مجلة حكمة
الطغيان والمقاومة - باندي

الطغيان والمقاومة – باندي لي / ترجمة: زياد الأتاسي

الطغيان والمقاومة

“حسناً يا دكتور، ماذا لدينا -جمهوية أم ملكية؟” سألتْ إحدى السيدات. “جمهورية، إن استطعتم الحفاظ عليها”، أجابها بنيامين فرنكلين.

قلة من الناس تربط بين انهيار ديموقراطية ما، والجمهورية التي تدعمها، وبين حالة الصحة النفسية الجماعية للمجتمع. لكن الصلة جوهرية. تماماً كما أن حسن أداء شخص ما، أياً تكن خياراته في الحياة، يعتمد على جسم وعقل سليمين وفعالين، وأننا نحتاج إلى العناية جيداً بهذه الأشياء، فكذلك هو الحال بالنسبة للكيان السياسي. وذلك لأن الطاغية المحتمل ليس شخصاً ذا نمط سياسي معين ولكنه شخصية سوف تدمر السياسة لاحقاً، والجسم الذي تحكمه، إذا ما سُمِحَ له بالاستمرار (Adorno, 1950). وعليه، إن الطغيان هو شكل من أشكال المرض، الذي يؤدي، تعريفاً، إلى الدمار والموت. العاملون في مجال الصحة النفسية نادراً ما يتحدثون عن شؤون المجال السياسي: ليس عليهم أن يفعلوا. فقط عندما تدخل الأشياء في عالم الأمراض، وعندما تواجه الأمة أزمة جماعية ذات طبيعة نفسية، تصبح حرجة بالفعل.

لا يستطيع الطاغية أن يمسك بزمام السلطة وحده، مثلما أن هناك حاجة لوجود أكثر من شرط واحد لكي يحدث المرض: خذ مثالاً على ذلك السل. إذا سألنا، ما الذي يسبب السل؟ فإن أحدهم قد يقول إنه العامل المُمرِض pathogen، أو عُصية السل. لكن الحقيقة هي أن عصية السل سبب ضروري ولكنه ليس كافياً لحدوث السل، ذلك أن معظم الناس الذين يتعرضون للعصية، وحتى الذين توجد في أجسامهم، لا يصابون بالمرض. فأجسامهم لديها جهاز مناعة قادر على عزلها، وهي تبقى هناك من غير أن تسبب أذى، كما العديد من الكائنات الحية الدقيقة التي تستوطن أجسامنا. لذا، لا يمرض معظم الناس عندما يتعرضون لعصية السل، لكن عندما يتعرض جهاز مناعتهم للعطب لسبب أو لآخر، ويكون غير قادر على عزلها، أو عاجزاً عن محاربتها، يصيبهم المرض منها.

ثمة عامل آخر: يحدث السل على نحو أكثر تواتراً، ويدوم لفترة أطول، ويُشْفَى بوتيرة أقل، مسبباً عدداً أكبر من الوفيات، بين المحرومين. فإذا كان للمرء مسكن رديء، وكانت تغذيته سيئة، وتعليمه متواضعاً، ويصعب عليه الحصول على العناية الطبية، وكل ذلك مقترن بالحرمان، فإنه يكون أكثر عرضة للإصابة بالسل، ولأن لا يتلقى العلاج المناسب، ولأن يموت بسببه. بكلمات أخرى، إن كل هذه الشروط -العامل الممرض، سوء أداء الجهاز المناعي، الحرمان- ينبغي أن توجد في الآن نفسه لكي تكون سبباً في حدوث أو استدامة ما نعتقد عادة أنه مجرد مرض بدني.

بالمثل، لا تتطور الخباثة (المرض الخبيث) في المجتمع بسبب أفراد منعزلين. فالطغاة المحتملون كانوا على الدوام جزأً من المجتمع الإنساني، لكنهم عادة ما يُعزلون في السجون. والمجتمعات الأكثر استنارة تحول دون خلل الأداء الذي يؤدي إلى ظهورهم في المقام الأول. ونحن نعلم أنه حتى الخلايا السرطانية هي سبب ضروروي لكنه ليس كافياً للسرطان، إذ إنها توجد في الجسم طوال الوقت. فقط عندما تخفق الخلايا المناعية، أو مقاومة الجسم، في اكتشافها وفي الدفاع عن الجسم تجاهها فإنها تأخذ بالانتشار وتحدد مصير الجسم بأكمله.

إذا مثَّلنا للطاغية بالعامل الممرض، فإن العنصر الصحي في الشعب هو المقاومة. نحن نعيش سعداء أحياناً وسط مئات الآلاف من الطغاة المحتملين، لأن شخصيات من هذا النوع في ديموقراطية قوية هم مجرد “شخصيات هزلية على منصات صغيرة soapboxesعندما لا يكون هناك من يتابعهم” (Altemeyer, 1998, p. 85) . فالجسم السليم يرفض الخلايا الخبيثة، لكن الجسم المعتل يستسلم، ويحتضن، وقد يعزز انتشارها بنشاط، مهما كان التهديد الذي تمثله، مكتسبةً زخماً لا نهاية له، مندفعة نحو الهدف الأخير لأي مرض: الدمار والموت. بالمعنى نفسه، الطاغية هو ورم خبيث، اعتلال يحيق بالكيان السياسي. الطاغية هو مجرد خلية خبيثة أخرى تنتشر وتتكاثر عبر الكيان السياسي.

يستغل الطغاة المحتملون مواطن الضعف عند العامة -كالصدمة المستمرة للحرب، أو البارانويا التي تتبع تفكك الدولة، أو الهوية المجزأة لأمة تتصارع مع التعصب والإجحاف. عندما تصل مواطن الضعف هذه إلى نقطة الانهيار، فإنها تدفع بالطاغية إلى السلطة. بعضهم يصعد ليصبحوا رؤوساء دول، وآخرون ليترأسوا الشركات القيادية. يضعون سياسات ويهيئون شروطاً اجتماعية تفاقم الصحة العامة، مفرخةً المزيد من الطغاة المحتملين. على الطاغية أن يقتات على مواطن الضعف لكي يرتقي إلى موقع أعلى، لكن حال وجوده في السلطة، فإن خباثته (ورمه الخبيث) تعدي المجال العام وتزيد الطين بلة.

يقدم التاريخ الإنساني أمثلة لا حصر لها عن مثل هذا الانحدار إلى الطغيان . التفكك نادراً ما يتسبب به فرد واحد، لكنه يتكشف من خلاله. وفي ثقافتنا، تطور ذلك جنباً إلى جنب مع عقود من الاستغلال، وجشع الشركات، وتقلص الطبقة الوسطى، والتوترات المتنامية بين الغني والفقير. بالاستثمار المكثف في آلة الحرب والسماح للحالة العامة للصحة والتعليم بالتدهور، أصبح العامَّة مهيئين للتلاعب لغايات سياسية. انتهاز الغضب واليأس المتصاعدين باللجوء إلى الدوافع الإنسانية الأكثر بدائية -التمادي في تدوير مزيد من الأكاذيب بغية الإغواء والخداع، فقط لكي تزداد سوءاً الشروط التي أدت إلى الاستياء في المقام الأول- كان تكتيكاً نفسياً لتكديس السلطة. والآن عندما وصلت هذه البنية السياسية المؤدية إلى هذه الظروف المَرَضية إلى خاتمتها المنطقية، أصبحت الأمة منجذبة بما فيه الكفاية لتنتخب قائداً مختلاً سيُسَرِّع عندئذ الانحدار نحو الظلمة.

لكن، كما لاحظ دافيد هيوم في المبادىء الأولى في الحكم the First Principles of Governmentفإن القوة هي إلى جانب المحكومين. للمساعدة على تيسير هذه القوة (فالقوة الحقيقية صحية دائماً)، من المهم أن يقول مهنيو الصحة النفسية الحقيقة. يمكنهم أن يقوموا بدور وقائي من خلال الكشف المبكر عن “حالة طبيعية خبيثة” تنبثق من شخصية مضطربة، بوصفهم شهوداً مهنيين (Lifton, 2017). ويمكنهم تعزيز السلامة العامة عبر تحذيرهم المجتمعات من دلائل الخطر (Gilligan, 2017) . وبوسعهم تقديم خبراتهم إلى فروع مختلفة من الحكومة قد تصلح كضوابط أو توازنات (الدستور الأمريكي- المواد I-III)، أو إلى النظام القضائي بطرق يمكنها أن تخفف من التوجيهات السلبية. وأخيراً، يمكنهم أن يقدموا حلولاً (Gartell and Mosbacher, 2017).

بينما يقول هيراقليطس اليوناني من القرن الخامس قبل الميلاد إن ” الشخصية هي القَدَر”، فإن قَدَرَ الأمة ليس معتمداً على شخصية الطاغية وحده. وفي حين أن تواطؤ البنى الفاسدة أو منقوصة المناعة قد يدعمها، فإننا نعلم أن الأمراض لا تنتهي دائماً بالموت. ذلك لأن الجسم يستجيب، وحتى لو كان الجسم السياسي مأخوذاً على حين غرة لأنه لم يكن متعوداً على الطغاة، فإن النظام المناعي، حال تعرضه للعامل الممرض، يمكنه أن يبني قدرته الدفاعية. وهذا يتطلب أن يفهم ما يجري على نحو صحيح ويواجهه، فردياً وجماعياً، ويتغير وفقاً لذلك.

المصدر


المراجع:

Adorno, T. W. (1950).  The Authoritarian Personality.  New York, NY: Norton.

Altemeyer, B. (1998).  The other ‘authoritarian personality.’  Advances in Experimental Social Psychology, 30, 47-92.

Lifton, R. J. (2017).  Foreword: Our witness to malignant normality.  In B. X. Lee, ed., The Dangerous Case of Donald Trump: 27 Psychiatrists and Mental Health Experts Assess a President, pp. xv-xix.  New York, NY: Saint Martin’s Press.

Gilligan, J. (2017).  The issue is dangerousness, not mental illness.  In B. X. Lee, ed., The Dangerous Case of Donald Trump: 27 Psychiatrists and Mental Health Experts Assess a President, pp. 170-180.  New York, NY: Saint Martin’s Press.

Gartrell, N., and Mosbacher, D. (2017).  He’s got the world in his hands and his finger on the trigger: The Twenty-Fifth Amendment solution.  In B. X. Lee, ed., The Dangerous Case of Donald Trump: 27 Psychiatrists and Mental Health Experts Assess a President, pp. 343-355.  New York, NY: Saint Martin’s Press.

رابط الأصل (الطغيان والمقاومة) :

https://www.psychologytoday.com/au/blog/psychiatry-in-society/201803/tyranny-and-resistance