مجلة حكمة
الصداقة

الصداقة ودورها في تحقيق التوازن النفسي والاجتماعي للأفراد (الطفل، المراهق، الراشد) – عباس نور الدين


إن كلاًّ منا مهما كان مستواه الثقافي وموقعه الاجتماعي يجد نفسه مؤهلا للحديث عن الصداقة. وغالبا ما ننطلق في حديثنا عن الصداقة من تجاربنا الخاصة وخبراتنا الذاتية، ونتوصل إلى “نتائج” هي أقرب إلى القناعات الشخصية التي يصعب تعميمها؛ وكأن كل صداقة هي علاقة فريدة ومتميزة بين شخصين.

وكتب التراث كثيرا ما سجلت أقوالا وأشعارا وقصصا متباينة وأحيانا متناقضة عن الأصدقاء وأخبارهم، وعن الصداقة وشروطها(*) . إلا أن الحديث عن الصداقة ظل إلى عهد قريب مجرد انطباعات ذاتية مستمدة من خبرات محددة في الزمان والمكان.

أما الصداقة باعتبارها علاقة إنسانية متميزة فلم يتم التعرض لها إلا في مرحلة متأخرة في إطار اهتمام العلوم الإنسانية، لا سيما علم النفس الاجتماعي، بموضوع العلاقات بين الافراد.

وفي هذا البحث سنحاول إبراز الأبعاد النفسية والاجتماعية لـ الصداقة سواء بالنسبة للطفل أو المراهق أو الراشد، مؤكدين على الدور الذي تلعبه هذه الظاهرة في تحقيق التوازن النفسي والاجتماعي للإنسان في جميع مراحل حياته.

المبحث الأول: صداقة الأطفال وأثرها في تنشئتهم الاجتماعية.

إن علاقة الطفل بغيره من الأطفال لا تعرف إيقاعا واحدا، فهي تتغير حسب المرحلة التي يمر بها الطفل في نموه النفسي والبيولوجي والاجتماعي، الأمر الذي يجعلنا نتساءل عن طبيعة هذه العلاقة، والدور الذي تلعبه في النمو النفسي للطفل وتنشئته الاجتماعية والموقف الذي يجب أن يتخذه الآباء والمربون إزاء هذه العلاقة.

طبيعة علاقة الصداقة في مرحلة الطفولة:

لا يميل الطفل، قبل سن الرابعة، إلى اللعب مع غيره من الأطفال على أساس من التعاون وتوزيع الأدوار. ويتسم لعب الطفل في هذه المرحلة بأنه لعب انفرادي، فهو يلعب بجوار طفل أو أطفال آخرين، ولا يميل إلى أن يشاركه غيره في اللعب، وتظل علاقته بغيره من الأطفال علاقة سطحية وآنية. ويطغى على هذه المرحلة من حياة الطفل نزعة التمركز حول الذات أو “الأنوية” Egocentrisme، بحيث لا يستطيع أن يضع نفسه مكان الآخرين ويتخيل ردود أفعالهم المتوقعة علىما يصدر عنه من سلوك، مما يجعله غير قادر على الأخذ والعطاء، وعلى إدراك حقوق الآخرين، وبالتالي غير قادر على تكوين علاقات متبادلة معهم يمكن أن تتطور وتستمر.

وحسب “بياجيه” إن نزعة التمركز حول الذات هي”حالة ذهنية تمتاز بعدم القدرة على التمييز بين الواقع والخيال، بين الذات والموضوع، بين الأنا والآخر، أو بين الأنا والأشياء القائمة في العالم الخارجي… فالطفل يجهل نفسه وجسمه ولا يعرف الزمان والمكان والسببية القائمة بين الأشياء أو الظواهر الأخرى”(1). ويشير “بياجيه” إلى أن نزعة التمركز حول الذات يمكن أن تمتد إلى ما بعد السنة الرابعة من عمر الطفل وتستمر حتى الثامنة أو التاسعة، مما يحول بينه وبين إدراك العالم الخارجي بكيفية موضوعية، وبين إقامة علاقات تبادلية أو عكسية مع الأطفال الآخرين، كما يحول بينه وبين إدراك العلاقات السببية والقيم الأخلاقية(2).

إلا أن الطفل، وابتداء من عامه الرابع تقريبا، يبدي بعض الميل للتخفيف من نزعته الأنانية، إلى أن يتم له في حوالي الثامنة من العمر تجاوز هذه المرحلة. ويتجلى ذلك في توجهه إلى الأطفال الآخرين الذين يوجدون في نفس المرحلة العمرية. كما يبدي في هذه المرحلة ميلا للتنافس مع الأطفال الآخرين ورغبة في التفوق عليهم. وقد يتطور التنافس إلى النزاع معهم وإلى الانضمام إلى جماعة من الأطفال منافسة لجماعة أخرى.

وبالنسبة للنشاط اللغوي، وهو أداة الطفل الرئيسية للتواصل مع الآخرين، فإن لغة الطفل -في حدود السنة الرابعة- يغلب عليها هي الأخرى الطابع الفردي أو “الأنوي”، فهو يتكلم مع نفسه (مونولوج)، وقلما يهدف الكلام في هذه المرحلة إلى التفاعل مع الآخرين بقدر ما يكون تعبيرا عن نزعته الذاتية. فقد يتكلم الطفل مع نفسه بحضور الآخرين، بل قد يتكلم مع الآخرين، إلا أنه في كل ذلك لا يعبر إلا عن وجهة نظره وعن رغباته كما لو كان يتحدث إلى نفسه، دون أن يصغي إليهم أو يتفاعل معهم.

وقد يلعب الطفل مع أطفال وهميين، وهو ما يسمى باللعب التمثيلي أو الإيهامي (السوسيودرامي)، حيث يتحدث مع رفيق وهمي يتخيله، فيتحدث معه أو يوجه إليه اللوم ويسقط عليه ما يشعر به نتيجة تعامله مع أفراد أسرته. وبذلك يعبر من خلال اللعب التمثيلي عن رغباته التي لم يتمكن من إشباعها داخل الأسرة، وعن الصدى الذي تركه في نفسه تعامل الآخرين معه. لذا يعتبر اللعب الإيهامي فرصة للتعرف على بعض الجوانب الخفية في سلوك الطفل، هذا بالإضافة إلى الوظيفة المعرفية للعب الإيهامي حيث تتحول الأشياء بصفة عامة إلى رموز، أو كما يقول “بياجيه” إن الطفل ينتقل بواسطة اللعب الإيهامي أو التمثيلي من النشاط العملي إلى النشاط التصوري، أو من الأفعال إلى الرموز(3).

وبعد هذه المرحلة، وفي الغالب عندما ينتقل الطفل من البيت إلى المدرسة، يبدي الطفل اهتماما بآراء الآخرين وفهمها ومناقشتها والرد عليها(4)، الأمر الذي يتيح له التفاعل مع الآخرين وإقامة علاقات صداقة معهم. إلا أن هذه العلاقات قلما تدوم بسبب عدم تخلص الطفل من نزعته الأنانية بصفة تامة. وفي مرحلة لاحقة، ما بين التاسعة والثانية عشرة، تصبح صداقات الطفل أكثر استمرارا وتسمح له أن يمارس استقلالا نسبيا عن والديه ليندمج مع جماعة الرفاق التي يختار أصدقاءه من بين أعضائها.

ولكي يتجاوز الطفل هذه المرحلة بكيفية طبيعية على الآباء والمربيين بصفة عامة أن يدركوا حاجة الطفل إلى تكوين صورة إيجابية عن ذاته من خلال التعرف على جسمه وقدراته الجسدية، ومن خلال تمييزه بين رغباته وبين إشباع هذه الرغبات، أو تمييزه بين الواقع والخيال، وكذلك من خلال تعامله مع الآخرين بحيث يتاح له بأن يعرف حقوقه وحقوق الآخرين. وتجاهل الآباء والمربين لهذه الحاجات الأساسية للطفل، خاصة عندما تقمع بأسلوب سلطوي يعتمد التحقير والتخجيل…من شأنه أن ينعكس على سلوك الطفل على شكل شعور بالذنب والخجل وعدم الثقة بالنفس، أو على شكل ميل للعدوان والتخريب، وعدم القدرة على إقامة علاقات مع أقرانه تقوم على أساس التعاون والاهتمامات المشتركة(5) لذا يجب تشجيع الطفل في هذه المرحلة على أن يقيم علاقة مع أقرانه، وأن يختلط بهم ويمارس أنشطة مختلفة معهم، ونيسر له فرص اللقاء بهم سواء داخل المنزل أو خارجه. ومن خلال علاقة الطفل مع أقرانه سيشعر الطفل أنه مقبول من طرفهم مما يجعله يتعرف على قدراته ويمنحه الشعور بالاطمئنان والجدارة والثقة بالنفس، الأمر الذي يعتبر من الشروط الضرورية لنموه النفسي والفيزيولوجي والاجتماعي… بكيفية متوازنة وطبيعية.

وقد يلجأ الآباء، في بعض الأحيان إلى عكس الموقف السابق فيستجيبون لكل طلبات الطفل ويشبعون جميع رغباته ويعملون على عدم احتكاكه بالأطفال الآخرين من أمثاله أو يعمدون إلى اختيار أصدقاء له طبقا لمعاييرهم وأحكامهم. كل ذلك من شأنه أن لا يساعد على أن يكون الطفل صورة حقيقية عن ذاته، وأن يشعره بالثقة بالنفس وبالاستقلال عن والديه، الأمر الذي يعيق نموه النفسي والاجتماعي. بل قد يعبر الطفل في مثل هذه الحالة عن تبرمه من عدم إتاحة الفرصة له للاستقلال عن والديه بأن يلجأ إلى تحدي أوامر والديه والقيام بأنماط سلوكية مخالفة لما يرغبون فيه كتعبير عن رغبته في إثبات ذاته والتحرر من التبعية المطلقة لهما. وفي هذا الشأن تقول متخصصة في التربية: “إن حاجة أولادنا إلى الاستقلال هي دعوة لنا لكي نتجاوز تشبثنا غير الناضج بهم، وما يرافق هذا التشبث من هلع يساورنا من جراء رحيلهم المرتقب، فنحرز الاستقلال لأنفسنا بمقدار ما نمنحه لهم، ونقف على رجلينا دون خوف مفرط من الوحدة”(6).

وغالبا ما يبرر الآباء، في مثل هذه الحالة، تحذيرهم للطفل من الاحتكاك بالأطفال الآخرين من أمثاله بأنهم يستهدفون منعه من التأثر ببعض السلوكات السلبية أو المنحرفة التي قد تصدر عن بعض هؤلاء الأطفال، وعدم إضاعة الوقت في اللعب واللهو على حساب الاهتمام بالدروس… إلى غير ذلك من التبريرات التي قد تذهب إلى درجة تخويف الطفل من الآخرين ومن الشارع وحتى من الطبيعة، مما قد يحول دون ممارسة الطفل للفرح والعفوية والصدق. ويخطئ الآباء عندما يعتبرون تربية الطفل وتنشئته تتمان من خلال النصائح والمواعظ متجاهلين حاجات الطفل ورغبته في تكوين شخصية مستقلة تحرره تدريجيا من تبعيته لوالديه. وعلى الآباء أن يدركوا أمرا هاما وهو “أن التربية لا تتم من طرف واحد وحسب، وإنما هي عملية تبادلية نتربى فيها من أولادنا في مقابل تربيتنا لهم”(7). وإذا ما تمت عملية تربية الطفل وتنشئته بهذا المفهوم فسيكتشف الآباء أن الأبناء يساعدونهم على إتمام شروط نضجهم وتوازنهم النفسي والاجتماعي. ويشير أحد علماء التربية في هذا الشأن إلى “أن الطفل يمكن له أن يساهم في تربية والديه وإرشادهم إلى طريق حياتهم كراشدين… بحيث يمنحهما حظهما الأخير في متابعة تطورهما فلا يبقيان جامدين في نفس الحالة التي وجدا عليها يوم زواجهما”(8).

المبحث الثاني: دور الصداقة في النضج النفسي والاجتماعي للمراهق.

تكتسي الصداقة أهمية خاصة بالنسبة للمراهق بالنظر لتأثيرها الكبير على النمو النفسي والاجتماعي للمراهق الذي لا يشعر بمكانته الحقيقية إلا بين رفاقه. ويفوق هذا التأثير في الغالب تأثير الآباء والمعلمين. ولما كان المراهق يشعر بأنه لم يعد طفلا ولم يقبل بعد من طرف الكبار كراشد فإنه بحاجة إلى جماعة الرفاق التي تفهمه ويفهمها ويمارس معها أنشطته المحببة التي تتيح له أن يعبر عن مواهبه وقدراته وأن يشبع رغبته في الانتماء للجماعة(9).

الصداقة والخطاب الأبوي:

يغلب على مرحلة الطفولة في مجتمعاتنا العربية، فيما يخص العلاقة بين الآباء والأبناء، خطاب أبوي يتميز بأنه خطاب فوقي سلطوي يتعالى على الطفل الذي ينظر إليه نظرة دونية باعتباره أقل خبرة وضعيف الإدراك وبحاجة إلى الأخذ بيده في كل شيء. وقد يبالغ الآباء في ممارسة هذا الخطاب وينسون حقيقة هامة وهي أن شخصية الطفل -كما يقول هشام شرابي- “تنمو وتتكون بفعل ما يلاحظه من جانب والديه أكثر بكثير مما يتعلمه منهما مباشرة”(10). فالطفل ليس بحاجة إلى المزيد من النصائح والمواعظ بقدر ما يحتاج إلى المثال أو النموذج الذي يقتدي به ويتأثر بما صدر عنه من سلوك. ويتجلى ذلك -خاصة في مرحلة الطفولة المتأخرة- في ميل الطفل إلى ما يسمى “بعبادة الأبطال” أي تقمص شخصيات يعتبرها مثلا أعلى بالنسبة إليه كشخصية المعلم أو البطل الرياضي، أو الممثل… ويسقط على هذه الشخصيات رغباته وميوله، مما يشعره بالارتياح والاطمئنان.

وعندما ينتقل الطفل إلى مرحلة المراهقة يبدي المراهق تبرمه من الخطاب الأبوي خاصة إذا كان هذا الخطاب يتميز بنزعة سلطوية مبالغ فيها، وبعدم الاهتمام برغباته وحاجاته وميوله. وكنتيجة للتغيرات الفيزيولوجية والنفسية التي تطرأ على شخصية المراهق فإنه يحاول ما أمكن أن يثبت ذاته ورغبته في الاستقلال من خلال عدم الانصياع لأوامر والديه وتحديه لسلطتهما وميله إلى الاندماج بجماعات الرفاق أو الأقران. وتلعب هذه الجماعات دورا هاما في نمو شخصية المراهق لكونها تتيح له أن يشعر بمكانته الحقيقية التي لم يتمكن من التعرف إليها من خلال الأسرة التي غالبا ما يسودها خطاب أبوي فوقي. ويسود جماعة الرفاق علاقات أفقية متبادلة تسمح لأفرادها أن يعبروا عن آرائهم ورغباتهم بتلقائية وعفوية دون أن يواجهوا بالرفض أو الانتقاد أو القمع… فالتيار، إن صح التعبير، يمر بين الرفاق بسهولة الأمر الذي يزيد من احتمال تأثر كل فرد في الجماعة بأفكار وسلوك الآخرين الذين سيشكلون جماعته المرجعية المفضلة.

إن غياب الخطاب الفوقي داخل جماعة الرفاق يساعد على قيام علاقات صداقة بين أفرادها قد تصل إلى درجة من الحميمية تجعلها تؤثر في سلوك المراهق تأثيرا يفوق تأثير الوالدين والأسرة بصفة عامة، وكذلك تأثير المعلمين والمدرسة. ففي داخل جماعة الرفاق قلما يتعرض المراهق للنقد من طرف الآخرين، وحتى إذا تعرض للنقد فإن ذلك لا يتخذ طابعا فوقيا ولا يتضمن احتقارا أو تبخيسا له، بقدر ما يعبر عن وجهة نظر مختلفة عن وجهة نظره. ويترتب على ذلك تكوين مشاعر إيجابية إزاء الآخرين من أفراد الجماعة. ومن شأن تكرار هذه المشاعر أن تتحول إلى علاقات صداقة وطيدة بين المراهق وبين أفراد هذه الجماعة.

بالإضافة إلى ذلك أن تماثل جماعة الرفاق، من حيث العمر والاهتمامات…، حيث تسود العلاقات التبادلية بينهم، يسمح لهم بالقيام بمهام مشتركة وبأنشطة محببة (رياضة، رحلات، حفلات…) تمنح كل فرد منهم شعورا بالجدارة وتقدير الذات. ولعل أقسى ما يمكن أن ينتاب المراهق هو شعوره بأنه تافه وغير جدير بالاحترام. ومثل هذا الشعور يعيق نمو شخصيته ونضجه النفسي والاجتماعي.

النرجسية الأبوية ورغبة الأبناء في الاستقلال:

عادة ما يبرر الخطاب الأبوي السلطوي من طرف الآباء بأنه تجسيد لما يكنونه من “حب شديد” لأبنائهم ومن حرص على أن يكون سلوك أبنائهم سلوكا متزنا تقل فيه الأخطاء مما يرجح احتمالات تفوقهم ونجاحهم في الحياة. إن ما يبديه الآباء من “حب شديد” لأبنائهم يعكس الرغبة اللاشعورية للآباء ليظل الأبناء ملتصقين بهم وتابعين لهم، يمارسون من خلالهم إشباع نزعتهم النرجسية. فعلى الأبناء أن يكونوا استمرارا لآبائهم، يعيشون ليحققوا لآبائهم ما لم يستطع الآباء أن يحققوه في حياتهم الماضية. وحب الآباء الشديد لأبنائهم -في هذه الحالة- هو الوجه الآخر لرغبة الآباء الشديدة في الهيمنة على الأبناء والحيلولة دون الاستقالال عنهم.

وفي معرض حديثه عن العلاقات السائدة في العائلة العربية الممتدة يستشهد هشام شرابي(11) بنص لأحد الشباب العربي يقول فيه: “من منا نحن العرب يستطيع أن يزعم بأن عائلته أو البيئة التي قد عاش فيها قد أرادته وقبلته وأحبته واعترفت بذاتيته؟ لا أحد بكل تأكيد، إذ كيف يمكن للإنسان أن يكون محبوبا عندما ينحصر وجوده في كونه شيئا مفيدا قد جرى إنتاجه من أجل استمرار العائلة وضمان شيخوخة الوالدين، أو من أجل إرضاء كبرياء الأب الذي يثبت رجولته بكثرة أطفاله؟”(12).

إن هذا النص يبرز بوضوح أن حب الآباء الشديد لأبنائهم يخفي في الواقع رغبة في “امتلاك” الأبناء والهيمنة عليهم لكي لا يستقلوا عنهم في المستقبل، مما يجعل علاقة الآباء بالأبناء تنطوي على تناقض غير معلن ومهدد بالظهور على السطح. ففي الوقت الذي يميل الأبناء إلى التحرر من تبعيتهم المادية والعاطفية… لآبائهم يميل الآباء إلى تعزيز هذه التبعية والتمسك بها وتعميقها. وبقدر ما ينجح الابن في التخلي عن تحقيق استقلاله المادي والنفسي عن والديه بقدر ما يرضي والديه ويشبع نزعتهما النرجسية التي لا يمكن لهما إشباعها إلا من خلال ما يبدونه من حب لأبنائهما ومن محاولتهما تحقيق جميع مطالب الأبناء باستثناء رغبة الأبناء في الاستقلال عنهما. وكما يقول (إيرك فروم): “إن الطفل وكذلك المراهق يوضع في قفص ذهبي، ويمكنه الحصول على كل شيء بشرط ألا يريد مغادرة القفص”. ويضيف (فروم) بأن عدم استجابة الآباء لرغبة الأبناء في الاستقلال عنهم يعكس تخوف الآباء من العزلة التي سيشعرون بها بعد استقلال أبنائهم عنهم، وعودتهم إلى الوضعية الأولى التي كانوا عليها عند الزواج(13).

والسؤال الذي يطرح نفسه فيما يخص علاقة الآباء بالأبناء هو: كيف يمكن للآباء أن يحافظوا على علاقة طبيعية بأبنائهم، يتحقق من خلالها أمران قد يبدوان متعارضين وهما: رغبتهم في الإبقاء على علاقتهم بأبنائهم من ناحية، ورغبة الأبناء في الاستقلال عنهم من ناحية أخرى، بحيث لا تؤدي هذه العلاقة إلى القطيعة والتباعد بين الجانبين أو إلى التبعية المطلقة والتصاق الطرفين ببعضهما البعض. ويشبه (فرويد)

هذه العلاقة “بالخِراف التي تشعر بالبرد فتتقارب فيما بينها محاولة اتقاء البرد عن طريق حرارة اللمس نتيجة صوف أجسادها. ولكنها تشعر بوخز الشوك العالق في الصوف فتبتعد لتتقي ألم وخز الشوك… فتحس عندها بالبرد وتعود للتقارب… فيعود ألم الوخز… وهكذا حتى تستطيع الخراف من خلال عملية التجاذب المعاكس أن تجد المسافة الضرورية لاتقاء البرد والوخز معا”(14).

الصداقة وحاجة المراهق للشعور بالقبول والانتماء:

إن الرغبة في تحقيق صورة إيجابية عن الذات تبلغ حدها الأقصى في مرحلة المراهقة التي تتميز بأنها مرحلة “حرجة” وانتقالية بين الطفولة والرشد. فالمراهق، بالنظر للتحولات التي تنتابه من الناحية الفيزيولوجية والنفسية والاجتماعية، يحاول التخلص من مرحلة الطفولة ليندمج في عالم الراشدين أو عالم الكبار. لذا نراه أكثر ميلا للاستقلال عن والديه والتحرر من تبعيته لهما،محاولا تكوين صورة إيجابية عن ذاته من خلال جماعات الرفاق أو الأصدقاء من أمثاله. وقبل هذه المرحلة لم يكن باستطاعته تقييم ذاته بكيفية موضوعية لعدم استقلاله عن والديه ولتدخلهما في سلوكه ومواقفه. وفي هذه المرحلة يتجه المراهق إلى تكوين صداقات مع أمثاله من المراهقين حيث يتاح له أن يقارن ذاته بهم فيكتشف جوانب صداقات مع أمثاله من المراهقين حيث يتاح له أن يقارن ذاته بهم فيكتشف جوانب القوة والضعف في شخصيته، ويحاول تعديل مواقفه وأفكاره لتنسجم مع مواقف وأفكار جماعة الرفاق ليكون مقبولا من طرفهم. ويتبين للمراهق، من خلال علاقة الصداقة، تماثله مع المراهقين الآخرين من حيث مشاعرهم واهتماماتهم… مما يجعله يتكيف مع التحولات الجسدية والنفسية التي طرأت على شخصيته، ويتقبلها باعتبارها أمرا طبيعيا. والأسرة الواعية تعد المراهق لتقبل هذه التغيرات وتساعده على أن يتعامل معها بكيفية موضوعية دون أن يشعر بأي نقص.

بالإضافة إلى ذلك أن الرغبة بالانتماء للجماعة، تهيء المراهق لأن يبدأ في تكوين علاقات اجتماعية بمعناها الحقيقي باعتبارها علاقات تفرض عليه واجبات إزاء الآخرين وتحدد له حقوقه، كما تفرض عليه تكييف مواقفه وأفكاره لتنسجم مع مواقف وأفكار رفاقه. وكلما تحقق هذا الانسجام بينه وبين جماعة الرفاق كلما شعر بأنه مقبول ومرغوب فيه من طرفهم، وبذلك يشبع رغبته في الانتماء للجماعة مما يمنحه شعورا بالأمن والاطمئنان الضروريين لنمو شخصيته.

وممارسة المراهق للعلاقة الاجتماعية تساعده على إدراك معنى القيم الأخلاقية كقيم الوفاء والتضحية والإيثار والتسامح… ويتجلى تمثل المراهق لهذه القيم من خلال علاقته بالجنس الآخر، وهي علاقة متميزة تسمح له بأن يتدرب على ممارسة الالتزام بالقيم الأخلاقية والاجتماعية. وعلى الرغم من الطابع الرومانسي لتمثل المراهق لهذه القيم إلا أن أقدامه على الالتزام بها يشكل خطوة هامة نحو اندماجه في عالم الكبار، ونحو التمثل الحقيقي للقيم الأخلاقية والاجتماعية، وبالتالي خطوة هامة في تكوين شخصيته بكيفية إيجابية ومتوازنة.

وعلى العكس من ذلك، قد تلعب جماعة الرفاق المنحرفة دورا سلبيا في توجيه سلوك المراهق بحيث تدفعه إلى الانحراف والإجرام بدل الالتزام بالقيم الأخلاقية والاجتماعية. وقد أبرز عالم الاجتماع الأمريكي سذرلند Sutherland أهمية أصدقاء السوء في تكوين السلوك المنحرف والإجرامي، وأكد على الخصوص أن السلوك الإجرامي سلوك يتعلمه الفرد مع أشخاص آخرين وفي نطاق جماعات تقوم بين أفرادها علاقات ودية وثيقة، تعلم الفرد أسلوب ارتكاب الجريمة وتبرر له سلوكه الإجرامي من خلال ميلها لانتهاك القوانين والأعراف المجتمعية، وترجح له كفة الآراء التي لا تحبذ الالتزام بالقوانين والأعراف المجتمعية على كفة الآراء المحبذة لهذه القوانين والأعراف(15).

وتؤكد دراسات عديدة حول انتشار ظاهرة تعاطي المخدرات بين الشباب أن معظم المتعاطين للمخدرات من الشباب بدأوا تعاطي المخدرات بتشجيع من أصدقائهم(16). لذا على الآباء أن يكونوا على بينة من سوية سلوك أصدقاء أبنائهم للحيلولة دون وقوع الأبناء في مهاوي الانحراف تحت تأثير أصدقاء منحرفين.

ونفس النتيجة توصلت إليها كثير من الدراسات المتعلقة بانحراف الأحداث إذ غالبا ما يمارس الأحداث انحرافاتهم بشكل جماعي، وفي إطار جماعات تقوم بينهم علاقات ودية وثيقة. وما تجب الإشارة إليه في هذا المجال أن مجرد اتصال الحدث السوي بأحداث منحرفين لا يعني أنه سيتحول بالضرورة إلى منحرف، فقد يتصل بهم أو أنه لا يجعل منهم أصدقاءه الأساسيين. وتأثر الحدث بأصدقائه غالبا ما يتم بين الأحداث المتماثلين في السن والجنس إلا أن اتصال الحدث السوي بمنحرفين يكبرونه سنا يعتبر أشد خطورة لما يمارسه هؤلاء من تأثير بالغ على الحدث الذي قد تبهره شخصيتهم ويرى فيهم قدوة له، مما يشجعه على السقوط في الانحراف.

وسواء عملت الصداقة على تمثل المراهق للقيم الاجتماعية والأخلاقية أو على مناهضة هذه القيم فإن ذلك يؤكد دورها الهام في توجيه سلوكه سلبا أو إيجابيا الأمر الذي يتطلب من الآباء أن يدركوا خطورة هذا الدور، وأن يعملوا على أن تساهم صداقات المراهق في إعداده للإندماج بكيفية إيجابية في المجتمع.

المبحث الثالث: كيف ومتى تنشأ الصداقة بين الأفراد؟

كيف تنشأ الصداقة:

تتميز العلاقة الحميمة (الصداقة) بين شخصين بأنها علاقة قائمة على الاختيار الشخصي المنزه عن المصلحة الذاتية، وعلى الثقة المتبادلة، والاعتراف بالآخر وقبول مكاشفته والظهور أمامه بدون أي تصنع أو خداع(17). لذا فإن قيام علاقة صداقة بين شخصين أو أكثر يفترض وجود اتجاه إيجابي attitude positive يشعر به الفرد إزاء الطرف الآخر. ويمكن رد هذا الاتجاه إلى عناصر رئيسية ثلاثة:

ـ عنصر معرفي: أي معرفة أفكار ومعتقدات الطرف الآخر والتعاطف معها

ـ عنصر وجداني: مشاعر حب متبادلة، وشعور كل طرف بأنه مقبول من الطرف الآخر

ـ عنصر سلوكي: محاولات التقرب من الشخص المتمتع بالجاذبية والذي هو موضوع العنصرين السابقين(18).

إن قيام الصداقة على أساس الاختيار والثقة المتبادلة والاعتراف بالآخر ومكاشفته… جعلت البعض يتساءل عن طبيعة الجانب في شخصيتنا الذي يدفعنا إلى تكوين علاقة صداقة مع شخص أو أشخاص آخرين. وفي هذه الصدد يرى عالم النفس الأمريكي (إيريك بيرن) Eric Berne أن شخصية أي إنسان مكونة من ثلاث حالات أو مستويات وهي: حالة الأب Parent، وحالة الراشد Adulte، وحالة الطفل Enfant. وهذه الحالات تتعايش وتتفاعل فيما بينها داخل الشخصية الواحدة، وبتحليلها نستطيع أن نشخص الحالة النفسية التي يوجد عليها شخص ما في موقف معين: هل هو في حالة الأب الذي يصدر الأوامر والنواهي، أو في حالة الراشد الذي يتعامل بكيفية عقلانية وموضوعية، أم في حالة الطفل التابع والذي يتعامل بعفوية…، وهذه الطريقة في التحليل والعلاج النفسي أطلق عليها مصطلح “التحليل التفاعلي” Analyse Transactionnelle ويمكن تمثيل الحالات الثلاث في الرسم التالي:

P P حالة الأب

A A حالة الراشد E E

E E حالة الطفل صداقة

وفي علاقة الصداقة إن حالة الطفل في شخصيتنا هي التي تتفاعل مع حالة الطفل في شخصية الآخر بحيث نشعر بأن علاقتنا بالآخر لا تخضع لأي ضغط خارجي وتقوم على الاختيار الشخصي وتسودها التلقائية والصراحة والصدق وعدم التمويه، تماما كما يحدث في علاقة الصداقة التي تقوم بين الأطفال ولا سيما في مرحلة الطفولة المتأخرى. وفي هذا يقول “جاوي”: “عندما نعيش لحظة حميمية قد أشبع ويفيض سعادة وثقة بالنفس”(19).

ويشير العالم الإنجليزي “لاجيبا” La Gaipa إلى أن المرح ليس عنصرا أساسيا في صداقات الأطفال فحسب، وإنما هو أساس مشترك تقوم عليه الصداقة في جميع مراحل الحياة. ويقول: “لا يمكن أن نتوقع استمرار صداقة بين شخصين تخلو من المرح ومشاعر السرور والارتياح”(20).

متى تنشأ الصداقة:

يتفق معظم الباحثين الذين تناولوا بالدرس موضوع الصداقة بأنه لكي تنشأ علاقة صداقة بين شخصين أو أكثر لا بد من توفر ثلاثة شروط رئيسية:

أ ـ أن يلتقي هؤلاء الأشخاص في فضاء معين.

ب ـ أن يحدث تواصل فيما بينهم.

ج ـ أن يكون لهذا التواصل مضمون وجداني.

ونستخلص من هذه الشروط الثلاثة أن قيام صداقة بين شخصين أو أكثر يفترض حدوث تقارب بين هؤلاء الأشخاص: تقارب مكاني، تقارب وجداني، تقارب اجتماعي.

أولا – التقارب المكاني:

إن التقارب المكاني بين الأفراد من شأنه أن يشجع الأفراد على الاتصال وتبادل المعلومات والآراء وبالتالي يشجع على قيام علاقة بينهم قد تتطور إلى علاقة صداقة. وليس غريبا أن يشكل الجيران نسبة هامة من أصدقاء كل فرد منا. وأثبتت بعض الدراسات أن الجيران يأتون في طليعة لائحة الأصدقاء ويشكلون نسبة عامة إذا ما قورنوا بباقي الأصدقاء. ومن شأن التقارب المكاني بين الأشخاص أن يسهل تكرار احتكاكهم ببعضهم البعض الأمر الذي غالبا ما ينشأ عنه لدى هؤلاء الأشخاص شعور بالألفة مما يزيد من احتمال تطور هذه العلاقة إلى مستوى الصداقة.

وهكذا فإن نشوء علاقة مودة بين شخصين أو أكثر غالبا ما يتم في إطار الفضاء الذي يتواجدون فيه والوظيفة التي يشغلونها في هذا الفضاء. فالمهنة التي يمارسها شخص ما توفر له الاتصال بعدد من الأشخاص الذين يمارسون نفس المهنة، ولهم علاقة مباشرة أو غير مباشرة بهذه المهنة. كما أن السلطة التي تنظم العلاقات بين هؤلاء الأشخاص تؤثر في طبيعة العلاقات القائمة فيما بينهم من جهة، وبينهم وبين السلطة نفسها من جهة أخرى(21).

وعلى سبيل المثال أن المؤسسة التعليمية (مدرسة، ثانوية، كلية…) تشكل فضاء يسمح للمدرسين بأن يقيموا علاقات فيما بينهم قد تتطور إلى علاقات ودية نتيجة تكرارها وارتباطها بردود فعل إيجابية من جانب أطراف هذه العلاقات إزاء بعضهم البعض. كما أن مواقف إدارة المؤسسة، باعتبارها السلطة المشرفة على المؤسسة، سواء كانت مواقف متفهمة ومرنة أو كانت سلطوية واستبدادية…، من شأنها أن تؤثر سلبا أو إيجابا في علاقة المدرسين بها وفي علاقة المدرسين فيما بينهم. وأثبتت البحوث التربوية التي أجريت حول هذا الجانب أن من شأن تطبيق الأسلوب الديمقراطي في العملية التعليمية والذي يقوم على أساس الحوار والإقناع، أن يشجع على قيام علاقات مودة بين الأفراد الذين يخضعون لهذه العملية ويشاركون فيها سواء كانوا تلاميذا أو طلابا أو معلمين… وعلى العكس من ذلك أن اللجوء إلى الأسلوب السلطوي اللاحواري يؤدي إلى نتائج عكسية حيث تنشأ النزاعات بين أفراد الجماعة، ويسود الجماعة جو يغلب عليه الحذر والشك والانقسام إلى مجموعات صغيرة متنافسة…

وقد حاول بعض الباحثين أن يوجدوا علاقة بين المسافة المكانية Distance physique التي تفصل شخصين وبين طبيعة العلاقة التي تربطهما: هل هي علاقة صداقة حميمة، أو مجرد صداقة، أو علاقة معرفة عادية، أو علاقة عرضية…؟ الخ.

وهكذا فقد ذهب بعض السوسيولوجيين إلى أن المسافة المكانية التي تفصل شخصين تعكس طبيعة العلاقة القائمة بينهما، على أساس أنه كلما كان هذان الشخصان يتقاربان جسديا كلما كانت العلاقة بينهما وطيدة أكثر. فالصديق الحميم يسمح له بأن يقترب منك إلى درجة يمكن أن يضع يده على كتفك أو يمسك بيدك، في حين أن قيام شخص تعرفه، ولكنه ليس صديقا حميما، بالاقتراب منك بهذا الشكل يثير اشمئزازك، وربما يكون رد فعلك في مثل هذه الحالة بأن تبتعد عنه بحيث تترك مسافة بينك وبينه. وعلى العكس من ذلك قد تشعر بعدم الارتياح إذا سار صديقك الحميم بعيدا عنك مسافة تتعدى المتر، وكأنك تتوقع أن يكون الصديق الحميم قريبا منك جسديا، عكس الشخص الغريب أو الذي تربطك به علاقة عابرة. ويرى عالم الاجتماع “إيدوار هل” أن الأشخاص يميزون غالبا بين أربع أنواع من المسافات المكانية بين الأشخاص وهي:

1 – المنطقة الحميمية Zone intime حيث تكون المسافة الفاصلة بين شخصين تتراوح بين الاحتكاك الجسدي ومسافة 45 سنتيمترا تقريبا. وهذه المنطقة خاصة بالأشخاص الذين تربطنا بهم صداقة حميمة والتي لا نقبل من الغرباء الاقتراب منها.

2 – المسافة الشخصية Distance personnelle والتي تتراوح ما بين 45 و125 سنتيمترا والتي تفصلنا عن أشخاص نعرفهم أو تربطنا بهم صداقة ولكنها ليس من نوع الصداقة الحميمية، ونقاسمهم اهتمامات مشتركة.

3 – المسافة الاجتماعية Distance Sociale والتي تتراوح ما بين 125 و370 سنتيمترا والتي تفصلنا جسديا عن أشخاص تربطنا بهم علاقة غير شخصية (علاقة عمل مثلا).

4 – المنطقة العمومية Zone publique المخصصة للأشخاص الذين لا نعرفهم أو نلتقي بهم عرضا (خلال اجتماعات رسمية…). وغالبا ما تفصل أفراد هذه المنطقة مسافة تتعدى 370 سنتيمترا(22).

وقد قام العالم الأمريكي “سومر” بدراسة شيقة لمعرفة ردود فعل الأفراد عندما يقتحم شخص غريب “منطقتهم الحميمية” المخصصة للأصدقاء المقربين. فكان “سومر” يتعمد أن يجلس على مقعد في إحدى الحدائق العمومية قرب شخص آخر لا يعرفه، ويقترب منه إلى درجة تفصله عن هذا الشخص مسافة 15 سنتميترا تقريبا. وبتكرار هذه العملية تبين له أن الشخص الذي يجلس بجانبه على المقعد يميل إلى مغادرة مقعده بعد وقت قصير إذا شعر أن شخصا آخر اقترب منه كثيرا وقاسمه المقعد. وعلى العكس من ذلك إن الأشخاص الذين يجلسون وحدهم على المقاعد يميلون إلى قضاء أطول فترة ممكنة على المقعد ما لم يقتحم “منطقتهم الحميمية” شخص آخر(23).

ويرى باحثون آخرون أن قيام علاقة صداقة بين شخصين يتطلب اتفاقا مسبقا ولو ضمنيا بين الطرفين بشأن الحدود التي يجب على كل منهما احترامها وعدم تجاوزها، وبعبارة أخرى على كل منهما احترام “المنطقة الحميمية” للآخر وعدم اقتحامها إلا برضى ورغبة الآخر. وقد يؤدي عدم احترام هذه المنطقة من قبل أحد الطرفين إلى تغير في العلاقة بينهما يمكن أن يؤدي إلى سوء تفاهم بل وحتى انفصام العلاقة ذاتها. وهذا ما يحدث عندما يعطي أحد الطرفين لنفسه حق نقد الآخر ولومه وحتى توبيخه والتدخل في خصوصيات حياته الشخصية متجاوزا بذلك حدود “المنطقة الحميمية” التي قد يعتبرها الشخص أشبه ما يكون “بمنطقة محرمة” لا يقبل بأن يدخلها إنسان آخر ويطلع على محتوياتها.

إلا أن التقارب المكاني لا يساعد وحده على قيام صداقة بين شخصين ما لم يرتبط هذا التقارب بمشاعر إيجابية متبادلة، وبمواقف تسمح لكل طرف أن يقدم صورة إيجابية عن ذاته للطرف الآخر. وبتكرار هذه المواقف الإيجابية ينشأ لدى كل طرف شعور بأنه مقبول من الطرف الآخر، وبأن هذا الأخير يرتاح لهذه العلاقة ويرغب في استمرارها وتعميقها(24).

ثانيا – التقارب الاجتماعي.

عادة ما تنشأ الصداقة بين أشخاص ينتمون إلى نفس المستوى الاجتماعي، ويعتبرون أنفسهم متقاربين من حيث اهتماماتهم وأفكارهم ومواقفهم… لشعورهم بأنهم ينتمون إلى شريحة اجتماعية واحدة من حيث مستواها الاجتماعي والاقتصادي. والأشخاص من هذا النوع تتاح لهم فرصة أكثر للتعارف واللقاء فيما بينهم وتبادل الآراء والتعرف على أفكار ومواقف بعضهم البعض، الأمر الذي قد تنشأ عنه علاقة مودة بينهم تتحول إلى صداقة حميمة.

وعلى العكس من ذلك قلما تنشأ علاقة صداقة بين أشخاص تتباين مستوياتهم الاجتماعية. فقد تتم عدة لقاءات بين هؤلاء الأشخاص إلا أنها غالبا ما تكون لقاءات عابرة ولا يحدث فيها تواصل حقيقي بينهم، إذ أن العلاقة لا يترتب عليها رغبة حقيقية بتكرارها والعمل على استمرارها وتعميقها، لذا نراها تنتهي بانتهاء الظرف الذي كان سببا في حدوثها. وحتى وإن تكررت فإنها تظل علاقة شكلية وظرفية. وفي حالة ما إذا رغب أحد الطرفين بتكرارها، تحت تأثير دافع مادي أو مصلحي، إلا أنه غالبا ما يواجه بعدم تجاوب الطرف الآخر الذي غالبا ما يكون حذرا من إقامة علاقة صداقة مع شخص أقل منه مرتبة اجتماعية.

ويذكر “ميزنوف” استنادا إلى دراسة ميدانية قام بها بأن انتماء الأفراد إلى نفس الشريحة الاجتماعية يشكل العامل الرئيسي في قيام علاقة صداقة بينهم. وتبين له أن نسبة الصداقات بين الأفراد المنتمين إلى وسط اجتماعي متماثل تقترب من الثلثين، يلي ذلك عامل الجوار بنسبة 25 بالمائة. أما نسبة الأفراد الذين يقيمون علاقة صداقة مع أشخاص يفوقونهم في مرتبتهم الاجتماعية فقد بلغت 5 بالمائة فقط، كما أن نسبة الأفراد الذين يقيمون علاقة صداقة مع أشخاص أقل منهم مرتبة اجتماعية فلم تتجاوز 6 بالمائة(25).

ويلاحظ بأن تقارب الأصدقاء في المستوى الاجتماعي يسهل عملية الإفصاح عن الذات لديهم، بحيث لا يجد أي طرف حرجا في اطلاع الآخرين على كثير من المعطيات المتعلقة به وبحياته الشخصية… وعادة ما يكون بين هؤلاء الأصدقاء هامش كبير للتسامح والثقة المتبادلة وتقارب في المواقف والآراء إزاء ما يطرحونه من مواضيع، وفي كيفية قضاء أوقات الفراغ أو ما يسمى بالوقت الثالث من حيث الأنشطة الترفيهية التي تمارس فيه.

بالإضافة إلى ذلك يشعر الأصدقاء المتقاربين في المستوى الاجتماعي بتكافؤ العلاقة فيما بينهم، بحيث يتبادلون المودة بعيدا عن أي استغلال لهذه العلاقة يخل بالتكافؤ. فنراهم يتبادلون الزيارات ويشاركون في أنشطة ترويحية مختلفة. وعلى الرغم من ذلك فإن هؤلاء الأصدقاء يتبادلون الخدمات والإثابات إلا أن أي طرف لا يشعر بأن الطرف الآخر يستغل علاقة الصداقة ليحقق مكاسب شخصية دون أن يقدم مكاسب مماثلة. ويتوقع كل طرف أن يلقى من صديقه التفهم والمساندة خاصة عندما تعترضه بعض العقبات في الحياة، مما يعطيه شعورا بالأمن والاطمئنان ويخفف من وقع هذه العقبات وتأثيرها وبالتالي يساعد على تجاوزها.

وعادة ما يميل الأفراد الذين يتوفرون على مستوى ثقافي واجتماعي واقتصادي مرتفع إلى توسيع صداقاتهم بحيث تشمل عددا كبيرا من الأفراد، في حين أن أفراد المستويات الدنيا من الناحية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية… يميلون إلى تضييق دائرة صداقاتهم التي غالبا ما تنحصر في الجيران وزملاء العمل. فأفراد هذه الشريحة الاجتماعية غالبا ما تكون فرص احتكاكهم بالآخرين محدودة، وكذلك إمكانيات تبادلهم للمساندة الاجتماعية، الأمر الذي يؤثر في حجم علاقات الصداقة القائمة بينهم.

ثالثا – التقارب النفسي:

كثيرا ما رددنا هذه الحكمة القديمة “قل لي من تعاشر أقل لك من أنت”، والتي تعكس حقيقة نفسية تتمثل في أننا غالبا ما نلاحظ تقاربا أو تماثلا في الخصائص والصفات التي تتميز بها شخصية صديقين، وفي المعايير التي يأخذان بها، وكذلك في ردود أفعالهما إزاء مواقف معينة. وعندما نربط علاقة صداقة بشخص ما فإننا نحاول -من خلال هذا الصديق- أن نقترب من النموذج المثالي الذي نطمح إليه والذي تتحدد مواصفاته في ضوء القيم الأخلاقية والاجتماعية… السائدة في المجتمع الذي نعيش فيه. ولذلك فإننا نشعر بأن الصديق يكملنا، أو كأنه جزء منا يحدث حضوره فينا حالة ارتياح أقرب إلى الامتلاء والتطابق.

وقد أبرزت مدرسة التحليل النفسي الدور الذي يلعبه النموذج المثالي للأنا، أو ما سماه “فرويد” النرجسية أو عشق الذات Narcisme، حيث يتم إسقاط هذا النموذج على الشخص موضوع العلاقة الودية والحميمة (خاصة الصديق) ليصبح بديلا للصورة النرجسية التي تعكس ذاتنا بما فيها من ميول وأفكار ومعتقدات… فكلما قربنا الآخر، موضوع العلاقة الودية، من صورة النموذج المثالي الذي نأخذ به كلما تعاطفنا مع هذا الآخر واقتربنا منه ليصبح موضوع محبتنا ومودتنا. ويذهب “ميزنوف” إلى أن تشابه الأفراد في صورة النموذج المثالي الشخصي لكل منهم يلعب دورا رئيسيا في تكوين علاقة صداقة بينهم يفوق الدور الذي تلعبه الصورة التي يكونها كل منهم عن الآخر(26).

ويبني “فرويد” تفسيره لظاهرة الصداقة على أساس اعتقاده بأن شخصية الإنسان تنقسم إلى جانب شعوري وآخر لا شعوري يدفع بالإنسان لأن يحاول دائما التعبير في الخارج (في ساحة الشعور) عما تنطوي عليه أعماقه (اللاشعور). وتوزع شخصية الإنسان بين الشعور واللاشعور يجعلها تبدو كما لو كانت تعاني انشطارا أو كسرا، إن صح التعبير، الأمر الذي يفسر لنا ما يبديه الإنسان من حنين للآخر Nostalgie عن طريق علاقة الصداقة والحب التي من خلالها يبحث عن ترميم هذا الانشطار أو الكسر ليحقق الوحدة والانسجام في شخصيته(27). لذا فإن اللحظات التي نعيشها في علاقة حميمية مع الآخر، حتى ولم كانت قصيرة، تعطينا صورة إيجابية عن ذاتنا، وتمنحنا شحنة عاطفية تجعلنا نعيش حالة من الامتلاء والنشوة تزيد من ثقتنا بأنفسنا وتعزز توازننا النفسي وارتباطنا بالمجتمع الذي نعيش فيه.

وانطلاقا من آليات الدفاع عن الأنا ومن حرصنا على أن نكون مقبولين من طرف الآخرين، فإننا نعتبر رفض الآخر لما نأخذ به من معاييرنا وأفكارنا وميولنا هي اعتراف بنا وتقبل لذواتنا، وهو شرط ضروري لقيام علاقة صداقة بيننا وبين الآخرين(28).

وينصح “كارنيجي” لقيام هذه العلاقة بأن نبدي اهتماما بالآخرين ونشعرهم بأهميتهم، وأن نبتسم لهم، ونحدثهم بما يروق لهم، ونستمع إليهم، ونشجعهم على الكلام عن أنفسهم، ونخاطبهم بأسمائهم(29).

وتنشأ الصداقة بين الأفراد في مختلف مراحلهم العمرية، إلا أن الفرد قد يكون في بعض المراحل العمرية أكثر استعدادا من الناحية النفسية لإقامة علاقات صداقة مع غيره من الأفراد. ويستفاد من نتائج بحث ميداني أجري في فرنسا سنة 1994 حول طبيعة شبكة العلاقات القائمة بين الأفراد داخل المجتمع الفرنسي، أن النساء يتوفرون على صداقات أقل من الرجال، وأن فئة الشباب العزاب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و25 سنة وينتمون إلى الطبقة الوسطى لديهم أكبر نسبة من الأصدقاء، إلا أن نسبة صداقاتهم الحميمة تبقى أقل من ذلك، وتبلغ نسبة الصداقات الحميمة ذروتها لدى المطلقين والأرامل والمتقدمين في السن، وغالبا ما تطول مدة الصداقة لدى هذه الشريحة الاجتماعية بالمقارنة مع الصداقات التي تعرفها الشرائح الاجتماعية الأخرى(30).

المبحث الرابع: الوظيفة النفسية لـ الصداقة.

يتفق المهتمون بدراسة السلوك الإنساني، لا سيما علماء النفس، على أن الصداقة تلعب دورا مهما في تحقيق التوازن النفسي للأفراد خاصة إذا كانت جماعة الأصدقاء متكيفة اجتماعيا. وقلما يصاب الأفراد الذين يتوفرون على علاقات صداقة مع أشخاص عديدين باضطرابات نفسية وعقلية.

وقد أبرزت عدة دراسات الدور الإيجابي الذي يمكن أن يلعبه الأصدقاء في تجاوز الظروف الصعبة التي قد تواجه الإنسان من حين لآخر. وتوصلت بعض هذه الدراسات إلى أن علاقات الصداقة تخفف كثيرا من معاناة كبار السن والأرامل والمطلقين(31). فهذه الشريحة الاجتماعية أحوج ما تكون إلى التخفيف من شعورها بالعزلة والوحدة وإلى تدعيم ثقتها بالنفس وقدرتها على تحلم الصعوبات التي تواجهها بحكم الوضعية التي تعيشها. و الصداقة تتيح لأفراد هذه الشريحة تبادل الإفصاح عن الذات (تبادل الأسرار، والتجارب، والآارء…) الذي يعتبر إحدى الآليات الرئيسية التي يلجأ إليها الأفراد للتخفيف من مشاعر الوحدة والإحباط. وعن طريق إفصاح الفرد عن ذاته يعبر عن آماله ورغباته وحاجاته، ويستثير الطرف الآخر (الصديق) ليبادله نفس المشاعر مما يعمق علاقة الصداقة بينهما ويصبح كل طرف يتوسم في الطرف الآخر الثقة والإخلاص…(32).

وفي حالات التوتر الشديد التي قد تعتري أحيانا سلوك الإنسان يشعر الفرد بحاجة ماسة للتنفيس عن هذا التوتر بلجوئه إلى أساليب مختلفة (غضب، أحلام يقظة، ممارسة نشاط ترفيهي، لوم الآخرين، الاستغراق في العمل…). إلا أن الأسلوب الأمثل الذي ينصح باللجوء إليه في مثل هذه الحالة هو الإفصاح عما تشعر به لصديق حميم لك يستمع إليك ويشاركك ما تعاني فيه. وتنصح الخبيرة النفسية الأمريكية “هيلين شاكتر” H.SHAKTER بأن يقوم الشخص، الذي تعتريه حالة من التوتر الشديد، بأن يفصح عن مشاعره لصديق له “ينصت إليه بفهم وعطف”، لأن من شأن ذلك أن يخفف من توتره ويساعده في التكيف مع الموقف الذي تسبب في اضطرابه، وبالتالي يتيح له فرصة التخلص من هذا التوتر(33).

واستعداد الأفراد للإفصاح عن ذاتهم يختلف باختلاف نمط شخصية كل فرد والخبرات التي مر بها في علاقته بالآخرين. وتوصل العالم الأمريكي “جورار” JOURARD في دراسة ميدانية له حول هذا الموضوع إلى أن النساء أكثر استعدادا للإفصاح عن ذاتهن إلى أمهاتهن، يلي ذلك الصديقات ثم الأصدقاء وأخيرا الآباء. أما الرجال -حسب هذه الدراسة- فإنهم يميلون إلى الإفصاح عن ذاتهم إلى أمهاتهم أولا ثم إلى أصدقائهم، فإلى آبائهم وأخيرا صديقاتهم(34).

ولعل أبلغ ما قاله الأقدمون في الوظيفة النفسية لـ الصداقة ما رواه أبو حيان التوحيدي عن أبي سفيان قوله: “الصديق لا يُراد ليُؤْخَذ منه شيء، أو ليعطي شيئا، ولكن ليُسكَن إليه، ويُعتمد عليه، ويُستأنس به، ويُستفاد منه، ويُستشار في الملم وينهض في المهم، ويُتزين به إذا حضر، ويُتشوق إليه إذا سفر…”(35). وكذلك قول ابن المقفع: “… اِعلم أن إخوان الصدق هم خير مكاسب الدنيا، هم زينة في الرخاء، وعدة في الشدة، ومعونة في المعاش والمعاد، فلا تفرط في اكتسابهم وابتغاء الوصلان والأسباب إليهم”(36).

ولكن كيف نفسر، من الناحية النفسية، التغير المفاجئ في سلوك بعض الأصدقاء؟ فقد يحرص الصديق على أن يبدو في نظرنا ودودا، متسامحا، يميل إلى مساعدة الآخرين ويفضلهم على نفسه، كريما، متفهما لمشاكل الآخرين ومشاعرهم ومسايرا لهم في آرائهم ومواقفهم، لا يميل إلى المواجهة والتحدي… وهي صفات قد تبدو إيجابية، إذا ما توفرت في شخص ما فإنها تساعده في أن تكون له صداقات كثيرة وبالتالي يكون مقبولا ومحبوبا من طرف الآخرين.

إلا أن الصورة الإيجابية عن سلوك مثل هذا الشخص قد تنقلب، في بعض الحالات، إلى صورة عكسية تتناقض مع ما عهدناه منه من وفاء وتسامح و…الخ، ونكتشف أن ما كان يظهره من صفات إيجابية لم يكن سوى قناع يختبئ خلفه ليخفي ما يعانيه من قلق وشعور بالدونية وتبخيس الذات وإدانتها… ويصادف المحللون النفسيون، خلال ممارستهم لعملهم، حالات مرضية كثيرة من هذا النوع تكشف تناقضا صارخا بين صورة الشخص عن ذاته وصورة الآخرين عنه. بل إن وسائل الإعلام تتحدث أحيانا عن انحرافات شنيعة يرتكبها أفراد كان المجتمع يعتبر سلوكهم تجسيدا لكل القيم الأخلاقية والاجتماعية.

ولتفسير هذا التناقض المفاجئ في السلوك ربما سنجد أن من بين أسبابه الرئيسية ما يعود إلى نمط التنشئة الاجتماعية الذي نشأنا عليه، أطفالا ثم شبابا ثم راشدين… وفي كثير من الأحيان يسود هذا النمط -خاصة في مرحلة الطفولة- ممارسات تقوم على العقاب الجسدي والنفسي، وعلى تبخيس الذات واحتقارها والحط من قيمتها، وعلى النقد الجارح والإذلال. أما التشجيع وإبراز النجاحات التي يحققها الفرد والثناء عليها… يظل أمرا نادرا في تعامل أسرنا مع أبنائها، وإذا ما حدث مثل هذا الثناء فإنه يظل في إطار المفاخرة بما حققه ابناؤنا دون أن يستهدف تكوين صورة إيجابية عن ذاتهم، وتعزيز ثقتهم بأنفسهم والرفع من مستوى طموحهم، وإعدادهم للاستقلال عنا لمواجهة الواقع بأنفسهم.

وكنتيجة لهذا النمط من التنشئة الاجتماعية الذي يقوم على إبراز الأخطاء وعلى التخجيل والإذلال… ينشأ لدى الفرد شعور دائم بالذنب وبدونيته واحتقاره لذاته. ولكي يخفي هذا الشعور، وبالتالي لكي يتجنب النقد والتخجيل والمواقف التي قد توقعه في الأخطاء… فإنه يلجأ إلى التمويه والمراوغة كي يحاول أن يبدو في نظر الآخرين ودودا، متسامحا، وفيا، مضحيا بمصلحته في سبيل مصلحة الآخرين… الخ. وهي صفات تشجع الآخرين على أن يلتمسوا صداقته ويعملوا على تنيمتها واستمرارها.

وفي بعض الحالات، وعندما يتم اختراق القناع الذي يختفي خلفه هذا النوع من الأفراد، ينكشف لنا الوجه الآخر من السلوك ليبدو الفرد وقد تخلى، وبسرعة فائقة، عن كل ما كان يتصف به من وفاء ودماثة سلوك وطيبوبة… حتى أننا نشعر وكأننا أمام إنسان آخر بعيد كل البعد عن الإنسان الذي خبرناه وعرفناه. إن الود و الصداقة التي يبديها الفرد في مثل هذه الحالة، غالبا ما يكون إحدى الآليات الدفاعية التي يحتمي خلفها لتجنب المواقف التي تذكره بمعاناته: معاناة القلق والشعور بالدونية. إنه يخشى أن يخطئ، وأن يُنتقَد، وأن لا يكون مقبولا ومحبوبا من طرف الآخرين، وأن يبدو عنيفا وغير هادئ، وأن لا يبلغ عمله درجة الإتقان… إلى غير ذلك من المخاوف التي سريعا ما تنكشف عندما يشعر الفرد بالإخفاق في اي موقف من مواقف حياته اليومية.

إن الصداقة في نظر هذا النوع المزيف من الأشخاص ليست سوى ملاذ لهم يقيهم من شعورهم بالدونية والقلق. لذا نراهم يتقلبون في صداقاتهم، لكونهم يبحثون عن الأمن الذي يخفي قلقهم وشعورهم بالذنب، وهو شعور يستيقظ كلما تعرضوا لأي إخفاق أو نقد أو لوم. إن هاجس الأمن الذي يطاردهم يجعلهم شديدي الحساسية والإنفعال مما يعرضهم لردود أفعال عنيفة ولا عقلانية، إذ يكفي أن يُوَجَّه إليهم أي نقد ولو كان بسيطا أو يبدو على عملهم أي نقص أو عدم إتقان لينتابهم شعور بالدونية وبالضياع وعدم الثقة بالنفس وتبخيس الذات… بل قد يصل بهم الأمر إلى التفكير حتى بالانتحار.

 مجلة الجابري – العدد الثالث عشر


الهوامش:

1 – يعقوب (غسان)، تطور الطفل عند بياجيه. دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1973، ص.18.

2 – راجع:

PIAGET (J), Le jugement et le raisonnement chez l’enfantDelachaux, 1971, pp.73-74.

3 – إسماعيل (محمد عماد الدين)، الأطفال مرآة المجتمع. النمو النفسي الاجتماعي للطفل، عالم المعرفة، الكويت، 1986، ص.313-314.

4 – راجع:

PIAGET (J), op.cit., p.88.

5 – راجع:

DE AJURIAGUERRA (J), Manuel de psychiatrie de l’enfant, 2 Ed. Masson, 1980, Paris, p.157.

6 – بمدلي (كوستي)، مواقفنا من أولادنا، امتلاك أو إطلاق. جروس برس، طرابلس (لبنان) 1994.

7 – المرجع السابق، ص.36.

8 – راجع:

BERGE (André), l ‘éducation sexuelle et affectiveLes Editions du Scarabée, Paris, 1964, p.203.

9 – السيد (فؤاد البهي)، الأسس النفسية للنمو، من الطفولة إلى الشيخوخة. الفكر العربي، القاهرة، 1997، ص.340-343.

10 – شرابي (هشام)، مقدمات لدراسة المجتمع العربي. الدار المتحدة للنشر، بيروت، 1975، ص.108.

11 – المرجع السابق، ص.36.

12 – راجع:

KARAOUI (Mohamed), Une fois un Arabe. Une fois des Arabes.. Les temps Modernes. Sep-Oct. 1972, p.347.

13 – فروم (إيريك)، الخوف من الحرية. ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد. المؤسسة العربية للدراسات والنشر. بيروت، 1972، ص.121.

14 – مكي (عباس)، وحطب (زهير)، السلطة الأبوية والشباب. معهد الإنماء العربي، بيروت، 1978، ص.97-98 نقلا عن:

FREUD (S), Essai de psychanalyse, Payot, Paris, 1967.

15 – سذرلند (أدوين)، وكرسي (دونالد)، مبادئ علم الإجرام. مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1968، ص.101-103.

16 – ديبونت (روبرت)، مكافحة العقاقير المؤدية للإدمان. ترجمة وليد الترك ورياض عوض. الجامعة الأردنية 1989، ص.55-57.

17 – JAOUI (Gysa), Le Triple-moiCol. Réponses. EdRobert Lafont. Paris, 1981, p.149.

18 – أبو سريع (أسامة سعد)، الصداقة من منظور علم النفس، عالم المعرفة، الكويت 1993، ص.77.

19 – راجع:

JAOUI (G.), op.cit.

20 – أبو سريع. مرجع سابق، ص.65.

21 – راجع:

MAISSONNEUVE (Jean), Psycho-sociologie des affinitésP.U.F. Paris, pp.11-12.

22 – راجع:

Hall (E.T), La dimension socialeParis.. Seuil 1971cité par: GERGEN (Kenneth.J) et GERGEN (Mary M.), et JURTAS SylviePsychologie sociale, 2ème éd. Editions Etudes vivantes. Monttréal, Québec 1992, pp.110-111.

23 – راجع:

SOMMER (R.), Personal spaceThe behavioral basis of design Englewood Chiffs/N.J.Prentice

Hall 1969, cité par: KENNETH (J), op.cit., p.11.

24 – راجع:

MOSER (G.), Les relations interpersonnellesP.U.F. 1994, Paris, pp.54-56.

25 – راجع:

MAISONNEUVE (J), Op.cit., p.180.

26 – راجع:

MAISONNEUVE (J.), et LAMY (L.), Psychologie de l’amitiéP.U.F. Paris, 1993. Cité par: MOSER (G), op.cit., p.138.

27 – راجع:

DACCO (P.), Les triomphes de la psychanalyseBibMarabont, Belgique, 1965, pp.291-291.

28 – راجع:

MOSER, op.cit, p.394.

29 – كارنيجي (ديل) كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس؟ ترجمة عبد المنعم محمد الزيادي. القاهرة، مكتبة الخانجي، 1951، ص.122.

30 – راجع:

MAISONNEUVE (J.), et LAMY (L.), op.cit., p.180.

31 – راجع:

MOSER, op.cit, p.129-133.

32 – أبو سريع (أسامة سعد)، الصداقة من منظور علم النفس، ص.62-63.

33 – شاكتر (هيلين). كسب محبة الغير، سلسلة دراسات سيكولوجية. مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ص.29.

34 – راجع:

MOSER, op.cit, p.128-155.

35 – التوحيدي (أبو حيان)، الصداقة والصديق، المطبعة النموذجية، القاهرة 1972، ص.95.

36 – ابن المقفع، الأدب الكبير. مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1946، ص.80.