مجلة حكمة
الجاحظ والترجمة

الجاحظ والترجمة – مريم سلامة كار / ترجمة: عبد الحق لمسالمي، مراجعة: مصطفى النحال


خلال العصر العباسي، استطاعت حركة الترجمة، المتمثلة أساسا في أعمال حنين بن إسحاق ومدرسته، أن تثير عدة تأملات حول الترجمة سواء من طرف التراجمة أنفسهم، وهم يواجهون معضلات الترجمة والصعوبات التي تعترض مهامهم، أو من طرف الملاحظين الخارجيين والجمهور المهتم، إلى حد ما، بحركة الترجمة التي تدفعهم إلى التفكير فيها.

وقد ارتأينا أن من الأهمية بمكان مقابلة ملاحظات حنين بن إسحاق عن عمله بصفته مترجما، وعن متطلبات الترجمة في تجلياتها كما بينها هو ومدرسته بطريقة براغماتية سواء من خلال متن رسالته أو في شكل ملاحظات تؤكد أهمية شرح النص والبحث عن المعنى المشابه ومعرفة الموضوع قصد إعادة بناء المحتوى، كما تركز على الأهمية المعطاة لمتلقي هذه الترجمات، بنص حول الترجمة من أحد أهم كتب الأدب العربي من تأليف أحد معاصري حنين، وهو الجاحظ (المتوفى سنة 868م). في كتاب الحيوان يقول الجاحظ: “ثم قال بعض من ينصر الشعر ويحوطه ويحتج له: إن الترجمان لا يؤدي أبدا ما قاله الحكيم، على خصائص معانيه، وحقائق مذاهبه، ودقائق اختصاراته، وخفيات حدوده، ولا يقدر أن يوفيها حقوقها، ويؤدي الأمانة فيها، ويقوم بما يلزم الوكيل ويجب على الجري، وكيف يقدر على أدائها وتسليم معانيها والإخبار عنها على حقها وصدقها. إلا أن يكون في العلم بمعانيها، واستعمال تصاريف ألفاظها، وتأويلات مخارجها، مثل مؤلف الكتاب وواضعه، فمتى كان رحمه الله تعالى ابن البطريق، وابن ناعمة، وابن قرة، وابن فهريز، وثيفيل، وابن وهيلي، وابن المقفع، مثل أرسطاطاليس؟! ومتى كان خالد مثل أفلاطون؟!

ولا بد للترجمان من أن يكون بيانه في نفس الترجمة، في وزن علمه في نفس المعرفة، وينبغي أن يكون أعلم الناس باللغة المنقولة والمنقول إليها، حتى يكون فيهما سواء وغاية، ومتى وجدناه أيضا قد تكلم بلسانين، علمنا أنه قد أدخل الضيم عليهما؛ لأن كل واحدة من اللغتين تجذب الأخرى وتأخذ منها، وتعترض عليها، وكيف يكون تمكن اللسان منهما مجتمعين فيه، كتمكنه إذا انفرد بالواحدة، وإنما له قوة واحدة، فإن تكلم بلغة واحدة استفرغت تلك القوة عليهما، وكذلك إن تكلم بأكثر من لغتين، على حساب ذلك تكون الترجمة لجميع اللغات. وكلما كان الباب من العلم أعسر وأضيق، والعلماء به أقل، كان أشد على المترجم، وأجدر أن يخطئ فيه. ولن تجد البتة مترجما يفي بواحد من هؤلاء العلماء.

هذا قولنا في كتب الهندسة، والتنجيم، والحساب، واللحون، فكيف لو كانت هذه الكتب كتب دين وإخبار عن الله -عزل وجل- بما يجوز عليه مما لا يجوز عليه، حتى يريد أن يتكلم على تصحيح المعاني في الطبائع، ويكون ذلك معقودا بالتوحيد، ويتكلم في وجوه الإخبار واحتمالاته للوجوه، ويكون ذلك متضمنا بما يجوز على الله تعالى، مما لا يجوز، وبما لا يجوز على الناس مما لا يجوز، وحتى يعلم مستقر العام والخاص، والمقابلات التي تلقى الأخبار العامية المخرج فيجعلها خاصية؛ وحتى يعرف من الخبر ما يخصه الخبر الذي هو أثر، مما يخصه الخبر الذي هو قرآن، وما يخصه العقل مما تخصه العادة أو الحال الرادة له عن العموم؛ وحتى يعرف ما يكون من الخبر صدقا أو كذبا، وما لا يجوز أن يسمى بصدق ولا كذب؛ وحتى يعرف اسم الصدق والكذب، وعلى كم معنى يشتمل ويجتمع، وعند فقد أي معنى ينقلب ذلك الاسم، وكذلك معرفة المحال من الصحيح، وأي شيء تأويل المحال، وهل يسمى المحال كذبا أم لا يجوز ذلك، وأي القولين أفحش: المحال أم الكذب، وفي أي موضع يكون المحال أفضع، والكذب أشنع؛ وحتى يعرف المثل والبديع، والوحي والكناية، وفصل ما بين الخطل والهدر. والمقصور والمبسوط والاختصار؛ وحتى يعرف أبنية الكلام، وعادات القوم، وأسباب تفاهمهم، والذي ذكرنا قليل من كثير. ومتى لم يعرف ذلك المترجم أخطأ في تأويل كلام الدين. والخطأ في الدين أضر من الخطأ في الرياضة والصناعة، والفلسفة والكيمياء، وفي بعض المعيشية التي يعيش بها بنو آدم.

وإذا كان المترجم الذي قد ترجم لا يكمل لذلك، أخطأ على قدر نقصانه من الكمال. وما علم المترجم بالدليل عن شبه الدليل؟ وما علمه بالأخبار النجومية؟ وما علمه بالحدود الخفية؟ وما علمه بإصلاح سقطات الكلام، وأسقاط الناسخين للكتب؟ وما علمه ببعض الخطرفة لبعض المقدمات؟ لا بد أن تكون اضطرارية، ولا بد أن تكون مرتبة، وكالخيط الممدود.وابن البطريق وابن قرة لا يفهمان هذا موصوفا منزلا، ومرتبا مفصلا، من معلم رفيق، ومن حاذق طب، فكيف بكتاب قد تداولته اللغات واختلاف الأقلام، وأجناس خطوط الملل والأمم؟!

ولو كان الحاذق بلسان اليونانيين يرمي إلى الحاذق بلسان العربية، ثم كان العربي مقصرا عن مقدار بلاغة اليوناني، لم يجد المعنى والناقل التقصير، ولم يجد اليوناني الذي لم يرض بمقدار بلاغته في لسان العربية بدا من الاغتفار والتجاوز، ثم يصير إلى ما يعرض من الآفات لأصناف الناسخين؛ وذلك أن نسخته لا يعدمها الخطأ، ثم ينسخ له من تلك النسخة من يزيده من الخطأ الذي يجده في النسخة، ثم لا ينقص منه، ثم يعارض بذلك من يترك ذلك المقدار من الخطأ على حاله، إذا كان ليس من طاقته إصلاح السقط الذي لا يجده في نسخته”(1).

يضع الجاحظ، في هذا المقطع، دون تساهل الشروط الضرورية للحصول على ترجمة يمكن أن نعتبرها مرضية(2)، كما يقدم ملاحظات وجيهة للغاية حول المظاهر التي نعتبرها لسانية والمتعلقة بالتمكن من اللغة أو من لغات العمل، كما يقدم ملاحظات بخصوص التداخلات اللغوية، ووجود المقابلات أو عدم وجودها بين اللغات-المصدر واللغات-الهدف.

ومما يزيد هذه التأملات والملاحظات أهمية، هو أن الجاحظ لم يكن يترجم بنفسه عن اليونانية، ولكنه كان يهتم بالترجمات العربية المنجزة ويستعملها باستمرار.

في البدء، يطرح مشكل المعرفة الخاصة بالمترجم في مستويين اثنين:

-مستوى معرفة الموضوع، إذ يتعين على المترجم أن يكون على دراية بحقائق مذهب الكاتب الذي يترجم له.

-ومستوى التمكن من لغة النص-المصدر، ومن دقائق الاختصار؛ ذلك أن الترجمة هي فن استعمال اللغة والأفكار. لكن، ما المقصود، فعلا، بالمعرفة التي ينبغي أن يتوفر عليها المترجم؟ هل هي معرفة فاعلة أم منفعلة؟

يتعين على المترجم، بالطبع، أن يكون قادرا على شرح عملية جراحية أو مرحلة من مراحل صنع شيء ما وإن لم يكن في مقدوره القيام بإحداهما. وإذا كان باستطاعة المترجم أن يتناول مواضيع تحتاج دراستها لسنوات وسنوات. فلأن بإمكانه الحصول على معرفة منفعلة تساعده على الفهم وتمكنه من استيعاب النص. من الواضح أن الجاحظ يدخل ضمن معرفة الموضوع إدراك المترجم لما يقصده الكاتب. وإذا كانت مهمة الأول تتمثل في تقليص المسافة الموجودة، بالضرورة، بين مقصدية الكاتب وبين ما يفهمه القارئ: هذان الوجهان للمعنى اللذان يوجدان، بمعنى من المعاني، في كل عملية تواصل حتى وإن كانت أحادية اللغة، ما دام كل تواصل يمكن اعتباره ترجمة(3).

يركز الجاحظ، كذلك، على ظاهرة التداخلات اللغوية بين اللغات. فكل لغة تأخذ من الأخرى، تتعارض أو تتجاذب معها. وهذه التداخلات لا تحدث دوما بسبب نقص معجمي في اللغة-الهدف، ولا بسبب إدراك سيء لمحتوى النص-المصدر، بقدر ما تكون نتيجة الانجذاب الشكلي للنص-المصدر.

ونلفي، بالفعل، مفهوم فساد اللغة العربية باتصالها بلغات أخرى في المصادر العربية بصفة مستمرة”(4). ومن جهة ثانية، فإن مرحلة الترجمات، وما نتج عنها من إغناء للغة، أو فساد في نظر المتشددين، تلتها حركة متشددة أريد من خلالها القيام بعملية فرز للمصطلحات العربية الصرف عن المصطلحات ذات الأصل الأجنبي. ويتجلى هذا الموقف المتشدد، مثلا، من خلال عملية تجميع اللغة التي قام بها ابن منظور في “لسان العرب” في القرن الثامن الهجري، والذي كان يرمي من ورائه التمييز بين الكلمات العربية الخالصة، كما هي في العربية الفصيحة أو النص المقدس، وبين المصطلحات الدخيلة(5). ويتعرض الجاحظ، في مؤلف آخر من مؤلفاته، لمفهوم فساد اللسان(6).

لا يمكن محاكمة التداخلات اللغوية عندما تكون لغتان في وضعية احتكاك دائم، ولهذا المشكل، الآن، راهنية ملفتة للنظر. بيد أن القلق الذي عبر عنه المتشددون والنحاة تجاه حماس التراجمة ومشجعي أعمالهم، لم يكن دائما بدون تبرير البتة. فإذا كانت حركة الترجمة والنقل العربيين قد نجحت في التغلب على المشاكل التي كانت تطرح على مستوى الشكل والمضمون، فإن المقابلات التي أعطيت لفعل “كان” الإغريقي مثلا لا تعكس نفس التجريد مع ذلك.

إن خطر التداخلات قليل، بصفة عامة، بين اللغات المتباعدة، ولا تعاني الترجمة نحو العربية، في الوقت الراهن، من هذا المشكل وذلك لكون صرفها ونحوها جد مختلفين عن لغات-مصدر كالفرنسية أو الإنجليزية اللتين لا تلعب جاذبيتهما اللغوية دورا حقيقيا، اللهم ربما فيما يتعلق برتبة الكلمات داخل الجملة، وببعض الانزلاقات الدلالية الناجمة عن الترجمة الاستنساخية.

ويمكن أن نستحضر، هنا، ذلك التطور الذي حصل على مستوى اللغة العربية، خصوصا فيما يتعلق برتبة الكلمات، والذي يعيد إنتاج رتبة كل من الإنجليزية أو الفرنسية (الفاعل متبوع بالفعل فالمفعول). ويلاحظ، ذلك، خصوصا في الصحافة المكتوبة حيث يدخل في الاعتبار عامل ثان يتجلى في التركيز على الفاعل وإبرازه. وبالفعل، فإذا كان توجه العربية هو أن تبدأ بالفعل، فإن الفاعل يرد، طبعا، في رأس الجملة عندما نريد التشديد عليه.

ويطرح مشكل التعدد اللغوي داخل بعض العشائر التي تتواجد بها عدة لغات دون أن تكون لإحداها هيمنة على الأخرى، وحيث يمكن أن تتضرر كلها بشكل متبادل. فليست لأية لغة الأولوية، إذ لكل واحدة منها، بمعنى من المعاني، مجال استعمالها الخاص. ويمكن أن نصف هذه الظاهرة بواسطة التعريف المعدل الذي أعطاه C.Thiery لظاهرة الازدواج اللغوي الصرف، وذلك حين اعتبر أن هذا التعدد، عندما لا يكون مستوعبا بشكل جيد، ولا يحظى بالرعاية الكافية، هو نتيجة كون فرد ما لا تقبله العشيرة اللغوية إلا بعد مجهودات متوالية ومنتظمة(7).

ويضيف الجاحظ، على مستوى اللغة، دائما، مشكلا آخر يعترض المترجم، والذي يمكننا، في إطار نظرية المعنى، أن ننعته بالمشكل المغلوط. ويتمثل في انعدام وجود تكافؤ بين اللغات التي يشتغل بها المترجم. ويطرح هذا المشكل حتى عندما لا تكون القدرة اللغوية للمترجم موضع شك، وبصفة خاصة حين كان الأمر يتعلق بنقل نسق فلسفي بكامله إلى العربية، كالفلسفة اليونانية بمعجمها الخاص وبمصطلحاتها التي لم تكن العربية، في البداية، تتوفر على مقابلات لها. وغالبا ما كان يتم اللجوء إلى النقل الحرفي في العربية، مع إجراء بعض التحويرات الصوتية التي تهدف إلى جعل المصطلحات اليونانية مقبولة ومستساغة من قبل الأذن العربية. وهذا بالفعل ما كان يقوم به المترجمون الأوائل كما أسلفنا. يمكننا القول إن عملية الترجمة من لغة غنية إلى أخرى فقيرة تبدو، أحيانا، أسهل من العملية المعكوسة نظرا إلى أن مشكل اختيار المصطلحات لا يكون مطروحا، فضلا عن أن مهارة المترجم تتدخل وتلعب دورها في هذا الاختيار.

إن مفهوم خطورة الخيانة تجاه لغة-مصدر أغنى، والتي عليها أن تغفر وتتجاوز حسب الجاحظ، يعبر عنه مونطين Montaigne في هذه التأملات الواردة في كتابه: ESSAIS

“والحال أن والدي عندما عثر صدفة، قبيل وفاته، على هذا الكتاب (اللاهوت الطبيعي) تحت حزمة من أوراق أخرى مهملة، طلب مني أن أنقله إلى الفرنسية قائلا: من الأفضل ترجمة المؤلفين الذين لا يملكون سوى المادة الفكرية التي ينبغي تمثلها. أما أولئك الذين يعتنون بجمالية وبأناقة اللغة، فمن الخطورة بمكان التعامل معهم، خصوصا عندما يتعلق الأمر بنقلهم إلى لغة أضعف [من لغتهم ]”(8).

تندرج ملاحظات الجاحظ حول تراتب اللغات في إطار سياق نقاش واسع يهم تفوق ثقافة ما على ثقافة أخرى، وبصفة خاصة تفوق ثقافة الإغريق. وكان هذا النقاش، بصفة أخص، محتدما في العراق باعتباره ملتقى للثقافات في تلك الحقبة التاريخية، وهو الذي يعبر عنه الجاحظ كما يعبر عنه كتاب متأخرون مثل التوحيدي في القرن العاشر(9).

I – الترجمة: معرفة اللغة والموضوع.

يضع الجاحظ، كشرط أول، المعرفة المتكافئة لدى الكاتب المترجم له ولدى المترجم، ويعبر عن ذلك بوضوح: “ولا بد للترجمان من أن يكون بيانه في نفس الترجمة، في وزن علمه في نفس المعرفة”. ومن جهة أخرى، ينبغي على المترجم أن يعرف كيف يتوارى خلف ترجمته، كيف يبقى وفيا للنص الأصلي دون أن يطبع الترجمة بطابعه. لكن، هل هناك ترجمة محايدة؟ ينبغي على المترجم، كي ينجز ترجمته، أن يقوم بتحليل النص الموجود بين يديه حتى يتسنى له إخراج المعنى المقصود نقله إلى اللغة الأخرى. وهذا الأمر يزداد صحة عندما يتعلق بالنصوص المسماة أدبية في مقابل النصوص الوظيفية التي لا تتوفر، في الحقيقة، على كاتب، والتي نظن أنه يصعب جدا على المترجم لها أن يكون “وفيا لحد الامحاء الكلي لشخصيته الفكرية المتفردة”(10). لا يمكن لأية ترجمة أن تكون موضوعية تماما، ذلك أن المترجم يتدخل فيها بالضرورة بوصفه مترجما. ويمكن، في هذا السياق أن نورد التعريف الذي أعطته سيليسكوفيتش، والذي مفاده أن الترجمة التحريرية/الترجمة الفورية، باعتبارهما نفس العملية لكن بطرائق مختلفة. هما نتاج لفكرين: فكر الكاتب/فكر الخطيب(11):

إن لنوعية الموضوع أهميتها، فكلما كان الموضوع صعب الإدراك، كلما أشكل النص المراد ترجمته على المترجم، وبالتالي تصعب ترجمته. وهذا يقتضي، بالضرورة، كفاءة لغوية أكبر. لقد كان الجاحظ على وعي تام بكون الترجمة ليست فقط مسألة لغات، وبكون المشاكل المطروحة ليست فقط ذات طبيعة شعرية أو أسلوبية، فالترجمة لا تقتصر على معرفة الكلمات.

تختلف صعوبة الترجمة، إذن، حسب الجاحظ تبعا لطبيعة النصوص المراد ترجمتها، ويضع تقابلا بين النصوص التقنية، أو الوظيفية حسب مصطلح جان دوليل(12)، وبين النصوص المقدسة التي تتصل بميدان واسع من التفسير، والتي تكون فيها أخطاء الترجمة أفدح وأخطر.

وينشغل الجاحظ بفهم النص المراد ترجمته، وباستيعاب المعنى انطلاقا من اللغة، وانطلاقا، أيضا، من كل ما يوجد خارج هذه المعاني والدلالات كالمضمون المحتمل الذي تحمله الكلمات، والذي يرتبط بحمولة معرفية لا يتوفر عليها المترجم بالضرورة. ونجد هذا التوكيد على معرفة أفكار الكاتب عند الناشر ابن سوار الذي يعلن أنه على المترجم، إذا أراد القيام بترجمة جيدة، أن لا يقتصر على فهم اللغة التي يترجم منها فحسب، بل أن يتمثل أفكارها مثلما عبر عنها صاحبها(13).

II – تحريف الكتابة:

إن تدخل النساخ، وتحريف الكتابة لا يمسان عملية الترجمة، على الرغم من إمكانية تعقيدهما الكبير لمهمة المترجمين، وكذا لمهمة التفسير. وهذه الظاهرة لها أهميتها، ويكفي التذكير باتهامات حنين بن إسحاق للمخطوطات المنحولة التي كان عليه أن يشتغل بها، أو بالتغييرات المقصودة أو غير المقصودة التي ألحقها النساخ بهذه الترجمات أو التي جاءت نتيجة إهمالهم(14). لم يعد هذا المشكل مطروحا في الوقت الراهن، ومع ذلك تبقى أفكار وتأملات الجاحظ جد وجيهة في وقت كان فيه النقد النصي [التحقيق ] عملية ضرورية سابقة على أي مشروع للترجمة. ومن المفيد أن نسجل هنا ذلك التوازي الذي أقيم بين ما يسببه للنص ناسخ مهمل أو ناسخ لا كفاءة له، وبين ما يضيفه مترجم دون مستوى ما يريد ترجمته إلى المعنى المقصود من طرف الكاتب. إنهما خيانتان متوازيتان بالنسبة للجاحظ… المترجم خائن!

ونورد، فيما يلي، احتجاجا لأندري جيد Gide ضد قرارات المراجعين لها دلالاتها بخصوص تحريف الكتابة (ينبغي، من جهة أخرى، الاطلاع على “رسالة إلى مطبعيين”(15).

“عندما علم أحد المراسلين الظرفاء أن دار النشر N.R.F كانت تنوي إعادة طبع تيفون، ارتأى أن ينبهني إلى بعض الأغلاط، وهذا جميل أنا مدين له به، لكن بعض هذه الأغلاط فاجأني. هل أنا الذي كتبت هذا؟ وبأية عشوائية؟ كان ذقن السيد Roux (هذا الشيخ المحنك) يتدلى على صدره الصغير، كما يمكننا قراءة ذلك في الطبعات الأخيرة. لجأت إلى الطبعات الأولى التي كنت أراجعها بنفسي، فتبين لي أن كلمة “صغير” لا وجود لها؛ لقد أضافها، دون علمي، مصححو المطبعة”(16).

يمكن القول، إجمالا، إن الاعتراضات والعراقيل التي أوردها الجاحظ تظل خارج عملية الترجمة، ومن الواضح أن غرض الكاتب تخفي وراءها الموقف التالي: محاكمته هذه للترجمة، والمتطلبات التي يشترطها للترجمة -كالتمكن الكلي، وبنفس الدرجة، من اللغتين اللتين يشتغل بهما المترجم وكأن معارفه في نفس مستوى معارف الكاتب المترجم له، والوفاء المطلق لفكر الكاتب- إنما هو تعبير عن قلق وانشغال لمتشدد [متعصب ] للغة ذي حساسية لقوة الكلام يحذر قراءه من مكائد اللغة وحبائلها(17).

وإذا كانت قضية إتقان اللغة قد طرحت، بشكل خاص، بالنسبة للغة العربية بوصفها لغة-هدفا، والتي لم تكن، رغم ذلك، دوما لغة المترجمين الرئيسية (المترجمون الذين يذكرهم الجاحظ في هذا النص، هم، في الحقيقة مترجمون من الجيل الأول الذين كانوا يعانون، عموما، من نقص في اللغة العربية، والذين يمكن أن تنطبق عليهم الانتقادات المتعلقة بمعرفة الكلمات)، فإن مسألة معرفة الموضوع قد تثير الاستغراب لكون المترجمين كانوا دوما من المتخصصين في الميدان الذي يترجمون منه. وإذا كانت الأسماء، التي يوردها الجاحظ كمثال، تتعلق بالمترجمين العرب الأول، فإن الانتقادات والتحوطات التي يعبر عنها صاحب “كتاب الحيوان“، تظل موجهة إلى معاصريه، ولتفسير كون حنين بن إسحاق، والمترجمين الدائرين في فلكه وحول مدرسته، لا ترد أسماؤهم في هذا النص، يقدم عبد الرحمان بدوي فرضيتين اثنتين هما:

-قد يكون الجاحظ حرر هذا الجزء من كتاب الحيوان قبل قيام حنين بترجماته الجيدة.

-هذا النص سابق على المرحلة التي حقق فيها حنين شهرة كبيرة بصفته مترجما(18)

سنتبنى الفرضية الأولى، وهنا يبدو التأكيد على أن الجاحظ الذي كان ملاحظا خارجيا، لأنه لم يكن مترجما، لم يكن غريبا عن الوسط الفكري الذي نشأ فيه حنين. فالجاحظ، شأنه شأن حنين، كان من رواد البلاط، وكانت كتبه تقرأ من طرف الخلفاء، وبصفة خاصة من طرف المأمون(19)، كما كانت كتاباته تزخر بالأخبار عن كبار شخصيات البلاط.

III – استحالة ترجمة النصوص المقدسة:

اهتم الجاحظ بالترجمات التي تمت من اليونانية، ومرد هذا الاهتمام يعود، في جانب منه، إلى شغفه الكبير بالاطلاع الفكري، ويعود، كذلك، إلى تعاطفه مع حركة الاعتزال حيث جالس النظام، أحد أقطاب هذه الحركة. وإذا كانت المقتضيات السابقة ترتبط بالنصوص التقنية، سواء تعلق الأمر بالعلوم الفيزيائية أو بالفلسفة، فإن المسألة تتعلق هنا بمقياس استحالة ترجمة القرآن الذي يعتبر الجاحظ الخطأ فيه أشنع وأفدح. وتوجد خلف هذه التحفظات قضية لاهوتية وفلسفية.وفي هذا السياق، يدعو عبد الرحمان بدوي إلى ملاحظة أن هذه المخاوف كانت ناجمة عن كون المعتزلة، الذين كانوا يرفضون الإيمان الساذج، كانوا، ربما، يفكرون في ترجمة النص القرآني إلى مختلف لغات الأمة الإسلامية(20). وكان الجاحظ، بصفته مدافعا عن اللغة العربية ضد حركات الهوية الثقافية للبلدان المفتوحة (الشعوبية)، والفارسية بوجه خاص وضد إدخال فلسفة اليونان، يريد الوقوف في وجه هذه المحاولة(21).

لنتذكر المشاكل التي أثارتها ترجمة الكتابات المقدسة Ectritures من طرف القديس جيروم، حيث لا ينبغي التسامح مع الخطأ، كما لا يمكن تغليط أو تكذيب الكلام الإلهي. وإذا كان الوحي المنزل باللغة العربية هو في الوقت ذاته شكلا ومضمونا، فهل تجوز ترجمة كلام الله باعتبار المشكل مشكلا لاهوتيا؟(22)

يطرح المشكل، بالنسبة للجاحظ، على مستوى التفسير، لأن أبسط سوء في الفهم أو في التأويل، قد يؤدي إلى عواقب وخيمة. لهذا يعتبر الخطأ في مجال الدين أخطر من الخطأ في الرياضيات والكيمياء أو الفلسفة(23).

ولقد أثارت ترجمة النصوص المقدسة، منذ كتاب القديس جيروم، الذي أشار فيه إلى وجوب احترام نظام الكلمات في ترجمة الإنجيل(24)، مرورا بمحاولات لوثر الهادفة إلى جعل العهد القديم في متناول القراء، أثارت ترجمة النصوص المقدسة عدة تأملات وأفكار معمقة نعثر عليها في مؤلفات كتاب معاصرين مثل نايدا وطابيرا اللذين استعملا مفهوم علم اللغة الاجتماعي في الترجمة، وخصوصا فيما يتعلق بأهمية المتلقي. وقد أنجزا جداول تعطي الأولوية للقراء-المتلقين سواء كانوا مسيحيين أو غير مسيحيين، شبابا أو كهولا، شيوخا أو أطفالا، رجالا أو نساء(25). كما نجد عند هذين الكاتبين إشارة إلى مواقف الاحترام تجاه اليونانية والعبرية بوصفهما لغتين مقدستين لا ينبغي المساس بهما(26).

لا بد من الإشارة، هنا، إلى أن الجاحظ استعمل الترجمات التي تمت من اليونانية، وإلى أنه نهل من موروثها القديم بفضل هذه الترجمات ذاتها. ونجد في هذه المؤلفات عدة حكم منسوبة إلى فلاسفة اليونان، وبصفة خاصة الحكم المستنبطة من “كتاب الحيوان” لأرسطو، الذي كان قد ترجم إلى العربية من طرف ابن البطريق، ثم من طرف أبي علي بن زرعة(27)، كما نجد فيها نوعا من التوازي بين الموضوعات المستعملة.

لقد عدل الجاحظ، دون شك، عدة نسخ عربية، سواء من حيث الشكل أو من حيث اللغة العربية التي كان يتقنها كثيرا، بل كان في بعض الأحيان يورد هذه الترجمات معتذرا للقراء عن الإساءات التي يتعرض إليها النص الأصلي على يد المترجم(28).

ويمكن أن نختتم دراسة هذا المقطع المأخوذ من كتاب الحيوان، بالاستشهاد بابن خلكان الذي يدقق القول أنه في غياب مجهودات التعريب هذه، لم يكن في استطاعة أحد الاستفادة من هذه الكتب دون معرفة قبلية باللغة اليونانية(29).

مجلة الجابري – العدد العاشر


الهوامش

(*) النص مأخوذ من كتاب:

Myriam SALAMA-CARR , La traduction à l’époque Abbassidecoll. Traductologie, n°6, Didier Erudition , 1990, pp.91-101.

1 – الجاحظ، كتاب الحيوان، تحقيق محمد عبد السلام هارون، دار الجيل، 1955، الجزء الأول، ص ص 75-79.

2 – في ترجمته الفرنسية للنص نفسه، يتحدث عبد الرحمان بدوي عن ترجمة ملائمة (la transmissionp.22). يستعمل هذا المصطلح في نظرية الترجمة، بكيفية دقيقة جدا، ويدل على أن الترجمة تنقل وحدة الشكل والمعنى. يبدو أن الجاحظ يقف هنا عند مستوى المضمون، ومن المستحسن أن نتحدث عن ترجمة مرضية.

3 – G.STEINERAfter Babelp.47.

4 – السيوطي، المزهر، الجزء الأول، ص 212، وانظر:

L.Kopf ” Religious influences on Medieval Arabic philology“, Studia Islamica, V, pp.33-59.

5 – ابن منظور، لسان العرب.

6 – الجاحظ، كتاب البيان والتبيين في مجلدين.

7 – C.Thiery, “Le bilinguisme vrai“, E.L.A. 24, p.52.

8 – MontaigneEssais II, éd. De M. Rat, GarnierParis, 1962, p.116.

9 – التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة، القاهرة، 1939، I ، ص ص70-96 و108-129.

10 – V.LARBAUD, sous l’invocation de Saint-JerômeGallimard, 1946, p.9.

11 – D.SELESKOVITCHLangage, langues et mémoire, MinardParis, 1975, p.5.

وانظر: M.GRAVIERPédagogie de la traductionp.207.

“المترجم الحقيقي، ليس هو من يبدو أنه يتوارى خجلا وراء شخص آخر، بل هو الذي يقدم فكر الآخر وهو يتمثله تماما تلقائيا لحسابه الخاص، كما لو كان قد ابتكره”.

12 – J.Delislel’Analyse du discours comme mthode en traductionOTTAWAn 1980.

13 – Le sophistiqueTraduction de K.Geon dans les catégories, p. 199.

14 – انظر حنين بن إسحاق، رسالة إلى علي بن يحيى في ذكر ما ترجم من كتب جالينوس بعلمه وبعض ما لم يترجم.

15 – V.LARBAUD, op.cit, p. 315.

16 – A.Gide, Divers, pp. 196-197.

17 – الجاحظ، كتاب الحيوان، الجزء IV، ص 208: “فإني أعلم أن فتنة اللسان والقلم أشد من فتنة النساء والحرص على المال…”

18 – عبد الرحمان بدوي، مرجع مذكور، ص 25.

19 – سارل بيلا، الجاحظ، ترجمة كامل كيلاني.

20 – عبد الرحمان بدوي، مرجع مذكور، ص 25.

21 – M.ARKOUNContribution à l’étude de l’humanisme arabe au IV/Xe sièclep.358.

21 – القرآن الكريم، XII، 1 و 2 “ألر، تلك آيات الكتاب المبين، إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون”.

23 – صونطين، مرجع سابق، ص 354.

24 – E.CARYles grands traducteurs françaisp.11.

“لم يكن القديس جيروم يخضع للترجمة الحرفية لكنه أضاف كونه لا يطبق هذه النصيحة على الكتابات المقدسة”

25 – E.A.NIDA et C.R. TABERThe Theory and Practice of translationp.3.

26 – نفسه، ص 6.

27 – ابن النديم، الفهرست، القاهرة، 1929 – 30، ص 351.

28 – الجاحظ، كتاب الحيوان، VI، ص 19.

29 – ابن خلكان، وفيات الأعيان، I، ص 245.