مجلة حكمة
الرقابة و الصمت

الرقابة والصمت – أمبرتو إيكو / ترجمة: دايس محمد


صغار السن من بينكم يعرفون أن كلمة فيلين (Veline) تعني فتيات الاستعراض في برنامج تلفزيوني، وأن كلمة كازينو تعني مكاناً مزدحماً وفوضوياً وصاخباً، بالعكس منهم فإن أبناء جيلي يعرفون أن كلمة كازينو كانت تعني “بيت دعارة”، لقد فقدت الكلمة معناها الأصلي، وحتى الآن فإن أي شخصٍ بما في ذلك رجل الدين سيستخدم هذه الكلمة لوصف الفوضى، ذات الأمر ينطبق على كلمة (Bordello) والتي كانت تعني في زمنٍ ماضٍ بيت دعارة، غير أن جدتي والتي كانت مثلاً بالاستقامة الأخلاقية اعتادت استخدام هذه الكلمة لنهري عن التسبب بالفوضى والإزعاج حينما كنت طفلاً، لقد خسرت الكلمة معناها الأصلي أيضاً، لعل جيل الشباب لا يعلم أن كلمة فيلين خلال فترة الحكم الفاشي، كانت تشير إلى أوراق تعليمات ترسله وزارة الثقافة الشعبية إلى الصحف، كانت التعليمات تتعلق بالمواضيع التي على الصحف التركيز عليها، والأخرى التي يجب تجنب الحديث عنها أو الإشارة إليها، لذا فإن كلمة فيلين في الأصل كانت تشير إلى الرقابة، والحث على إخفاء المعلومات، في المقابل فإن فيلين التي نعرفها اليوم – فتاة الاستعراض التلفزيوني – هي النقيض من السابقة، فهي تمثل الآن حالة الاحتفال بالمظهر الخارجي، فالشهرة التي تصل إليها العارضة إنما تأتي من خلال حالة الكشف، والكشف بأوضح معانيه، حيث يشير المظهر في هذه الحال إلى امتيازٍ من نوعٍ ما، على الرغم من اعتباره غير لائقٍ في وقتٍ سابق.

نجد أنفسنا الآن أمام شكلين من فيلين، واللذين أود المقارنة بينهما وبين شكلين من أشكال الرقابة، أولاً الرقابة من خلال الصمت، وثانياً الرقابة من خلال الضجيج، فحينما أستخدم كلمة فيلين أشير إلى رمزية حدثٍ في التلفاز، كالبرامج الاستعراضية أو الترفيهية أو حتى نشرات الأخبار، لقد فهم النظام الفاشي كما هو حال الطغاة دوماً بأن أي سلوكٍ منحرفٍ يتم تشجيعه كلما زادت التغطية الإعلامية له، فمثلاً اعتادت الرقابة أن تمنع الحديث عن الانتحار؛ وذلك لأن مجرد الإشارة إليه قد يحفّز شخصاً ما على ارتكابه خلال الأيام القليلة اللاحقة، هذا الأمر صحيحٌ كلياً، وعلينا ألا نظن أن كل ما كان يدور في العقلية الفاشية الحاكمة كان خطأً، فمن المعلوم أن المظاهرات الطلابية سنتي 1977 و 1989 رغم قصر عمرهما ما كانتا لتحدثان لولا حديث الصحف المتكرر عن عودة شبح 1968، فكل من شارك في تلك الأحداث يعلم بشكلٍ جيد أنهما محاولاتٍ لاستعادة أحداث تلك السنة.

وكما تقوم الصحف بجمع حوادث الانتقام والانتحار وقتل زملاء الدراسة في غرف النوم، فأخبار  القتل في المدارس حرض على حوادث مشابهة في مدارس أخرى، و من الممكن أن عدداً كبيراً من الرومانيين قاموا باغتصاب العجائز لأن الصحف كانت تخبرهم باستمرار أن هذا الفعل الشائن من اختصاص المهاجرين.

نمط الرقابة القديم يقول إذا أردت منع سلوكٍ ما، عليك الامتناع عن الحديث عنه، بينما يتبنى نمطها الجديد الفكرة التالية: إذا أردت منع سلوكٍ ما، تحدث بشكلٍ مكثفٍ عن مواضيع أخرى، لطالما تخيلت الأمر التالي: إذا عرفت أن صحف الغد ستتحدث عن خطأٍ ارتكبته وسيتسبب هذا الأمر بضررٍ بالغٍ لي فإن أول شيءٍ أود فعله هو زرع قنبلةٍ بالقرب من مخفر شرطة أو محطة سكك حديدية، مما سيجعل صحف اليوم التالي تتحدث عن الانفجار، ويتحول خطأي الشخصي إلى خبرٍ مهملٍ في إحدى زوايا الصحيفة، ومن يعلم أصلاً كم هو عدد القنابل التي زُرعت كي تتغير عناوين الصحف!

إن مثال انفجار القنبلة وما يحدثه من صوتٍ عالٍ، يشبه جداً حالة الضجيج العالي والمفاجئ التي تسكت كل شيءٍ، فالإزعاج في هذه الحالة يصير غطاءً، وهذا ما يجعلني أرغب بالقول بأن آيديولوجيا الرقابة من خلال الضجيج أو الضوضاء أو حتى الحديث المكثّف من الممكن توضيحها بمقولة فتغنشتاين مع اعتذاري له: “أينما كان هناك شخصٌ لا يستطيع الكلام، يجب أن يوجد شخصٌ يتحدث بكثرة”، يتبنى البرنامج الإخباري الرئيس تي جي 1 على القناة الإيطالية الرسمية هذه النظرية، فهو مليءٌ بأخبار من قبيل ولادة عجل برأسين، أو حقائب مسروقة من قبل لصوص تافهين إلخ، هذه النوعية من الأخبار والحوادث -التي عادةً تستخدمها الصحف لملء صفحاتها الداخلية – تأخذ ثلاثة أرباع الساعة من وقت البرنامج، وذلك للتأكد من أن أخباراً وقصصاً كان يجب الحديث عنها تظل في خانة المُغيّب.

قبل بضعة أشهر قام الإعلام الذي يسيطر عليه بيرلسكوني بملاحقة قاضٍ قام بانتقاد رئيس الوزراء لأيام، وأخذ يروي لنا يوميات هذا القاضي مثل تدخينه على مقعدٍ في ساحة عامة، وذهابه إلى الحلاق، وارتدائه جوارب تركوازية، فمن أجل إحداث ضجيجٍ ما لا حاجة لفبركة القصص، كل ما عليك فعله هو سرد قصةٍ حقيقية لكن لا علاقة لها بالحدث الرئيس، وذلك لخلق حالة شك من خلال الحقائق البسيطة التي تقدمها، صحيحٌ جداً أن القاضي ارتدى جورباً تركوازياً لكن هذا الأمر لا علاقة له بنقد رئيس الوزراء، وما فعله الإعلام بهذه الأخبار هو تكوين افتراضات حول شيءٍ غير مفهوم، وترك علامة استفهام، وكذلك انطباع غير مريح، فلا شيء أصعب من إمكانية التخلص من قصةٍ حقيقية لا علاقة لها بالحدث.

الخطأ الذي ارتكبته صحيفة الجمهورية في حملتها ضد بيرلسكوني كان تغطيتها الكثيفة لقصة الحفلة في بيت نعومي، فلو أن الصحيفة بدلاً عن ذلك كتبت مثلاً: أن بيرلسكوني ذهب صباح الأمس إلى بيازا نافونا حيث التقى بقريبه وشربا كأساً من البيرة معاً… كم هو مثيرٌ للفضول”، لأطلقت العنان أمام موجةٍ من التكهنات والشكوك وكذلك الإحراج الذي سيتسبب باستقالة رئيس الوزراء منذ زمن، ومن أجل أن نختصر الأمر فإن الحقيقة المتعلقة بالأمر بشكلٍ مباشر يسهل مواجهتها وتحديها، بينما الاتهام غير المتعلق به لا يمكن تحديه مطلقاً.

حينما كنت في العاشرة من العمر أوقفتني سيدةٌ أمام مدخل إحدى الحانات، وقالت لي: سأعطيك ليرةً مقابل كتابة رسالةٍ لي، فقد جرحت يدي ولا أستطيع أن أفعل ذلك، ولكوني طفلاً مهذباً فقد أخبرتها أني سأكتب الرسالة بالمجان من باب المعروف، غير أنها أصرت أن تشتري لي آيس كريم، كتبت الرسالة وحين عدت إلى البيت أخبرت أهلي فصدمت أمي وصرخت :”ليحفظنا القدير، لقد جعلوك تكتب رسالةً مسيئةً، وحده الله يعلم ماذا سيحدث لنا إذا علموا بفعلتك”، كانت الرسالة موجهةً إلى رجل أعمال ثريٍ يملك متجراً في وسط المدينه وعائلتي تعرفه، كان فحوى الرسالة كالتالي: “لقد نما إلى علمنا أنكم ستطلبون يد سيغنورينا للزواج، لذا نود بشدةٍ أن نخبركم أن الآنسة من عائلةٍ محترمة، ومستقرة ومعروفة جداً في المدينة كلها”، إنك لا ترى الآن أن رسالةً تمدح شخصاً بدل شتمه تحمل الإساءة، لكن ما كان الهدف من وراء هذه الرسالة؟ منذ البداية لم يكن لدى السيدة التي جندتني لكتابة الرسالة أدنى رغبةٍ بقول أشياء أخرى، فقد رغبت على الأقل بخلق حالةٍ من عدم الراحة، فمستقبل الرسالة بكل تأكيدٍ سيتساءل لماذا يرسل إليه أحدهم مثل هذه الرسالة، وما المقصود بالقول: “عائلةٌ معروفةٌ جدا في المدينة كلها”، أثق أن رجل الأعمال قد قرر في النهاية تأخير موعد زواجه وذلك لخوفه من تكوين أسرةٍ مع امرأةٍ قد تكون سمعتها سيئة.

هذا النوع من الضجيج لا يتطلب أن تكون كل الرسائل بنفس الموضوع، وذلك لأن كل رسالةٍ تضيف إلى الأخريات، مما يجعلها تتسبب بضجيجٍ عالٍ رغم أن هذا الضجيج قد يغدو فائضاً عن الحاجة، فمنذ بضعة أشهر كتب بيرسيلي “Berselli” في مجلة لسبرسو مقالةً يتساءل فيها إن كنا لاحظنا أن الإعلانات ما عادت تؤثر فينا كما في السابق، فلا أحد يستطيع أن يثبت أن هذا النوع من مسحوق الغسيل أفضل من سواه، ففي الحقيقة كلها متشابهة، فعلى مدى الخمسين سنةً الماضية كانت الوسيلة الوحيدة لإقناعنا بأفضلية هذا النوع على ما سواه الدعايات التي تظهر فيها ربة البيت وهي ترفض عرض علبتين من مسحوق غسيلٍ مقابل النوع الذي لديها، أو الجدات اللواتي يخبرننا أن هذه البقع والأوساخ لن تختفي إلا إذا استعملنا النوع الجيد، لذا فإن شركات الصابون في معركة تسويق عنيفة وتحمل كلها ذات الرسالة والتي يحفظها الجميع عن ظهر قلب مما جعلها مضرب مثل وهي: “أومو يجعل الملابس البيضاء أشد بياضاً”.

هذه الحملات الدعائية ثنائية الأهداف، فأولاً لإعادة استخدام العلامة التجارية ففي حالاتٍ عدة يصبح هذا الأمر استراتيجيةً ناجحة، فلو ذهبت إلى السوق وبحثت عن مسحوق غسيل، سأسأل عن أومو أو تايد الاسمين الذين أعرفهما على مدى خمسين سنة، أما الهدف الثاني فهو ألا يلاحظ أحدٌ أنه لم تقم أية مناقشات حول مساحيق الغسيل سواءً كانت لصالحها أم ضدها، يحدث الأمر ذاته في إعلانات أخرى، كما لاحظ بيرسلي فنحن لا نفهم ما يقوله المقدم في دعايات الهاتف النقال، وفي حقيقة الأمر فنحن لسنا بحاجةٍ لنفهم ما يقال، فالضجيج الهائل هو ما يبيعنا هذه الهواتف.

أعتقد أنه من الممكن اتفاق الشركات على وقف الدعاية لمنتجاتها الخاصة في سبيل حملةٍ إعلامية متناغمة، الهدف منها نشر ثقافة الهاتف النقال، فإذا ما قمت مثلاً بشراء هاتف نوكيا بدلاً عن منتجٍ من سامسونج فذلك بسبب اقتناعك بعوامل عدة ليس من بينها الدعاية، إن الوظيفة الرئيسة للضجيج الإعلامي هي تذكيرك بحدوث الإعلانات بشكلٍ دائم لا المنتج نفسه، مثلاً حاول تذكر أكثر الإعلانات إمتاعاً وإثارةً -وبعضها سيكون مضحكاً- وما هو المنتج المعروض فيها، سيكون من النادر تذكر اسم المنتج الذي كان موضوع الدعاية، فالطفل الذي يصعب عليه نطق كلمة “Simmenthal – شركة مصنعة للحم البقر” أو حملة “لا مارتيني، لا حفلة”، أو رامازوتي “Ramazzotti” لذيذ المذاق، ففي هذه الدعايات يعوّض الضجيج صعوبة عرض مميزات المنتج.

يحتوي الانترنت وبدون مراعاةٍ للرقابة أعلى مستوىً من الضجيج الذي لا يقدم معلومةً متكاملة، أو بالأصح تستقبل المعلومة لكن دون أدنى إثباتٍ لمصداقيتها، ثم تحاول البحث عن كامل المعلومة على الانترنت، وحدنا نحن الأكاديميون والباحثون قادرون بعد مرور عشر دقائق على جمع المعلومات التي نرغب بها، بينما يعلق غالبية مستخدمي الانترنت في المدونات أوالمواقع الإباحية، دون التصفح أكثر لأنه في هذه الحالة لن يساعد في الحصول على معلوماتٍ موثوقة.

في البحث أكثر عن قضايا الضجيج التي لا تستلزم اللوم رغم أنها تنزح نحو الرقابة، يجدر بنا الإشارة إلى الصحف التي تتكون من 64 صفحة، 64 صفحة! كثيرةٌ جداً من أجل إكساب معلوماتٍ أولية/ رئيسة/ هامة شهرةً بين القراء، سيقول البعض أنه يشتري هذا النوع من الصحف وذلك لأنه يجد فيها ما يهمه، هذا صحيح لكن من يفعل هذا الأمر هم النخبة الذي يستطيعون ويعرفون كيفية التعامل مع المعلومات، لكن يجب أيضاً أن يوجد توضيحٌ للعدد المهول من الصحف التي ما عادت تطبع أو لا تقرأ، لم يعد جيل الشباب يقرأ الصحف، فمن السهل الآن تصفح صحفٍ كالجمهورية وسواها على الانترنت، هناك توجد الصحف كلها على شاشةٍ واحدة، أو بالإمكان قراءة الصحف المجانية في القطار، حيث يتم تجميع الأخبار في صفحتين.

كنتيجةٍ لهذا الضجيج توجد رقابةٌ متعمدة وهذا ما يحدث في عالم التلفزيون، وفي محاولات خلق الفضائح السياسية وسواها، كذلك لدينا الرقابة اللاإرادية والقاتلة في ذات الوقت، لكنها ولعدة أسباب مشرعنة وذلك لنوعية المعلومات المراد عرضها كالإيرادات وإجمالي المبيعات وسواها، حيث تمنع المعلومات وتتحول إلى ضجيج، هذا الأمر –وأنا هنا أنتقل من الاتصالات إلى الأخلاق- كوّن سيكولوجية وأخلاق الضجيج،  انظر إلى ذلك الفتى الغر الذي يسير في الشارع ويضع سماعاتٍ حول أذنيه، لا يستطيع قضاء ساعةٍ في القطار يقرأ فيها الصحف أو حتى يستمتع بالمناظر الطبيعية، وبدلاً عن ذلك يمسك هاتفه النقال في بداية الرحلة ليرسل: “لقد انطلقت”، وفي نهاية الرحلة يرسل: “لقد وصلت”.

يوجد أناسٌ لا يستطيعون العيش بعيداً عن الضجيج، ولهذا السبب فإن المطاعم أماكن ضجيج، فهي تعرضه من خلال شاشة تلفاز وأحياناً اثنتين مع موسيقا، وفي حال طلبت أن يُغلق التلفاز أو الراديو فإن الناس ستنظر إليك كما لو كنت مجنوناً، هذه الحاجة الماسة للضجيج تشبه الإدمان على المخدرات، فهو وسيلة لتجنب التركيز على ما هو هام وضروري في حياة الإنسان، كـ”العودة إلى داخل الإنسان!” نعم فمثال القديس أوغسطين ما زال قادراً على أن يكون أمثولةً في عالم السياسة والتلفاز.

في الصمت وحده فقط يصبح المحتوى القوي والفاعل للمعلومات مؤثراً، فكل الناس حتى أولئك الخاضعون لأعتى أنظمة الطغاة الرقابية، قادرون على معرفة ما يجري في العالم من خلال الكلام، فالناشرون يعرفون أن الكتب تدخل قائمة أفضل المبيعات من خلال ما يسميه الفرنسيون “من الفم إلى الأذن” لا من خلال الإعلانات أو مراجعات الكتب، تنجح الكتب من خلال الكلام عنها، ففي حال خسرنا حالة الصمت فإننا نخسر فرصة سماع كلام الآخرين، والذي يعتبر الوسيلة الأولية والأكثر موثوقية لمعنى التواصل.

ولهذا فإني أود أن أختم بالقول بأن أحد أبرز المشاكل الأخلاقية التي نواجهها اليوم هي كيفية العودة إلى حالة الصمت، كما أن واحدةً من الإشكاليات الدلالية التي ينبغي علينا أخذها بعين الاعتبار هي دراسة وظيفة الصمت في جوانب التواصل المتعددة، فلدراسة دلالة الصمت والتي قد تكون رمزاً للتحفظ أو التردد، من الممكن دراسة دلالة الصمت في المسرح، وفي السياسة، وفي المناظرات السياسية – أو في عبارةٍ أخرى ذلك الصمت الطويل حيث يصير حالة تشويق، أو تهديد، أو اتفاق، أو حتى إنكار- ودلالة الصمت في الموسيقا، انظروا كم عدد المواضيع المتعلقة بدلالة الصمت لذا فأنا أدعوكم للأخذ بعين الاعتبار الصمت لا الكلمات.

محاضرة ألقيت في مؤتمر الجمعية الإيطالية لعلم الدلالات، 2009.