مجلة حكمة
الجهل

حكمة الجهل: دانيال سيلفرمنتز يسعي إلى إعادة اكتشاف فضيلة الجهل السقراطية / ترجمة: مؤمن محمود


من الممكن أن يكون الجهل نعيما، ولكن لا يعني ذلك الاحتفاء بالحماقة. ليس الجهل بالعذر المقبول ابداً خاصة في أيامنا هذه، حيث إن أي شخص لديه تساؤل بإمكانه أن يبحث ببساطة في “جوجل“ عن إجابة. ما هو قدر ما نتوقعه من الخبراء حين يكون طفل في المدرسة بإمكانه الاطلاع على غالبية مخزون المعرفة الإنسانية؟ حتى في عصر الجوائز المتشاركة، سوف نندهش لو أن هيئة جوائز نوبل قررت اعطاء جائزة لمجموع من الباحثين بائت أبحاثهم بالفشل التام بغض النظر عن عدد السنوات التي قضاها الفريق في بحثه. ولكن الأمر يبدو مختلفا في الفلسفة حيث يتم الاحتفاء بسقراط (399-470ق.م) بسبب عزم غريب قاده للشهرة “الشيء الوحيد الذي أعلمه هو أنني لا أعلم شيئا” إذا، لماذا يتم الاحتفاء بسقراط كواحد من أعظم مفكري الفلسفة في حين أنه يعترف بجهله التام؟

وبالطبع يجب علينا أن نبقي في أذهاننا أن جهل سقراط لم يمر مرور الكرام على معاصريه. لقد فزعوا من مباحثه الفلسفية فساقوه الى الموت. في خلال محاكمته أدلي بأنه ضحي لأجل السعي وراء الفلسفة بكل مسئولياته وانه يعزي فقره لنزاهته المهنية. كاليكليس، واحد من أقسي منتقدي سقراط، لم يتأثر بمحاولة سقراط الدفاع عن الحياة الفلسفية “عندما أري الفلسفة عند صبي صغير فأنني أقبلها” يبدأ كاليكليس قبل أن يكشف عن توبيخه “ولكن عندما أري كهلا لا يزال في طريقه مع الفلسفة ولم يتخلص منها، إنه هذا السيد سقراط، فأنني أظن أنه في حاجة الى أن يجلد”(. (Plato, Gorgias 485c-d

برغم قلة الدارسين للفلسفة في أثينا، يبدو أن كل فرد في أثينا علم بشأن سقراط. عندما أراد ارسطوفانيس كاتب المهازل أن يهجو التفكير العملي في مسرحيته “السحاب”, صور سقراط كأستاذ شارد الذهن يجري تجارب منافية للعقل حيث يروي تلاميذه ان أستاذهم كان يحاول أن يستبين ما ان كانت البعوضة تطن بأذنها أم بشرجها. تبدأ المسرحية بالقروي الساذج “ستربسياديس” يحاول أن يقنع أبنه “فيدبيديس” الذي لا يبرع في أي شيء أنه من الأفضل له أن يلتحق بأكاديمية سقراط. “أنا أعرف هذا الشخص” يصيح فيدبيديس في قرف “هؤلاء المخادعون المراوغون أولاد الحرام! عديمو الإحساس حفاة القدمان الحمقى مثل سقراط وزميله، هذا الصبي شيرفون، أنهم حزمة من البؤس ولا شيء أخر”(clouds103)

يبدو أن سمعة سقراط قد امتدت أبعد من مقامه في أثينا. يحفظ افلاطون المواجهة بين سقراط والقائد العسكري الشاب الطموح “مينو”, المقيم في مدينة “ثيساليا” المجاورة حيث درس مع مثقفين مشهورين، من أبرزهم غورغايس السفسطائي، ويبدو أن مينو سعي لنصيحة سقراط في كيفية تمكنه من أن يحقق ما يطلق عليه الاغريق الـ“اريتي” areteالتي يمكن ترجمتها لـــالفضيلة او النجاح. “هل بإمكانك أن تخبرني يا سقراط؟” يتساءل مينو” إذا ما كانت الـ اريتي تُدرس أم تكتسب بالممارسة لا بالتعلم؟”(Plato, meno70a) وبدلا من أن يجيب سقراط على تساؤل القائد الشاب، جادل سقراط في أنه من الأفضل أن نُعرف النجاح قبل أن نستبين كيفية الحصول عليه. وبعيدا عن هذا، ان الشخص يجب أن يكون ذو خطة مختلفة قليلاً تعتمد على ان ما كان يكافح لأجل أن يكون مثل منشئ موقع امازون جيف بيزوث او ليكون كالأم تريزا. ويظهر من سؤال مينو انه كون فكرة جيدة بالفعل عما يعني النجاح حيث انه أكثر ارتباطا بالمال والقوة الرائعين منه بمساعدة الفقراء والمحتاجين. ولكن سقراط اعترف بأنه عديم الحجة بشأن هذا الموضوع “يجب على أن ألوم نفسي لجهلي التام بالفضيلة” (b71) صدم مينو بهذا الرد لاشتهار سقراط بالحكمة “ولكن هل هذا حقيقي” يرد مينو في غير تصديق “أنك حتى لا تعرف ماذا تعني الفضيلة؟ هل سنرجع لبيوتنا بمقالك هذا؟” (c71)

لم أثار اعتراف سقراط بجهله ازدراء مينو الأخلاقي؟ بالتأكيد أن مينو قد برر جهل سقراط نظرا لجملة المواضيع التي تشغله. ولكن الفرد يتوقع من كل شخص أن يكون علي علم بكيف يمكن أن تصبح “شخصاً جيداً”. حتى برتجوراس السفسطائي (420-490ق.م) -الي كان ذا سمعة سيئة بسبب تعزيزه للأفكار اللاأخلاقية بين تلاميذه- كان أكثر حكمة بشأن إعلان أفكاره للعامة “كل شخص-كما يقال- يجب أن يقر بأنه مستقيم سواء كان كذلك أم لا وإن الذي لا يدعي بعض الاستقامة مخبول”(Plato, protagoras323d) سقراط لا يقر فقط بجهله، بل انه يتعدى ذلك عندما يصر على انه لم يقابل أحداً قط يعرف معني الفضيلة وبالتالي فان سقراط لا ينبذ معاصريه فقط بل حضارته بأكملها. أن القصص عن الأبطال الخارقين كـأخيل1 لم تكن ترفيها أسراً فحسب بالنسبة للإغريق, لقد قدموا أمثلة للتكوين الثقافي للجيل القادم من رجال الدولة والمحاربين, ونعود لبرتجوراس مرة أخري الذي يذكر سقراط بضرورة إثراء معارفه, ذلك أن كل طفل يمكنه أن يعدد مأثر الرجال العظام في الأزمنة البائدة “الأطفال عندما يتعلمون الأدب يفتنون بأعمال الشعراء البديعين ويقرؤنها في فصولهم ويدرسونها بقلوبهم” يرد برتجوراس “وهنا يلتقون بكثير من النصح والأوصاف والاطراء والمدح لرجال الماضي العظام اذن كيف يقول أنه -سقراط- لا يعلم معني أن يكون المرء فاضلاً بينما هو, ككثير من أهل قريته, نشأ علي أعمال الشعراء؟” ثم نري كيف أن إعلان سقراط جهله أوقعه في كثير من المشاكل. برغم ثبوت انه كان يقيم الشعائر الإغريقية الدينية التقليدية، فان الاتهام الذي وجه له بواسطة المحكمة الأثينية كان انه يؤمن ايماناً غير قويم “إن سقراط أثم” يُقرأ الاتهام ” إنه يفسد الشباب ولا يؤمن بالألهة التي تؤمن بها الدولة ولكن بكائنات روحية أخري”(Plato, apology246-c) وجادل سقراط بأنه ليس فقط بعيد عن كونه ُمُدنِساً بل انه في مهمة كلفته بها الألهة. ويعطي دليلاً بانه قبل المحاكمة قالت كاهنة دلفي لصديقه شيرفون أن سقراط هو أحكم رجل في العالم. ثم يبين سقراط أنه كرس باقي حياته متفحصاً الأخرين ليري إن كان بإمكانه ان يري شخصا أكثر حكمة (سواء كان هذا بدافع تواضع او غرور في انكار ما قالته الألهة. لم يوضح) في النهاية، يؤيد سقراط الكاهنة ويعلن نفسه أحكم رجل في العالم، لأنه الرجل الذي يعترف بجهله “انا أحكم من هذا الرجل” يقول سقراط لواحد من سياسيي أثينا المحترمين “كلانا لا يعلم حقا أي شيء جيد او رائع، ولكن هذا الرجل يظن انه يعلم شيئاً بينما هو لا يعلم، أما أنا، أنا لا أعلم شيئا، ولا أظن اني أعلم.”(apology 21) كذلك ادعاء سقراط انه يقوم بمهمة كلفته بها الألهة لم يلق قبولاً حسناً من هيئة المحلفين، الذين كانوا أقل تأثراً بادعاء سقراط المتبجح انه لا يعلم شيئا، وتأثراً أقل بمحاولته اظهار الأخرين كحمقي. لقد وجدوه مذنباً ولكنهم أعطوه فرصة أخيرة ليفدي بها نفسه وهو اخبار المحكمة ما هو العقاب الملائم لجرائمه. وفي المشهد الأخير لإحتجاجه، أقترح سقراط أن يتم تكريمه لجهوده الثقافية بنفس الطريقة التي يكرم بها المتسابق الفائز في الألعاب الأوليمبية “وإلا ماذا يستحق رجل مثلي؟” يتساءل سقراط ساخطا “ليس هناك، أيها الأثينيون، أنسب من أن يُطعم هذا الرجل في البارثينون وهو أحق بهذا من هذا أو ذاك منكم ممن فازوا في الألعاب الأوليمبية على عربة يجرها جوادان”(apology 36d) لم تفاجأ هيئة المحلفين بالعقاب الذي أقترحه سقراط وساقوه الى الموت عن طريق شرب الشيكران2، وعلى كلاً لم يمر وقت طويل على موته حتى أدرك الأثينيون انهم أخطئوا في تجريم سقراط. والتاريخ أكمل مسيرة تبجيل أسم سقراط اللامع. ولكن يبقي السؤال لم يجب علينا أن نبجل شخصا يعترف بأنه جاهل؟ في محاورات أفلاطون نحن المستفيدون من بعض الألاف من الصفحات التي تحفظ، سواء كانت كثيرة او قليلة الدقة، محاورات سقراط مع معاصريه. ويعاود سقراط مرة بعد أخري إعلان أنه لا يعلم شيئا بشأن هذا الموضوع ومعاصريه يناقشونه. وفي قطعة استثنائية بين ألاف الصفحات التي حفظت واحدة من المناسبات القليلة التي يقر شيئا يقول انه يعلمه ويثق ثقة تامة في علمه إياه “يوجد فرق بين الرأي الصحيح والمعرفة. أنه ليس حدساً ولكنه إقرار مني على شيء أعلمه، وليس هناك أشياء كثيرة يمكنني أن أصفها نفس الوصف ولكن هذا الشيء، على أية حال، سوف أضعه ضمن الأشياء التي أعلمها”(meno 98b) سواء كان سقراط أخطأ نتيجة سذاجة أو اعتراض أأخلاقي، فأن إقراره بالجهل كان طريقه لإثارة الناس ليجعلهم يفكرون في الفرق بين الرأي (الذي-عادة- يمكن أن يكون مضللا) وبين الادعاء المثبت منطقيا. وفي قول أخر، سقراط كان لديه كثير من الأراء الجيدة لكنه كان مدركاً انها لا يمكنها أن تمثل قواعد الحكمة. برغم وجود فلاسفة سبقوه، سقراط هو الموجد الحقيقي للعرف الخاص بالفلسفة الغربية لأنه اول من بحث في الأمور الإنسانية بشكل علمي “سقراط هو أول من أنزل الفلسفة من السماء الى الأرض” يكتب رجل الدولة الروماني “شيشرون” ويقول عن الإنجاز البارز لسقراط “وأجبرها على أن تطرح أسئلة بشأن الحياة والأخلاق”(tusculan disputation 5.10-11)

لا يزال العديد من الناس يعدون الأخلاق مسألة رأي. في دراسة ُأجريت عام 2015 بواسطة فريق بارنا البحثي أظهرت أن %74 من جيل الألفية الثالثة أيدوا مقولة “أن أيا ما كان مناسباً لحياتك أو الذي له أفضل أثر على حياتك هو الحقيقة الوحيدة الموجودة” (“The End of Absolute: America’s New Moral Code”)

في المقابل آمن سقراط ايماناً قوياً أن أمور الإنسان تحكمها مبادئ مطلقة وفي الإمكان بحثها كباقي ضروب المعرفة. وبرغم تكريسه حياته كلها لتلك الدراسات وجب عليه أن يعي حدود معرفته. أن الأمر يشبه بحوث السرطان لن تتوقف حتى تجد علاجاً، فيجب علينا أيضاً أن نكمل العمل الذي بدأه سقراط، لا لشيء الا أن حياتنا تعتمد عليه. يكلف سقراط “واجب البحث حول ما لا نعرفه”  للأجيال القادمة وما نجده مذكوراً في محاورات مينو(b86) “سوف يجعلنا أفضل وأشجع وأقل عجزاً قياسا الى فكرة أنه ليس بمقدورنا أن نكتشف ما لا نعرفه”

المصدر


(1) أخيل Achilles في الأساطير اليونانية من أعظم المحاربين بجيش أجامنون في حرب طروادة. استطاع أن يحقق انتصارات باهرة في الحروب كما نجا من عدة معارك؛ الى أن أصيب يوما بسهم مسموم في عقبه، فمات على الفور ولذا سمي الوتر في عقب القدم بوتر أخيل Achilles tendon
(2) نبات سام
دانيال سيلفرمنز2020
دانيال سيلفرمنتز هو أستاذ مساعد في الفلسفة بجامعة هوستن كليرلاك كتابه حول مسألة الحركة السفسطائية، برتجوراس، أحداث القدماء. نشر بواسطة بلومبيري اكاديمك في 2016