الاعتماد المتبادل” حيث نجد النص التالي “بالرغم من الزيادة المتوقعة في الطلب على الطاقة… سيكون الإنتاج العالمي للطاقة كافيا، ولن يرتفع سعر الطاقة الأحفورية (حتى 2020) إلا بنسبة متواضعة وستبقى أسعار البترول أقل من الأرقام القياسية التي وصلت إليها في فترة سابقة”(*). ونضيف هنا أن عدد سكان الأقطار العربية في الأقطار المصدرة للنفط والغاز سترتفع في هذه الفترة بمعدل سنوي 5،2% وعلى مستوى الوطن العربي كله بمعدل 2%.

وبإيجاز نزعم أننا لا نملك خيارا في مواجهة كل قضايانا المعقدة وأخطار التبعية والفقر والتهميش إلا ببناء كيان اقتصادي قومي يتجاوز الأطر القطرية دون إهمال لخصائص وظروف كل قطر. وهذه الخلاصة مؤسسة لا على أمجاد الماضي ولا أحلام القوميين العرب بمختلف اتجاهاتهم وأحزابهم ولكن على ضرورة البقاء في حلبة الأمم التي ستشكل عالم القرن القادم. وعلينا أن نحول هذه المقولة المستقبلية إلى واقع شعبي. بمعنى أن تقتنع غالبية المواطنين العرب بأن التكامل الاقتصادي ثم الوحدة هي وحدها الإطار الذي يمكن أن يخرجهم من البطالة إلى العمل المنتج، ومن الفقر إلى مستوى معيشة لائق، ومن الإجحاف بالفقراء إلى عدالة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) المرجع السابق، ص 11.

اجتماعية في توزيع الدخل، ومن الاستبداد السياسي والعنف والعنف المضاد إلى حياة ديموقراطية حقيقة وليست مجرد أشكال يتخفى وراءها حكم الفرد أو الحزب الواحد. كذلك لابد من أن تدرك الرأسمالية العربية في مختلف الأقطار أن النجاح والثراء أيسر في سوق حجمها يقارب (في 2020 مثلا) ثلاثمائة مليون منه في سوق قطرية محدودة من حيث عدد السكان ومن حيث عدد أصحاب القدرة على تشكيل طلب متزايد.

التنمية التكاملية:

لن تتحقق الوحدة الاقتصادية العربية بمعاهدة يوقعها الملوك والرؤساء. وليس ذلك لكونهم قاصرين عن تحقيق الإجماع المنشود ولكن لأن مثل هذه المعاهدة الآن لن تغير من الواقع شيئا أكثر مما حققته اتفاقية الخمسينات التي أنشأت مجلس الوحدة الاقتصادية العربية.. أي لا شيء تقريبا. والسبب الموضوعي في هذا الإخفاق وتلك الاستحالة هو أن الوحدة نتيجة لعمليات متواصلة ومتشابكة لا تؤتي ثمارها المرجوة دفعة واحدة وإنما عبر عملية Processes تاريخية. ومن باب أولي يكون من العبث تخيل تحقيقها بإرادة زعيم ملهم أو حزب طليعية متفرد. وقد اخترت عن عمد تعبير “توحد” وليس توحيد. لأن توحد فعل لازم لا يحتاج إلى مفعول به. وفي صحاح الجوهري نقرأ “توحد برأيه أي تفرد به” في حين أن توحيد لا بد له من فاعل ومفعول به. وفي اعتقادي أن المطلوب هو توحد الوطن والأمة، أي مشاركة العرب كأفراد وجماعات وأحزاب وحكومات ورجال أعمال وأكاديميين ومثقفين في العمل الإيجابي الذي يستهدف تحقيق الوحدة.

والأمر الثاني الذي ألح عليه دائما هو ضرورة إرساء القواعد الاقتصادية ذات المصلحة في توحيد السوق العربية. وهذا لا يتنافى مع ضرورة عقد اتفاقيات متعددة بين الحكومات العربية لأن أرى على العكس أن المصالح الاقتصادية المشتركة تكون قوى ضاغطة على الحكومات في هذا الشأن. ومن جهة أخرى لا أرى مناطق التجارة الحرة أو السوق المشتركة الشائعة في الخطاب السياسي والإعلامي العربية في هذه الأيام وسيلة فاعلة لخلق تلك المصالح المنشودة. فأسواق الأقطار العربية ببنيتها الحالية أسواق أسيرة كما يقال Captive market. فنخن نستورد من الغرب وعلينا أن نصدر له ما يقرب الميزان التجاري من التوازن. ونحن في الوقت ذاته ونتيجة للتخلف لا ننتج الكثير مما تحتاجه أسواقنا الداخلية، ولا يمكن أن يشكل صادرات كما أن الفقر يضيق بالضرورة حجم الأسواق الداخلية. ومن هنا كان لا بد من تحقق إرادة جماعية فاعلة في أمرين لا يتحقق أي منهما تلقائيا بفعل آليات السوق. فالتنمية (بخلاف التطور) عمل إرادي قاصد إحداث التغييرات التي تخرجنا من التخلف إلى النمو المطرد. ولو كانت السوق كافية فلماذا لم تحقق التنمية المنشودة في مصر رغم أنها عاشت ما يزيد عن مائة عام بلدا مفتوحا لكل أجنبي يتمتع فيه بامتيازات تحد من السيادة الوطنية؟ وثانيهما “التكامل” فهو أيضا عمل إرادي والدليل على ذلك هو دور الحكومات الأوروبية ذات التاريخ الطويل في الحروب في تجاوز حدود الدولة القومية بالتدريج، والإصرار على ذلك وتتابع إجراءاته من معاهدة روما التي أنشأت “السوق المشتركة” في أواخر الخمسينات بين دول ست حتى وصلت إلى “الاتحاد الأوروبي” بمعاهدة ماستريخت في التسعينات التي وقعتها 12 دولة ثم انضمت إليها ثلاث.

ومن ثم لا بد لتحقيق الوحدة الاقتصادية من توافر الإرادة السياسية والاقتصادية العربية إلى تحقيق التنمية من خلال التكامل، وتحقيق التكامل من خلال مشروعات التنمية، وهذا هو ما تسميه التنمية التكاملية، وهو مفهوم مشترك مع اختلاف بسيط في الاسم، بين يوسف صايغ ومحمد محمود الإمام وكاتب هذه السطور، وصل إليه كل منا منفردا والتقينا في النتيجة.

ولا يتسع المقام هنا لتفصيل محتوى التنمية التكاملية وآلياتها التي تستهدف الكفاية والعدل والشروط السياسية والاجتماعية والثقافية التي لا غنى عنها لتحقيق الهدف الأكبر: وضع كريم لأمة العرب بين سائر الأمم الفاعلة في نسق العلاقات الدولية في القرن المقبل كثمرة لنضال جاد ومثابر لا يسلم بعجز ولا يستسلم ليأس. ومن يريد قراءة المزيد من فكري في هذا المقام بوسعه أن يقرأ كتابي “وحدة الأمة العربية، المصير والمسيرة” الذي نشرته مؤسسة الأهرام في 1994 بمناسبة الذكرى الخمسين لبروتوكول الإسكندرية.

مجلة الجابري – العدد السابع


(*) وأحدث مثال على ذلك الصراع بين شركة Worldcom الأمريكية و British Telecom على السيطرة على شركة الاتصالات الهاتفية الكبيرة MCI. وبوسع من يريد المزيد عن هذه العمليات أن يرجع إلى كتاب:

R.L. KUHN (ed.) MergersAquisitions and Leverage Buyout 1990, Dow Jones-Irwin.