مجلة حكمة
المتحضرة الشعوب الامبريالية

أحمد سيكو توري حول مفهومي “المتحضر” و”غير المتحضر”

الكاتبحمد سيكو توري
ترجمة محمد وليد قرين

كان مصطلح “تخلف”، إلى غاية الحرب العالمية الثانية، غائبا تماما عن الخطاب السياسي. كان الحديث حينها يجري حول “مُتحضِّرين” و”غير مُتحضِّرين”. وكانت القوى الاستعمارية، التي بلغت أوج مجدها، تسعى إلى ضمان استمرارية سيطرتها. ولم يكن لها أن تنجح في مسعاها وتقاوم الضربات التي كانت توجهها لها الشعوب المستعمرة إلا بالتلويح بـ”المهمة التمدينية” المزعومة “للشعوب المتحضرة” تجاه “الشعوب الهمجية”. فكان بالتالي من اللازم أن يتم تقسيم العالم إلى “بلدان متحضرة” و”بلدان همجية”، وكان من واجب “المتحضرين” أن يفرضوا بالنار والحديد والمخدرات، حضارتهم على “غير المتحضرين”، وكان لهم الحق، مقابل تلك الخدمة،  في الاستحواذ على مواردهم المعدنية والزراعية واستخدام قوة عملهم لاشباع حاجيات المتحضرين.

كان مفهوما “متحضرون” و”غير متحضرون”، وهما مفهومان اقتصاديان سياسيان، ضروريان لتبرير حروب الغزوات الاستعمارية.

الامبريالية والرأسمالية هما عدوتا كل الشعوب

ارتُكِبت خلال الحرب العالمية الثانية فظائع لا توصف في قلب الأمم المسماة بـ المتحضرة، فظائع شبيهة بتلك التي ترتكبها القوى الاستعمارية في مستعمراتها، في ظل الغابات، وحقول الكاكاو والقهوة وأشجار الهِيفْيا، ولكن كذلك في ظل السجون  ومؤامرة الصمت للرأي العام الدولي. ولم يبق لتلك الفظائع حجة أنها تمارس فقط على أفارقة وآسيويين أو أمريكيين جنوبيين، المولودين لكي تُمارَس عليهم بطرق “شرعية وقانونية” كل جرائم الإبادة التي تفنّنت فيها الامبريالية الاستعمارية، بل كانت على الأرجح جرائم مرتكبة في حق أبناء أصيلين ينتمون إلى الحاضرات الرأسمالية، جرائم ارتكبها متحضرون أصيلون في حق متحضرين أصيلين.

ولم توجد أدنى ستارة سميكة بما يكفي  لتغطي تلك الجرائم. فتمّ إنشاء محاكم لمحاكمة مجرمي الحرب من أجل غسل أوروبا الرأسمالية من الدنس. ولكن لا فائدة من محاولة محو النتائج السلبية لسبب لا يزال قائما، أو قل إنهم يطوّرونه، لأن الجريمة لا تكمن في الحرب التي ليست إلا نتيجة، وإنما الجريمة تكمن في الامبريالية وإرادتها إخضاع الشعوب لاستغلال وحشي ولاإنساني. ولكننا نعرف أن المحكمة الشرعية الوحيدة والمناسبة لمجرمي الامبريالية هي محكمة الشعوب الواعية والمنظمة، وهي (أي الشعوب) قضاة القضاة. ومهما يكن من أمر، فلقد أصبح الآن جليا للجميع أن إنكار وجود الهمجية في قلب القوى الامبريالية لم يعد أمرا ممكنا. وعليه فلقد صار من غير اللائق الدفاع عن حق الاستعمار وواجبه المزعوم في الذهاب لتمدين همجيين. كان من الضروري إذن ايجاد تبرير آخر، تبرير تم اختراعه وصناعته من أجل اشباع حاجيات الدافع الخبيث.

ومن بين هذه التبريرات توجد مهمة المعونات التنموية

لقد أخذت “مهمة المعونات التنموية” مكان المهمة التمدينية بشكل طبيعي. ونغُضّ البصر أكثر فأكثر عن هذه الحقيقة البديهية: لقد احتلت أوروبا الاستعمارية على 95 بالمائة من الأراضي الإفريقية خلال فترة تترواح من 60 إلى 300 سنة، واستغلت وأحرقت واغتصبت وقمعت، فوجدت إفريقيا نفسها، إثر هذه المحنة الرهيبة والجهنمية، مُستنزَفة الدماء وفي حالة من الخراب لا مثيل له. يجب أن يتساءل المرء أي لطف أصاب فجأة أوروبا هذه وأي حق رباني خوّلته لنفسها ، دون أي تغيير في المبادئ والنظام، حتّى توفّر لإفريقيا الموارد المالية والبشرية والإمكانيات التي ستساعدها على ضمان تطورها. من البديهي أن أي تطور تكنولوجي واقتصادي للشعوب الآسيوية والإفريقية لا يمكن أن يتحقق إلا بمناضهة المجتمع الامبريالي والقوى التي تستغلها. والتسليم أن هذا المجتمع يستطيع أن يساعدنا بنية صادقة من أجل تطور متناغم ومستقل معناه أن نظن أن الامبريالية يمكنها أن تتخلص من طبيعتها الرجعية، وسيكون هذا الظن من جانبنا انحرافا حقيقيا لا يُغتَفر.

المصدر: كتاب أحمد سيكو توري، Ahmed Sékou Touré, Promotion Kwamé N’krumah، ص.ص89-90-98-99، المطبعة الوطنية باتريس لومومبا، كوناكري، غينيا،  نوفمبر 1972.

نبذة عن مسار الكاتب (من إعداد محمد وليد قرين): أحمد سيكو توري (1922-1984) من أبرز المفكرين والقادة الوطنيين الثوريين في تاريخ إفريقيا. أول رئيس لجمهورية غينيا كوناكري. أمين عام لنقابة عمال البريد والمواصلات بغينيا، في أربعينات القرن العشرين، إبان الاستعمار الفرنسي. شارك في تأسيس اتحادية النقابات العمالية الغينية. تقلد في المنتصف الثاني من خمسينات القرن العشرين منصب أمين عام للاتحاد العام لعمال إفريقيا السوداء UGTAN. قاد الجماهير الشعبية الغينية نحو الاستقلال من فرنسا سنة 1958. رفض فكرة رابطة فرنسية-إفريقية تقيم استعمارا جديدا لفرنسا على مستعمراتها السابقة. قال سيكو توري حينها للرئيس الفرنسي دي غول، في خطاب خلده التاريخ: “لا توجد كرامة من دون حرية. نفضل الحرية في الفقر على الغنى في العبودية.”

 كانت الدولة الغينية بقيادة، أحمد سيكو توري، تدعم الحركات الوطنية التحررية الإفريقية من الاستعمارات الغربية (دعم حروب التحرير الوطنية في الجزائر، غينيا بيساو، أنغولا والموزمبيق) كما كانت تساند القضية الفلسطينية. في 22 نوفمبر 1970 قاد سيكو توري بلده إلى الانتصار على العدوان العسكري الامبريالي البرتغالي (عدوان دعمته الدولة الفرنسية) على جمهورية غينيا.