مجلة حكمة
التأمل والمنظومة لدى هيغل - مضطفى شلش

بداية ونهاية: التأمل والمنظومة لدى هيغل – مصطفى شلش


التأمل والمنظومة لدى هيغل

حظيت فلسفة هيغل  (1770 – 1831) ابتداءً من النصف الثاني للقرن الثامن عشر باهتمام لم ينقطع في فضاء الفلسفة الحديثة، وقد تحوّلت هذه الفلسفة في سياق المداولات التي تجاوزت النطاق الفكري الأوروبي إلى مفاهيم أساسية تم البناء عليها العديد من الأطروحات في العلوم الإنسانية المختلفة بداية مِن اللاهوت إلى علم الاجتماع وصولًا لفلسفة التاريخ.

في هذا المقال سوف نطل على عقلية هيغل التي لا تزال سارية وحاضرة بقوةٍ في الحقل الفلسفي المعاصر. ونتوقف عند السمتين الأكثر تميزًا لفلسفته -التي سنشير لها في المقال بالهيغلية- وهما: الإعتماد على التأمل. والسعي الدائم نحو المنظومة. ولعل هاتين السمتين المميزتين هما الأكثر شكوكية لذا سنستفيض في طرح نقدهما، وليس هذا بغريب أن نمدح الفكر وننقده في نفس الآن، فنحن في حضرة “هيغل” صاحب أكبر فلسفة جدلية.

كما حرصنا كل الحرص في المقال أن نقدم صوت هيغل عقب مرور قرنين ونصف على ميلاده وليس صوت شارحيه مِن اليمين واليسار مثل أليكساندر كوجيف (1902 – 1986) أو جان هيبوليت (1907 – 1968) أو والتر كوفمان (1921-1980) أو هربرت ماركوزه (1898-1979) وغيرهم كُثر حول العالم انهَّموا بدراسة بفلسفة “هيغل”، ولربما كان هذا الخطأ الأكبر الذي يقع فيه الكثير من الباحثين لهذا الفيلسوف وهو أن يتم موضعة الهيغلية -قبل البدء بدراستها من خلال الإنتاج الفلسفي الضخم لصاحبها- كسلف للماركسية أو خصمًا لوجودية سورين كيركغور (1813-1855) أو أب روحي لوجودية جان بول سارتر (1905-1980)، وبالتالي نجد الحتمية في الحُكم على هغل بكونه لاهوتيًا صرفًا، أو ماركسيًا قبل الآوان. ولعل فات البعض من أصحاب هذه الأفكار أن هيغل نفسه يقول : “مهمة الفلسفة تنحصر في تصور ما هو كائن لأن ما هو كائن ليس إلا العقل نفسه. ولو إننا نظرنا للمسألة من وجهة نظر فردية لأدركنا أن كُلًا منا هو ابن عصره، وبالمثل يمكننا أيضًا أن نقول عن الفلسفة إنها أبنة عصرها على مستوى الفكر. ومِن الحمق أن نتصور إمكان تخطي فرد لزمانه، ومن الحمق أيضًا أن نتصور إمكان تجاوز الفلسفة لزمانها الخاص.”[i] لذا رأينا أن لا نُحمل نصوص هيغل أكثر مما تحتمل ونقدم أفكاره بلسانه، ولا يظن البعض أنها مهمة سهلة، فقراءة هيغل لهي درب من العذاب العقلي، ولكن عظمة هيغل إنما تتمثل في أن المرء قلما يشعر بأن مثل هذا العذاب كان عديم الجدوى.

البداية: التأمل والمنظومة

إستطاع هيغل أن يكون نسقًا عقليًا هائلًا استوعب في إطاره شتى دروب المعرفة في الفكر الحديث -آنذاك- ما دفع الفيلسوف النمساوي مارتن بوبر[ii] (1878-1965) لوصف هيغل بأنه أكمل الضلع الثالث لمَن صاغوا الوجود بأسره في منظومات عقلية، وهم أرسطو بمذهبه الكوني في العصور القديمة، والقديس توما الأكويني بمذهبه اللاهوتي في العصور الوسطى، و هيغل بمذهبه المثالي – التأملي المطلق في العصر الحديث. وجاء مذهب هيغل في مؤلفات أهمها كتابات فترة الشباب والتي تميزت بطابعها اللاهوتي الديني ثم فنومنولوجيا الروح وكتاب علم المنطق وموسوعة العلوم الفلسفة وأصول فلسفة الحق ودروس متفرقة في فلسفة التاريخ والدين والجمال…إلخ.

حرص هيغل أن يقدم الفلسفة في صورة “معرفة مطلقة”، لكي يواكب زمنه ويجعل من الفلسفة في مستوى العلم حيث كانت أوروبا تشهد آنذاك أحداث تاريخية كبرى (الثورة الفرنسية – 1789، التغيير الكبير في النظرة تجاه الدين المسيحي، قوانين الحق الطبيعي التي طورها الفلاسفة الثوار الفرنسيين وعلى رأسهم جان جاك روسو…إلخ[iii]) لا يمكنا أن نفصل تأثيرها على فكر هيغل . كما أنه تتبع نمط عالم الرياضة والفيلسوف رينيه ديكارت (1596-1650) الذي أراد أن يصل بالفلسفة إلى ضرب من “الرياضيات المطلقة” فهيغل حلم بصياغة الوجود بأسره في منظومة عقلية متكاملة. وأخذ على عاتقه أن يضع كل شئ في هذه المنظومة في موضعه، كان هيغل ينظر لعالم الفكر بوصفه عمل فني يجب أن يُصاغ بدقة، لذا يقول بوضوح: ” كل فلسفة هي كمال في ذاته، فهي تحتوي على عمل فني أصيل، أي فلسفة كليتها في داخلها”[iv].

لم يرد هيغل من وراء منظومته الفكرية أن يجزئ عالم الوجود والمعرفة أو يحلله تحليلًا نقديًا، بل أراد أن يقدم الوجود في صورة متحققة كاملة بإعتباره وحدة شاملة منسجمة. لذا تتبع فلاسفة اليونان ليبين لنا كيف أن العالم يكون كُلا موحدًا تتضافر فيه جميع الأجزاء على خدمة نظام واحد وتتحد فيما بينها لتأليف منظومة كلية متوافقة[v].

هكذا، فإن أي فلسفة مُعينة توجد كما هي في شكل مِن أشكال الخصوصية التاريخية ليست سوى فلسفة بحد ذاتها -مُعرفة ذاتيًا- أي تقدم ذاتها في مرحلة مُعينة من التعبير الذاتي المفاهيمي. لذا يقول هيغل: “إذا كان المطلق -مثل العقل بوصفه الشكل الذي يظهر فيه- هو واحد والشئ ذاته أبديًا كما يكون دون شك عندئذ فإن كل عقل معين تاريخيًا والذي ينظر إلى ذاته ويدركها، ينتج فلسفة حقيقية ويقرر مهمته التي تشبه قراره وهي الشئ ذاته في جميع الأوقات. لأن العقل المدرك – ذاتيًا عليه أن يعمل في الفلسفة مع ذاته وحده، فكلية عمله مثل نشاطه تكمن في ذاته وبالنظر إلى الجوهر الداخلي للفلسفة ليس ثمة أسلاف ولا خلفاء.”[vi] لذا تنبع الفلسفة مما يسميه هيغل الأصالة الحية للروح بقدر ما تفدي الروح جوهر الفلسفة من الخصوصية التاريخية لصيغة مظهرها. وهذه الخصوصية التاريخية، إذا جاز القول هي هيئتها التي هي مسجونة فيها وفي صيرورة تشكيلها، الفلسفة أي الشكل الذي يظهر فيه المطلق، تُقطع عن المطلق تحديدًا لأنها أخذت صيغة ظاهراتية ثابتة.

ويتشكل جهد الفكرة من تمييع الصيغة المخثرة للمنظومة التي تُسترد بها الحركة الحية للمطلق والفكرة. إن الصلة بين الصيغة المخثرة تاريخيًا لمنظومة ما وحياة المطلق تُعين من قبل هيغل كإنقسام[vii]. والذي تنشأ منه الحاجة إلى فلسفة ما. فقط بخروجه من صيغته الظاهراتية، أي من منظومة معينة للفلسفة، يعيد العقل توطيد إتصاله مع المطلق. إن الهم الأوحد للعقل في نظر هيغل هو التغلب على الإنقسام بين المطلق ومجمل الحدود، أي، منظومة نوعية للفلسفة. لذا يقول هيغل: ” بالنسبة للعقل، والذي يجد الوعي وقد سُجن في الخاص، يصح تاملًا فلسفيًا فقط بقدر ما يرتفع نفسه لنفسه ويتعهد لنفسه للمطلق، وموضوعه.”[viii] وهكذا فالتأملات -والتي سنعود لنشرحها بالتفصيل- لدى هيغل هي الفعالية النظرية للعقل بمعنى أن المطلق يدرك هويته الذاتية مِن خلال تجلياته الظاهراتية.

نجد أن “المطلق” هو الذات بلا منازع في فلسفة هيغل. وإن مبدأ الهوية الكامن خلف كل التعددية الظاهراتية-التاريخية، والفلسفة ما هي إلا إدراك لحركته في التحقيق لذاته. الفلسفة الهيغلية جوهريًا خي منظومة بقدر ما هي منطق، وإغتراب هذه الفلسفة الذاتي يكمن في الفلسفة الطبيعية والتغلب على هذا الإغتراب فيي الوعي الذاتي وإضفاء صفة الموضوعية على الروح من جديد في الثقافة وفي الدولة إنما هو تشكل كُلي ديناميكي أو “منظومة” تتحقق كل اللحظات فيها بواسطة المطلق المتطابق ذاتيًا، ببساطة المقصود أن روح الثقافة وروح الدولة تكمن في هوية الإختلاف. وإن حركة المطلق ليست خطية بل دائرية. هنا هيغل يشير أن ما يمكن أن تظنه بداية حدث تاريخي قد يكون هو النهاية، وما تظنه النهاية قد يكون محض بداية. والفرق بين النهاية والبداية ما هو إلا الفرق بين اللحظية والتوسطية[ix]. وهذا يعتمد على التوتر المركز للأحداث العمومية الغير متمايزة كونها تعبر عن لحظات صيرورتها (طبيعتها) وإدراكها الذاتي خلال العقل والروح لتعود إلى ذاتها كفكرة، هنا تظهر الوحدة المطلقة للفكرة والموضوعانية بوصفها الروح المطلقة التي تكون في ذاتها ولأجل ذاتها أي، المطلق المستوعب لذاته وفي غنى عن أي حدث نتيجة محتواه الداخلي.

بعد كل هذا التعقيد البلاغي، يظهر لنا المفهوم الهيغلي للـ “المنظومة” بوصفها هي كل الصيغ المختلفة التي تتواجد فيها الحقيقة الطبيعية والروحية وهي عمليات إضفاء صفة الموضوعية على ذات متطابقة – ذاتيًا. وإذا كانت كل عمليات إضفاء الصفة الموضوعية -بغض النظر عن مستوى التعبير- متعلقة بالذات نفسها فهي لابد أن تنتمي في نهاية الأمر إلى وحدة عضوية، لابد أن تُحاك في منظومة من التماسك الداخلي. إن مفهوم المنظومة بوصفه الوحدة المفاهيمية للتناقضات مُستلزم بمفهوم الهوية الذي يتوسط به مع ذاته الضد والتناقض.

المنظومة الهيغلية هي الكلية الشاملة للحظات المطلق في إدراكه الذاتي المتقدم. والمطلق غائي بمعنى أنه يكون هدفه أن يُدرك، مع انه مُعطى لتوه في البداية، وفقط في النهاية بعد أن يمر من خلال المراحل الضرورية لعمليات جعله حقائق فعلية، تتشكل مراحل منظومة متصاعدة من الصيغ الأدنى للطبيعة اللاعضوية التي تشكل الروح العُليا المطلقة. المنظومة الفلسفية الهيغلية هي أوديسا المطلق -على حد وصف فيورباخ[x]-، إنها تقدم صيرورة إدراك – الذات عند المطلق. فهيغل ينظر من خلال منظومته إلى كل الواقع – الطبيعي، البشري، الفكري مِن خلال علاقته بالمطلق ومن أجل أنه مُطلق.

بعدما إجتهدنا في نقل قرأتنا لمنظومة هيغل عبر لسانه، ننتقل لنقدم تأملاته، أو التأمل الهيغلي، في البداية، إن التأمل هو كل تفكير إنقطع عن الواقع التجريبي ومن ثم هو ذاتي بحت، وبالتالي لا علاقة لتأمل بالحقائق الموضوعية، لأنه يهمل الواقع. لذا ما ينتج عن التأمل ما هو إلا فارغًا وتعسفيًا. وهذا ما لا نجده في فلسفة هيغل، فهي فلسفة ليست فارغة، ولا تعسفية ولا ذاتية، ولا منقطعة عن الواقع بل هي موجهة بدقة للواقع وتجريبية بشكل مفرط نتيجة الثروة المادية التاريخية التي أصطبغت بها، لذا نجد الهيغلية تقدم فيض لا نهائي من المفاهيم تقريبًا. وهذا ما يجعل التأمل الهيغلي له فرادته وتميزه، فهو نظرة للواقع، تأمل متطابق مع قوة العقل، وتدفع العقل لتجاوز الفهم العادي كون هذا العقل ثابت ومُحدد ومعزول داخل فردانيته الخاصة. يُعري هيغل مِن خلال فكره التأملي كل الكُليات التي تعطي معنى وتعريف لظاهرة الفردية.

ولم يتوقف الأمر عند تعرية الفردانية بل أدت تأملية هيغل لتطور مفهوم الدولة الذي ظهر في كتابه “أصول فلسفة الحق”، فالفرد مجرد عضو في الدولة يأتمر بأوامرها ويخضع لما تطلبه منه، وذلك ما دامت الدولة هي الروح الأسمى للشعب، وقد تموضعت، فإن الفرد لن تكون له أية موضوعية ولا أية فردانية أصيلة، ولا حياة أخلاقية إلا بوصفه عضواً من أعضاء الدولة. فالدولة هي التحقق الفعلي للفكرة الأخلاقية، إنها العقل الأخلاقي بوصفه إرادة جوهرية تظهر وتتجلى أمام ذاتها، وتعرف نفسها، وتعقل ذاتها. لذا، فإن الاتحاد الخالص والبسيط هو المضمون الحقيقي والهدف الصحيح للفرد، ومصير الفرد هو أن يعيش حياة كُلية جماعية، والإشباع الجزئي الأبعد من ذلك والنشاط ونمط السلوك تتخذ من هذه الحياة الجوهرية والمشروعة على نحو كلي نقطة البداية والنهاية. وهكذا يتضح أن الدولة في التأمل الهيغلي هي تمام وكمال الفكرة الأخلاقية لأنها تعلو فوق أو على جميع المصالح الذاتية والمنافع الخاصة.[xi]

كما أن تأملية هيغل أدت به أن يقدم تحليلًا منهجيًا لاغتراب الفرد[xii]. وكان مؤمنًا بأن الاغتراب قائم لأن البشرية بعيدة عن غاياتها الأساسية، وهذا لإن إنتاجها المادي والفكري يخرج من نطاق سيطرتها الواعية. وتحولت المشكلة الرئيسية لـ هيغل ليست في الفردانية أم الدولاتية ولكن في الطريقة التي يَفر بها الفعل الاجتماعي من التوجيه الواعي فتَقَع في هذه اللحظة أحداث التاريخ من خلف ظهْر البشرية.حيث تَظهَر حضارات كاملة وتختفي، وتأتي النتائج معاكسة للنيات، ويكون الدم ثمنًا لأرقى إنجازات الحياة الفكرية والسياسة.

لقد أبصر هيغل التاريخ باعتباره طاولة ذبْح، رغم أن تحقيق الحرية البشرية أمر محتوم/ مطلق في نظر الفلسفة الهيغلية. وتجسد الحل النهائي لهيغل في دولة بيروقراطية خاضِعة لحكم القانون، ومجتمع مدني قائم على السوق التي يدخلها الجميع بحرية وعلى قدم المساواة، وأسرة نووية تحتَضن أفرادها عاطفيًّا، ويحكم العقل عالم التبادلية الشاملة هذا لأن الفلسفة التي هي أسْمَى تجسيد للعقل، هكذا أعتقد هيغل.

النهاية: نقد التأمل والمنظومة

في النهاية سنعكس الطرح، حيث سنبدأ بطر نقد تأملية هيغل، ثم نختم بطرح نقد فكرة المنظومة. ونتوقف بشكل نقدي عام مع فلسفة هيغل المثالية التأملية.

لعل تأمل هيغل الذي عرى الفردانية -وهذا غير صحيح بشكل كامل- ما دفع الفيلسوف الوجودي كيركغور لنقد هيغل قائلًا: “ليس للفرد مكان في نظام هيغل، أو بالنسبة إلى ما اعتبره نظامًا فلسفيّا أدخل الفرد فيه ضمن فكرة الكل، أي في الدولة والتاريخ، فهو (أي هيغل) لم يعتقد أنه يمكن للفرد أن يتدخل في التاريخ، أي إن من يصنع التاريخ ليسوا من سُموا بالسياسيين العظام، بل التاريخ هو الذي يستعمل هؤلاء. وغالبًا من غير أن يكون هؤلاء الفاعلون واعين بما يفعلون فعليًّا. فقد ظن نابليون أنه سيوحد أوروبا، غير أن التاريخ استخدم نابليون ليؤسس قومية جديدةً. وعليه فالتاريخ يحقّق تقدّمه المعقول الموضوعيّ، سواء أَفَهم أناس ذلك الزمان أم لم يفهموا ما يفعلون. فللتاريخ منطقه الخاص الذي يمكن للفاعلين فيه أن يسيئوا تأويله.[xiii]

وأجد أن فقرة كيركغور هي أكثر النقد شمولًا لهذه الجزئية في الفكر الهيغلي ولهذا لجأت إليها حتى لا أشق على القارئ غير المُلم بنسقية الفلسفة الهيغلية العجييبة والمتشعبة، وننتقل لرد المفترض مِن هيغل على كيركيغارد حيث أن الأول سيشير أنه ينقد فردانية الفرد التي تولد مفهوم سلبي للحرية فجميعنا يجب أن يحيا في مجتمع محدد وفترة محددة من التاريخ. وسنتشكل جميعًا بواسطة المجتمع والعصور التي نحيا فيها، لذا تناول هيغل في كتاب “أصول فلسفة الحق” نقد مفهوم “نسق الحاجات[xiv]” الذي نتج عن أفكار المدرسة الإقتصادية الليبرالية وتصوراتها للفرد فغاب عن ناظرها المجتمع في جوهره، ولم ينظروا من خلال المنظوري الهيغلي الثابت للتاريخ حيث أن هناك حقيقة مُطلقة وهي أن إحتياجات الفرد ورغباته يشكله المجتمع الذي يحيا فيه، وبناءًا عليه فإن المجتمع[xv] هو مرحلة في عملية تاريخية تتكون خلالها ما يعرف بالحرية المجردة -مجرد ظن بأن الفرد يفعل ما يحلو له- لكن، في الحقيقة هي حرية تقودنا القوى الاجتماعية والتاريخية لعصورنا.

لكن يظل تأمل هيغل عالقًا عند مستوى الدولة. ولا يعود هذا إلى المصلحة الطبقية فقط[xvi]، فعجزه عن تناول الفرد من ناحية موقعه في العملية الإنتاجية الرأسمالية، واكتفى بأن يذكر في كتابه فينومينولوجيا الروح، أن السادة في كل حقبة تاريخية لهم مصلحة وجودية ومادية في الحيلولة دون ظهور الوعي. فهم يسعَوْن إلى دفع خَدَمهم وعبيدهم إلى الاعتقاد باعتمادهم عليهم عبر وسائل أيديولوجية أو مؤسساتية. وقد كانت هذه نقطة انطلاق كارل ماركس مِن بعد هيغل، هكذا يصبح الوعي الأداة التي يدرك بها الخَدَم والعبيد قوتهم بصفتهم منتجِين لذلك النظام المحدد الذي يستفيد منه بحق السادة دون غيرهم؛ ومن ثم، يعتمد إنهاء الاغتراب على وعي الفرد.

بالإنتقال إلى المنظومة الهيغلية، والفلسفة الهيغلية المثالية – التأملية ككل، لم أجد أبرع مِن تلميذ هيغل المُتمرد، والمنسي عادة لودفيغ فويرباخ (1804-1872)، وفيورباخ هو الوحيد الذي اتخذ موقفًا جادًا نقديًا من الفلسفة الهيغلية مع الإقرار بعظيم دور مُعلمه في الوصول لمنظومة فكرية جديدة، ولكن هذا لم يجعلها فوق مستوى النقد والتعديل أو بلغة أكثر راديكالية الإطاحة بها.

وفقًا لفويرباخ[xvii]، فإن منظومة هيغل تعرف فقط التبعية والتعاقب، بينما التنسيق والتعايش غير معروفين بالنسبة لها. وتمر صيرورة الكشف – الذاتي للمطلق عبر سلسلة من المراحل المتعاقبة حيث تُدمج مرحلة سابقة في مرحلة تالية، لتفقد من ثم استقلاليتها وتحكمها الذاتي، وتصبح حقيقتها الجوهرية خاضعة لحقيقة أعلى للمرحلة التالية. إن صيغ الحقيقة إنما تُدمج ضمن هرمية إظهارات المطلق، وهكذا بحيث يحرز وجودها الخاص الصفة “من – أجل”. وبهذا المعنى فإن فيورباخ ينتقد طريقة هيغل بإعتبارها جعلت أساسها “زمن حصري”، أي، في حركة متصاعدة بشكل حصري والتي لا تعود أبدًا إلى اللحظات التي عبرت. ولذلك فالطريقة الهيغلية غريبة عما يسميه فويرباخ “تهاون الفراغ”[xviii]، لأن الفراغ يتيح لجميع الأشياء أن تتعايش دون أن يكون لأحد الأشياء الحق بأن يتواجد منتهكًا من قل آخر، فعلاقة الأشياء واحدها بالآخر في الفراغ هي علاقة تنسيق أكثر منها علاقة تبعية. وعلى وجه الدقة فإن ظواهر الواقع في الحفاظ على استقلاليتاتها الذاتية الخاصة بها هي التي كان فويرباخ مهتمًا بأكثر ما يمكن لتوطيد أسسها، والتي تهمل في الكليّة الهيغلية.

يقول فويرباخ[xix]: مما لا شك فيه أن المرحلة الأخيرة من التطور هي دائمًا الكليّة الهيغلية. ومما لا شك فيه أن المرحلة الأخيرة من التطور هي دائمًا الكلية التي تتمضن في ذاتها المراحل الأخرى، لكن لأنها هي ذاتها وجود زمني محدد وتحمل من ثم طابع الخصوصية فإنها لا يمكن أن تضم في ذاتها وجودات أخرى دون مس لنخاع حياتها المستقلة بالذات ودون سلبها للمعنى الذي يمكنها أن تمتلكه بحرية تامة فقط.

كما أن الصراع الرئيسي بين فويرباخ[xx] مع فلسفة هيغل مفاده أن الفكرة كبداية مُطلقة، سوا في الفينومينولوجيا أو المنطق، ليست كذلك، فالبداية ليست دون إفتراضات مسبقة بأية حال. الفكرة هي هناك حقًا في بداية فلسفة هيغل كإفتراض لها والذي لا يرقى إله شك. في البداية سواء من المعرفة المباشرة، أو من الكينونة الصافية، يبدأ هيغل فعلًا مِن الفكرة: كون نقطة البداية هي الكينونة فهو فقط مبدأ شكلاني، لأن الكينونة هنا ليست نقطة إنطلاق حقيقية ولا أساسية حقًا. نقطة البداية أمكن تمامًا أن تكون الفكرة المطلقة أيضًا لأنها كانت يقينية لتوها، حقيقة آنية بالنسبة لهيغل قبل أن يكتب المنطق، أي، قبل أن يمتلك شكلًا علميًا للتعبير عن أفكاره المنطقية.

الفكرة المطلقة -فكرة المطلق- هي يقينها الأكيد الخاص بها بوصفها الحقيقة المطلقة. إنها تفترض نفسها مقدمًا بإعتبارها حقيقة، فذلك الذي تفترضه الفكرة بإعتباره الآخر، يفترض مسبقًا وفقًا لجوهره الفكرة مرة أخرى. إلا الافتراض الذي لا جدال فيه وغير النقدي لحقيقة الفكرة هي الصفة المتممة الهيغلية التي هي مشوهة فقط بفكرة بداية دون افتراضات مسبقة في بدايات المنطق. وهكذا، فإن طريقة هيغل من حيث تقديمه لصيرورة الفكرة المطلقة ليست سوى محاولة لإطلاق الفكرة من حدود التصور الفكري الذاتي من أجل إثبات أنها وجدت أيضًا لأجل الآخرين وهكذا فالطريقة الهيغلية هي التعبير عن هذه الضرورة التي لزوم لها عن هذه الضرورة التي يمكن الاستغناء عنها أو التي يمكن الاستغناء عنها.

الكينونة الهيغلية ليست نقيضًا للفكرة لأنها بالفعل يقينية الفكرة، لا شئ سوى الفكرة في آنيتها. الفكرة لا تثبت حقيقتها من خلال آخر حقيقي. وحين تكون الكينونة ذاتها هي الفكرة، فالنقيض ما هو إلا نقيض شكلاني. فالكينونة بمعنى المنطق الهيغلي تناقض بشكل مباشر الكينونة بمعنى تصور العقل التجريبي والعياني. ووفقًا لفويرباخ يتم الوصول إلى الكينونة المنطقية فقط عبر انفصال فوري عن الإدراك الحقيقي. ففلسفة هيغل تصنع انفصال دون وساطة مع الإدراك الحسي واعتبارها لذاتها أمرًا مسلمًا به جدلًا بشكل فوري. من أجل استخدام صيغة متأخرة لفويرباخ يجب أن لا تبدأ الفلسفة بذاتها بل باللا-فلسفة.

يلخص فويرباخ[xxi] نقده لفلسفة هيغل بالإشارة إلى وظيفتها التجريدية والإغترابية. والتجريد لديه طابع التعبير التقني عند فويرباخ ويعني افتراض جوهر الطبيعة خارج الطبيعة، افتراض جوهر الإنسان خارج الإنسان، وافتراض جوهر الفكر خارج فعل التفكير. وآثمة بالتجريد بهذا المعنى، فقد غربت الإنسان عن ذاته، أي، إنها استسلمت لكينونة مجردة عن الإنسان والتي هي كينونة الإنسان الحقيقية والعينية. لذا يطرح فويرباخ فلسفة جديدة من شأنها أن تأخذ بعين الإعتبار حقيقة الإنسان ويجب أن تكون النفي التام للفلسفة التأملية، إنها تستطيع فقط أن تكون مستمدة من نفي الفلسفة الهيغلية وذلك بوصفها تتويجًا للتقليد الفلسفي المثالي – التأملي.

وتشكل العودة إلى الإنسان والمتناهي فلسفة جديدة لأن الإعتقاد بالماوراء هو إعتقاد غير شعري بالمطلق. إنه أيضًا غير فلسفي من منظور الفلسفة التي تصحح المسار المقلوب للفلسفة التأملية المثالية الهيغلية إلى فلسفة واقعية، وبقدر التناغم الواقعي تصبح الفلسفة عملية.

ورغم هذا النقد الواضح والصارم للهيغلية، فإن فويرباخ[xxii] يقر أن فلسفة هيغل متميزة عن جميع الفلسفات التي سبقتها بشخصيتها العلمية الصارمة، شموليتها، وثرائها الفكري غير القابل للجدل. بل إن هيغل هو الفنان الفلسفي الأكثر براعة وشروحاته هي نماذج غير مسبوقة لمعنى الفن العلمي، وبسبب لصرامتها فهي وسيلة حقيقية لتعليم الروح وإنضباطها. لكن، لا تستطيع الهيغلية أن تكون “فلسفة الفكرة المطلقة” أو التعبير النهائي للذهن البشري، فكونها فلسفة من هذا العالم فهي محددة بقوانين هذا العالم. وهذا ما أثبتته التغيرات الكبيرة التي ستشهدها الهيغيلية وإنقسامها على نفسها ونشوء مدارس آخرى في ظل الحداثة وما بعد الحداثة، ولكن يبقى هيغل نقطة فاصلة في تاريخ المعرفة.


[i] أصول فلسفة الحق، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، مكتبة مدبولي، 1996

[ii] https://www.persee.fr/doc/phlou_0035-3841_1964_num_62_75_7951_t1_0525_0000_2

[iii] http://www.civilizationstory.com/page.php?pageNumber=14735#bm

[iv] Hegel 1801. The Difference Between Fichte’s and Schelling’s System of Philosophy

[v] نحو نقدية لفلسفة هيغل ومبادئ فلسفة المستقبل – لودفيغ فيورباخ

[vi] Hegel 1801. The Difference Between Fichte’s and Schelling’s System of Philosophy

[vii] Hegel 1801. The Difference Between Fichte’s and Schelling’s System of Philosophy

[viii] Hegel 1801. The Difference Between Fichte’s and Schelling’s System of Philosophy

[ix] نحو نقدية لفلسفة هيغل ومبادئ فلسفة المستقبل – لودفيغ فيورباخ

[x] فويرباخ (1804 – 1872) كان فيلسوفاً مادي ألمانياً وأنثروبولوجياً. تتلمذ على يد جورج ولهلم فريدريك هيغل

[xi] أصول فلسفة الحق، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، مكتبة مدبولي، 1996

[xii] النظرية النقدية: مدرسة فرانكفورت، آلن هاو، ترجمة ثائر ديب

[xiii] هيغل والهيغلية -دار الكتاب الجديد المتحدة – بيروت

-2017

[xiv]هيغل: مقدمة قصيرة جدًّا، بيتر سينجر

[xv] هيغل والمجتمع- جان بيار لوفيفر

[xvi] النظرية النقدية: مدرسة فرانكفورت، آلن هاو، ترجمة ثائر ديب

[xvii] نحو نقدية لفلسفة هيغل ومبادئ فلسفة المستقبل – لودفيغ فيورباخ

[xviii] الإشتراكية والحرية، رايا دوناييفسكايا

[xix] نحو نقدية لفلسفة هيغل ومبادئ فلسفة المستقبل – لودفيغ فيورباخ

[xx] نحو نقدية لفلسفة هيغل ومبادئ فلسفة المستقبل – لودفيغ فيورباخ

[xxi] نحو نقدية لفلسفة هيغل ومبادئ فلسفة المستقبل – لودفيغ فيورباخ

[xxii] نحو نقدية لفلسفة هيغل ومبادئ فلسفة المستقبل – لودفيغ فيورباخ