مجلة حكمة
الاستغراب العربي و الاستشراق

الاستغراب العربي: صور أميركا في الشرق الأوسط – عيد محمد / ترجمة: هاجر العبيد


يستهلّ عيد محمّد كتابه المنقّح من رسالته للدكتوراة المعنونة بـ”الاستغراب العربي” صور أميركا في الشرق الأوسط” بقوله: “عندما شرعتُ في قراءة كتاب “الاستشراق” لإدوارد سعيد، بدأت أستدعي الكثير من الصور التي نحملها في الشرق الأوسط عن الغرب. شعرت كأنني أفكّك ما كنت أقرأه، وأتجاذب أطراف الحديث مع إدوارد سعيد وأتجادل معه: “لكننا لسنا بهذه السلبية كما تظن … نحن نستهلك الثقافة الغربية ونحوّل قوالبها النمطيّة عنّا نحن العرب إلى مواد نستخدمها وفي المقابل نقدّم وجهة نظرنا النقدية للغرب.”

يعيش الاستغراب العربي في علاقة متناقضة مع الممارسات الخطابية للاستشراق الذي يتشارك معه الأساليب والاستراتيجيات. فإذا كان الاستشراق ، وفقاً لإدوارد سعيد، طريقة غربية لتدمير “الآخر” وتحقيق الهيمنة، فإن الاستغراب العربي خطاب عن القمع وشكل من أشكال المقاومة.

يبحث عيد محمّد في اللقاءات بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط ما بعد الحادي عشر من سبتمبر من أجل تحديد كيفية موازنتها للتضارب بين ضغوط المعارضة الداخلية والتهديدات الخارجية. ويستكشف بشكل خاص كيف لا تزال الثقافة العربية – والثقافة المصرية بشكل خاص – تعتقد في قيمة أمريكا كنموذج يُحتذى به في التغيير – خاصّة بعد انتخاب باراك أوباما –  بينما تحاول إعادة التفاوض حول وضع العالمين العربي والإسلامي في النظام العالمي. يشغل هذا المسعى مكاناً خاصاً في محاولة فهم العلاقة بين عهد أوباما في الولايات المتحدة والربيع العربي – وهو سلسلة من الحركات من أجل التغيير الاجتماعي والسياسي عمت أرجاء العالم العربي وشملت ثورة الياسمين في تونس، وثورة اللوتس في مصر، و حركات أخرى مطالبة بالديمقراطية في ليبيا واليمن وسوريا والبحرين.

يقدّم عيد محمّد – على عكس العديد من الدراسات والمؤلفات الأخرى – منظوراً مقارناً متكاملاً لأنه يركز على الأعمال ذات المحتوى المشحون سياسياً، ويطرح أسئلة جادّة حول كيفيّة إنتاج القوالب النمطيّة الثقافيّة للنّصوص. تقدم هذه النصوص –والمصرية منها على وجه الخصوص– رؤى سياسيّة جديدة تتحدى الطريقة التي تخلق بها النصوص الثقافية الأمريكية ثنائية “نحن” و”هم.

تُعد مصر محوراً لهذه النقاشات بسبب مركزيّتها التاريخيّة في العالم العربي وانتشار أفلامها ومنتجاتها الثقافية. هناك بطبيعة الحال بلدان أخرى مهمة في الشرق الأوسط، وقد يكون من المهم للغاية توسيع نطاق البحث أو تنقيحه لاستعراض عيّنة أوسَع وأكثر تمثيلاً للآراء أو للإنتاج الثقافي في العالم العربي، مع إمكانية تسليط الضوء على شمال أفريقيا أو بلاد الشام.

أظهرت قراءات عيد محمّد للإعلام الإخباري والسينما والأدب المصري / العربي أن الثّقافة العربيّة المُعاصرة تقدم سرديّة مضادة ومعقّدة للقاءات بين الولايات المتحدة والعرب. فضلاً عن ذلك، فإنّ ما يُفصح عنه منتجو الثقافة المصريون والعرب في أعمالهم عن المجتمعات العربية غالباً ما يكون جزءاً لا يتجزأ من الخطاب حول اللقاء بين الشرق والغرب. ويتجلّى ذلك في الطريقة التي تنقل بها العديد من الروايات والأفلام المصرية / العربية تفاصيل الحياة اليومية للعرب، فهي لا تكشف فقط عن الاختلافات السطحية بيننا “نحن” و”هم” في اللقاء بين الولايات المتحدة والعرب، لكنها تكشف أيضاً عن أوجه التشابه العميقة. بالطبع، هناك العديد من النصوص الثقافية التي لا تفعل ذلك، أو التي لا تهتم بشكل خاص بالغرب،  أو التي ليس لها استنتاج إنساني يعترف بأوجه التشابه؛ ومع ذلك، فقد اختار بعض النصوص التي تتشارك هذا النهج. وفكّك هذه السرديّات الغربية / الأمريكية التي تعرض التفاعلات بين المسلمين العرب والحداثة الغربية كقوة دافعة لهم لاستيعاب القيم الثقافية الغربية. على سبيل المثال، يُظهر الفصل الخاص بالإعلام العربي كيف يستخدم العديد من العرب الإعلام الإخباري الغربي لتشجيع التفاعلات الثقافية المشتركة وتعزيز أداء وسائل الإعلام الوطنية.

يتعامل عيد محمّد مع النصوص العربية الشّعبية التي تُسهم في التصوّر العربي لـ “الآخر”. ويعتمد اختياره للنصوص – الأدبيّة والسينمائية والصحفية – على شعبيتها؛ حيث تشمل الروايات الأكثر مبيعاً والأفلام الرائجة ومجموعة من الأعمدة والرسوم الكرتونية والصور من التصوير الصحفي ذات الشعبية الكبيرة. مع مراعاته لتشابكها مع السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط وما تكشفه عن التأويل السياسي والاجتماعي الأمريكي للإسلام كدين وللمسلمين العرب كمجموعة.

كانت مصر – كمركز ثقافي وسياسي رئيسي في العالم العربي – المصدر الرئيسي لهذه النصوص، حيث تعد مصر، كونها موطناً لواحدة من الحضارات العظمى الأولى في التاريخ، العاصمة الثقافية للعالم العربي، بتراثها الإسلامي القوي، وتعدديتها الثقافية، وتاريخها السياسي والفكري العروبي الحديث، وريادتها الإقليمية. وتهيمن صناعة السينما والتلفزيون في مصر، كونها الأكبر في العالم العربي، على التلفزيون والسينما العربية، وكذلك الموسيقى المصرية الشعبية. وبالإضافة إلى ذلك، قدمت مصر بعضاً من أبرز الكتاب العرب في القرن العشرين، من طه حسين وتوفيق الحكيم إلى الروائي نجيب محفوظ الحائز على جائز نوبل في الأدب لعام 1988.

طرح عيد محمّد عدة أسئلة منها:

كيف يُناقش الأدب والأفلام العربية المصرية الشعبية وتصور وتمثل أمريكا والأميركيين   في فترة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر؟

ما هي المواضيع الرئيسيّة التي يرتكز عليها تصوّرهم للأميركيين؟

 هل تسبّب التمثيل الحالي للعرب والمسلمين في وسائل الإعلام والأدب والسينما في الولايات المتحدة في أي تغيير ملموس في طريقة تمثيل الروايات والأفلام المصرية العربية الشعبية للولايات المتحدة؟

وللإجابة على هذه الأسئلة،  قام بتحليل مجموعة من النصوص الثقافية، بما في ذلك عدد من الروايات والأفلام والرسوم الكارتونية والأعمدة الصحفية، حيث عمل على فحصها في سياقها التاريخي – أي عالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر الذي شكلته “الحرب الأمريكية على الإرهاب”، وحرب العراق والحرب في أفغانستان، وعلى نطاق أوسع، الهيمنة الأمريكية بشكل عام.

يحتاج العرب في هذا السياق إلى التفاوض حول حقيقتين: تاريخ الاستشراق والاستغراب من ناحية والرغبة من جانب العديد من العرب للتفاهم والترابط المتبادلين بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط من ناحية أخرى. فعلى الرغم من الانتقادات المستمرة للسياسة الأمريكية كمحور للكثير من الإنتاجات الثقافية العربية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، إلا أن هذه الرغبة لا تزال قوية.

إعادة النظر في الاستشراق وإعادة تعريف الاستغراب

يدفع إدوارد سعيد في كتابه “الاستشراق” (1978) بأن “الشرق” خضع “للتّشريق”، وهي عملية تحويليّة من القولبَة النمطيّة جَرت عبر قرون، أفرزتها الحروب الدينية والتصوّرات الأدبيّة والخطابات الأكاديمية ومجموعة من المعارف المُشَكِّلة للاستشراق. ويؤكد إدوارد سعيد على أن المستشرقين صاغوا فكرة المشرق، معرّفين إيّاه بأنه انحراف عن الأعراف الغربيّة. ويتطرّق إدوارد سعيد إلى الأسئلة المتعلقة بالغيريّة (“الآخريّة”) التي تشكّل العلاقة بين “الذات” الغربيّة و”الآخر” الشّرقي فيما يتعلّق بـ الاستشراق ؛ أي أنه في بعض الأحيان يتم بناء “الآخر” ليس كـ “آخر” ولكن كصورة مشوّهة من “الذات”. لذلك، يؤكّد إدوارد سعيد على نجاح هذا البناء الاستشراقي للشرق بالإبقاء على الإيديولوجية الغربية القائمة على التفوق وفي نفس الوقت يجعل الغرب خطابياً المعيار الذي خرج عنه الشرق، كل ذلك في محاولة لإبعاد “الذات” أو عزلها عن الغرب. وبهذه الطريقة، لم يتم تقديم “الآخر” ومعرفته إلا من خلال نصوص كتبها كُتاب غربيون. ومع غياب “الآخر” في كتاباتهم، أصبح وجود المستشرقين مهيمناً.

بينما يتم إعادة النظر في الاستشراق في الغرب، يتم استدعاء الاستغراب في الشرق، مما ينتج عنه نصوص ثقافية – أدبية وسينمائية وصحفية – تعكس وجهات نظر استغرابية. ويساهم الوجود الاستعماري للولايات المتحدة في الشرق الأوسط بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر في استبدال الصور السلبية للقوى الاستعمارية القديمة (أي الإنجليزية والفرنسية والإيطالية) بالقوى الاستعمارية الأمريكية الجديدة. وتُستبدل النكات عن الجنود الإنجليز في مصر بنكات عن الأمريكيين في العراق وأفغانستان، فضلاً عن النكات حول إلقاء الحذاء على الرئيس بوش. وبينما عرّب جمهور الغربيين جميع المسلمين، كذلك قام جمهور العرب بأمركة جميع الغربيين. وهذا يشير إلى غياب أو صمت الدول الأوروبية عن الخريطة الشرقية للقاءات وبزوغ الولايات المتحدة كقوة وحيدة في العالم في نهاية القرن العشرين. وهذه مشكلة جوهرية لأنه من ناحية منتجو الثقافة العرب جميعهم حساسون ويحاولون خلق لقاءات إنسانية جديدة تختلف عن الصور أحادية البعد التي تم إنتاجها في الغرب، ويركز هذا النهج الإنساني على القيم والاهتمامات الإنسانية المشتركة. ومن ناحية أخرى، يساوي منتجو الثقافة العرب بين الاستشراق الأمريكي والاستغراب، وهذا في حد ذاته نوع من القولبة النمطية.

أُعيد النظر في الاستشراق قبل الحادي عشر من سبتمبر عدة مرات خلال القرن العشرين، مما نتج عنه آراء تنمّط العرب / المسلمين وتنزع عنهم إنسانيتهم. وجرى استدعاء استشراق واستغراب ما بعد الحادي عشر من سبتمبر من خلال استخدام “المعادل الموضوعي”، وهو مصطلح صاغه الشاعر تي. إس. إليوت لوصف موقف أو مكان أو غرض ملموس أو محدد يستخدمه الشاعر لإثارة مشاعر معينة في القارئ (عوضاً عن محاولة وصف المشاعر نفسها). على سبيل المثال، تستخدم النصوص العربية صور حرب العراق والحرب في أفغانستان وسجن أبو غريب ومعتقل غوانتانامو والطبيعة غير المتوازنة للسياسة الأمريكية ودعم الأنظمة غير الديمقراطية في المنطقة لإثارة الغضب والدلالة على غياب الأخلاقيات في نهج الولايات المتحدة تجاه الشرق. وفي المقابل، تستخدم النصوص الغربية صور هجمات الحادي عشر من سبتمبر وغيرها من الأعمال الإرهابية التي ارتبطت بالمسلمين لإثارة مشاعر الخوف من خلال تصوير كل من الدين الإسلامي والشعوب العربية / الإسلامية على أنها عنيفة.

يتناول إدوارد سعيد في كتابه “تغطية الإسلام” اكتشاف السّاسة ووسائل الإعلام الرئيسية الأمريكية قيمة تسويق الإسلام كتهديد في أواخر القرن العشرين، مما أنتج طائفة كبيرة من الكتب والمقالات والبرامج التلفزيونية. أستكشف في هذا الكتاب الطريقة التي استُقبلت بها هذه الموضوعات في الشرق الأوسط وكيف أثرت على الطريقة التي ينظر بها العرب والمسلمون إلى الغرب وإعادة تعريفه.

كان استكشاف هذه التصوّرات والتوسّع في عرضها، في الواقع، الهدف من وراء تقرير نشره معهد الشرق الأوسط في واشنطن، حيث قام تقرير المعهد، استناداً إلى رحلة بحثية جرت في ديسمبر 2002 إلى مصر والمملكة العربية السعودية (الدول المتحالفة مع الولايات المتحدة)، بتقييم التصورات العربية للولايات المتحدة على أنها تتشكل من خلال ما أسماه “الستة C”:

]…[ رعاة البقر (cowboys) والنزعة الاستعمار (colonialism) والمؤمرة (conspiracy) وكوكاكولا (Coca-Cola) والجبن (cowardice) والولاء للعميل (clientitus). العميل إسرائيل. والجبن هو التصور الشائع بأننا أشقياء المدرسة. وكوكاكولا رمز للمجتمع الاستهلاكي الأجنبي. وتنطلق فكرة بالتآمر من التوقعات غير الواقعية للقدرات الأمريكية؛ وتستند النزعة الاستعمارية على الاعتقاد بوجود حملة أمريكية للسيطرة على النفط. وصورة رعاة البقر مستمدة من تصوير إدارة ]بوش] على طريقة أفلام هوليوود بأنها تطلق النار من جانب الفخذ كناية عن الرّوعنة. والحقيقة هي أنه حين يفكر العرب في الولايات المتحدة فإنهم يفكرون في إسرائيل.

الستة C التي تلخص التصورات للولايات المتحدة في الشرق الأوسط لها ما يقابلها في الثلاثة B للقوالب النمطية للعرب – انتحاريين (Bombers) وراقصات (bellydancers) ومليارديرات (billionaires) – على النحو الوارد في تقرير أعده مازن بطرس قمصية الأستاذ الجامعي الفلسطيني. ومع ذلك، أود اتباع نهج أكثر تطوراً وتنوعاً لتفاعل العالم العربي الثقافي مع الولايات المتحدة. وسأحاول أن أوضح كيف أن التمثيلات العربية لأمريكا والأميركيين كانت معقدة ومتنوعة ومتقلبة تاريخياً، قبل الحادي عشر من سبتمبر وبعده. وسأسعى لإثبات وتجسيد الطبيعة المتباينة لتصنيفات مثل “الاستغراب” و “الشرق”. ويعكس هذا الكتاب على هذا النحو قناعتي بأنه تماماً كما أن الاستغراب يُمثل الولايات والمتحدة والغرب على نحو متباين، فإن نقد الاستشراق يجب أن يستتبع خروجاً عن الخطاب الاستشراقي الذي يمثل العرب والشرق الأوسط على نحو متجانس، متجاهلاً بذلك تنوع الخطابات الاجتماعية العربية السائدة. تتحدى النصوص التي وقع عليها الاختيار النظرة للإسلام / العرب كضحايا سلبيين للاستشراق.

لا يمهّد تمثيل الشرق الأوسط الطريق لعصر استعماري جديد فحسب، بل يلعب أيضاً دوراً مهماً في “بناء القومية الأمريكية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية والصراع حول معنى الشخصية الأمريكية”. كما أوضحت مارغريت نيديل، بعد الحادي عشر من سبتمبر، فإن “أحد أكبر المخاطر التي تهدد الأميركيين في تحديد كيفية مواجهة التهديد الإسلامي يكمن في استمرار الاعتقاد – بناءً على إلحاح كبار القادة الأمريكيين – بأن المسلمون يكرهوننا ويهاجموننا من أجل ما نحن عليه وما نعتقده وليس من أجل ما نقوم به”. يظهر هذا الاعتقاد في كتابات لأمثال صامويل هنتنغتون الذي أشاع أطروحة “صدام الحضارات” التي أثارها لأول مرة برنارد لويس المؤرخ البريطاني الأمريكي. لا يشير مثل هذا التصور فقط إلى حدوث تغير في موقع العالم العربي على الخريطة السياسية للقوة ولكن أيضاً في تحديد الهوية الذاتية الأمريكية فيما يتعلق بالسياسة والقوة العالمية. منذ الحادي عشر من سبتمبر، طُلب من الأميركيين على نحو متزايد الاعتقاد بأن الإسلام السياسي يشكل تهديداً خطيراً للغرب وأنه يتعارض مع نظام ويستفاليا الدولي ومعاييره وقيمه الليبرالية الغربية الأساسية.

يؤكّد إدوارد سعيد على أن العالم الإسلامي يساهم أيضاً في تصوير الإعلام الغربي السلبي للإسلام والمسلمين والإسلام السياسي. فكثيراً ما يتم الاستشهاد بالثورة الإيرانية (لا سيما أزمة الرهائن في السفارة الأمريكية في طهران) والنزعة القتالية التي أبدتها بعض الجماعات المتطرفة (وأشهرها هجمات تنظيم القاعدة في الحادي عشر من سبتمبر) كأمثلة. بالإضافة إلى ذلك، عززت المكاسب التي حققتها الأحزاب ذات الطابع الإسلامي في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر من التصور السائد في الغرب بأن الإسلام السياسي “يتقدم بلا هوادة”. لقد اتخذ الإسلام السياسي بالفعل طريق الديمقراطية لتحقيق الأهداف السياسية، وهو نهج شجعته الحكومة الأمريكية، وخاصة إدارة بوش.

على الجانب الآخر، ثمّة اتجاه في العالم العربي للاعتماد في الآراء الفردية عن أمريكا والأميركيين على أفلام هوليود والمواقف السياسية للحكومة الأمريكية، حيث يفترض العديد من العرب والمسلمين في الشرق الأوسط، على سبيل المثال، أن جميع الأمريكيين أو معظمهم مُعادون للعرب ومعادون للمسلمين، في حين أن الاعتقاد بأن جميع اليهود الأميركيين مؤيدون لإسرائيل مثال آخر على القوالب النمطية العديدة التي توسع الفجوة بين الجانبين. وعلاوة على ذلك، تعمّق هوليوود من تصور العالم العربي للأمريكيين على أنهم فاسدون أخلاقياً من خلال إبراز الملحدين والمجرمين والمنحرفين في العديد من أفلامها. ويعزز تاريخ فشل السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط، بالنسبة للعديد من العرب، من إعتقاداتهم في فساد المجتمع الأمريكي.

صور ما بعد الحادي عشر من سبتمر

بدأت وسائل الإعلام الرئيسيّة، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، في كلّ من الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى في ربط الإسلام والمسلمين عموماً بالهجمات. ووصفت وسائل الإعلام الأمريكية الإسلام والمسلمين بأنهم مصدر الإرهاب والتعصّب الديني والتخلّف الثقافي. وتجلّى ذلك بوضوح في استخدام الرّئيس بوش لمُصطلح “الحرب الصّليبية” لوصف حربه ضد الإرهاب، مستدعياً إلى الأذهان الحروب الشهيرة التي شنّها الغرب ضد العرب والمسلمين في العصور الوسطى العليا (القرون الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر). وعلى الرغم من عمليات إعادة التقييم الأكاديمية الغربية الأخيرة للحروب الصليبية، فإن الكلمة الإنجليزية “crusade” لا تزال تحمل دلالات إيجابية في الغرب؛ إلا أن هذا المصطلح يحمل في الشرق دلالات سلبيّة قوية. يبحث كتاب “مشاهدات عدسة ملطّخة بالدماء” للورنس بينتاك في الخطاب الذي يمكن العثور عليه في وسائل الإعلام الأمريكية. قال المبشّر التلفزيوني ماريون جوردون روبرتسون (المعروف أكثر باسم بات روبرتسون) إن المسلمين أسوأ من النازييّن. ووصف جيري فالويل، المبشّر التلفزيوني والزعيم المسيحي، النبي محمد بأنه “إرهابي”، بينما وصفه الواعظ الأمريكي جيري فاينز بأنه “مهووس بالأطفال تلبسته الشياطين”. وكتبت آن كولتر، وهي واحدة من أكثر المعلقين إثارة للجدل في أمريكا، في عمود نشرته في 13 سبتمبر 2001 وتم الاستشهاد به على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم: “يجب علينا غزو البلدان [الإسلامية]، وقتل زعمائهم وتحويلهم إلى المسيحية.”

اختار عيد محمّد النصوص التي أُنتجت في الشرق الأوسط في فترة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر والتي أسهمت في اللقاء الثقافي بين الولايات المتحدة والعالم العربي والتي جذبت انتباه نقاد الأدب والثقافة في الولايات المتحدة، مثيرةً للنقاشات حول اللقاء بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط. انتقى على سبيل المثال، أعمال علاء الأسواني التي جذبت شعبيته في جميع أنحاء العالم، بفضل روايته “عمارة يعقوبيان” (2004؛ والتي تحولت إلى فيلم في عام 2006)، انتباه العديد من القراء ونقاد الأدب الأميركيين إلى روايته “شيكاجو”. وإلى جانب “شيكاجو”، استعرض رواية “طيور الجنوب” لأماني أبو الفضل.

في الواقع، هذه النصوص تستطيع إقامة حوار عابر للحدود الوطنية مع قدرتها على التأثير على معرفة الناس بـ “الآخر”، لكونها قادرة على الوصول مباشرة للعديد من الناس.  ويأمل الفاعلون العرب الذين يشاركون في مثل هذه الحوارات في شرعنة محاولاتهم إعادة التفاوض حول موقع العالم العربي / الإسلامي في النظام العالمي. يتناول علاء الأسواني وأماني أبو الفضل مخاوف العرب / المسلمين في كل من الولايات المتحدة والعالم العربي والإسلامي، حيث يرسمان بوضوح صورة صدام الثقافات والطوائف الدينية في مدينتي شيكاغو ونيويورك، وهما مدينتان أمريكيتان نموذجيتان متعدّدتا الثقافات. وتبرز كل رواية شخصيات عربية وأمريكية واقعية، كاشفةً عن أزمة الهويّة في أمريكا في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر. وبالإضافة إلى هاتين الروايتين، استعرض الأفلام العربية التالية: “العاصفة” (2000) و”إسكندرية .. نيويورك” (2004) و”11 سبتمبر” (2002) و”ليلة سقوط بغداد” (2005) و”ليلة البيبي دول” (2008).

النهج والمنهجية

بدلاً من تطبيق نظريّة واحدة بشكل موحّد على مجموعة متنوّعة من النّصوص، قام عيد محمّد بتحديد العديد من النظريات المتداخلة التي يمكن استخدامها مع النصوص المختلفة من أجل الوصول إلى فهم أكبر للثقافة والقوة في علاقتهما معاً. على سبيل المثال، قادتنه أعمال إدوارد سعيد إلى التساؤل حول الإمكانيات المحررة للتمثيلات وفي نفس الوقت جوانبها الضابطة والرقابيّة من السلطات الحكومية والسلطات المعنية بوضع السياسات. يتجلى هذا بوضوح في محاولة إدوارد سعيد دراسة استخدام الغرب لهذه الرقابة والفكر الغربي لإسقاط هذا القولبة على ثقافة سياسية أوسع. أنا مهتم بتطبيق نظريات يمكنها تحليل الطرق التي تظهر بها عمليات الإسقاط هذه في المجالات البصرية والأدبية والاجتماعية. وبعيداً عن النُهج الشكلية التقليدية، مع توظيف معرفته بالدراسات البصرية والثقافية لإلقاء الضوء على كيفية توظيف وسائل الإعلام والأدب والسينما العربية كأدوات لانتقاد الوجود الثقافي والسياسي (الإمبريالي) الأمريكي في العالم العربي.

انطلاقاً من نظرية فوكو عن الخطاب، يخلص إدوارد سعيد إلى أن الخطاب الذي أنشأه الاستشراق يعزّز – كما أنه يبني – الإمبريالية الأوروبية: “لا يوجد توازٍ أكثر وضوحاً بين القوة والمعرفة في التاريخ الحديث لفقه اللغة مما هو عليه الحال في الاستشراق”. ويرى إداوارد سعيد مساهمة المستشرقين الرئيسية في دراسة الشرق على إنه إرساء للشرق ككيان هويته الوحيدة هي انحرافه عن المعايير الغربية، والذي لا يكتسب ماهيته من خصائصه بل من وجوده: “هم” مختلفون عنا؛ “هم” ليسوا نحن.

في كتابها “ثقافة إمبريالية الولايات المتحدة” (The Culture of United States Imperialism)، تلفت أمي كابلان الانتباه إلى أهمية الثقافة التي “لم تأخذ حقها في الدراسات التاريخية للإمبريالية الأمريكية”، وتقول إن “دور الإمبراطورية قد تم تجاهله بنفس القدر في دراسة الثقافة الأمريكية”. وتشدّد أمي كابلان على أن الإمبريالية لا تنفصم عن “العلاقات الاجتماعية والخطابات الثقافية للعرق والجنس والإثنية والطبقة في الوطن”. ومن ثم، فإن صياغة فكرة الأمة كوطن ترتبط بالتمييز الإمبريالي بين الوطن وما عداه. ويظل هذا الجانب من المعرفة هو الأكثر اتساقاً في تصورات “الذات” و”الآخر” في السياق الإمبريالي، والتي تصفها أمي كابلان خلافاً لذلك بالفوضوية والاضطراب. تسمح الإمبريالية بشكل من أشكال تبادل الأدوار، يكون القاسم المشترك الوحيد فيها هو الحاجة لتأكيد ثبات “الذات” الأمريكية في مواجهة “الاخر” الأجنبي الذي يتهددها. وتسوق أمي كابلان حجتها من خلال محددين رئيسين: الجنس والعرق. وتدفع أمي كابلان في مقالها “الحياة العائلية الواضحة” (Manifest Domesticity) بأن هذه “الذات” الأمريكية متمايزة بشكل كامل على حسب الجنس – هي ليست ذات واحدة، بل اثنتين على الأقل. والملاحظ أنها تركز على التصورات “الفوضوية والمضطربة” للإمبراطورية، وغالباً ما تشدد على تنوع المشروعات الإمبريالية. فهؤلاء المنظرون ينتجون مساحات ثقافية جديدة يمكن فيها تمثيل الحلم الطوباوي بإمكانية التضامن عير الاختلافات، وإعادة تقييم الفظائع التاريخية، وإعادة تأكيد أنماط التفكير المحررة سياسياً على نحو نصي وكذلك بصري.

تدور المناقشات الرئيسية للدوائر العلمية في مجال العلاقات الثقافية بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط حول ما إذا كانت الولايات المتحدة قد حققت ما يصفه صامويل هنتنغتون في كتابه “صدام الحضارات” بـ “عناصر الأرضية المشتركة” التي تشكل – وفقاً لمايكل هانت – “فهماً أعمق للافتراضات الدينيّة والفلسفيّة الأساسيّة التي تقوم عليها الحضارات الأخرى والطّرق التي يرى بها الناّس في تلك الحضارات مصَالحهم”.

يلفت دوغلاس ليتل، في كتابه “الاستشراق الأمريكي”،  انتباهنا إلى سوء التفاهم الثقافي الذي يشكل عقبات حقيقية أمام السياسة الخارجية للولايات المتحدة، مما يؤدي إلى العديد من العواقب السلبية التي تورط الولايات المتحدة في المشاكل. فقد بذل الأمريكيون، وفقًا لدوغلاس ليتل، جهوداً كبيرة لجعل مجتمعات الشرق الأوسط “حديثة” و “غربية”. لكنه يكتب قائلاً: “ومع ذلك في أوائل الألفية الجديدة، لا يزال العديد من الأميركيين يشعرون بالإحباط بسبب بطء وتيرة التغيير الاجتماعي، والقلق إزاء استمرار الاستبداد السياسي، والفزع من حركات كراهية الأجانب العنيفة التي تبديها جماعات مثل القاعدة، والتي تنطلق من جزء من العالم لا تزال أهميته الاقتصادية لا مثيل لها”. وهذا يجعل لقاء الولايات المتحدة مع الشرق الأوسط “ناتجاً ثانوياً لمكونين متناقضين: إندفاع لا يُقاوم لإعادة تشكيل العالم على صورة أمريكا وتضارب عميق تجاه الشعوب التي نريد إعادة تشكيلها”.

من خلال افتتاح كتابه وإنهائه بالإشارة إلى كتاب مارك توين ” الأبرياء في الخارج”، يقدم دوغلاس ليتل منظوراً بعيد المدى. فهو يشير إلى استمرار الأمريكيين في تصور العرب على أنهم “أشخاص متخلفون وغريبون وخطرون في بعض الأحيان يحتاجون وسيظلون يحتاجون إلى مساعدة وتوجيهات الولايات المتحدة إذا أرادوا العبور نحو التحديث السياسي والثقافي. ويشير دوغلاس ليتل إلى المجلة الأيقونية “ناشونال جيوغرافيك” وفيلم ديزني “علاء الدين” (1992) لإظهار الفرق بين صورة العرب في الثقافة الشعبية الأمريكية باعتبارهم “أقوام متخلفين وغريبين وخطيرين في بعض الأحيان” والإسرائيليين باعتبارهم غربيين و “عصريين”. ويختم دوغلاس ليتل بقوله أنه “ليس من المستغرب أن الجمهور وصانعو السياسة الأميركيين دأبوا منذ عام 1945 على نبذ المتطرفين العرب الذين يهددون الأمن الإسرائيلي أو يتحدون السيطرة الغربية على نفط الشرق الأوسط”. ويؤكد دوغلاس ليتل في نهاية كتابه أن علاقات الولايات المتحدة بالشرق الأوسط أصبحت تمثل إشكالية بسبب الاستشراق الأمريكي، الذي يجعل الأمريكيين “يستهينون بشعوب المنطقة ويبالغون في قدرة أمريكا على تحسين الوضع السيئ”.

يعطي زكاري لوكمان في كتابه “الصراع على تفسير الشرق الأوسط” سياقاً تاريخياً للمواقف الغربية الحالية تجاه الشرق الأوسط والإسلام والعرب، وهي مواقف تبنت واعتمدت على تحيزات صريحة على حد قوله. وعلى الرغم من أن أطروحات لوكمان ليست جديدة أو فريدة من نوعها، إلا أنها تقدم تأريخاً لبعض الأطروحات السابقة حول الشرق الأوسط وتؤكد على دور التاريخ في تشكيل العلاقة بين التيار السائد “نحن” والأغلبية “هم”. ويحاول لوكمان لفت انتباهنا إلى أهمية قراءة الأحداث الحالية من داخل إطار تاريخي – فالحقائق والأحداث المعاصرة ليست بمعزل عن جذورها التاريخية. وإذا كان الحاضر مبنياً على الماضي، فإن رؤيتنا للحاضر يجب أن تتجاوز حدود مكانه وزمانه. وفي حين تركز سرديات دوغلاس ليتل للعلاقات بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط على القرن العشرين، يساهم لوكمان بدراسة استقصائية واسعة النطاق لتطور المعرفة الغربية عن الإسلام والشرق الأوسط، من عصري اليونان وروما القديمين إلى فترة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر. وبالإضافة إلى ذلك، يدور كتاب لوكمان حول نظرية الاستشراق أكثر من تطبيقها.

لا يُعير رشيد خالدي أدنى انتباه للثقافة في عرضه التاريخي للعلاقة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط. ويشدد على أهمية استكشاف الماضي لمساعدتنا على إيجاد طرق أفضل للتعامل مع المواقف الحالية. ينطلق خالدي من الاحتلال الأمريكي للعراق، مؤكداً أن هذه الحرب خدمت مصالح إدارة بوش. ومن ثم يتحول خالدي إلى العلاقات التاريخية، محللاً فشل الاستعمار البريطاني والفرنسي في المنطقة بسبب تصميم الشعب العراقي على نيل الاستقلال. وفي الواقع تنظر الكثير من الدراسات العلمية حول دور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط إلى الماضي وتبحث في تاريخ الاستعمار. وبالمثل يتتبع خالدي علاقات الولايات المتحدة والعالم العربي في القرن العشرين من خلال قراءة تاريخ المنطقة. ومع ذلك، فإن إغفال خالدي لتحليل الوجود الاستعماري للإمبراطورية العثمانية في الشرق الأوسط خلال أوائل القرن العشرين قد يدفع البعض للنظر إلى تحليله على أنه غير متوازن ويروج لسيناريو الشرق مقابل الغرب، على الرغم من حقيقة أن كتاب خالدي من خلال عرضه التاريخي لقوة الولايات المتحدة يتحدى أطروحة صدام الحضارات.

يدرس باحثون آخرون الحاضر من خلال أحداث الحادي عشر من سبتمبر، حيث يقرأون الحادي عشر من سبتمبر وما تبعه على أنه مرحلة جديدة في تاريخ الولايات المتحدة والعالم. وتتأمل المقالات العشرة في مجلد ماري دودزياك المنقح الحادي عشر من سبتمبر على أنها لحظة فاصلة في تاريخ الولايات المتحدة والإسلام والعلاقات الدولية. وتصف دراسات أخرى وتقيم تعقد المشاعر المعادية لأمريكا، حيث يتتبع دينيس لاكورن وتوني جودت تعقد المعاداة لأمريكا في ستة أجزاء مختلفة من العالم: أوروبا الغربية وأوروبا الشرقية وروسيا والشرق الأوسط وآسيا الوسطى وجنوب شرق آسيا. ويقدم ديفيد فاربر منظوراً دولياً واسع النطاق للمواقف المعادية لأمريكا. ومن الجوانب المثيرة للاهتمام والفريدة في كتاب فاربر التعليقات على السياسة الخارجية للولايات المتحدة من الكُتاب الأجانب الذين يحددون جذور المشاعر المعادية لأمريكا ويشرحونها. وفي الواقع، يقترب هذا النوع من التحليل مما اعتزم القيام به في هذا الكتاب، إلا أن تركيزي سينصب على العالم العربي.

تلمس ميلاني مكاليستر، أستاذ الدراسات الأمريكية، في كتابها “لقاءات ملحمية” (Epic Encounters) في التنوع المحلي عاملاً رئيسياً في تمثيل الولايات المتحدة للشرق الأوسط. مرة أخرى، يتشابك المجالين المحلي والأجنبي. فيلعب تحديد “بياض” أو “سواد” العرب في الولايات المتحدة دوراً مهماً في الطريقة التي ينظر بها الأمريكيون إلى كل العرب في الشرق الأوسط. وتوضح ميلاني كيف تعمل الثقافة كظاهرة اجتماعية وتاريخية تشكل الهوية والسياسة. قراءاتها المتعمقة للثقافة الشعبية كوسيلة لسبر أغوار السياسة الخارجية للولايات المتحدة تمثل تحولاً عن سياسات العرق الداخلية في الولايات المتحدة. وتوضح ميلاني كيف شكلت المنتجات الثقافية المختلفة تصورات الجمهور للمواجهة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط. وتبين ميلاني من خلال الاستفاضة في كتاب “الاستشراق” لأدوارد سعيد والكشف عن طبقات أخرى فيه تشبع تمثيلات الشرق الأوسط بأيديولوجيات عنصرية أمريكية محلية. ويبدو أن تحديات العولمة والمقاومة المناهضة للاستعمار ومحاولات إنهاء الاستعمار والقومية في القرن الحادي والعشرين تقضي على أي إمكانية للإبقاء على مفاهيم العرق واللون كما قدمها المستشرقون الأوائل. وتدفع ميلاني بإن الخطاب الأمريكي منذ عام 1945 فيما يتعلق بالشرق الأوسط يتميز بـ “ما بعد الاستشراق”، حيث “عملت القوة الأمريكية بجهد كبير لكسر المنطق الأوروبي القديم وتثبيت أطر جديدة”.

معظم الدراسات الاستقصائية في هذا المجال أحاديّة الجانب، لأن مؤلفيها بالكاد يستقون مادّتهم من أيّ مصادر شرق أوسطيّة، ويحصرون أنفسهم بدلاً من ذلك في المصادر الأمريكية الثقافية والسياسية. لكن هناك بطبيعة الحال بعض الاستثناءات؛ ومن الأمثلة المهمة على ذلك كتاب براين إدواردز “تقييد المغرب” (Morocco Bound) وكتاب أسامة المقدسي “إيمان في غير محله” (Faith Misplaced). إلا أننا نلحظ في الببليوغرافيات الخاصة بالعديد من الأعمال البارزة في هذا المجال غياب ” الآخر العربي” بشكل كامل. وهذا يرجع إلى حد كبير إما إلى صعوبة الوصول إلى الأدب المترجم أو عدم توفر أي ترجمات على الإطلاق. ويستلزم النهج العابر للحدود الوطنية الترجمة الثقافية لسد الفجوة بين العالمين – أي الشرق الأوسط والغرب.

يتسم الإطار الذي يعمل فيه المنظرين في هذا المجال عادةً بالنسبية. ولذلك فإن هذا المجال في حاجة ماسة إلى التوليف، لأنه على الرغم من أن الدراسات الأكاديمية الحالية تعرض بنجاح للتجارب الأمريكية في أحداث الحادي عشر من سبتمبر، إلا أنها تضع بقية العالم – ليس كمشارك نشط – ولكن  كمجال سلبي تتحرك فيه الإمبريالية الأمريكية بحرية كل يوم، وبشتى الطرق. من شأن التوليف تقديم منظور مقارن كامل في هذا المجال.

تبدأ دراسة عيد محمّد بتقديم مصادر معينة تجسّد التبادل الفكري والثقافي في خضم اضطرابات القرن الحادي والعشرين الثقافية. ومن الغريب أن نجد في هذه التبادلات الثقافية أن الإسلام تتم مقارنته بالغرب كمنطقة جغرافية.

إن عملية وضع إطار جغرافي للعرب والمسلمين وفقاً للدّين علامة على التاريخ الطويل للاستشراق الغربي: كل عربي مسلم وكل مسلم عربي. كلاهما ينتميان إلى الإسلام، الذي يُنظر إلى عملية إصلاحه – من منظور استشراقي – على أنها تنطوي على تناقض كبير كما يشير إدوارد سعيد. فالمسلمون والعرب مطالبون بالتغيير، لكن نظام تفكيرهم الإسلامي يتجاوز أي إصلاح، في حين أن قيم الغرب وثقافته مستقرة وتتجاوز أي حاجة للتغيير.

يُناقش محمد عيد في الفصل الأول كيف يطعن علاء الأسواني وأماني أبو الفضل في النصوص أمريكية التمركز من خلال الكتابة عن العرب من وجهة نظر العرب المتعلمين في الولايات المتحدة. وهما يرفضان الاعتقاد بأن الهويّتان العربيّة والأمريكيّة نقيضان طبيعياّن، وهي وجهة النظر التي يروّج لها المستشرقون. ينبذ الكاتبان المصريان ادّعاءات صدام الحضارات؛ ويركزان بدلاً من ذلك على إعادة بناء الظروف التاريخية التي ساهمت في الثنائية المتقابلة لـ “نحن” و “هم”. تقتفي روايتي “شيكاغو” و”طيور الجنوب” عمليّة تشكّل الاختلافات وممارسة الإقصاء وظهور القوالب النمطية. ويركز الروائياّن العربياّن على حالات معينة من نقد الذات ويتطرقان إلى عملية إنتاج وإعادة إنتاج الصور النمطية. وبالإضافة إلى ذلك يوازنان هذه الصّور النمطيّة من خلال إتاحة الفرصة للأصوات المعتدلة للتعبير عن نفسها،  والتي عادة ما يخفيها خطاب صدام الحضارات ويسكتها. كلا الكتابين يقاومان التمثيل الكلّي لـ “الذات” و “الآخر”.

تكمن جاذبية روايات الأسواني في تنوع الطيف الواسع من الموضوعات الإنسانية والسياسية والاجتماعية التي تظهر في أعماله. وبالإضافة إلى ذلك، تروق قدرته على تسجيل التاريخ الاجتماعي والسياسي الحديث لمصر للقراء. يروي الأسواني، من خلال شخصياته، آمال المصريين ونجاحاتهم وإخفاقاتهم وإحباطاتهم وخيبة أملهم وألمهم. وتجذب رواياته جمهوري كل من الأدب والسينما لأنهم يمكنهم بسهولة التعاطف مع شخصياته. الشخصيات الرئيسية في “شيكاغو” مصرية، لكن هذا لا يهم بالضرورة؛ كونك مواطناً في ظل حكومة قمعية لا يختلف عن كونك عربياً في الولايات المتحدة. تتشاطر الشخصيات قواسم مشتركة مهمة ويمكن اعتبارها تمثل الجميع رجالاً ونساءً. ومع ذلك، لا توجد تجربة عربية واحدة أو تاريخ عربي واحد أو وجهة نظر عربية واحدة. عندما يحدث مثل هذا الإنصهار – عندما تكون “العربية” تصنيف ذو مغزى حقيقي – فإنها تنفذ عبر – وفي مقابل – الاختلافات القومية والدينية وكذلك الاختلافات في الرأي السياسي، وبالتالي فهي تصنيف أكثر تعقيداً.

ويُحلّل في الفصل الثاني حدثين من أحداث عالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر، كاشفاً عن القوالب النمطية التي تجسدها حول “الذّات” و “الآخر”.

 ومنطلقاً من “الاستشراق” لإدوارد سعيد، يتناول دور التمثيل في بناء الغرب. ويعرض كيف يُمكن للإعلام أن يشكّل موقعاً تعويضياَ يُمكن من خلاله محاكاة الصور النمطية وتبنيها. ويطرح أسئلة مهمة حول العلاقة بين التاريخ الطويل للقوالب النمطية وإنتاج المعرفة التي تعيق التفاعل بين الولايات المتحدة والعالم العربي. هدف عيد محمّد في هذه الدراسة هو سدّ الفجوات في فهمنا للـ “الآخر المحجوب”. يجمع طائفة من المواد للتأمل في الحدثين – واقعة رمي الأحذية التي تعرض لها الرئيس بوش في العراق وانتخاب الرئيس أوباما –  ويحللهما من حيث التفاصيل النصية كوسيلة لتفسير العوالم المتنافسة. وفي هذا المسعى يُشدّد على طريقة التحليل التي تبحث في العالم الذي يراكم فيه النص المعنى. كشفت القراءة الدقيقة لمجموعة واسعة من الكتابات – الإسلامية والعلمانية والليبرالية وما إلى ذلك – والتي ركزت على الآراء والنقد واعتبار التمثيل كسلسلة من الممارسات والمنظورات، عن أنّه على الرغم من الخلفيّات والاستثمارات المختلفة للغاية لهؤلاء الكتاب العرب، إلا أن ردود أفعالهم على الحدثين متشابهة بشكل ملحوظ.

يُحلّل في الفصل الثالث الطرق التي تحاول بها الأفلام المصرية / العربية إثبات أن المظلومين والمستبعدين والمشيطنين يشكلون تهديداً دائماً لأي حوار بين الولايات المتحدة والعالم العربي.وتظهر  أفلامهم الفجوات وأوجه السيولة في هذا الخطاب. وهو خطاب مثير للجدل، يشدد على مركزية الصراع العربي الإسرائيلي، والحرب في العراق، والمشاعر المعادية للعرب. وهناك الإشارة المتكررة إلى الاختلافات الثقافية النمطية بين العرب والأمريكيين، مع مواقفهم القمعية والاستبدادية المألوفة على نحو محبط تجاه بعضهم البعض. يقدم المخرجون العرب باختصار تفسيرات جديدة للتاريخ، مقدمة من منظور “الآخر” المضطهد. وهم يحاولون بناء عالم بدون “حرب”، عالم كما يشير سام كين

العدو الحقيقي فيه الذي يجب أن نكافح ضده هو نظام الحرب. يشمل هذا النظام كلاً من المؤسسات السياسية التي نثقف من خلالها ونعود أنفسنا على الحرب وآليات الدفاع النفسي … إن العائق المباشر أمام إنهاء الحرب هو العقلية التي تقنعنا بأن الحرب لا مفر منها وأن أي أمل في عالم خالٍ من الحرب هو محض طوباوية.

تساعدنا رؤى كين لطريقة عمل “نظام الحرب” على فهم الاعتراضات التي يطرحها المخرجون العرب عن اللقاء العربي الأمريكي. هم يشجعون الخطابات البديلة التي تشكك وتستبدل الخطاب والإدعاءات التي يقوم عليها صدام الحضارات والحرب بمصطلحات جديدة قوامها العدالة والتسامح والتفاعلات الإنسانية المتقلبة. وفي محاولة للاستجابة لروح العصر المتسم بالعولمة، يربط المخرجون العرب بين “الداخل” و”الخارج”.

ويُحلل في الفصل الرابع نصّين أدبيين عربيين-أمريكيين لما يذخران به من القوالب النمطية وخيالات المهجر. تخلق مهجة كهف في “رسائل بريد إلكتروني من شهرزاد” (emails from Scheherazad)، حيزاً تمثيلياً من “ألف ليلة وليلة” للتعبير عن الصعوبات التي يواجهها العرب / المسلمون في الولايات المتحدة. تصور مهجة الكاتبة العربية / الأمريكية حياة أولئك الذين لا يٌسمع صوتهم في الخطاب الوطني السائد لكل من الولايات المتحدة والعالم العربي. ويدعو عمل مهجة إلى العودة إلى المرأة العربية التى تدعم نفسها بنفسها، وإلى التحرك نحو الاستقلال، ورفض الحكم الذكوري. كما أنها تنادي بالعودة إلى التقاليد والاعتماد على الذات كما كان الحال في الماضي. ويُظهر ديوان “رسائل بريد إلكتروني من شهرزاد” أن النساء الأميركيات من أصول عربية لديهن الكثير ليقدمنه إلى الولايات المتحدة في معضلة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر – من خلال استعادة التقاليد مع التوفيق بين الآثار العديدة للحداثة. تستخدم شهرزاد الأمريكية طرقها التقليدية من الماضي لخلق مرآة حديثة لنفسها.

صمّمت ليلى حلبي روايتها “ذات مرة في أرض الميعاد” على شكل استحضار مطول للذكريات، مؤكدةً على تشكيل الماضي للحاضر، الذي يقود في النهاية إلى عالم بلا مستقبلي. بطلة ليلي حلبي – سلوى – تضررت من تجربة الحرية. وتستخدم رواية “ذات مرة في أرض الميعاد” ما قد يبدو لأول وهلة مجرد قصة بسيطة في مشهد تاريخي واجتماعي معين كرمزية. ويتجلي التوتر بين “الذات” و “الآخر” من عدة نواح في المواجهة بين الزوجين سلوى وجاسم و “الآخر الأجنبي”. أصبحت أحداث الحادي عشر من سبتمبر بمثابة مجاز عن المسعى المستمر نحو الاغتراب الذي اتخذه سلوى وجاسم والعواقب المأساوية والمربكة التي تؤدي إلى نظرة استعمارية تواصل تشكيل الحاضر. تبحث رواية “ذات مرة في أرض الميعاد” في صميم عالم ما بعد الاستعمار عن التوترات الناجمة عن الترابط بين الاستقلال والتابع المُسْتَعْمَر. يمكن أن تحمي التقاليد الزوجين، لكن فقدان التقاليد يتركهم في وضع هش. هذه الحالة من فقدان التقاليد هي التي تشوش فكرة وجود أميركيين من أصل عربي نفسها، فكون الهوية تستدعي إعادة التعريف في الرواية، فإن التقاليد لم يعد بمقدورها حمايتهم وتصبح بدلاً من ذلك مصدراً آخر للصراع. تركز ليلى حلبي على المساحة العائلية الصغيرة كرمزية للعالم الأكبر وتبحث من خلالها معضلة ما بعد الاستعمار. كون أن العولمة أصبحت تفسر الطبيعة الهجينة للكتاب الأمريكيين من أصول عربية، فإن هناك بعد وطني (أو محلي) ثالث، هجين ثقافي جديد، يدمج بين الثقافتين الوطنيتين من خلال عملية من التوليف المعرفي والعاطفي. يحاول الأمريكيون من أصول عربية في كتاباتهم أن يفسروا الشخص المنفي والطريقة الهجينة لصياغة الهوية. وهم يسعون إلى بناء هويات بديلة ومُزعزِعة تركز على اللحظة وتحاول إسقاط الطرق التي يتم بها بناء الهوية ضمن قيود التاريخ والزمن.


الفصل الأول من كتاب:

Mohamed, Eid.” Arab Occidentalism: Images of America in the Middle”(2015), I.B. Tauris & Co Ltd, pp34-13