مجلة حكمة
الصور الملوثة الشهرة

الصور الملوثة: المهووسون بالشهرة والإشهار في عالمنا الافتراضي

الكاتبجعفر نجم نصر

مقدمة

يعيش العالم اليوم في ظل ما يصطلح عليه بـ(المجتمع الشبكي) “”The Network society”The Netork ociety في ظل ما يصطلح عليه بـ(المجتمع الشبكي)  والذي يقصد به ان روح عصرنا هي روح الشبكة كما يرى دارن بارني “Darin Barney”، أي أن المبادئ التأسيسية للشبكات أصبحت هي القوة المحركة للحياة الفردية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وبذلك فالشبكة غدت مسؤولة عن إعادت إنتاج المجتمع الإنساني لنفسه ثقافياً، وهذا يعني ان علاقتنا محكومة للتشبيك ولثقافة الصورة المهيمنة.

وفي ظل هذا المجتمع أخذت السياقات الحياتية أياً كانت تسير على وفق مبادئ هذا المجتمع بنحو كبير، ومن ضمنها كانت مسألة (الإشهار) ”Publicity” التي يراد بها الاعلان على السلع والخدمات والافراد ونحو ذلك، فهي كما يرى الكثير من الباحثين إنما تعكس الوسط الثقافي الإنساني وتوجهاته وأذواقه ومطاليبه ونمط استهلاكه، والتي اصبحت فيه حاسة البصر هي الأداة أو الوسيلة الرئيسة في ظل ثقافة العين أو البصر كما يرى الانثروبولوجست ديفيد لوبرتون ” Lebrotton” David في كتابه (أنثروبولوجيا الحواس) “Anthropology of Sense”.

إن الاشهار في ظل ثقافة الصورة وتحت مظلة (المجتمع الشبكي) أسهمت في صياغة أنماط ثقافية “Cultural Patterns” سلوكية لأفراد يسعون نحو الشهرة “The Fame”، إذ اندفعوا نحو الرغبة في أن يكونوا جزءً من منظومة الإشهار هذهِ، وهذا الامر جعل هؤلاء الافراد ومن كلا الجنسين يكونون لأنفسهم صفحات ومواقع الالكترونية وقنوات على اليوتيوب، طلباً لتلك (الشهرة) التي أصبحت لا تدور في دائرة الهوس الشخصي ذي الدوافع النفسية أو كتعبير عن تأثر الشخصية بسياقات الوسط الثقافي بالمعنى (الاناسي) فحسب، بل ان الأمر أصبح ظاهرة اجتماعية، تسيّد فيها (الخاص) على (العام)، حيث أصبحت خصوصيات الافراد الشخصية وشؤونهم الذاتية متاحة للجميع ووصلت إلى حد الإبتذال.

وهذا الامر يعني ان كلا الخطين (الإشهار) و(الشهرة) دخلا في دائرة واحدة، حيث احدهما يسهم في إعادة انتاج الآخر، ومن ثم تماهيا واشتركا في ممارسة ثقافية واجتماعية واحدة.

ومن ثم أصبحا ضمن دورة ثقافية واحدة، مما يتطلب النظر إليهما من زاويتين (نفسية) و(اجتماعية – تقنية)، وهذا الامر يستدعي التوقف عند منظوري الانثروبولوجيا النفسية “Psychological Anthropology”، والانثروبولوجيا الرقمية “Digital Anthropology”.

ان هذا البحث يمثل محاولة نظرية تفسيرية جديدة لمسألتين اجتماعيتين وثقافيتين (الإشهار) و(الشهرة) ضمن معالجات تستند إلى منظوري الأنثروبولوجيا النفسية والانثروبولوجيا الرقمية.

أولاً: المجتمع الشبكي ومدلولات الإشهار والشهرة

أن عبارة المجتمع الشبكي تمثل اطروحة تؤكد بعبارات بسيطة أن روح عصرنا هي روح الشبكة، إذ إن المبادئ التأسيسية للشبكات أصبحت قوة محركة للحياة الفردية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وهذا ما يميز فترتنا تاريخياً، وقارب مانوييل كاستلز هذهِ المسألة على النحو التالي: ثمة نزعة تاريخية تنتظم بمقتضاها الوظائف والعمليات الأساسية حول الشبكات على نحو متزايد. وتكون هذهِ الشبكات الوجه الاجتماعي لمجتمعاتنا، ويعمل انتشار منطق التشبك على تعديل العمل تعديلاً جوهرياً في نواحي الانتاج والتجربة والقوة والثقافة ([1]).

أما المقصود بـ(الشبكة) فحالة الترابط البنيوي بين نقاط متباينة (يطلق عليها عادة اسم عقدة) متصلة إجمالاً بوساطة روابط متعددة ومتداخلة متكررة. وبهذا المعنى لا يمكن الحديث عن الشبكة إلا إذا كنا أمام كم هائل من العقد (أكانت أشخاصاً أم شركات أم حواسيب) المتصلة بعدد كبير من العقد الاخرى، ويجري تأمين هذا الاتصال عبر كثير من الروابط التي تتقاطع مع روابط العقد الأخرى ([2]).

وهذا الأمر يعني ان المبادئ التأسيسية للشبكات اصبحت هي القوة المحركة للحياة الفردية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية (العامة)، وبذلك فالشبكة غدت مسؤولة عن إعادت إنتاج المجتمع الانساني لنفسه ثقافياً وتواصلياً، وهذا يعني ان علاقاتنا الاساسية اصبحت محكومة للتشبيك ولثقافة الصورة المهيمنة.

وهذا الأمر أفضى بطبيعة الحال الى سيادة ثقافة الصورة التي تحكمت بشؤوننا الحياتية كافة، وهذا الانتقال الخطير لثقافة الصورة قبالة زوال أو اندثار ثقافة الكلمة، جعل منا كائنات معرفّة ومعروفة بواسطة عالم (التشبيك) آنف الذكر، وبذلك نحن دخلنا ضمن الوسائط أي التقنية وبكافة شؤوننا الحياتية شئناً ذلك أم أبينا، لأن تفاصيل حياتنا اصبحت مرتهنة وقائمة على تقنيات عالم التشبيك المكون من تلك العقد (أكانت اشخاصاً أم شركات أم حواسيب)، وبذلك النحو كانت ثقافة الصورة هي الناظمة والحاكمة لشؤونا الخاصة والعامة.

وبحسب اشارات سعيد بنكراد للعصر البصري: فيصنف ضمنهُ كل ما أنتجهُ الانسان في القرن العشرين من صور فاقت في كمها كل تصور إلى درجة ان الصورة اصبحت اداة لتبليغ مضامين مباشرة تخص كل مناحي النفعي في حياة الناس، ما يطلق عليه “دائرة الفيديو” أو “العصر البصري” تكتفي الصورة في هذا العصر ببيع السلع والافكار والخدمات واللوك “Louk”، وتحيل من خلال ذلك كله، على حالات “انفلات حسي” أي الاكتفاء بتصوير سلسلة من الانفعالات الهوجاء التي تتحرك خارج أية غاية عدا غايات التسويق والاستهلاك، فلم تعد المنتجات مصدراً للإغراء، فصورتها هي ما يستوطن العين([3]).

وعلى هذا النحو أخذت السياقات الحياتية إياً كانت تسير على وفق مبادئ هذا المجتمع بنحو كبير، ومن ضمنها كانت مسألة (الإشهار) “Publicity” التي يراد بها الاعلان عن السلع والخدمات وحتى الافراد ونحو ذلك، فهي كما يرى الكثير من الباحثين إنما تعكس الوسط الثقافي الإنساني وتوجهاته وأذواقه ومطاليبه ونمط استهلاكه، والتي اصبحت فيه حاسة البصر هي الاداة أو الوسيلة الرئيسة في ظل ثقافة العين.

ولقد ميز لويس كيسنال “Louis Quesnel” في دراسة مختصرة عنوانها (الإشهار وفلسفته) بين سبعة تصورات على الأقل لهذه الكلمة وإليكم منها ما يمكن عده يحيل على الخصائص الأساسية في الدراسات الإشهارية:

  • إن الاشهار نسق تواصلي يجمعه بين منتجين ومستهلكين بواسطة وسائل التواصل الجماهيري.
  • إن الإشهار نشاط فكري يجمع بين “مبدعين” أدبيين وفنيين، في أفق انتاج رسائل سمعية بصرية.
  • الإشهار “صناعة ثقافية” الغاية منها إشاعة ثقافة جماهيرية (ما معناه انها رديئة).
  • الإشهار (سلاح) للبيع موضوع في خدمة استراتيجيات تجارية للمقاولات.
  • الإشهار شكل رأسمالي للدعاية واستغلال المستهلكين([4]).

ومصدر هذا التنوع في تعريفات الإشهار كما يرى الباحثين دافيد فيكتروف “David Victoroff” هو: أن الإشهار يثير في المقام الأول اهواءً، كما هي أغلب الظواهر التي تمس من قريب الوجود اليومي للإنسان المعاصر، وبذلك عُد حقلاً مفضلاً لتناسل أحكام القيمة استناداً إلى ذلك، تنطلق كل التعريفات السابقة من موقف مسبق من الاشهار، سواء كان ذلك بالسلب أو بالإيجاب، فالإشهار نافع في تصور البعض، ومضر عند البعض الآخر، له أنصاره وله خصومه ([5]).

وبوجه عام ينظر إلى الإشهار عادة باعتباره مجموعة من الوسائل والتقنيات الموضوعة في خدمة مقاولة تجارية، خاصة أو عمومية، وغايته هي التأثير على اكبر عدد ممكن من الأفراد عن بعد ودون تدخل مباشر من البائع، والهدف من كل فعل إشهاري هو اكتساب المزيد من الزبائن، وذلك من خلال التعريف بالمقاولة، أو من خلال بيع منتجات أو خدمات([6]).

ان الإشهار لا ينفصل عن السياقات الثقافية للمجتمع، فهو تعبير عن احتياجه أو رغباته بنحو أو بآخر، بل ان الإشهار كتقنية متعددة الوجوه تعمل على حث الناس على توجه استهلاكي معين، جراء استخدامها مجسات ثقافية واجتماعية لمعرفة حاجات الناس أو توجيهها نحو بعض الرغبات.

وتأسيساً على ذلك فإن الإشهار: هو أفضل المرايا العاكسة للدينامية العميقة للأساليب الاجتماعية والنماذج الفكرية والاخلاقية التي تتضمنها وتشكل الخيط الناظم لحضارتنا المعاصرة، حتى وإن كان جزئياً ومتحيزاً ومشوهاً في امتداحه المبالغ فيه لأساليب الحياة التي تشكل موضعة الحداثة أو الرجعية. ولكن أساليب الحياة ذاتها هي مصدر إلهام دائم للإشهار، سواء أكان ذلك بشكل عقلاني من خلال الدراسات السوسيو-ثقافية، أو كان ذلك بشكل حدسي عند مبدعي الوصلات([7]).

إن الإشهار جزءً من المنظومة الثقافية للمجتمع، بل يعد بحد ذاته بوصفه ثقافة أو صانع للثقافة، لأنه مسؤول عن صناعة الميول والاتجاهات والسلوكيات عند الافراد، وبهذا فهو لا يدرس بوصفهِ عملاً تقنياً بحتاً فحسب، بل بوصفهِ ظاهرة اجمتاعية وثقافية كذلك.

ان الاشهار في ظل ثقافة الصورة وتحت مظلة (المجتمع الشبكي) أسهم في صياغة انماط ثقافية “Cultural Patterns”  سلوكية لأفراد يسعون نحو الشهرة “The Fame” عبر الاستفادة من تقنيات أو وساطية عالم (الإشهار) ذاته، وبذلك يكون الاشهار فتح الباب على مصراعيه لظاهرة اجتماعية أخطر تمثلت بسعي الافراد لأن يكونوا جزءاً من الاشهار مرة وجزءا من أسياد عالم ثقافة الصورة أو المجتمع الشبكي مرة اخرى.

وإذا كانت الشهرة هي على صلة وطيدة بالاشهار من جهة العمل التقني وفضاءات الصورة، إلا ان التعبير الفعلي لها كدلالة اصطلاحية تجد تجسيداتها ودلالاتها في مصطلح المشاهير “Celebrity” الذي يعد أحدى المصطلحات الثقافية الحديثة.

وتستعمل كلمة المشاهير “Celebrity” اليوم لتصف نوعاً معيناً من الشخصيات الثقافية، وهم غالباً من يبرزون في أنواع الرياضات المختلفة أو الصناعات الترفيهية، ويظهرون من خلال وسائل الإعلام، وتجتذب حيواتهم الخاصة اهتماماً عاماً اكثر من حيواتهم المهنية، ولا تعتمد شهرة المشاهير بالضرورة على الموقع أو الانجاز الذي منحهم هذا البروز في المحل الأول، بل من المرجح ان تنهض شهرتهم على دعاوى البروز التي تطورت في إطار ذلك الموقع الأولي. والحقيقة ان الشخص المشهور الحديث ربما لا يزعم أي انجاز خاص سوى اجتذاب الانتباه العام؟ فهم (مشهورون لكونهم مشهورين) ([8]) .

ان المجتمع الشبكي صنع عوالم تقنية/تواصلية جديدة، كان ابرزها منصات التواصل الاجتماعي المتعددة، وهذا الامر دفع الكثير من الافراد سعياً لجذب الانتباه العام كيما يكونوا مشهورين، ان ينشئوا مواقع الكترونية وقنوات على اليوتيوب، طلباً لتلك (الشهرة) والتي اصبحت لا تدور في دائرة الهوس الشخصي ذي الدوافع النفسية فحسب، بل اصبحت تدور في فلك اجتماعي أوسع، بل ان الامر اصبح ظاهرة اجتماعية، تسيّد فيها (الخاص) على (العام)، حيث اصبحت خصوصيات الافراد واسرارهم هي السلعة التي تقدم في (الاشهار) لأجل جلب تلك الشهرة وبذلك دخلنا في فضاء تسليعي لكل شيء سعياً للشهرة.

وهذا الامر يعني ان كلا الدائرتين (الاشهار) و(الشهرة) أو(المشاهير) دخلا في دائرة واحدة، حيث احدهما يسهم في إعادة انتاج الآخر، ومن ثم تماهياً واشتراكا في ممارسة ثقافية واجتماعية واحدة.

وهذهِ الأفكار آنفة الذكر سنسعى إلى تحليلها ضمن محاور قادمة لأجل الوقوف على مغزاها ودلالاتها بنحو أعمق ضمن بيان جذورها من جهة وتفسيرها ضمن منظوري الانثروبولوجيا الرقمية والنفسية.

ثانياً: التغيرات الثقافية وظهور الفردانية: بواعث الإشهار والشهرة (المدارات العامة)

ان التحولات المتسارعة في العالم هائلة ومتسارعة على عدة صعد في ظل اقتصاديات السوق والهيمنة الرأسمالية وفي ظل مديات الحداثة المتواصلة، والتي لم تطل العالم الغربي، بل وصلت آثارها إلى العالمين العربي والاسلامي، ان هذه التحولات اسهمت في ايجاد قيم من الفردانية الجديدة التي أسهمت في انفلات الحريات الشخصية. وانعكست بمظاهر متعددة كان أبرزها ظاهرتي (الإشهار والشهرة) بوصفهما انعكاساً للانهيارات الاجتماعية التي حصلت.

لقد تحدث الان تورين عن جملة انهيارات مجتمعية في آنٍ واحد، صبت في بوتقة الذات أو الانا التي أصبحت تعاني من ضغط هذه الانهيارات، وأصبحت هي بالواجهة اما كضحية أو اداة مواجهة، إذ يقول متحدثاً عن الموضوعات الآتية: … ثلاث موضوعات هي: 1- التفكك الاجتماعي، 2- تعاظم القوى الموضوعة فوق المجتمع: الحرب، الاسواق، العنف الشخصي والبينشخصي، وأخيراً 3- الدعوة إلى الفردانية بصفتها مبدأ لأخلاقية معينة، ولكن أليست هذهِ الموضوعات كلها مترابطة ؟ أليس أفول الاجتماعي هو الذي يؤدي إلى تفاقم العنف؟، مستدعياً اللجوء إلى الذات الفاعلة الشخصية ”SujetPeronnel” ([9]).

لكن السؤال المحوري هنا هو: ما الذي حدث؟ ما الذي أتى بهذه الانهيارات التي تحدث عنها تورين؟ ولماذا طالت الفردانية بالدرجة الاولى وطالت مجال الحرية الفردية؟.

ان خير ما يعيننا على الاجابة عن هذه التساؤلات ولو بنحو مقتضب، إذ لا يتسع المقام للتفصيل هنا، هو زيجمونت بومان في اطروحته المحورية حول (الحداثة السائلة) التي ما زالت تعيد تشكيل المجتمع والثقافة والاستهلاك والقيم، أي انها تعيد تشكيل الفرد بنحو مستمر وتأخذ بيديه إلى فضاءات المتعة واللذة واللهاث الدائم الذي لا طائل منه ابداً!!.

لكن الذي حدث بديمومة مشروع الحداثة الذي لم يتوقف هو أمور كثيرة، تجسدت في انهيارات لروابط اجتماعية وقيمية انعكست على الظاهر العقلي لأنشطته الاجتماعية وعلى الباطن النفسي في الوقت عينه، وعن ذلك يقول بومان: مع ذلك، ثمة سمتان تجعلان حالنا – حال حداثتنا- مختلفاً وجيداً: فأما السمة الاولى فتتمثل في الانهيار التدريجي والتدهور السريع للوهم الذي اتسم به صدر الحداثة، أي انهيار الايمان بأن ثمة نهاية للطريق الذي نسير فيه، وغاية كبرى للتغير التاريخي يمكن تحقيقها، وحالة من الكمال يمكن الوصول اليها غداً أو العام القادم أو الالفية القادمة، ومجتمعاً صالحاً، ومجتمعاً عادلاً، ومجتمعاً خالياً من الصراع في جميع جوانبه المتعددة أو بعضها، وتوازناً ثابتاً بين العرض والطلب، وأشباعاً للحاجات كافة،…([10]).

أن بومان يشير هنا إلى تسويق الوهم الذي استشرى في كل مفاصل الحياة، الذي غدا عنصراً مهيمناً يفتح الامل بلا نهاية على أشياء كثيرة، مما يجعل الافراد أمام اللهاث الدائم نحو الغد بعده مالكاً أو صانعاً للأفضل، ولكن هذا اللهاث وتسويق الوهم هو الذي فتح شهية المجتمعات نحو الاستهلاك الدائم والمستمر.

وفي هذا السياق يرى جيل ليبوفتسكي ان الغرب يحكمهم منطق ما اصطلح عليه: بـ(عملية الشخصنة) وهي تعد شكلاً جديداً لتنظيم المجتمع وتوجهه وتدبير سلوكيات افراده، وهي تحيل إلى  امرين متقابلين احدهما سالب: يشير إلى التشقق الذي أصاب التنشئة الاجتماعية الانضباطية، والاخر موجب يميل إلى تشكيل مجتمع مرن قائم على الاعلام وإثارة الحاجات، والجنس، وتقديس الطبيعي وروح الدعاية، ومن نتائج ذلك:

  • تصاعدت حدة التمركز على الذات.
  • اللامبالاة بالمصلحة العامة.
  • غلبة الفردي على الكوني.
  • النفسي على الايديولوجي ([11]).

وهو يتحدث عنها بنحو مقارب بعض الشيء لأطروحات بومان وتورين عبر اشارته الدقيقة لما اصطلح عليه بـ(الثورة الفردانية الثانية) والتي تمثل جولة ثانية في المسار التاريخي لتحولات الحداثة في ظل عصر ما بعد الحداثة.

فالفردانية الحداثوية بالنسبة له كانت متمثلة بـ: مجمل التغيرات والتحديات التي جلبتها ودافعت عنها بشراسة الثورة الحداثية، وهي وجه من وجوه سيرورة علمانية أوسع قادت إلى ظهور مجتمعات ديمقراطية تأسست على سيادة الفرد والشعب، وعلى التحرر من الخضوع للآلهة والهرميات المتوارثة وسطوة التقاليد انها امتداد ثقافي لسيرورات نظام سياسي تشكلت ملامحه من القرن الثامن عشر الميلادي([12]).

أما الثورة الفردانية الثانية لديه، فهي تشكلت منذ ستينيات القرن العشرين،  فسحت المجال أمام ظهور فردانية جديدة تكاد تقطع ما سبقتها تتميز بكونها متعية ونفسية، وتجعل التحقق الذاتي أهم غاية في الحياة، مما أدى إلى اندحار المشاريع المجتمعية الكبرى، وتآكل الهويات الاجتماعية والمعايير الاكراهية، وإلى تقديس حرية التصرف في الذات على مستوى الاسرة والدين والجنس والرياضة والموضة والانخراط السياسي والنقابي([13]).

لكن ما سبب ذلك بنظره ؟ يرى ليبوفنسكي: انها ثورة الحياة اليومية متجسدة في عملية الشخصنة التي غرزت الهوية الشخصية وطالت جميع مناحي الحياة، ومنحت الفرد الحق المطلق لأن يكوّن لنفسه بالصورة التي يريد، دافعة إياه بذلك إلى اقصى حدود النرجسية([14]).

ولقد تحدث الانثروبولوجست المعروف لويس دومون عن الايديولوجيات الحديثة وكيف ظهرت تلك الفردانية من تحت عباءة المسيحية، إذ يعزو دومون هذا التطور في النمط الايديولوجي إلى ما يسميه بـ(الفردانية المسيحية) التي لا تعالج كائنات اجتماعية بل أفراداً، أي بشراً كل واحد منهم يكفي ذاته بذاته بوصفه مخلوقاً على صورة الله وبوصفه مؤتمناً على العقل ([15]).

وهو يربط هذهِ الفردانية بتطور الأمة في المجتمعات الغربية الحديثة، لهذا فهو يرى ان الأمة على وجه الدقة نمط المجتمع الكلي المطابق لسيادة النزعة الفردانية بوصفها قيمة، فهي لا ترافقها تاريخياً فحسب، بل إن الترابط بينها يفرض نفسه بحيث إن بالوسع القول: إن الأمة هي المجتمع الكلي المؤلف من بشر يعتبرون أنفسهم افراداً ([16]).

ان طغيان الفردانية أو الفردية هي التي أدت الى هذه الحرية المفرطة، والى عد الانسان نفسه معياراً اخلاقياً بحد ذاته لأي سلوك يسلكه، أي عد نفسه فاعلاً ورقيباً في الوقت نفسه، مما جعلهُ يتصرف بما يحلو له بوصفهِ مركزاً جوهرياً داخل المجتمع.

ولا تخلو الفردانية من وجود نقاد لها، عند بعضهم، تمثل في الاساس فلسفة للأنانية، تضع المصلحة الذاتية الفردية فوق مصالح الاخرين، يعتمد هذا النقد على خلط جدي، فالفردية تؤكد ان جميع الافراد هم غايات في ذواتهم، وليس واحداً منهم كغاية في ذاته أو ذاتها ([17]).

وهذه الفردية أو الفردانية المتحررة لدى بعض الافراد وجدت فضاءها الرحب في الوسائط التقنية التي ظهرت في ظل المجتمع الشبكي وتقنياته الهائلة والمتعددة.

ولهذا تحدث الباحث باري ويلمان “Barry Wellman”عن ذاتية أو فردية جديدة في ظل ظهور (الانترنيت) أسماها بـ(الفردية الشبكية)، وعرف مانويل كاستيلز (الفردية) هذهِ التي ظهرت:  بوصفها مشاريع وعلاقات ذاتية التوجه (وليست موجهة من خلال التقاليد) مشيراً إلى إنها تجد في الانترنيت التكنولوجيا الملائمة لها للتعبير والتنظيم، ويشير مصطلح “الفردية الشبكية” الى حدوث تحول تاريخي في التأكيد الذي انتقل من الولاءات طويلة المدى بين العائلة والاصدقاء والمجتمعات القائمة على المكان الى الشبكات الاجتماعية الاكثر انتشاراً وتغيراً([18]).

 ان هذهِ الفردية الشبكية كانت هي الوعاء الاجتماعي والثقافي المسؤول عن مسألتي الاشهار والشهرة بالنحو الجديد و بعبارة اكثر تفصيلاً، إذ ان مسألة الإشهار في ظل ثقافة الصورة للمجتمع الشبكي الجديد وعبر تلك الفردية الشبكية، تحولت من دائرة العمل الاقتصادي عبر (الاعلان) الى دائرة (الشخصنة)، أي انتجت شخصيات استغلت عملها في الاشهار أو اتخذت منه جسراً لأجل بلوغ (الشهرة) وان يصبحوا ضمن دائرة المشاهير.

وهذا الامر تم ضمن بواعث من الهوس الشخصي شجعت عليه أدوات وتقنيات المجتمع الشبكي نفسه، وبهذا النحو دخل هؤلاء الافراد ضمن دائرة كسر الحدود الثقافية والاجتماعية للشأن (الخاص) وجعله متاحاً (للعام) وبعدة طرق وصلت حد الابتذال والتعري وغيرها الكثير من الامور التي يرغب من خلالها هؤلاء الافراد الحصول على مشاهدات كثيرة، ومشاركة لمنشوراتهم ونحو ذلك، لأجل أن يصلوا إلى حد اللذة والاستمتاع بأن أصبحوا من مشاهير المجتمع.

وهذا الامر يعني ان كلا الخطين (الإشهار) و(الشهرة) دخلا في دائرة واحدة كل واحد منهما يسهم في اعادة انتاج الاخر، ومن ثم تماهياً واشتراكاً في ممارسة ثقافية واحدة.

اذ يرى احد الباحثين ان طلب الشهرة في المجتمع الامريكي يتم الاعداد له منذ الطفولة عبر برامج معدة لهذا الغرض بدأت مع (جيل تلفزيون الواقع) الذين انشأوه في الستينات (The Real World) والعروض الاخرى التي يبدو انها تقدم للجميع خمس عشرة دقيقة على الاقل من الشهرة؛ ان دراسة الاطفال كانت بالنسبة لهم اكثر مقياس دقيق للكشف عن بدايات الرغبة بالشهرة منذ عمر مبكر ولقد كانت برامج ملكات الجمال تسير الى جانب هذا البرنامج منذ زمن بعيد وتطور الامر حتى اصبحت هنالك مدارس ومعاهد خاصة تعد الاطفال لان يكونوا مشهورين او تعد بعض النسوة لهذا الامر كذلك، بل توضع كذلك معايير خاصة ومن ثم هنالك ستكون نمذجة للشهرة وهنالك جهات كثيرة تعمل على الاعداد لها[19].

من بين جميع مدارس النمذجة العاملة الان (JPR) هي بالتأكيد من بين اقدم المدارس والاكثر شهرة تم تصميمها في عام 1923 من قبل جون روبرت باورز، وهو ممثل فاشل تحول الى رجل اعمال، قام بتصميم منهج وكتب عدة كتب قدمت استراتيجية شاملة عن كيفية ان تصبح نموذجا مشهورا ناجحا ولاحظ كيف ان النساء يأتين لمؤسسته والمراهقين كذلك وذلك كي ما يكونوا نماذج اجتماعية مشهورة.[20] ولعل صناعته تلك هي التي مهدت بعدئذ نحو الدفع ما يعرف لاحقا بطب التجميل بحثا لا عن الجمال فحسب بل طلبا للشهرة التي تجر بعدها دائرة الاشهار والعمل الاقتصادي بشتى انواعه.

وبهذا النحو اصبحت هذهِ ظاهرة اجتماعية يستدعي الأمر ليس الوقوف على بواعثها التي تقدم ذكرها فحسب ضمن المدار العام، بل يجب الوقوف على بواعثها على مستوى المدار الشخصي.

وهذا الامر يستدعي الوقوف عند هذهِ الظاهرة من جهة البواعث والتفسيرات التي ممكن ان نستفيد منها من منظوري الانثروبولوجيا النفسية والرقمية في آن واحد.

ثالثاً: التحليل الثقافي من منظوري الانثروبولوجيا النفسية والرقمية (المدارات الخاصة)

ان الإشهار ليس علماً، على الرغم من كل التطورات التي عرفتها أساليبه وتقنياته، فهو حصيلة الثقافة ومرآتها، إنه يعكس أحكامها ومعتقداتها وانساق القيم عندها، ولكنه مع ذلك قادر على مدنا بمجموعة من المعطيات التي قد تمكننا من تسليط المزيد من الاضواء على الجوانب الغامضة في الكائن البشري، فمن خلال الإشهار وتقنياته وثيماته نستطيع قياس درجة وعي الشعوب ودرجة تحضرها، بل يمكن التعرف على تابوهاتها ومحرماتها ومناطق التقديس عندها([21]).

فعند إدماج مسألتي الاشهار والشهرة فأننا ازاء نمط من الثقافة جديد، بدأ يهيمن على جملة من الانشطة الانسانية من جهة، وعلى فضاءات التبادل التقني الجديد من جهة أخرى، ولعل الامر الخطير في هذا الفضاء هو مسألة انفصاله عن المنظومة القيمية فهو لا يخضع لضوابط قيمية اخلاقية موجهة، إذ لا توجد فيه قواعد أو قنوات للضبط الاجتماعي، ولهذا فالأفراد يتصرفون في ظل هذا المجتمع الشبكي من دون مراقبةخارجية الا الوازع الداخلي، الذي يكون هو كذلك عرضة للضعف والوهن.

ويمكننا ان نلاحظ ايضاً ان غالباً ما يمنح الوسط الالكتروني فرصاً للحديث والتعبيرعن افكار المستخدمين بطرائق فريدة ويكون ذلك شيئاً طبيعياً بالنسبة إليهم، إلا أنه قد يبدو غريباً للأفراد المتواصلين بطرائق مباشرة، إذ يمكن هذا الوسط المستخدم من إيصال فكرته أو رأيه أو موقفه من قضية ما بالكتابة أو بالصوت والصورة معاً([22])،ومن جهة أخرى لا يمكن ان نجد في التواصل الالكتروني في ظاهر الأمر زعامات أو قادة أو سلطة متحكمة تقرر المسموح به والممنوع الحديث عنه، لأن جميع الافراد متساوون ([23]).

ان هذه الحرية المفرطة هي التي جعلت الكثير من الافراد يتصرفون بلا قيودً أو ضوابطً اخلاقية، وكانت النتيجة هذهِ الوجوه المشهورة قهراً هي المهيمنة على تقنيات المجتمع الشبكي وموظفة قنواتها لكل الوان الابتذال والفجاجة والوقاحة، بل والوان الانحراف الاخلاقي عبر افعال معينة يريدون من وراءها الشهرة بأية طريقة وبأية وسيلة، ولهذا وجدنا أن دورتي (الإشهار) و(الشهرة) أو هوس (الشهرة) تشابكا سوية ضمن منظومة سلوكية واحدة، وذلك لأن كليهما:

  • يسعيان للتأثير بالجمهور ونيل استحسانه واعجابه وبشتى الطرق.
  • يتناوبان بين مشهدية (الإشهار) أي العمل في الاعلانات ونحو ذلك، فينالون (الشهرة) أو بالعكس عبر البحث عن الشهرة يصلون إلى عالم (الإشهار) ومن ثم فهما يلتقيان في دائرة واحدة.
  • كلاهما يتحركان ضمن دائرة (المنفعة واللذة) وضمن الوسط الاجتماعي نفسه، معبران كلاهما عن طغيان (الفردانية) ونزعة (الانا المرضية).
  • كلاهما يستخدمان الوسط التقني  نفسه (وسائط المجتمع الشبكي) ويسعيان في الوقت نفسه لتفاعل افتراضي، تكون نتائجه واقعية عبر تحصيل الارباح المادية لتسويق ذواتهما عبر هذا العالم الافتراضي.
  • كلاهما يعبران عن وجود حالة هوس مرضية لا حد لها، مما يؤشر على وجود اضطراب نفسي خطير، لأن افعالهم تخرج عن دائرة المنظومة الأخلاقية  عبر عمليات: التعري المفرط، أو الكلام البذيء، أو العنف المفتعل ازاء اقرب الناس لهم، أو لأفراد اسرتهم ونحو ذلك.

ان الحقل المعرفي الجديد (الانثروبولوجيا الرقمية) “Digital Anthropology” يمكن ان يعيننا كيما ندرس مغزى هذه الثقافة الجديدة التي ظهرت في ظل المجتمع الشبكي يرى توم بولستورف: ان الانثروبولوجيا الرقمية ليست مماثلة للأنثروبولوجيا الطبية أو الانثروبولوجيا القانونية، والتوازن بين هذهِ سيكون هو الانثروبولوجيا الافتراضية، تعد الانثروبولوجيا  الرقمية تقنية، وهكذا فهي مجال دراسة في شكل غير مباشر فحسب، إنها مقاربة للبحث عن الافتراضي الذي يسمح بتناول موضوع الدراسة هذا بمصطلحاته الخاصة([24]).

ولقد سعى لادراك مغزى الانثروبولوجيا الرقمية من خلال علاقة جدلية قائمة وبأستمرار بين الافتراضي والواقعي معاً، ولذلك هو يدفع نحو نظرية إشارية “Indexical Theory” لفهم كيف ان الافتراضي والواقعي (يشيران) أحدهما إلى الآخر في الممارسة الاجتماعية ([25]).

وهو يحيل إلى المبادئ التأسيسية التي تشكل الاسئلة والانشغالات العملية للأنثروبولوجيا الرقمية التي قال بها (دانييل ميلر وهيذر أ. هورست) والتي نحاول اختصارها على النحو الآتي:

  • – المبدأ الأول: هو أن الرقمي نفسه يكثف الطبيعة الجدلية للثقافة، فمصطلح (رقمي) سيتم تحديده باعتباره كل شيء يمكن ان يقلص جوهرياً إلى شفرة مثنوية تستنتج تكاثراً إضافياً للخصوصية والاختلاف.
  • – المبدأ الثاني: ان الانسانية ليست ذرة واحدة عظم وسيطها بأنبثاق الرقمي، وبدلاً من ذلك فأننا نقترح ان الانثروبولوجيا الرقمية ستتطور إلى درجة يتيح الرقمي لنا فيها الفهم.
  • – المبدأ الثالث: الالتزام بالشمولية والكلية “Holism” هو أساس المنظور الانثروبولوجي حول الانسانية.
  • – المبدأ الرابع: يعيد تأكيد أهمية النسبية الثقافية والطبيعة الكونية لمصادفتنا الرقمي.
  • – المبدأ الخامس: يهتم بالالتباس الاساسي للثقافة الرقمية بالنظر إلى فتحها واغلاقها المتزايد، والذي ينشأ من قضايا تمتد من السياسات والخصوصية إلى اصالة التناقض.
  • – المبدأ السادس: يعترف هذا المبدأ بمادية العوالم الرقمية، تلك المادية التي انشغل بها الكثير من الانثروبولوجيين في دراسات سابقة لمجالات مغايرة([26]).

ان فهم ثقافة الاشهار والشهرة تستمد مقومات تفسيرها من خلال الموجه النظري الجديد (الانثروبولوجيا الرقمية)، بعبارة أدق: ان المفتاح نحو الانثروبولوجيا الرقمية، وربما نحو مستقبل الانثروبوجيا ذاتها، هو في جزء منه دراسة لكيف تصبح الاشياء اعتيادية في شكل سريع، فما نعانيه بالتجربة ليس هو التكنولوجيا بحد ذاتها، بل النوع المتأثر ثقافياً في شكل مباشر للاستعمال ([27])، ان كينونة مفهوم ثقافي ومعياري، وكما بين مبدؤنا الثاني (آنف الذكر)، فتعريفنا ماهية الانسان هو ما يوسط ماهية التكنولوجيا، وليس طريق آخر ([28]).

ان الانثروبولوجيا الرقمية ضمناً لا تتحدث عن ثقافة جديدة تتوسط الافتراضي والواقعي وتتسيّد المشهدية الاجتماعية في ظل المجتمع الشبكي عبر طغيان الفردانية،  أو ما اصطلح عليه بـ(الفردية الشبكية)، بل انها تتحدث كذلك عن (كينونة إنسانية جديدة) أنبثقت، وهذا الامر يتطلب من الانثروبولوجيين تقديم تفسير لها، لاسيما وان مظاهرها السلبية أكثر من الايجابية على مستوى الممارسة الثقافة وانعكاسها داخل المجتمع الافتراضي والواقعي على حد سواء.

ان الانثروبولوجيا الرقمية تفسر الإشهار والشهرة بوصفها جزءً من الثقافة الجديدة تارة وبوصفها جزءً من الكينونة الانسانية الجديدة تارةً أخرى، على اعتبار ان فضاءات تقديم الذات التي لم تولها الانثروبولوجيا سابقاً اهتماما كبيرا، بدأ يتقدم ويأخذ حيزاً كبيراً في ظل المجتمع الشبكي، وان كانت الانثروبولوجيا الرقمية تعد السلوكيات أو الممارسات الثقافية الجديدة بوصفها تحصيلاً حاصلاً ضمن آلية ما اصطلح عليها بـ(إعادة إنتاج المجتمع لنفسه) من حين إلى آخر.

فأن الانثروبولوجيا النفسية لا تكتفي بالتفسيرات (تقنية – ثقافية) بل تسعى جاهدةً للكشف عن الامراض الجديدة للحضارة التقنية-الشبكية الجديدة، التي أفرزت مظاهر سلوكية مرضية ولاسيما في حالة هؤلاء الذين غزوا العالم الافتراضي وتسيدوا فيه كلياً؟!.

بغض النظر عن المناكفات الفكرية هل هي أنثروبولوجيا نفسية أم ثقافة وشخصية “Culture and Personality”؟، إلا أن هنالك تعاوناً كبيراً بين علماء الانثروبولوجيا وعلماء النفس، وهذا ما أشار له منذ زمن بعيد مليفيل.ج. هرسكوفيتز.

“Melvlle J.Herskovlts” إذ تحدث عن وجود ما اسماها: نوع من تسوية مباشرة يسعى فيها كل من عالم الانثروبولوجيا وعالم النفس إلى ان يتعلم احدهما من الاخر ما أمكنه، وان يتفقا على تحديد المشاكل وطرق بحثها، ويزداد التقرب من هذهِ (التسوية المباشرة) بقدر ما يعمل علماء الانثروبولوجيا في مخابر علم النفس، أو يخضعون للتحليل النفسي، وبقدر ما يقوم بعض علماء النفس ولاسيما العريقين منهم في التقاليد الاكاديمية، باختبار نظرياتهم في البحث الميداني([29]).

والانثروبولوجيا النفسية هي مجال فرعي من علم الانثروبولوجيا يهتم بالتقاطع بينما هو نفسي وثقافي. فهو يركز على مجموعة من الموضوعات من ضمنها: الادراك والعاطفة والشخصية والامراض العقلية والنفسية غير العادية. والانثروبولوجيا النفسية لها جذور عميقة في تاريخ الانثروبولوجيا وكان للولايات المتحدة اهتمام خاص بها ويعد الانثروبولوجست ايرفينغ هالويل احد المؤسسين من قسم الانثروبولوجيا من جامعة بنسلفانيا والذي يهتم بشكل صريح بقضايا الذات والهوية لاستكشاف جديد لصلات (الثقافة الشخصية)[30]

وبوجهٍ عام، فأن فهم موضوعة “الشخصية” هي المحور المرتكز، وهو الذي يساعنا على تحليل شخصيات هؤلاء اصحاب الاشهار والشهرة وعوارضهم السلوكية المرضية، أن سيادة الثقافة الاستعراضية التي ارتبطت بتضخم الفردانية والتي هي أسهمت في الدفع نحو إيجاد هذهِ المظاهر السلوكية التي تحدثنا عنها آنفاً، أي ان الشخصية هي انعكاس للثقافة القائمة في المجتمع، فضلاً عن كونها هي المرآة العاكسة لأية مظاهر للتغيرات الثقافية التي تحصل.

فكل ثقافة تولد نمطا من الشخصية مختلفا من مجتمع إلى آخر، وهذا الامر تحدث عنه رالف لينتون في معرض رده على توجهات علماء النفس، إذ قال: اعتمد الباحثون النفسيون على نتائج ملاحظاتهم المحدودة، كما لو انها قضايا مسلم بصحتها فافتراضوا وجود غرائز عامة متنوعة لتقليل ما لاحظوه من ظاهرات. ثم  تبين لهؤلاء العلماء أن معايير الشخصية تختلف باختلاف المجتمعات والثقافات، فكان هذا الاكتشاف بمنزلة صدمة اضطرتهم إلى اتخاذ خطوات جذرية لإعادة تنظيم مفهوماتهم ([31]).

لكن في حقيقة الامر ان هذا الأمر اختلف الآن بظل المجتمع الشبكي الذي جعل الكثير من الثقافات تقترب من بعضها بنحو كبير، لاسيما في ظل الوسائل التقنية، فلهذا كان المندفعون نحو الاشهار والشهرة في حضارات انسانية متعددة متقاربين جداً في المظاهر السلوكية المرضية ذاتها.

لفهم ملامح عامة للتركيب النفسي لشخصيات المشاهير في ضوء الانثروبولوجيا النفسية، فإننا سنعمدُ إلى الاشارات السريعة إلى اهم عنصرين بحسب رأينا اللذين ينبغي ان يسلط عليهما الضوء وهما:

أولاً: تحولات الانا في العالم الافتراضي، بوصفهِ انحرافا نحو المسار المرضي.

ثانياً: تحولات السوق في العالمين الواقعي والافتراضي، بوصفهِ انحرافا نحو مسار البحث عن (السعادة الزائفة) أو (اللذة المستعجلة) بدلاً من الاستهلاك المعروف.

بين هذين العنصرين يمكن ان نتحرك بنحوٍ أولي لفهم إشكالية (الإشهار والشهرة) الراهنة الآن عالمياً، حول المسألة الاولى (تحولات الأنا) ترى الباحثة إلزا غودار: إن الانسان العرضي، ذلك المتصل بأستمرار موجود بفضل الشاشات، والحال ان مواجهة هذا الوجه المزدوج للأنا، أو هذا التفاعل الوجهي، يثير مسألة تعددية الأنا وتحولاتها: من هي الذات التي يتم تمثيلها في الشاشة؟ هل هناك انشقاق بين ما أحسه عن نفسي وبين ما أمثله عن نفسي؟ وخاصة: ألا تميل الأنا الداخلية إلى الانمحاء والتلاشي أو تتغير في احتكاكها مع هذا الافتراض المزدوج؟ وهذا مكمن القضية: أن نكون في الشاشة أو لا نكون ([32]).

اننا ازاء اضطراب نفسي شديد لدى هؤلاء المهووسون بالشهرة، والذي بلغ حد المتاجرة بأنفسهم عبر عرض اجسادهم وافكارهم الخاصة بنحو فج، أو عرض شؤونهم اليومية لأجل تسويق أنفسهم، ومثلما تقول غودار: لقد حقق التسويق الذاتي من خلال السيلفي (مثلاً) الذي يوجد في قلب دائرة الأنا، نجاحاً حقيقياً، فلا يمكن تجاهل هذا الإشهار المجاني والفعال للذات، ضمن التسويق الذاتي تصبح الأنا ماركة (علامة تجارية)، منتجاً موضوعاً للتداول في السوق ([33]).

ولكن هذهِ الانا وهي تبحث عن اظهار خصوصيتها طلباً للشهرة انما تسعى في الوقت نفسه نحو التسويق الاقتصادي/المنفعي في الوقت نفسه، إذ ان اسواقنا الآن اصبحت تتطلب اللذة بلا حدود وهي بحاجة الوسائط فيها من هؤلاء الذين يبحثون عن الشهرة فهم إحدى العلامات الفارقة الآن بعد وسائطية النقود، ولهذا كان السوق: عبارة عن بيان سيكولوجي واسع يكتشف رغبات المجتمع ويمثلها([34]).

بهذه العجالة في تقديم التفسيرات الأنثروبولوجية نخلص إلى الآتي:

  • كانت تحولات المجتمعات الانسانية الهائلة لاسيما على المستوى التقني التي أفضت إلى المجتمع الشبكي، أحدى العوامل التي اسهمت في ايجاد ثقافة جديدة على عدة مستويات.
  • تحولت الأنا الإنسانية من الدائرة القيمية طلباً للشهرة في الكرم والشجاعة والعفة والشرف والتقوى…الخ، لاسيما في المجتمعات الشرقية، إلى دائرة طلب الشهرة عن طريق تحويل الخاص إلى عام، والمراهنة على الجسد بوصفهِ أسرع وسيلة للعرض في المجتمع الشبكي.
  • تحولت عملية الاشهار من دائرة العمل التجاري إلى دائرة العمل الترفيهي، عبر تقديم الافراد بوصفهم سلعا للاستمتاع، وهذا الأمر أفضى إلى وجود اسواق تقوم على متاجرات خاصة، دفعت المهووسين بالشهرة لأن يكونوا أدواتها وسلعها.

اننا ازاء ثقافة جديدة فرضت نفسها داخل المجتمعات الانسانية، هذهِ الثقافة التي ولدت شخصية إنسانية ذات سمات وخصائص تعكس جملة هذهِ التحولات بنحو سيء وسلبي للغاية، وما مقالتنا العلمية إلا محاولة تدشينية (أولية) لرصد هذهِ الظواهر الخطيرة (الإشهار والشهرة).


الهوامش والمصادر

([1]) دان بارني، المجتمع الشبكي، ت: أنور الجمعاوي، مراجعة: ثائر ديب، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، ط1، 2015، ص12.

([2]) المصدر نفسه، ص12.

([3]) سعيد بنكراد، تجليات الصورة: سميائيات الانساق البصرية، المركز الثقافي للكتاب، بيروت، الدار البيضاء، ط1، 2019، ص30.

([4]) دافيد فيكتروف، الإشهار والصورة: صورة الإشهار، ت: سعيد بنكراد، منشورات ضفاف، منشورات الاختلاف، الجزائر، الرباط، ط1، 2015، ص19.

([5]) المصدر السابق نفسه، ص19-20.

([6]) بيرنار كاتولا، الإشهار والمجتمع، ت: سعيد بنكراد، دار الحوار للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، ط1، 2012، ص66.

([7]) المصدر نفسه، ص250.

([8]) طوني بينيت وآخرون، مفاتيح اصطلاحية جديدة: معجم مصطلحات الثقافة والمجتمع، ت: سعيد الغانمي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1، 2010، ص623.

([9]) الان تورين، براديغما جديدة لفهم عالم اليوم، ت: جورج سليمان، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1، 2011،  ص36.

([10]) زيجمونت بومان، الحداثة السائلة، ت: حجاج أبو جبر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، ط2، 2017، ص74-75.

([11]) جيل  ليبوفتسكي، عصر الفراغ: الفردانية المعاصرة وتحولات ما بعد الحداثة، ت: حافظ إدوخراز، مركز نماء للبحوث والدراسات، بيروت، 2018، ص8-9.

([12]) المصدر نفسه، ص218-219.

([13]) المصدر نفسه، ص224-229.

([14]) المصدر نفسه، ص230.

([15]) لويس دومون، مقالات في الفردانية: منظور أنثروبولوجي للأيديولوجية الحديثة، ت: بدر الدين عردوكي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1، 2006، ص113.

([16]) المصدر نفسه، ص23-24.

([17]) طوني بينت، مصدر سابق، ص531.

([18]) كيت أورتون وآخرون (محررون)، علم الاجتماع الرقمي: منظورات نقدية، ت: هاني خميس أحمد عبده، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، (484)، يوليو 2021، ص31-32

[19] Jake Halpern, fame Junkies: The Hidden Truths Behind America’s Favorite Addiction, calibve, new York, 2007, P.25.

[20] Ibid, P.26.

([21]) سعيد بنكراد، الصورة الإشهارية: آليات الاقناع والدلالة، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، ط1، 2009، ص75.

([22]) أسماء حسين ملكاوي، اخلاقيات التواصل في العصر الرقمي: هبرماس انموذجاً، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، ط1، 2017، ص66.

([23]) المصدر نفسه، ص67.

([24]) توم بولستورف، إعادة التفكير في الانثروبولوجيا الرقمية، مقالة في كتاب: (الانثروبولوجيا الرقمية) بأشراف (هيذر أ. هورست ودانييل ميلر)، ت: د. خالد الأشهب، هيئة البحرين للثقافة والاثار، ط1، 2020، ص99.

([25]) ينظر: المصدر نفسه، ص100-101.

([26]) ينظر: دانييل ميلر وهيذر أ. هورست، الرقمي والانساني: تمهيد للأنثروبولوجيا الرقمية، مقال في كتاب (الانثرولوجيا الرقمية)، مصدر سابق، ص23-24.

([27]) المصدر نفسه، ص81.

([28]) المصدر نفسه، ص82.

([29]) ميلنيل.ج.هرسكوفينز، أسس الانثروبولوجيا الثقافية، ت: د. رباح النفاخ، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1973، ص57-58.

[30] Robert Lemelson and Annie Tucker, Afflictions: Steps To ward a visual Psychological Anthropology, Palgrave macmillan, USA, 2017, P.31.

([31]) رالف لينتون، الانثروبولوجيا وأزمة العالم الحديث، ت: عبد الملك الناشف، المكتبة العصرية، بيروت، 1967، ص30.

([32]) إلزا غودار، أنا أو سيلفي إذن أنا موجود: تحولات الأنا في العصر الافتراضي، ترجمة وتقديم: سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، بيروت- الدار البيضاء، ط1، 2019، ص78.

([33]) المصدر نفسه، ص78-79.

([34]) ينظر: تفاصيل أكثر: ويليام ديفيز، صناعة السعادة، ت: مجدي عبد المجيد، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، ع(464)، سبتمبر، 2018، ص54-59.