مجلة حكمة
الديمونولوجي

«مقدمة قصيرة جداً» الديمونولوجي (علم الشيطانيات) تلخيص لكتاب إبليس لعباس محمود العقّاد – إعداد: أسامة بوجبارة


(الجذور الانثروبولوجية للشيطان. الشيطان فيلولوجيًا. الشيطان فلسفيًا. الشيطان في ميثولوجيا الحضارات القديمة. الشيطان في الأديان الكتابية: اليهودية، المسيحية, الإسلام. عبدة الشيطان وحلفاؤه. الشيطان في الآداب والفنون العالمية)

يتناول هذا البحث أحد أهم الهواجس التي اشتغل بها الإنسان منذ فجر التاريخ ألا وهو موضوع الشيطان .

فاتحة خير:

الأخلاق الإنسانية تجربة معاشة ولا يمكن فهم تعقيداتها وأزماتها ومكامن الالتباس فيها ومعضلاتها إلا بعد أن تُعاش. فالفعل الأخلاقي ليس فعلًا نابعًا عن القناعة الصرفة ولا من رؤية عقلية منطقية جامدة ، بل الفعل الأخلاقي مقرون بخوف أو رجاء أو تأنيب، وكتلة من مشاعرٍ  تُثقله أو تدفع به أو تردعه .

فالإنسان قادر على الشر ولكنه يكبح جماحه، تحثه الشهوات فيردعها، وهو يعلم بسبل الفساد فيصد عنه . ومن هنا أنتج الإنسان منظومة الأخلاق التي تحاول أن تترجم هذه التجربة إلى ضربين من الأفعال، حسن مرغوب، وقبيح مرذول.

ولكن الطبيعة المركبة للإنسان لا يمكن أن تخضع سريعًا للتصورات الاحادية الساذجة، أو إن شئت أن تقول، أن دائرة التجربة الإنسانية أوسع، وهندستها أعقد من أن تتلائم مع النظرة الصفرية التي تحصر الأحكام كلها بين (مع) و(ضد).

لذا فالمعضلة الأخلاقية ظهرت حينما أراد الإنسان أن يتعرف بحسه على ما هو خير وما هو شر. وقد أفرز بسبب ذلك تصورات لا حصر لها للشر. وتبعًا لذلك فإنك ستجد أن صور الشيطان قد تعددت بتعدد التصورات حول ماهية الشر.

فهل للشر وجود أصيل؟! أم هو عدم الخير؟ أم هو عقبة في طريق الخير؟! وهل هي عقبة مريدة أم لا إرادة لها؟!

وإنك لسوف تجد أن كل ما أفرزه العقل البشري حول ماهية الشر فإنك تبعًا لذلك، ستعثر حتمًا على شيطان ذلك الشر. ولأجل ذلك فإن العقاد يقول بأن ما أفرزته الأديان حول الشيطان جديرٌ بالاحترام، وخليق بالدراسة.  وليس هنالك من هو أكثر بؤسًا وتعاسة بنظر العقاد ممن تجلبب بجلباب العلوم التجريبية الحديثة. واكتفى  بنظرة اختزالية قائلة أن الشيطان هو محض حديث من أحاديث الخرافة وأسطورة سطرها الكهنة، واعتقد بها من تبعهم من دهماء الأمم وجهلائها.

فالمذاهب الأخلاقية وإن تعددت مواردها ومشاربها، ما بين نفعية وتقدمية ومحافظة إلا أنها جميعها لا تخرج عن طور التنظير، هامدة لا حياة فيها ولا روح ولا نبض ولا وجدان. أما عبقرية التجربة البشرية تكمن في قدرتها على أن تدفق النبض على رؤيتها الأخلاقية فتحيي الشر شاخصًا ومتحفزًا ومتربصًا الدوائر ويتحين المكيدة للإنسان.

فالخلاصة أن تاريخ الشيطان هو تاريخ الاخلاق الإنسانية.

الشيطان أنثروبلوجيا:

ماقبل الشيطان:

يسلط هذا الفصل من البحث الضوء على الجذور الضاربة في القدم في الثقافة الإنسانية أو ما يعرف لدى علماء الإنسان بالطور الأرواحي في تاريخ الإنسان .

ويجد العقاد أن تجذر الإعتقاد بوجود الأرواح الذي يصل إلى عمق التاريخ، دليل بأنها حالة مغروسة في السليقة البشرية، وأنها أبعد من أن تكون حالة من حالات (الغرس) الثقافي الذي مارسه الدجالون. فيستعرض في هذا الفصل المعتقدات الأرواحية والطوطمية من كافة الثقافات البشرية المتباعدة، من أفريقيا إلى أستراليا إلى أمريكا الجنوبية، مستشهدًا لكل قارة على حدة بعمدة من اعمدة دارسيها من الأنثروبلوجيين . ويشبه العقاد الطوطمية من حيث تطابقها وتشابهها بين مختلف الثقافات البشرية بالنبتة الصالحة للزراعة في كل مكان وزمان .

فلا تكاد تختلف كلمات الأنثروبلوجيين التي استشهد بها عن بعضها.

ومهما تعددت تحليلات الدارسين للأسباب التي  أدت للاعتقاد بالطوطم والروح منذ فجر التاريخ، فإنها تلتقي جميعًا عند حيرة الإنسان أمام ذلك المؤثر الغامض الذي يوقع الضرر، أو يدفعه، أو ينتقي المصاب به. لذا فقد حاول الإنسان أن يفاوض هذه القوى التي لا يمكن مفاوضتها وترويضها بالأساليب الفيزيقية المباشرة. فلا الصراع معها مثمر، ولا السكوت عنها مُطاق.

لذا نشأت فئة متخصصة لدى كل قوم وقبيلة لمواجهة تلك القوى أو تلك (الأرواح) إن أردنا الدقة. وتعمل هذه الفئة على التواصل معها واستقصاء أخبارها. وهذا ما يفسر الظهور المبكر للسحرة والكهان في الثقافة البشرية .

الحرام والمحرمات انثروبلوجيًا وفيلولوجيًا:

عند دراسة القبائل البدائية فإنك تجد أن المحرمات تربو دائما على المباحات، بل أنك تكاد تجد أن الحرمة داخلة في كل شيء، وأن كل مباح هو محرم بوجه من الوجوه، ولا يكتسب حليّته إلا بطقس أو شعيرة أو صلاة . وهذا يرتبط ارتباطا وثيقًا بالنظرة الأرواحية للوجود، أي أن لكل شيء في هذا الوجود روح تسكنه أو تحميه أو تحرمه .

وبالرغم من الترقي الحضاري للإنسان وترقي لغته معه، إلا أنها لا زالت تحمل آثارًا لذلك التقابل والالتصاق بين القداسة والنجاسة في المحرمات. فكلمة الحرمة في اللغة العربية تدل على الشيء العزيز العظيم الذي يُصان ويُحمى بالأرواح والأموال. ويدل في ذات الوقت على كل اثمٍ يُعاب أو يُعاف.

وكذا في معنى القديس أو القديسة، فإنها كانت تطلق عند البابليين والكنعانيين على الذكور والإناث الذين نصبوا أنفسهم للبغاء في حرم الربة «عشتروت» ويُقال أن «عشتروت» نفسها كانت خليلةً للأرباب . وعرف الإنسان البدائي ثلاثة أنواع من المحرمات وهي : الطوطم، والتعويذة والوثن، والتابو أو العمل الحرام.

فالطوطم هو حيوان أو نبات مقدس لدى القبيلة يُحرّم عليها صيده أو قطفه أو أكله لاعتقادها بأنها تناسلت منه، أو لأنها ترمز للمعبود.

والوثن أو التعويذة فهي تأتي على هيئة أجسام وصور معينة، تُتخذ أسبابًا للحماية والمنفعة، لاعتقاد أصحابها بوجود روحٍ معنية بذلك الوثن تحمل لمن يستعيذ بها حق الرعاية والتوقير .

وأما التابو أو الحرام فهو قد يكون حرامًا عند قومٍ أو قبيلة مخصوصة دون سواهم، وقد تنسحب التابوهات على المئات من الأشخاص أو على فردٍ بعينه، وقد تُعرف التابوهات بالرؤى التي تُخبر عن هذا التابو. وقد يعمل الاعتقاد عمله بالإنسان حينما يُقدم على خرق التابو فيتضرر من ذلك أبلغ الضرر .

وينقل أحد الأنثروبلوجيين عن طالب أكل طعامًا مطبوخًا، ولما علم أن الطعام يحتوي على البلح اضطرب لأجل ذلك، لأن البلح قد كان طوطم القبيلة التي ينتمي إليها، فتشنجت أعصابه وعضلاته ومات من اثر ذلك .

وتتنوع التابوهات شكلًا وكيفًا، كتحريم نوع مخصوص من الأكل، أو تحريم نوع مخصوص من الشرب، أو تحريم إيقاع عقوبة بعينها على فرد بعينه (كتحريم عقوبة الضرب على الظهر على فرد معين من القبيلة مثلًا)، وقد تتخذ التابوهات طابعًا جنسانيًا، فيُحرّم على بعض الإناث أن تتحدث مع غير أمها، وآخر يغسل عينه ليزيل نجاسة النظر إلى الأنثى.

ويُستفاد من هذا كله بأن الإنسان في أول أمره، بحسب الدراسات الأنثروبلوجية، كان رهينًا أولًا لإرادة الأرواح بدليل الإغراق في الحياة الطقوسية التي ترتبط بكل شيء، وإحاطة الحرام بكل شيء. وأن هذه الأرواح تنفع وتضر، تُصادق وتعادي وتفعل ما يحلو لها من دون أن تُلحق بإدانة أو تشنيع .

 ويفترض الأنثروبلوجييون أن الإنسان يعبر على أطوارٍ ثلاثة وهي :

الطور الأول: إدراك أن ثمة قوة عليا مريدة يرجع لها كل شيء، وهي أشرف من تلك الأرواح وأقدر، فيدرك تبعًا لذلك وجود أرواحٍ عاصيةٍ، وأخرى مطيعة.

وبالتالي فإن عمل تلك الأرواح يصبح داخلًا في تصنيف الخير والشر قياسًا بمعيار الطاعة والمعصية لتلك القوة المتعالية، فيدرك بعد ذلك أن هنالك سلطان للخير وسلطان للشر.

الطور الثاني: يعتقد علماء الأنثروبلوجي أن السحر والدين كانا متحدين في أول الأمر فالساحر عند القبائل البدائية هو ذاته الكاهن، ولكنه يأخذ صفته كساحر أو كاهن طبقا للعمل الذي يمارسه في لحظتها. وإن أردنا التقريب فهو كرجل الدين اليوم الذي يمارس مهنة التدريس، أو التجارة فهو رجل دين حينما يكون في المسجد ومدرس أو تاجر حينما يكون في المدرسة أو الدكان .

وقد اختلف علماء الأنثروبلوجيا أيهما أسبق للآخر وأيهما أصل للآخر هل الدين بما يحمل من نظرة عامة للوجود وبما يكتنز من ممارسات طقوسية روحية هو أصل السحر، أي أن السحر شكل مشوه عن الدين؟ أم أن السحر الذي هو في أصله ممارسة قربانية وطقوسية لمفاوضة عالم الأرواح تطور ليتحول إلى نظرة انطلوجية وفلسفية أكثر شمولية تسمى بالدين ؟ .

وأيا يكن من أمر فإن انتقال التجربة من طور السذاجة إلى طور التعقيد والنضج يؤدي إلى زيادة التخصيص والتخصصية، فيكون للكاهن دور غير الدور الذي يمارسه الساحر، كنتيجة طبيعية لتصنيف الأرواح وفي أي خانة تقع تصرفاتها وأعمالها ؟

الطور الثالث: هي مرحلة إدراك الإنسان لذلك التمايز، ثم التجاؤه بمحض إرادته لأحد الطريقين .

الجذور الفلسفية للشيطان:

بعد أن آمن البشر بالإله الواحد المتعال، القيوم القائم بذاته، أصبح لازمًا أن يكون حدوث الشر إلا وفقًا لمشيئته، ولا يمكن أن يقع مستقلًا عن المشيئة الإلهية .

وبهذا صارت صورة الشيطان في الأديان الكبرى، والديانات الكتابية تباعًا هو الممثل لكتلة الشر السالبة، المُعطلة، المُفسدة، المزيفة، ولا قدرة لها على خلق أو إبداع.

فكل ما تقوم به القوة الشيطانية هي أن تحرف مسيرة الخير وتزيّف طريقه .

وأما في دلالة اسم الشيطان فكلها تشير لموقفه من القوة الكونية الكبرى، فهو المتمرد والضد والواشي والنمام والساعي للفتنة والمغري بالفساد والموغر للصدور .

ولاهوتيًا فإن كل ما ذكروه عنه أتى على سبيل الضد والمقابلة لما تم تصوّره عن الذات الإلهية في الأخلاق والأعمال .

فذكروا الكبرياء، وذكروا العصيان، وذكروا الحسد، وذكروا الكراهية، وذكروا الباطل والخداع، وكلها صفات لا تكون ذات مصداق من دون الإيمان بوجود الذات الإلهية .

فالكبرياء هو الافتئات على مقام الإله. والعصيان هو الخروج عن مقاليد شريعته، والحسد هو إنكار لنعمته… وهكذا .

الشيطان فيلولوجيا: في أسماء الشيطان

إن المتتبع لكل الحضارات يجد أن قوة الشر الكونية ارتسمت في ملامح متشخصة، لها في كل لغة نصيب من الأسماء التي تُعيّنها .

وأولها هو اسم الشيطان (بالألف واللام) الوارد في الأديان الكتابية الثلاث، المنقول بلفظه (Satan) إلى اللغات الأوروبية والانجليزية عن اللغات السامية.

فالغربي حينما يتحدث عن الصفة الشيطانية أو العمل الشيطاني فهو يشير بذلك إلى ذات المعنى المستخدم في اللغات السامية أي البراعة والخبث وحب الأذى والتمتع بالإيذاء.

ويستبعد العقاد الرأي السائد الذي ينسب لفظ الشيطان إلى اللغة العبرية، بقرينة كثرة الإشتقاقات اللغوية في اللغة العربية المستقاة من جذر الكلمة ( ش ط ن ) مما يدل على قدم وروده إليها، ولا يستبعد أن يكون اليهود قد عرفوه بعد السبي البابلي .

ومن الملاحظ من اشتقاقات الشيطان في اللغة أنها تحمل كل معاني السمات الشيطانية، كالشطط الذي هو الغلو، والشط والذي يعني المجانبة، وفعل شاط أي احترق وتلف. وانطلق شوطًا أي ابتعد واسم فاعله شيطان .

ويطلق الشيطان كذلك على الثعبان الكبير وبه فسروا الآية القائلة (طلعها كأنه رؤوس الشياطين)، وغني عن القول ذكر ما ورد في الرواية التوراتية أن الشيطان تمثل لآدم على صورة الحية لما كان في الجنة .

وأشهر أسماء الشيطان الأكبر في اللغة هو «إبليس» ويرى بعض الباحثين على سبيل التخمين أن إبليس ذو أصل يوناني من «ديابولوس» (Diabolos)، والذي يعني الإعتراض والدخول بين شيئين .

إلا أن العقاد يرجح أن «إبليس» قد أتى من الإبلاس أي فقد الرجاء. وقد استخدم الغربيون نعت «الديابولي» للدلالة على فعل التمرد والجبروت الخالي من الرحمة، من دون أن تكون دلالة هذه الكلمة تتضمن الإدانة بالضرورة . وكذلك يسمى الشيطان بـ «لوسيفر» والذي يشير في الأصل لكوكب الزهرة، أو كوكب الصبح المنير.

وليس في هذا النعت في الأصل دلالة سلبية، إذ أن المسيح قد نعت نفسه بأنه «كوكب الصبح المنير» . ولكن انزياحًا دلاليًا طرأ على هذا الوصف فأصبح يُطلق على من يتخايل بالتلامع إلى حد الصفاقة والسماجة .

وفي أوروبا فإنهم لا زالوا يتداولون اللفظ العبري (بعلزبول) وهي تسمية تحقيرية وتعني رب الزبالة. وهي كلمة مركبة من جزئين بعل : أي رب، وزبول: أي الزبالة .

ويسمى كذلك بـ(بعلزبوب) أي رب الذباب. وذلك لأنهم كانوا يدعون قومهم لترك عبادة بعل والإتجاه لإيل أو يهوه بدلًا عنه. بل أن المسيح لما قام بينهم كانوا يقولون أنه لم يكن يشفي المرضى بفعل يهوه ، بل يفعل ذلك بمعونة بعلزبول. وقد صار مصطلح البعلزبول يستخدم اليوم للدلالة على إمكانية قمع الشر وهزيمته . وكذلك من أسماء الشيطان «مفستوفليس» وهي كلمة مستمدة من البابليين وتعني كاره النور. ويُطلق هذا المسمى عند اليونانيين عند الرغبة في خدمة الشهوات السوداء والإزدراء بالمثل العليا، وكان مفستوفليس في القرون الوسطى هو شيطان السحر والمعرفة السوداء.

وأخيرًا فآخر أسماء الشيطان في العبرية هو «عزازيل» والذي يعني رب الأرض الخراب، وقد اعتاد اليهود على أن يضحون بقربانين، واحد ليهوه الرب، والثاني لعزازيل رب الأرض الخراب.

الشيطان في الحضارات:

الشيطان في الحضارة المصرية:

تعتبر الحضارة المصرية هي أقدم حضارة مسجلة في التاريخ قالت بالحساب بعد الموت، وأن موازين الجزاء قائمة على الترجيح بين الفضيلة والرذيلة. وليس العالم الآخر لدى المصريين مؤجلًا أو مُنتظرًا، بل هوعالم قائم، وهو امتداد لهذا العالم.

فالعالم لديهم (أي مصر) ينقسم إلى قسمين ظاهرٌ يسكنه الاحياء، وباطنٌ يسكنه الأموات، ولكلاهما حكومة ودولة . وهذه الحضارة شأنها شأن غيرها من الحضارات التي تناقلت نقمة الإله الأكبر على البشر وندمه على خلقهم، وتفكيره في إبادته عقابًا لهم .

وإنه لمن الصعب التوصل لفهم دقيق حول طبيعة الشر في الحضارة المصرية، لأنه كان من المعتاد عندهم أن يزيل اللاحقون نقوش وآثار السابقين. وهذا ما يحدث اللبس والاشتباه لدى الباحثين. وفي صورة إله الشر لديهم بقية من عبادة الأسلاف، وبقية من عبادة الشمس، وبقية من تعدد الآلهة وصراعهم بين مصر العليا ومصر السفلى.

على أنها في جملتها تدل على آثار لصراع واقعي على تسنّم العرش، وقد تعرضت هذه القصص للأسطرة والتشويه مع مرور الزمن. فقوة الشر تمثلت لديهم في صورة الأخ الشرير، والحاكم المغتصب المفسد، الذي يعيث في الأرض ويتمرد على الأعراف والعادات.

فمضى زمنٌ كان «ست» هو إله الحق والإستقامة، بينما الإله (آبيس) والذي كان يتخذ صورة العجل هو إله الشر الذي يكمن للشمس عند المغيب. فلا يزال إله الشمس «رع» في حرب معه ومع شياطينه السوداء والحمراء حتى تُهزم قبل الصباح فتعود الشمس للشروق .

واستقرت الرواية أخيرًا بعد تعرضها للغربلة من أن «ست» قد نافس أخاه «أوزيريس»، فصنع «ست» خديعةً لأخيه فقتله ومزقه لأشلاء ورماه في النيل، ثم قامت إيزيس زوجة أوزيريس بجمع أشلائه بمعونة الساحر «توت»، فبوأته عرش المغرب، فهو مذ ذاك صار رمز الشمس في حالة الغروب. 

ويستمر العقاد في طرح القصص المتضاربة التي يختلط فيها الواقع بالأمثولة تارة وبالتشويه التاريخي تارة أخرى .

وقد استقر «ست» على أن يكون سيد الأرواح الخبيثة، والأحياء الدنيا ومن ثم فهو يتخذ صورة برأس حيوانٍ مجهول، لا يُراد به تمثيل حيوانٍ بعينه، لكنه يمثل الحيوانية في صورتها المبهمة. وله أذنين منتفضتين كناية عن التحضر لاستطلاع الشر، وذَنَبًا شائلًا، كنايةً عن الحران والأشر، وأصبح ست أخيرًا هو الشمّاعة التي تُعلق عليها أسباب الهزائم والنكبات لدى المصريين.

وإن لـ «ست» دورٌ مهم لدى أبناء هذه الحضارة، فهم إن انتهت منهم أسباب دفع البلاء، ورفع الضرر، بالإستعانة بالعوامل الطبيعية. اتجهوا بالقربان إلى «ست» طلبًا لرفع البلاء. لذا فقد كان تعلم السحر واحدًا من متطلبات الصناعة الطبية.

وتدور بعض تخمينات الفيلولوجيين بأن «ست» هو أصل «ستان» الذي صار فيما بعد «شيطان». وكثيرًا ما استخدم السحر في خدمة الخير، كقصة الساحر «أبانير» والذي يعني «فالق الصخر» الذي اقتص من عشيق زوجته بأن صنع له تمثالًا من الشمع على هيئة التمساح، ثم دفعه إلى البركة التي يقصدها ذلك العشيق فالتهمه.

او قصة الساحر «خاتشامخ» الذي سخّر سحره لأحد جواري الملك عندما سقط خاتمها في بركة كانت تعوم فوقها بالقارب، فجعل سحره الماء ينحسر إلى ضفتي البركة وهبط القارب إلى حيث موضع الخاتم، ولما التقطته أعاد الماء فلما التقت ضفتيه صعد بالقارب مرة أخرى .

وأمّا السحر الذي ينبغي على الكهان التنزه عنه هو السحر المسخر للأغراض الخبيثة، فكان الكهنة يتعلمونه للإتقاء منه وتجنب شره.

الشيطان في الحضارة الهندية:

يرى العقاد أن دراسة الحضارة الهندية ، جنبًا إلى جنب مع الحضارة المصرية، تمثل أجلى صورة مما يمكن للعقل البشري أن يصل إليها من نتائج متقابلة ومتعاكسة ومتضادة بطريقة اتفاقية بحتة .

فحضارة الهند تمثل الوجه النقيض تمامًا للحضارة المصرية، وإن شئت فقل أن قيم الحضارة الهندية كانت على امتداد الزمن هي وجه العملة الآخر لقيم الحضارة المصرية.

فالديانة المصرية تعطي لبقاء الجسد أهمية كبرى للبعث، لذا حرصت كل الحرص على استبقاء عُظماءها، اما الديانة الهندية فهي تنكر الجسد وتجد أن خلاص الروح هو في الوصول لمرحلة الفناء التام للجسد.

ومن الناحية الإجتماعية  فإن الديانة المصرية تجد أن الأسرة آية من آيات النعم الربانية، وليس من دعوة أحب إلى أبناء تلك الحضارة كدعوة بقاء الأسرة وتماسكها واتصال العقب والذرية .

أما الديانة الهندية فهي تجد أن الخلاص هو في الإفلات من دولاب الحياة والموت، عبر الابتعاد التام عن الحياة الجنسية بكافة أشكالها، والرجوع إلى حالة «النيرفانا» . وتؤمن الديانة المصرية بأن العالم المحسوس حق وخير، في تقابلٍ وتوازٍ مع عالم الخلود .

أما الديانة الهندية فتجد أن العالم شرٌ محض ، وباطلٌ موهوم، وأنه منبع كل الشرور، وهو أصل كل اشتغال للروح بالأعراض والقشور.

ثم ينقل العقاد عن علماء مقارنة الأديان حيرتهم عن وجود ذلك المقابل البنيوي الذي يأخذ دور «إبليس» في الميثولوجيا الهندية، أي عدم وجود تلك الشخصية التي تمثل أس الشرور ومحور البلاء، ثم يستطرد العقاد بذكر العديد من الآراء لدارسي الميثولوجيا الهندية التي تحاول أن تتكلف وتتعسف في محاولة إخراج ذلك المقابل البنيوي، وكل تلك المحاولات جميعًا، ليست إلا تعسف لا طائل منه، كمثال الإلهة (كالي)، التي عبدها جماعة الخنّاقون وتزلفوا لها بخنق ضحاياهم، على أن هذه الطائفة هي طائفة شاذة منبوذة من بين ملايين ممن يعتقدون بهذه العقيدة وليس فيهم من يقيم وزنًا كبيرًا لكالي، أو يجعلها محور الشرور.

وعقيدتهم فيها أن الإله شيفا عندما يجد البشر يتكاثرون ويتناسلون فإنه يحاول قدر استطاعته أن يفنيهم، إلا أنه يعجز عن ذلك، لأن مدى تكاثر البشر يخرج عن نطاق قدرته على أن يفنيهم عن آخرهم، فيوكل المهمة للربة كالي كمساعدة له .

وليس في هذا المثال ولا عداه ما يصدق عليه بأنه أمثولة الشر المطلق . وأما معالجة الإشكال وإجابةً عن سؤال: (أين اختفى إبليس الهند ؟! ) تكمن في معرفة (هندسة) النظام اللاهوتي الهندي، وطبيعة الصورة التي نحتها أهل الهند عن الألوهية .

لنسلم أولًا بالفرضية التي تقول بأن وجود إبليس هو نوع من الإقتراح العقلي لمعالجة مشكلة الشر في ظل وجود إله متعالٍ مريد للخير .

فإذا علمنا أن النظام اللاهوتي الهندي لا يؤمن بإله من هذا القبيل لزالت الحيرة وانقضى العجب . إذ أن نظام الوجود لديهم هو مثلث قائم على براهما إله الحكمة ، وفيشنو إله النظام والحفظ، وشيفا إله الهدم . فإن قال قائل لو أن لهذا الوجود أكثر من إله لفسد الكون، لقالوا له بأن ذلك هو الحق. وأن الوجود كله ماهو إلا تردد بين حركتي الهدم والبناء، وصيرورة دائمة من كونٍ إلى فساد، ومن فسادٍ إلى كون .

وإذا ما علمنا أن الوجود الحسي هو شرٌ محض فاسدٌ بالضرورة، وأن الهدم يقع في صلب النظام الإلهي، أصبحت حاجة العقل لافتراض وجود الشيطان تزيّد لا داعي له .

الشيطان في حضارة بلاد فارس وحضارة ما بين النهرين:

يُعنى الباحثون في الأديان وتاريخ الأسطورة بالحضارة التي تشكلت في بلاد ما بين النهرين أشد العناية، باعتبارها أكثر الحضارات تماسَّا وتفاعلا مع الأديان الكتابية.

ولعلي سأجيز لنفسي بعض الجرأة لأخرج عن دور الملخص والمهمش، لأقيّم هذا الفصل من الكتاب لأقول بأنه كان أضعف جزء في الكتاب بالرغم من أنه كان أكثر الفصول التاريخية أهمية، إن لم نقل بأنه أكثر الفصول التاريخية أهمية على الإطلاق التي تربط فلسفة الشر والشيطان لدى الأديان الإبراهيمية بالتصورات التي سبقتها زمنيا .

إلا أني وقبل أن أعود لدور الناقل، فإني أحيل القارئ لكتاب الدكتور خزعل الماجدي (بخور الآلهة) والذي كان دراسة حول ميثولوجيا الحضارات العراقية وقد استحق عن هذا الكتاب درجة الدكتوراة.

ويمكن بالرجوع لهذا الكتاب أن يستل الباحث تصورًا عاما عن طبيعة اعتقاد أهل الحضارات العراقية عن الشر والبلاء والمرض والشفاء والأرواح ..إلخ، وهذه الصورة تساعدنا كثيرا في ضم قطع الفسيفساء إلى بعضها لنخرج بصورة شبه متكاملة للوحة (الشيطانية) في عالم ما بعد الأديان الكتابية .

وجدير بالذكر أن بابل لم تشهد تطورًا في مفهوم الشرور وحسب، بل تطور عندهم مفهوم «الخطيئة» أيضا. ليكون أوسع من الذنب أو الحرام أو الرذيلة، إذ أصبح للخطيئة معنًى أخص من ذلك. وهو أن الإنسان يؤخذ بجريرة أعماله إن كان ذلك العمل مخالفًا لإرادة الإله. فيترتب وقوع الضرر على مرتكبه، بشكل قهري، سواء أكان متعمدًا لمخالفة الإله أم لم يكن.

وقريب من ذلك ما تقوله الشيعة عن «الأثر التكويني» لبعض أصناف الحرام كأكل مال الربا أو المال المغصوب أو أكل الطعام الحرام، ويكون لتلك المحرمات آثاراً تكوينية واقعة لا محالة، كخروج ذرية كافرة منحرفة عن سبيل الله بعد أن تشوهت نطفتها بـ «الحرام»، أو كحجب الدعاء، أو وقوع البلاء، أو انتكاسة الفطرة وما أشبه.

وهو أثر واقع سواء أراد مرتكبه إيراد هذا الـ «حرام» أم لم يرد، فهو كمن ألقى نفسه في النار، فهو محترق بالضرورة، سواء أكان قاصدًا الوقوع فيها أم لم يقصد . لذا فقد اهتم البابليون غاية الاهتمام بقراءة الطوالع، واستقصاء أمر النجوم، لمعرفة أسباب البلاء. فما كان للبابلي من هم ولا من غم إلا أن يسأل المنجمين عن أمره وعن طوالع النحوس والسعود .

وأما لدى الحضارة الفارسية والتي يجد العقاد أن دراستها لا تنفك عن دراسة حضارة ما بين النهرين فقد نمت العقيدة الثنوية وقد كان التداخل بين الثنوية والاديان الكتابية بيّنا، وأثره أوضح من  أن يُشار إليه، وتشعبت الثنوية إلى فرق ومذاهب شتى يتشيّع كل منها لرأي ومقولة .

فمنهم من يقول أن الوجود قسمة متساوية بين النور والظلام. ثم قالوا بأن الإله إله واحد وله ابنين، وقد وعد أحدهما بالسيادة على الدنيا. إلا أن الآخر احتال وتمرّد، لعلمه وخبرته بدهاليز الظلام ومسالكه، فوعد الأب ابنه بهزيمة إله الظلام بعد تسعة آلاف سنة كونية. واسم هذين الإلهين «أوزمرد» و «أهرمان» أي الروح الطيب والروح الخبيث .

وقد قال بعض الثنوية برأي قريب بعض الشيء من رأي أهل الديانة الهندية، فقالوا أن الجسد كله شر. إلا أن الروح العليا خُيّرت بأنها إذا ما أرادت محاربة جُند الظلام فعليها أن تتزيا بهذا الجسد الدنيوي، فقبلت بذلك.

ويرى فريق منهم ان أبو البشر كان من أصله من خلق الشيطان. وأن الأرواح العلوية تقوم بالعمل الدؤوب لإصلاحه وتقويم سلوكه، فتقذف النور في طينته، ليأنف من هذا الطين ويتوق إلى الرفعة والسمو.

الشيطان في الحضارة اليونانية:

إن كان مجمل القول في الحضارات الشرقية بأن قوة الشر مغضوب عليها لأنها تضر وتفسد وتغوي. فإن الأمر منقلب في الحضارة اليونانية رأسًا على عقب .

فإنك لتجد أن الآلهة تصب جام غضبها على «برومثيوس» الذي هدى الإنسان لسر النار، وألهمه السعي في طلب البقاء، وبصّره بما يجهل من خفايا الكون، وألهمه أن يخرج من حال الاستسلام للطبيعة، إلى حال التمرد عليها وأن يمسك قبس النار بيده إشارة لامتلاك المعرفة، في الوقت الذي كان رب الأرباب زيوس يريده أن يبقى مذعنًا لها مترديًا في طور الحيوانية. وهو يمتثل بقسطٍ وافرٍ من الفطنة التي تصيب بقية الأرباب بالغيرة.

وهو على عكس رب الأرباب «زيوس»، الذي هو أشبه ما يكون بالشيطان في الأديان الشرقية. فهو شهواني، نهمٌ أكول، شديد الطمع، مهووس بالسلطة والسيطرة. ولهذا فقد صرع «اسقولاب» أبو الطب بالصاعقة، لأنه يعين المرضى على الشفاء.

وقد ينحرف بشهواته شوطًا بعيدًا حتى أنه ليمارس ما شذ من صنوف الجنس إن أراد . ويُعتقد أن زيوس أخذ هذه الصورة لأنها تعكس أبلغ تجلٍ لتمجيد الجسد وقوته.

فزيوس إن غضب فإنما يغضب لفوات اللذة والأكل، وإن رضي فإنما يرضى لأجل طعامٍ طيب أو خدمة فارهة، أو خليلة جديدة، أو غرام متجدد. والحاصل أننا نجد أن الخير في هذه الحضارة المتمثل برب الأرباب «زيوس» قائم على الحظ لا أكثر. فالحظ في الأسطورة اليونانية هو ما تدور عليه رحى الأحداث الكبرى في الوجود. والشر كل الشر هو الإعتراض على ما يمليه الحظ .

الشيطان في الأديان الكتابية:

الشيطان في اليهودية:

يؤكد العقاد على أهمية التمييز بين الديانة العبرية في نشأتها الأولى من ديانة التوراة كما تلقاها المسيحيون الأوائل، وبين صورتها التي جاءت مهذبة في القرآن.

وقد حملت الديانة العبرية عبء التوسط بين الوثنية وعقائد التوحيد. فلم تستقم عقيدة الإله الواحد المنزه عن اللوثة الوثنية إلا حوالي القرن الثاني قبل الميلاد.

وغني عن القول أن ديانتهم كانت مخصوصة لقبيلة عشائرية بعينها، وأن التوحيد عندهم لم يكن قد وصل لأبعد آفاقه وآخر محطاته كما هو في الإسلام. بل كانوا ينهضون به حينًا وينكصون للوثنية أحيانًا. متزلفين لبعل وتموز وعشتروت، ويعرضون عن أنبيائهم الذين يغارون من منافسة هذه الأرباب لرب إبراهيم .

وبقوا ردحًا من الزمن يصفون الإله بما علق من الصفات الوثنية. كالغيرة من البشر، ويُحذّر الإنسان من اقتراب لشجرة الخلود ويتوعده بالموت إن أكل منها، ويقيم حول الشجرة الحراس الأشداء من الملائكة.

وكانت فكرة السيادة في عبادتهم للإله غالبة على فكرة الخلق. فهم لم ينكروا ربوبية بقية الأرباب، لكنهم أنكروا سيادتها، ودانوا بالولاء للإله يهوه وحده. تمامًا كما يدين الشعبُ الولاء لملك واحد، مع إقرارهم بعلو مكانة وسمو من سواه من ملوك الدول الأخرى. إلا أن هذا الإقرار لا يتضمن حق الطاعة ولا الولاء. أو كالمرأة التي تعطي حق التبعل لزوج واحد فقط، مع إقرارها بفحولة من عداه من الرجال.  ويتضح من الدراسة المقارنة للأديان أن هنالك ارتباطًا واضحًا بين مدى تقدم العقيدة في تنزيه الإله وبين عزو الشر وحصره بالشيطان.

ولهذا لم يكن العبرانيون يعزون الشرور للشيطان أو يعتبرونه محور الشر، إذ كانوا لا يجدون من ضيرٍ لنسبة الشر للإله، ولا من مانع يمنع من أن يرتكب أعمالًا كتلك التي يقوم بها الشيطان. لذا فنصيب الشر عندهم موزع يحمل وزره الشيطان تارة، ويتحمله الله تارة أخرى. ولم يُذكر الشيطان صراحةً في أي كتاب قبل السبي البابلي سنة 586 ق.م.

ثم أنه ذُكر على الوصف لا على التسمية، فجاء مرة بمعنى الخصم، ومرة بمعنى المقاوم في الحرب، ومرة يُطلق على الملك الذي تحدى بلعام، ولم يُذكر بالإسم إلا في سفر الأيام «وقف الشيطان ضد إسرائيل». وليس للشيطان في العقيدة اليهودية تلك المحورية ولا ذلك الخطر. فإن وجود أرباب أخرى كان يخفف من عبء إلقاء لائمة البلاء على الله وعلى الشيطان على حد سواء.

وقد كانت القرابين كما ذكرنا تُقسّم بالتساوي بين الإله وبين عزازيل رب القفار ليكفي المؤمنين شره وأذاه. وهذا يعني أن الشيطان بالرغم من «سوءه» إلا أنه لدى اليهود كان قابلًا للمهادنة والمفاوضة .

وتذكر التوراة قصة يحدث فيها ما يشبه «الإتفاق» والمفاوضة بين الله والشيطان. إذ يسمح الله للشيطان أن يتسلط على عبده أيوب بالفقر والمرض والبلاء، مع علم الله بصلاح أيوبٍ وتقواه ولكنه أراد أن يمتحنه ويمحص إيمانه بتسليط الشيطان عليه .

هذا وقد تضخمت مأثورات العبرانيين وتراثهم بعد اختلاطهم بأهل بابل ومصر وبلاد العرب واليونان، واحتوى كتابي التلمود والمشنا على أهم العقائد في مسألة الخير والشر، والثواب والعقاب.

وجدير بالذكر أن هذه الكتب جمعت بعد المسيحية، وظلّت تجمع ويُضاف إليها حتى القرن العاشر الميلادي. وفي هذه الكتب خلاصة ما استفاده العبرانيون من اختلاطهم بتلك الأمم من ابناء شتى الحضارات التي تقدمتهم في إدراك صفات الذات الإلهية والشيطانية. وهو ما يسمى اليوم غلطًا واشتباهًا بـ «الإسرائيليات». وما أدل على ذلك هو ذكر الشيطان في التوراة بأسمائه البابلية كالشعيريم والليليت.

وباعتبار أن الديانة العبرية كانت برزخًا بين الوثنية والتوحيد فإنك لتجد أن النصوص الأولى قد ذكرت كيف أن الشيطان كان يحضر بين يدي الله مع الملائكة، وكيف أن الله يأكل ويشرب ويتنزه للترويح عن الملل، ويغار وينتقم. وتطورت عقيدتهم في الملائكة، فصار الملائكة نظراء لقوى الطبيعة كما هي الآلهة في أساطير الوثنيين الأقدمين، فملاك للموت، وملاك للآبار، وملاك للأنهار، وملاك للمطر، وملاك للصواعق…إلخ.

الشيطان في المسيحية:

امتازت النصوص المسيحية بأن نسبت السطوة على هذا العالم للشيطان. حتى أن المسيح قال عن إبليس « سيد هذا العالم».

وينقل الإنجيل عن محاورة بين إبليس والمسيح، وقد كان النص يسلم بسلطان إبليس وجاهه على العالم . وحتى نصل لتصور دقيق لفهم العقيدة المسيحية للشيطان، فيجب أولًا التعرف على طبيعة النص المسيحي المقدس المسمى بالعهد الجديد. إن العهد الجديد هو نص يتكون من الأناجيل الذي هو وحي قد تلقته الأنبياء. ويليه أقوال الرُسل وهي وحي مُفسّر من لدن النبي الموحى إليه.

وأخيرًا أقوال صحابة الأنبياء والتي هي تفسير إجتهادي محض للنص من غير وحي.

وإن لفهم هذا التقسيم دخالة شديدة للتعرف على تبلور مفهوم الشيطان في الديانة المسيحية. إذ أن الحديث عن الشيطان في الديانة المسيحية أو في «العهد الجديد» ليس على مستوً واحد. فالفرق كما يقول العقاد بين الشيطان في الأناجيل وما تلاه من الكتب هو الفرق بين ما يُعرف بالسماع وما يُعرف بالقياس.

إذ أن معرفة صفات الشيطان في الإنجيل متوقفة على السماع. تمامًا كالطريقة التي نعرف بها سمات أي شخصية تاريخية أو أسطورية، فعقولنا ومنطقنا لا يتصرفان في صياغة تلك السمات التي نعرفها بالتلقي.  ولكن ما يتلو الإنجيل من كتب، فهي تصف الشيطان قياسًا بما يقتضيه العقل تجاه سلطان الشر في هذا العالم .

وقد قدمت المسيحية إضافة نوعية لفلسفة الشر وللضمير الأخلاقي. إذ بعدما صار الشيطان يُعرف بالعقل والقياس، أحدث ذلك تمايزًا في غاية الأهمية في المعالجة اللاهوتية لمعضة الشر. وهو التمايز القائل بالتفريق بين الضرر والشر. إذ ليس كل ما فيه ضرر يسمى شرًا. فالضرر هو نقيض السلامة والأمان والمنفعة، وأما الشر فهو نقيض الخير والفضيلة والصلاح.

ويُعتبر كلًا من ترتوليان المتوفى سنة 230م، وأوريجين المتوفى سنة 254م، أهم اللاهوتيين المتقدمين الذي تحدثوا عن الشيطان، من حيث طبيعته وصفاته، وإسناد الأفعال والنيات التي تتلائم مع الشيطان، وعن جنوده، وعن أي درجة ومرتبطة شيطانية يصدر هذا العمل أو ذلك.  وقد كان ترتوليان هو أول من أقام تفريقًا بين الشر الصادر عن الشيطان، وذلك الشر الصادر عن الطبيعة البشرية.

وهذه الشرور إنما تصدر عن الطبيعة البشرية نتيجة لشهوة الطعام، ولذات الجسد، وفي مقدمتها اللذة الجنسية. وقد كان يمزج في ذلك المعارف الفلسفية بالدين. فكان يرى في تكوين الشيطان أنه من جسدٍ يلائم مقامه في الهواء المحيط بالأرض، وأنه يتغذى على الأبخرة والدم الخالص. وقد فرق كذلك بين الشيطان وبين الملاك الساقط، وهو نوع من الملائكة قد تحدث عنهم الكتاب المقدس، قد عشقوا بنات الناس فآثروا الزواج منهن، وفضلوا ملذات الجسد على الحياة الملائكية. وللشيطان سبيلان لغواية الإنسان أولهما الوسوسة والغواية من حيث لا يراه لطبيعته اللطيفة. التي هي طبيعة الهواء، فهو إذًا يجري في ابن آدم مجرى النَفَس.

أما الطريقة الثانية فهي في أن يستولي على الإنسان ويتخبطه بالأمراض والعلل والعاهات، وقد يسلط عليه الأوبئة والطاعون فيجهز على مدنٍ وقرى بأكملها ليُيئس  الناس من روح الله. ويجد ترتوليان أن للشيطان جنودٌ وأتباع من عبدة الأوثان، ومهمتهم هي انتزاع أبناء آدم من سلطان السماء، وحرفهم عن العقيدة الصالحة إلى ما يشبهها من الشعائر المسيحية التي يختلط فيها الحق بالباطل ليطمسوا بذلك سبيل الحق بما يشبهه من سبل الضلال.  وأما أورجين فهو يجد ان التمييز بين فعل الخير وفعل الشر من المعارف الفطرية المغروسة في كل عاقل، ولا يستثني من ذلك إبليس وشياطينه. فإنهم لم يُخلقوا منحرفين ضالين، إنما قد ضلوا لما في داخلهم من كبرياء وحسد وتمرد، ولابد لهذا الزيغ والضلال من نهاية.

ومن حيث أن أوراجين قد تأثر بالفلسفة الرواقية التي تقول بأن للكون دورات تبتدئ وتنتهي إلى مالا نهاية، فالخلائق جميعهم سيتطهرون بالنار. فيبطل الباطل، ويموت الموت، الذي لم يكن له لأن يوجد لولا وقوع آدم في الخطيئة. ويستحيل أن يبقى الشيطان على شره بعد تطهيره وإزالة شوائب الشر منه.

ويستدرك العقاد بأن هذه التفاصيل الدقيقة حول «الشيطانيات» التي ظهرت في القرن الثالث الميلادي، والتي تناولت أدق الجزئيات عن عالم الغيب. كانت من أهم عوامل بقاء المسيحية وتفشي الإيمان بها. إذ انها جعلت من عالم الغيب مروضًا مألوفًا، كعالم الشهادة. إذ قامت هذه التفاصيل بسد الفراغ المعتم بين العالمين .

وقد ظهر إذ ذاك مذهب المعرفيين القائلين بأن المعرفة تنتج عن الخبرة، وذهبت طائفة منهم لإجازة عبادة الشيطان والقيام بكل ما يغوي به من هتك المحرمات لأجل معرفة الشر. وقد أطلقوا على ذلك (معرفة النور من طريق معرفة الظلام).

ويُعد توما الاكويني أحد أبرز المحطات التي وقف عليها تصور الشيطان. بل هو أحد أبرز محطات الفكر المسيحي بأكلمه .  إذ أن الإكويني هو أشهر من حاول عقلنة الإيمان فلسفيًا في الدين المسيحي.

وكان محور فلسفته قائم على حرية الإرادة التي يمتلكها المخلوق العاقل، وأولهم وأولاهم الشيطان. لأنه كان في المنزلة العليا من المخلوقات العلوية. وكانت قدرته على النجاة أعظم من قدرة الآخرين، إلا أن عظمة منزلته قد أغوته، فطمح لمساواة الله. فهوى من عليائه وهوى معه تابعوه. وقد كان يسمي الشيطاين بالكائنات العقلية أو الذهنية، تمييزًا بينهم وبين الكائنات ذات الطبيعة الحيوانية، وأما فيما يتعلق بقدرة الشيطان على إحداث الضرر، فلم ينفها كل النفي، وإنما هوّن من أمرها وحصرها في الخداع والتأثير على الظواهر  من دون المساس بجوهر المواد. وأن ما يسميه أتباع الشيطان بالمعجزات فما هي إلا ضربٌ من خداع البصر والحواس وتخييل على الناس .

وجدير بالذكر أن الكنيسة الرومانية لم تكن لترفع أحدًا لمنزلة القديسين قبل أن تتأكد من نزاهته من العيوب التي تنقض القداسة، وإنها كانت تعهد بأمر المترشح للقداس لوكيل بالخصومة، عليمٌ بكل ما ينسب لهذا الرجل من نقائض القداسة . ويحاول أن يثبتها عليه ما استطاع لذلك. ويسمى الراهب المناط به هذا العمل بـ «محامي الشيطان» .

وهذا إن دل فإنما يدل على أن الناس يخلقون شيطانهم بمحض إختيارهم، لإستجلاء الخير. ولا يصح بعد ذلك أن يُقال بأن الشيطان محض خيال من اختلاق الدجالين ! وإن لمتتبع خيوط التاريخ الشيطاني أن يتسائل عن السبب الذي أدى لتضخم وتوسع الحديث عن الشيطان في الديانة المسيحية دون سواها ممن سبقها أو لحقها من الاديان الكتابية . وإجابة هذا السؤال تكمن في معرفة جوهر اللاهوت المسيحي . فصياغة اللاهوت المسيحي تجعل من تضخيم الشيطان ضرورةً لا مناص منها للإيمان بالإله وللإيمان بالدين على الطريقة المسيحية.

فعلة وجود الحياة على الأرض وعلة الموت تبعًا لذلك هي الخطيئة التي أغوت آدم فأخرجته من الجنة، ولولا غواية الشيطان لآدم لما أكل من الثمرة، ولو أنه لم يأكل من الثمرة لما أخرج من الجنة إلى الأرض، ولو أنه لم يخرج من الجنة إلى الأرض لما تعرض هو وبنيه إلى كل صنوف البلاء وفي مقدمتها وأفدحها هو الموت.

فالإنسان يولد وهو حامل لخطيئة تسبب بها الشيطان، وما يدل على حمله للخطيئة هو أنه يفنى ويموت .  وإن أمر هذه الخطيئة جلل لا يمكن للإنسان أن يدفعه بأي شكل من الأشكال. لذا كان لابد للرب من أن يضحي بابنه كنوع من الفداء ليطهر أبناء آدم من خطيئتهم .  فصار قوام الخلاص هو الإيمان بهذا الفداء .  لذا فإن الخطيئة التي لم يغسلها شيء إلا دماء ابن الرب، لا يمكن أن يكون فاعلها عديم الحيلة حقير المنزلة ذو كيد ضعيف ! .

الشيطان في الإسلام:

كان الشيطان في اليهودية عامل مستغنًى عنه، قد يقوم غيره بعمله. وأما في المسيحية فله دورٌ عامل وفعّال وداخل في منظومة الوجود ككل .

أما في الإسلام فنجده يزيل عنه تلك الصلاحيات المتضخمة بشكل كبير ويسحب البساط من تحت رجليه ليعود مهمشًا.  فدوره فضولي، يختلس ويراوغ، ويخدع ويخذل أنصاره . فإن كان الشيطان في اليهودية نكرة حقيرًا بلا وزن، وأن الشر قائم به أو من دونه. وإن كان الشيطان في المسيحية عزيزًا متجبرا خطيرا، فقوام الخلق وسيرتهم هو في السجال بين الخطيئة والكفارة. فهو في الإسلام قد جاء بصورة مُعالجة معدلة، متخففًا من هذه الهيمنة. فلا يوجد في الإسلام مفهوم الخطيئة الأصلية المتوارثة. كما أن شوكة الشيطان لا تحمي أحدًا ولا توقع الضرر بأحد. وفي ذكر قصة آدم وحواء، فإن القرآن كان يحمّلهما المسؤولية الكاملة على ما اقترفاه.

وفي الإسلام فإن الغواية بالشر ليست موكولة بشكلٍ كامل لعامل خفي من شياطين الجن، بل إن هناك ما يوازيها من الأثر والضرر من شياطين الإنس . وليس السحر في القرآن إلا خداع الحواس (لقالوا إنما سُكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون)، (يُخيل إليه من سحرهم)، (فلما ألقوا سحروا أعين الناس) . وعلى طول ذكر القرآن للجن والشياطين وعرضه، فإنه لم يعفي الإنسان قط من تحمل تبعة أعماله، فالإنسان حر مختار مسؤول عما يعمل.

ويجد العقاد أن القرآن قد كرر الحديث عن قصة الشجرة بمعنى لا يطابق القصة التوراتية . فباستقراء آيات القرآن يتبين أن الثمرة المقصودة لم تكن ثمرة المعرفة، بل كانت ثمرة التكليف (إنّا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا). وأما خروج آدم من الجنة أو «نزوله» فليس فيه شيء من (السقوط) الوراد في العهود القديمة، وليس فيه ما يدل على تحوله من كائن علوي إلى كائن طيني.  بل يأتي دالاً على تبدل الحال من حال البراءة والدعة، إلى حال التكليف والكلفة.

والخلاصة أن الإسلام خطى بفلسفة الشر خطوتين كبيرتين ، أولها التأكيد على وحدة الإرادة الإلهية في الكون. وثانيها ملازمة تحمل العامل لتبعة أعماله، فالعامل إن أخطأ فبإرادته المحضة، وإن تاب وأناب فبإرادته كذلك، وإن اختار الزيغ والضلال فله ذلك أيضًا. من دون أن يكون ثمة واسطة بين العامل وضميره وبين ربه . فليست الخطيئة في الإسلام أصلًا كونيًا يعاند الإرادة الإلهية بإرادة أخرى مقابلة. وليست الخطيئة ناشئة عن صراع وعناد بين أقطاب الوجود. لكنها اختلاس وتقصير، علاجها الهداية والتوبة.

عبادة الشيطان:

يصعب التأريخ الدقيق أو تتبع الخيوط التي أدت لتشكيل هذه النحل التي نشأت مقدسة للشيطان. إذ أنها جمعت بين عاملين من شأنهما أن يعيقا عمل أي باحث أو دارس موضوعي.

أولًا شذوذها في جميع أطوارها، فمنابع أصولها خليط من الهندية والمجوسية والشامانية وأديان الحضارات الأولى والأديان الكتابية.

ثانيا من ناحية سرانيتها الشديدة المبالغ فيها. رغم امتداد وجودهم من آسيا إلى أوروبا إلى أفريقيا. لذا يصعب الوقوف عليها على قولٍ جازم. ولكن إن جاز إعمال الإفتراض والتخمين المستند إلى القرائن التاريخية. فيمكن القول أنها جاءت كفرع من الزرادشتية التي تؤمن بأن طبيعة الحرب بين إله النور وإله الظلام هي حرب سجال، يسود فيها هذا الطرف فيتقهقر الآخر وتكون له الغلبة والسيادة إلى أن يعود الطرف المنهزم فيكر ّعلى المنتصر فيهزمه ويتراجع الآخر وهكذا .

وفي السهوب المقفرة من أرض فارس تأصلت الشامانية التي لا تفرق بين الكهانة والسحر، والتي تؤمن بأن الأرواح طيبة في حين، شرسة شريرة في حين آخر. ولما ظهرت المسيحية كانت هاتين العقيدتين في أوج ازدهارهما. وقد نشطت مع السيحية عقيدة (مترا) بطل النور الذي استشهد في حربه مع إله الظلام، ووعد عباده بالعودة، وهو إن عاد فسيعود ضافرًا منتصرًا متمكنًا من أمر الأرض والسماء ما دامت الأرض والسماء. وقد انهزمت المترية ودُحرت أمام المسيحية، لكنها لم تتمكن من اقتلاع الثنوية من جذورها، ولم تكن المسيحة، كما تقدم، تنفي سلطان الشر وغلبته على هذا العالم.  وفي خضم ذلك ظهر في بلاد فارس «ماني» وقد كان صاحب مشروع لإصلاح الديانة المجوسية، وكان يهدف لتقريب مذهب المعرفيين إلى المجوسية والمسيحية. وقد كان لماني إسهامات جمة في الثقافة الفارسية، كتيسير الكتابة بالآرامية، وتنقيح أوزان الشعر والأناشيد الدينية المقدسة. إلا أن «ماني» سُجن بأيام الدولة الساسانية ومات بالسجن وإليه صارت تُنسب «المانوية». وقد أطلق السلطان الساساني على أتباع «ماني» مسمى زنده کَرْد أي المنافق مُبطن الإلحاد. وهي ذات اللفظة التي نقلت للغة العربية فصارت «الزنادقة».

وخلاصة مذهب ماني في الخلق، أن رب النور خلق آدمًا سماويًا من مزيجٍ من الطبيعة الملائكية العلوية، والحيوانية الأرضية. وقد أرسله للأرض ليقاتل إله الظلام. ولما كان آدم هذا سليم القلب صافي السريرة،  ولما كان غريمه خبيثًا ماكرًا خبيرًا بأساليب المكر، خبير بأساليب المكر والخديعة، وقع آدم أو (جايومارث) في أسر إله الظلام، فلم يجد رب النور من بدٍ لأن ينزل إلى الأرض ويرفعه إليه. وبذلك أنقذه ورفعه إلى الشمس.  وعندما كان آدم أسيرًا لدى إله الظلام، تعرّف إله الظلام على تركيبة آدم ووقع على سر آدميته العليا. فصنع إله الظلام آدما على مثيله يمتزج فيه الخير والشر، ويختلط فيه الروح بالجسد، وينزع للطهارة حينًا وللدناسة حينًا آخر. فبقي هذا الآدم حائرًا في طبيعته المتناقضة لا يعرف من أمره شيء، فأرسل له إله النور مسيحًا يخلصه . فقال آدم «ويل لمن خلق جسدي، وأسر روحي» ولما غدرت به حواء أُخذت إلى الجحيم هي وأبناؤها من أحفاد الشيطاين . وقد سرى هذا المذهب سريانا كبيرًا في الهند والصين وأفريقيا وآسيا الصغرى، وسرى معه الاعتقاد بأن الشيطان هو خالق الطبيعة البشرية .

ومع سريان هذه النحلة في آسيا وأوروبا الشرقية، وفدت المسيحية لاحقًا ليختلط بعضهما ببعض، فأصبح أهل هذه الرقعة يعتقدون بالمسيحية، مع إيمانهم بالسحرة والشياطين. معتقدين أن إله المسيح قد ترك الأرض للشياطين. فلا حيلة بقيت للإنسان إلا أن يترضاه ويتزلف إليه . ولم يعرف أهل هذه الأقاليم المسيحية إلا مع القرن الثاني عشر . وفي عصور الظلام تفشت النحل الشيطانية في طول القارة الأوروبية وعرضها، اتفقت جميعها على اتخاذ العمل السري أسلوبًا في الدعوة. ولكل منهم مسوّغٌ يسوّغُ به عقيدته، ولكلٍ منهم اسلوبه في التقرّب إلى الشيطان. ويحلل هذه الظاهرة «رودس» صاحب كتاب (القداس الشيطاني) بعد أن نقل بعض الصور لطقوسهم في فرنسا، استنتج بأن تلك النحل تزامنت مع الثورة الاجتماعية، وإن شئت فقل أنها صورة من صور الثورة الإجتماعية .

إذ كانت طقوس عبادة الشيطان، وأشهرها طقس «القُداس الأسود» بمثابة التعبير السلوكي للتمرد على الإيمان الديني. فقد كانوا يسمون الشيطان في هذا القداس برئيس العبيد، وكان يأخذ دور الكاهن فتاة عارية تبالغ بالرقص حتى تصاب بالدوار. فيتصدى الرجال للعبادة وإنشاد التراتيل متجهين بصلواتهم إلى تلك الفتاة معتبرين إياها محرابًا للمعبود .

وخلاصة الكلام أنه لم يثبت وجود طائفة قد عبدت الشيطان قط. بمعنى العبادة والإعتقاد به إلهًا مستحقًا منزهًا محبوبًا . إنما هي جميعًا تجد في عبادتها للشيطان نوع من أنواع الترضية والتزلف وإتقاء الشرور. فليس لديهم جميعًا مفهوم الرضى بالقضاء، ولا يدور بخلدهم مفهوم الفداء في سبيل الشيطان، ولا الصبر والإحتساب. والتي هي جميعًا من خصائص الإيمان بالإله.

التحالف مع الشيطان: السحر فلسفيًا وأنثروبولوجيًا:

تم التلخيص بتصرف :-

يعتبر السحر واحد من أكثر المواضيع التي تثير شهية الباحثين في الميثولوجيا والأنثروبلوجيا، وهو من أقدم الظواهر في الثقافة البشرية على الإطلاق. وهو من أكثر الظواهر تعقيدًا وتشابكًا واتساعًا من حيث أفقها الدلالي.

ولا شك أن الحديث حول السحر داخل كل الدخالة بالحديث عن الشيطان، فالساحر يأتي في المرتبة الثانية من حيث تعظيمه وارتباطه بالشيطان بعد عبّاده. لذا كان من اللازم لاستيفاء البحث أن يتحدث العقاد عن موضوع السحر ولو بالاقتصار على رسم خطوطه العريضة .

قد يعتقد من ينظر لأعمال السحرة والمشعوذين من بعيد، أو يمر عليها مرورًا عابرًا، أو يكتفي بالصورة النمطية حول السحرة والمشعوذين، بأنها ليست إلا ضرباً من ضروب الشطط والهذيان. بينما السحر عند من يدرسه دراسة انثروبلوجية سيجده أبعد ما يكون عن ذلك، وأعمق غورًا مما يبدو عليه بكثير.

بل أن التعرف على (فلسفة) السحر إن صحت التسمية، ستكون صالحة لاعتبارها دليلًا مضافًا على وحدة الأنماط أو النماذج أو البرادايمات التي يفرزها العقل البشري في التعامل مع الوجود، وهي لا تختلف بين بدائي يعيش في عمق الأدغال، أو بدوي يكابد الصحراء، أو أستاذ جامعي يضارع العلم في مراكز الأبحاث العريقة. وأن الخلاف بينهم يكمن في جودة المعطيات لا في جودة طريقة المعالجة .

فمنذ فيثاغورس كان الإنسان يحاول أن يصل إلى اللبُنة الأساسية المتحكّمة بالكون. التي ما إن يصل إليها، ويستوعب منطقها، فإنه سيتمكن من التحكم بالكون بأكلمه . فاقترح فيثاغورس بأنه العدد، فمن يسيطر على العدد سيسيطر على الكون، وقد كانت المعرفة بالأعداد تعدّ من المعارف السرية لدى الفيثاغوريين. وهي فكرة لها ثقلها المعتبر إلى هذا اليوم لدى طائفة من علماء الفيزياء الرياضية الذين يفترضون أن كل المعطيات الرياضية حول الكون هي معطيات أنطلوجية لها وجود في الواقع.واقترح أفلاطون فكرة (الجدل النازل) الذي يقوم على فكرة مفادها  أنه بإمكانك أن تتعرف على أي شيء عبر سلسلة من تساؤلات تكون إجاباتها محصورة على قسمة ثنائية، وإن ذلك سيكفل لك الوصول لمعرفة أي شيء.

ويمكن أن نسير بهذه الفكرة خطوة إلى الأمام، ونقول أننا إن أمسكنا بتلابيب هذه السلسلة وتعرفنا على جميع أطرافها فبإمكاننا إذًا أن نتحكم بأي شيء . ويعد هذ الاقتراح الأفلاطوني هو المؤسسس لعصر الثورة المعلوماتية التي تقترح أنك إذا ما تمكنت من الوصول لخوارزمية أي شيء فقد سيطرت عليه.وأن كل شيء يمكن إختزاله رقميًا وفق خوارزمية بلغة (0) و (1) . تتسلسل في تساؤلات تتمحور في أن الشيء موضوع السؤال إما أن يكون كذا أو ليس كذلك.

واقترح ديموقريتوس بأنه الأتوم (الجزء الذي لا يتجزأ) أو الذرة. أما في الفيزياء الكمومية فلا يزال الطموح يداعب العلماء للوصول إلى نظرية M التي تفسر كل شيء حول الكون. وقد قال ستيفن هوكينج حول هذه المعادلة (إن توصلنا إليها فقد توصلنا إلى عقل الله)، أي إلى الطريقة التي يعمل بها الوجود . وفي الدين فإن هناك طائفة لا يستهان بها من المتدينين ممن يؤمنون بوجود الاسم الأعظم، الذي يمنح العارف به سلطانًا على كل شيء.

وطائفة أخرى لا يستهان بها تؤمن بحق الولاية التكوينية لفئة مخصوصة من البشر، أي أن لهم امتيازًا منحهم السر للتصرف بكل شيء. وتبقى هذه الفكرة واحدة وتجلياتها لا حصر لها بين الناس، وكل ذلك نابع من ملكة الترميز والتجريد والتشخيص الذي يتمتع به العقل البشري. وليست فلسفة السحر بالشاذة أو الشاطحة عن هذه الفكرة، إلا أنها حاولت التوصل إليها بطريقتها الخاصة، والتي هي بلا شك طريقة شاطحة. فالسحر هي كلمات يعرفها الساحر، أو أعداد يوفّق بينها لتلقي بأثرها على الوجود فيتحكم فيه كيفما شاء. إذ أن هذه الكلمة أو ذلك العدد لابد أن يلقي بأثره على روح من الأرواح فيمتثل لها ويحدث أثرًا لذلك. وفي اعتقاد السحرة ألّا فرق بين الساحر وبين غيره إلا المعرفة، فالساحر يعرف الكلمة، أو يعلم بسبل التوفيق بين الأعداد، أما الإنسان البسيط فلا يعرف، ولو عرفها لأمتثل له الوجود تمامًا كما يمتثل لذلك الساحر.  لذا فإن تعلم السحر يتميز دائمًا بالسرية الشديدة والفحص والتمحيص الشديد بين المعلم وتلميذه ليتأكد المعلم من استحقاق التلميذ لنيل هذه المعرفة من عدمه.  ومع ظهور «التخصصية» إن جاز التعبير، انشق السحر إلى نوعين السحر «الأبيض»، والسحر «الأسود»، أو سحر الحكماء، وسحر الكذبة «الدجل». وقد يُطلق على سحر الحكماء أحيانًا بسحر المجوس ومنه اشتقلت الكلمة الانجليزية ماجك (Magic)، وأما الآخر فيسمى بـ صناعة الساحرة «Witchcraft»، وأما سبب نسبته إلى الأنثى، هو أن الأنثى في العرف الاجتماعي هي أداة الغواية الشيطانية، وهي عون الشيطان في المكيدة. إذ كانوا يخلطون بين فتنة المرأة بفعل الغواية الجنسية، وبين وسوسة الشيطان، فكانوا يحسبون أن المرأة من أحد أحابيل الشيطان التي يتخذها لخدمة أغراضه . وكما أن الغرض بين هذين السحرين مختلف، فإن أدواتهما ووسائلهما مختلفة أيضًا. فسحر المعرفة والحكمة له أدواته من رصد الكواكب ،ورياضة النفس وتطهيريها ، وتُستحضر في طقوسه الروائح الزكية من طيب وبخور. أما السحر الخبيث «السحر الشيطاني» فإنه يتوسل بالأغراض الخبيثة بما هو خبيث ومدنس، وبابتذال المقدسات، ويتقرب أصحابه للشيطان بإحلال الدعوات والصلوات محل الدعة والهوان ويتعمد أصحابه بالإمعان في التبشيع، بل أن بعض القبائل لا تقبل أن يتبوأ مكان الساحر إلا أكثرهم قبحًا وتشوها، كما أنه يحاول أن يخدم أغراضه بكل ما هو مستقذر كاستخدام النجاسات والتوضوء بها .

الشيطان في الأدب والفن:

يمكن تناول الحديث عن علاقة الشيطان بالفن والأدب من جهتين :

الأولى من جهة الظاهرة التي تفشت في تاريخ الثقافات البشرية جميعها.

من أن أصحاب ملكة الفن والأدب وسائر الجماليات كثيرًا ما يربطون سر تلك الملكة بالشيطان. حتى أصبح لفظ لا يراد به إلا الكناية عن الإتقان والبراعة والإستحواذ.

وقد قال أبو العلاء المعري عن ذلك :

وقد كان أرباب الفصاحة كلما رأوا حسنًا ظنوه من صنع الجن.

لذا فقد جرى العرف بين العرب لنسبة التفوق إلى العبقرية، وهو على أشهر الأقوال نسبة إلى وادي عبقر الذي تسكنه الجن . وقد كان تصور العرب عن سكان عبقر أنهم يمتازون بالحسن  والجمال لذا قال الأعشى: كهولًا وشبانًا كجنة عبقر.

وهذا غير بعيد عما كان يعتقد به اليونان عن ربات الجمال .وقد كان الشاعر من العرب يصطنع المساجلة الشعرية بينه وبين شيطانه ويتباها بأنه تمكن من مجاراة الشيطان في تلك القصيدة . وقد أوغل مخيال الشعراء فتواضعوا فيما بينهم على أسماء مخصوصة لشياطين الشعر، فصار ثمة شياطين للأشعار الجيدة، وثمة شياطين آخرين للأشعار الرديئة. ومن نافلة القول أن أهل الطرب عملوا على مجاراة الشعراء في ذلك. فصار المطرب الذي يأتي باللحن الذي يأخذ بألباب الناس يدّعي بأنه جاء به من وحي شيطاني. ويروى عن المطرب العراقي الشهير إسحاق بن إبراهيم الموصلي بأنه قد أتى بلحن اهتز له طربًا كل من سمعه . فقال إنما هو وحي من أبي مُرّة. واخترع لأجل ذلك قصة مفصلة يروي فيها ما جرى بينه وبين إبليس . والأمر بالمثل في الثقافة الغربية، فهم يطلقون على العبقري مسمى جينيس (Ginius)، وهو يعني حرفيًا «صاحب الجن».

وأما الجهة الثانية من الحديث فهو عن تجليات الشيطان في الأعمال الفنية والأدبية. فقد مر الكلام فيما سبق عن الدور المحوري الذي لعبه الشيطان في المسيحية، كذلك يجدر القول بأن الثقافة المسيحية قد اعتنت بشدة بالفنون البصرية من رسوم وتماثيل، وقد كان للشيطان بطبيعة الحال نصيبٌ وافر من خيال الرسامين والنحاتين. وقد كانت الرؤى والأحلام من أهم الأسانيد التي اتكأ عليها الفنانون في الوصول إلى صورة الشيطان. فهو يظهر مثلًا على شكل التنين، إلا أنه يظهر برأس إنسان ذي قرنين، وينوب عن القرنين أذنين صاعدتين. وكان كلما تقدم اللاهوت في دراسة الشيطان، كلما كان الشيطان يأخذ صورة أكثر «بشرية» إذ يظهر كإنسان خبيث الطلعة، وقد احتفظوا في تصويرهم للشيطان بإظهاره بظلف مشقوق، مستعينين بصورة «ساتير» اليوناني، المتهالك على الشهوات ومعاقرة الخمور.

وقد زعم البعض في القرن التاسع عشر بأن الشيطان لم يتكلم بلسان الحية، بل تكلم بلسان رجل زنجي أسود. واستدلوا بذلك على اللوحات التي صورت الشيطان في العصور الوسطى وهو مصطبغ بالسواد. وأما الشاعر الفارسي سعدي الشيرازي، فقد رأى الشيطان في أحد المنامات على صورة رجل فارع جميل أحور العينين .حتى أنه لم يخفي استغرابه من أن يكون الشيطان البغيض الرجيم بهذه الوسامة والجمال. ولما سأله عن ذلك التفت إليه بطلعته التي يملؤها الكبرياء وقال « لا تصدق يا صاح أن ذلك القبيح مثلي، فإن أولئك الذين يمثلوني على هذه الصورة لما سلبتهم السماء، سلبوني الجمال.» ثم أخذ العقاد يسهب بذكر الأعمال الأدبية التي تناولت الشيطان من آداب الغرب والعرب.

ومن أبرزها قصيدة الشاعر ملتون، التي وجد النقاد أن ملتون في هذه القصيدة وبالرغم ما تحمل في ثناياها من لعن وذم للشيطان، إلا أنه عندما يسرد حجج الشيطان فإنه يظهر إعجابًا يتكلف إخفاءه، وما ذلك اللعن والذم إلا تقية يتقيها .وهذا يتفق مع سيكولوجية ملتون الذي كان ذو طبيعة ثورية. ويلقي ملتون على لسان الشيطان تحسره على الملائكة الذين حاربوا في صف الإله ضده، وهو الذي ثار لأجلهم وغضب لهم، وأنف من المهانة التي تلحقهم بتفضيل آدم عليهم. وأبرز شيطان «أدبي» بعد شيطان ملتون هو شيطان فاوست للأديب الألماني جوته.

وأما في الأدب العربي فأخذ العقاد بسرد العديد من الاعمال التي عاصرها والتي تناولت موضوع الشيطان ولعل أبرزها هي قصة «الشهيد» لتوفيق الحكيم، والتي لعلها تصلح في ذات الوقت أن تكون ملخصة لأطروحة هذا الكتاب. فهي تجد أن الشيطان كان ضرورة فلسفية وأخلاقية لا يمكن الإستغناء عنها ولا تجاوزها. ومفادها أن إبليس اجتمع بأقطاب الأديان الإبراهيمية من مسيح ويهود ومسلمين، وفاوضهم في أمر توبته ونوبته. مظهرًا استغناءه عما يقوم به من المكيدة والشر، مبينا لهم ندمه على ما فات وحسرته على ما اقترفت يداه . فأما راهب اليهود فيحتج ويمتعض، بأن أمته لم تكن الشعب المختار لولا أن أضل الشيطان سواهم من الأمم .وأما الراهب المسيحي فيعتذر عن قبول التوبة أشد الإعتذار، وإلا بأي شيء يتم خلاص الإنسان؟! وما معنى قبول «الفداء» إن كان ركن الخطيئة فيها قد تاب وأناب؟! وأما المسلم فيستعيذ بالله ويقول لا أملك أن أعطيك حق العفو، وأنا الذي أمرت أن أستعيذ منك في كافة ما أقوم به.

وهنا يبكي الشيطان وتسقط دموعه كالنيازك ويصيح «أنا الشهيد….أنا الشهيد» .

تم.