مجلة حكمة
الإبداع في الفلسفة والشعر الرزاق

الإبداع في الفلسفة والشعر – عبد الحي أزرقان


الإبداع في الفلسفة والشعر

أود في البداية أن أقدم توضيحا بصدد العنوان الذي اخترته لهذا العرض. لن أحاول رصد الشروط العامة للإبداع في مجالي الشعر والفلسفة بقدر ما سأعتمد على وجهة نظر تاريخية تكمن في اختيار فلاسفة وشعراء ينتمون إلى مراحل تاريخية مختلفة خصصوا جزءا من تفكيرهم وكتاباتهم للموضوع.

وسوف أقسم المقال إلى جزأين: جزء أول سأركز فيه على فيلسوفين يلتقيان، رغم التباعد الحاصل بينهما فيما يخص الأزمنة التي عاشا فيها، وكذلك الأسس الفلسفية التي طوراها، في حصرهما للإبداع في مجال الفلسفة دون الشعر؛ وجزء ثان سأتناول فيه شاعرا وفيلسوفا يتفقان معا على كون الشعر مجالا خصبا لتحقيق الإبداع وعلى أن الفلسفة لن تنال حظها بصدد هذا الأخير إلا في الحالة التي يدرك فيها الفيلسوف شروط التجربة الشعرية ليوجه وفقها تفكيره. سألجأ في الختام، طبعا، إلى استخلاص أهم الفوارق الموجودة بين الفلسفة والشعر، تلك الفوارق التي تجعل الجمع بينهما يخل في الحقيقة بإحدى أهم وظائف الفلسفة أي وظيفتها التأسيسية، كما يمكن أن يخل في الوقت ذاته بالتجربة الشعرية لأن هناك من سيعتقد، في حالة القول بالجمع، في إمكانية ربطها بالوظيفة التأسيسية. حرمان الفلسفة من التأسيس أو إسناد التأسيس للشعر، هذا هو الخطأ (إن لم نقل الخطر) الذي ينطوي عليه القول بمماهاة الإبداع في الفلسفة والشعر .

يلتقي كل من أفلاطون ونيتشه في كون إنتاج الشعراء لا يرقى إلى المستوى الذي نطلق عليه الإبداع. والسبب في ذلك راجع بالنسبة للفيلسوفين معا إلى كون الشعراء في نظرهما يظلون مرتبطين بالمعرفة السائدة عند العوام. إنهم يقيمون معرفتهم على المعرفة العامية، كما يسخرونها في إرضاء العامة. تكاد التعابير تكون واحدة بهذا الصدد عند كاتب الجمهورية وكاتب هكذا تكلم زردشته. يقول الأول: “مع ذلك فإنه (الشاعر) لن يتردد في المحاكاة دون أن يعرف الجانب الذي يجعل كل شيء حسنا أو قبيحا(…) إن ما يبدو جميلا للعوام والجهلة سيكون هو بالضبط ما سيحاكيه الشاعر”(1) ونقرأ عند الثاني ما يلي: “ولكن افتراض شخص ما يقول بكل جدية إن الشعراء يغالون في الكذب، فإن هذا الشخص لن يكون على خطإ، ذلك لأننا نغالي في الكذب (…) فلأن معرفتنا فقيرة فإننا نرضى من أعماق قلوبنا بضعفاء الفكر وخاصة إذا تعلق الأمر بالنساء الصغيرات! والأكثر من ذلك فإننا نرغب فيما تتراوده العجائز فيما بينها ليلا. ذلك الذي نسميه نحن شخصيا بالمؤنث الأبدي”.

نلاحظ بعد هذا الالتقاء الكامن في القول بالطابع العامي للمعرفة الشعرية التقاءهما أيضا في ربط الإنتاج الشعري (أي إبداعه) بالأشباح. “إن فن المحاكاة، يقول أفلاطون بعيد إذن عما هو حق. إذا كان في استطاعته إنجاز كل شيء فذلك لأنه لا يحس، على ما يبدو، سوى جزء صغير من كل شيء. وما هذا الجزء الصغير إلا شبحا”. ثم يضيف: “لنمعن النظر فيما يلي: “إن مبتكر الأشباح، أي المحاكي، لا يفهم شيئا فيما يخص الواقع. إنه لا يعرف سوى الظاهر”(3) يعبر نيتشه عن الفكرة ذاتها في كتابه السالف الذكر حيث يقول : “نفخ في الأشباح ومحاذاتهم. هذه هي قيمة هرج قيثارهم بالنسبة إلي”(4).

هناك نقطة أخرى يلتقي حولها أفلاطون ونيتشه وهي كون إنتاج الشعراء يتسم بالضعف والرداءة. إذ “لا تخلق المحاكاة بالنسبة لأفلاطون سوى ما هو وضيع” (الجمهورية ص 315). وهذه هي الفكرة ذاتها التي يعبر عنها نيتشه حينما يقول على لسان زردشته: “لقد ألقيت بشباكي في بحارهم (أي الشعراء) وأردت اصطياد الأسماك الجيدة: غير أن ما اصطدته من جديد هو رأس إله قديم. هكذا كان نصيب الجائع من كرم البحر هو الحجر” (ص165).

ونورد في الأخير، بصدد التقاء الفيلسوفين في انتقادهما للشعر والشعراء، إثارة مؤاخذتهما لهؤلاء على عدم نفاذهما إلى أعماق الأشياء. تتضح الفكرة عند أفلاطون حينما يعتبر أن مرجعية الشاعر لا تخرج عن إطار الصورة أو الظل، أي عما هو ظاهري، وكذلك حينما يؤكد على أن العنصر الفاعل في التعامل مع هذه المرجعية يختزل على العموم في المشاعر والأحاسيس الحيوانية، أي المكون السيء للروح. “إننا على حق في مهاجمته (أي الشاعر) ووضعه في المكانة ذاتها التي نضع فيها الرسام، ذلك لأنه يشبهه في كونه ينجز أعمالا ذات ثمن بخس إذا ما قارناها بالحقيقة؛ وإنه ليشبهه أيضا في العلاقات التي تربطه بجزء من الروح ذي الثمن البخس أيضا. بينما لا تجمعه أية علاقة بالجانب الأفضل منها” (ص 317).

وإذا انتقلنا إلى نص نيتشه عن الشعراء فإننا نقع، وفي وضوح تام، على الانتقاد ذاته حيث يقول بدوره: “لقد تعبت من الشعراء، القدماء منهم والجدد على حد سواء. إنهم سطحيون كلهم وبحار بدون عمق بالنسبة إلي. إلى الأعماق الحقة لم تصل أفكارهم، بحيث إلى الأعماق لم تنفذ مشاعرهم. شيء من اللذة وشيء من الضجر، هذا كل ما اهتمت به أفضل تأملاتهم” (ص 165).

هذه إذن مجموعة من النقاط تؤكد لنا التقارب الكبير الحاصل بين أفلاطون ونيتشه في نظرتهما إلى الشعر والشعراء. ولكن هل هي كافية للقول بوحدة النظرة عند فيلسوفين يجمع مؤرخو الفلسفة على تعارض فلسفتهما؟ إن فحص منطلقيهما في تقويمهما للشعر يجعلنا نقلل من أهمية الالتقاء الحاصل بينهما في هذا الإطار ونبحث عن معطى محدد يسمح في نهاية المطاف بالاحتفاظ بالفكرة رغم ما يمكن أن تنطوي عليه من تعسف.

يفصح أفلاطون في الكتاب العاشر من الجمهورية، الكتاب ذاته الذي اعتمدنا عليه أعلاه، على أن رفضه للشعر جاء نتيجة تناقض هذا الأخير، في نظره، مع تأسيس الدولة وسن قوانينها، ومن ثمة مع تحقيق العدالة وباقي الفضائل الأخرى (ص 317-319). إن الفلسفة وحدها، حسب النص المذكور، هي التي يكون في استطاعتها تحقيق مثل هذه المهمة. هكذا يكون الفيلسوف هو المبدع ويكون الإبداع هو خلق الأسس المتينة التي تسمح ببناء مجتمع يسود فيه العدل وباقي الفضائل الأخرى. الإبداع مقرون إذن بالنموذج العقلي. وهذا ما يفسر تركيز النقد الأفلاطوني على صنف معين من الشعر وهو الشعر القائم على المحاكاة (“عدم قبول هذا الجزء من الشعر الكامن في المحاكاة” ص305) أي الشعر المعبر عما هو موجود. إن شرط الإبداع في مجالي الشعر والفلسفة بالنسبة لأفلاطون هو التوجه نحو واجب الوجود أو نحو النموذج، نقول بتعبير آخر الاهتمام بمسألة التأسيس.

أما إذا انتقلنا إلى نيتشه فإننا نلاحظ أن انتقاده للشعر ينطلق من كون الشعراء لا يتمكنون من خلق الإنسان المتفوق نظرا لفقر معرفتهم، أي لعدم ارتقائها إلى مستوى دحض القيم السائدة وتحطيم طابعها الخالد. ما الذي يسمح بالاعتقاد في خلود القيم؟ الجواب دقيق وبسيط حسب النص الذي نعتمده في تطوير هذا الموضوع أي عن الشعراء. إنه الاعتقاد في خلود الروح، ذلك الموقف الذي لا ينفصل عن القول بفناء الجسد وبممارسة احتقاره. لقد قدم زردشته موقفه من الشعراء، ذلك الذي لخصناه أعلاه، بعدما أكد في بداية المقال: عن الشعراء على معرفته الجيدة للجسد “منذ أن بدأت أعرف الجسد بشكل أفضل لم يعد الروح بالنسبة إلى روحا إلا على مستوى الكلام. وكل ما هو خالد فما هو أيضا إلا صورة (ص 162). تسير نهاية المقال بدورها في هذا الاتجاه، أي التخلص من الفكر المرتبط بخدمة الروح، حيث يقول: “التائبون عن خدمة الروح، هؤلاء هم الذين رأيتهم قادمين. وعن أولئك (الشعراء) نشأ هؤلاء” (ص 166).

إذا كان الالتقاء بين الفيلسوفين واضحا بصدد النقاط التي ذكرناها في البداية فإن الاختلاف هنا أوضح. إذا كان أفلاطون يعيب على الشعراء قصورهم فيما يخص التأسيس، إن لم نقل تعارضهم مع هذه الوظيفة، فإن نيتشه يرفض إنتاجهم لأنه لا يرقى إلى مستوى دحض المبادئ الخالدة أي إلى مستوى اللاتأسيس. يرتبط الإبداع إذن عند نيتشه فيما يتصل بالفلسفة والشعر بعملية اللاتأسيس وبالضبط بالهدم. هدم ماذا؟ هدم الأسس التي تستند إليها القيم كي تضفي على ذاتها طابع الخلود.

ولكن لنتساءل مرة أخرى عما إذا كان الاختلاف لا يحتاج إلى مزيد من التحديد وعما إذا كان لا يؤدي في نهاية المطاف إلى التقاء وطيد.

أعتقد أن التقارب حاصل بين الفيلسوفين لأن الإبداع مقرون عندهما معا بالرسالة من جهة، وبالتأثير في الواقع من جهة ثانية. لا يهم إن كانت الرسالة تحمل الإيجاب أو السلب. المهم هو التنصيص على الرسالة. هكذا يتبين لنا من ربط الإبداع في الفلسفة والشعر بالرسالة أن الخلاف يكمن بين الفيلسوفين في المرجعية التي ينبغي أن يستند إليها الشاعر والفيلسوف وليس في مسألة المرجعية ذاتها. كما يتبين لنا، وهذا هو المهم، أن الاتفاق حاصل في كون الفلسفة تظل تأسيسية فتبتعد بذلك عن الشعر الذي يبقى بعيدا عن مثل هذه المهمة.

لننتقل الآن إلى الموقف الثاني الذي يقر بالالتقاء بين الإبداعين الفلسفي والشعري، أي بالصلة الوثيقة بين الفلسفة والشعر، ولنسجل أهم النقاط التي يعتمد عليها في هذا الإقرار. وسنركز هذه المرة على فيلسوف وشاعر وهما هيدغر وريلك نظرا لانطباق ما يقوله كلاهما عن مجاله على مجال الآخر. إن معظم العناصر التي يطالب ريلك بتوفرها في التجربة الشعرية يثيرها هيدجر بدوره في إطار تنظيره للتجربة الفلسفية.

يمكن القول إن هيدجر وريلك يقومان معا بتجذير مفهوم الإيبوكي للتوصل إلى الغياب الفعلي للمرجعية كي يتحقق الإبداع في الفلسفة والشعر بالطريقة ذاتها التي يتحقق بها في مجال الفن التشكيلي مثلا.

الرجوع إلى الأشياء ذاتها أو الأشياء كما هي، هذا هو منطلق الفينومينولوجيين، ويفيد محاولة التخلص من المعاني السائدة، أي محاولة إرجاع المعنى إلى درجة الصفر. هناك الفيلسوف (أو الشاعر) من جهة وهناك الأشياء، من جهة ثانية، وهي فارغة من كل ما شحنت به من المعاني. وحتى إذا لم يكن من الممكن الحديث عن غياب المعنى فإنه من الممكن، على الأقل، الحديث عن المعنى الواحد. ويقصد بالمعنى الواحد تساوي الأشياء فيما بينها في لحظة معينة، أو إمكانية الفيلسوف (أو الشاعر) ممارسة هذه المسألة وأخذ الأشياء من حين لآخر في مستوى واحد. يمكن أن يكون كل شيء غنيا، كما أن كل شيء يمكن أن يكون فقيرا فيما يخص المعنى.

لا معنى في البداية بالنسبة للفيلسوف، حسب هذا المنطلق، لتفضيل مجال عن مجال آخر، وجانب من الحياة عن جانب آخر، أو نوع من المعرفة عن نوع آخر. وهذا ما يعبر عنه ريلك حينما يقول: “ليس هناك فقر بالنسبة للمبدع، كما أنه ليس هناك مكان فقير وبدون أهمية”(5). لا يستعمل ريلك تعبير الرجوع إلى الأشياء ذاتها، على الأقل في النص الذي نعتمد عليها هنا، ولكنه يستعمل مع ذلك “الرجوع إلى الطبيعة”، و”ربط العلاقة بالطبيعة” حيث ينصح صديقه قائلا: “اقترب إذن من الطبيعة” (ص37) و”وابحث على أن تكون قريبا من الطبيعة”(ص 58) كما يستعمل كذلك تعبير “الحياة الخالصة”. إنها تعابير تفيد كلها تغييب المرجعية أو تغييب المعنى القبلي كشرط للإبداع في التجربة الشعرية. إنه شرط يؤكد عليه هيدجر باستمرار في التجربة الفلسفية.

وفي هذا الإطار تدخل أيضا نصيحة ريلك لصديقه الشاعر القاضية بعدم الاهتمام بالنقاد وبعدم قراءة الكتابات النقدية. فالاهتمام بالنقد قد يجعل الشاعر يحبس نفسه في إطار معين محدد سلفا من طرف غيره من حيث الشكل ومن حيث المضمون. إنه سيخضع إنتاجه لنظام قائم وضعه الآخرون، فكيف يمكن أن يحصل الإبداع إذا ما انضبط المبدع للنظام؟

لا يعني انمحاء المعنى أمام الفيلسوف والشاعر طبعا انمحاء الفيلسوف أو الشاعر ذاتهما. تفيد العملية إعطاء الأولوية للشاعر وللفيلسوف، وتفيد تقدير العلاقة التي يمكن أن تنسج بينهما كليهما والعالم الخارجي، وتقدير التفاعل الناتج عن تلك العلاقة. إن مفاد انمحاء المعنى هو السماح للشاعر أو الفيلسوف بتجسيد المعاني المتعددة والمختلفة التي تخترق باله وتوهج أحاسيسه. إنها فرصة لأخذ الحرية والتفكير خارج الممنوع وغير اللائق لطرح مختلف الأسئلة التي تراود المبدع والإجابة عنها وفق حدة تفاعلاته مع عالمه. إنها لحظة ينتفي فيها الانتقاء على مستوى طرح السؤال وعلى مستوى تقديم الجواب.

وإذا كان هيدجر يؤكد على هذه المسألة فيما يخص الفلسفة في كثير من كتاباته وعلى الخصوص في الفصل الأول من مدخل إلى الميتافيزيقا فإن ريلك بدوره يثيرها في مراسلاته، والأكثر من ذلك فإنه يؤكد على حصر السؤال في المستوى الذي يمكن فيه للشاعر أن يقدم الجواب، وذلك حفاظا على صدق أحاسيس الشاعر وعلى طبيعة فكره. يقول ريلك وهو ينصح صديقه الشاعر: ” عليك أن تتحلى بالصبر اتجاه كل ما يتردد بصدده قلبك وأن تحاول محبة الأسئلة ذاتها كما لو كانت غرفا مغلقة، أو كما لو كانت كتبا مؤلفة في لغة أجنبية. لا تبحث الآن عن الأجوبة التي لا يمكن أن تقدم إليك لأنك لن تستطيع أن تعيشها. يتعلق الأمر بعيش كل شيء. عش الآن الأسئلة. ومن الممكن أن تتوصل يوماما في المستقبل البعيد، وبدون أن تنتبه إلى ذلك، إلى الدخول في الجواب. من الممكن أنك تحمل بداخلك إمكانية الصياغة والتشكيل، ففي طريقة الحياة هذه سهولة وصفاء خاصان”(ص 48).

يثير ريلك نقطة أخرى ستجد صدى قويا في فلسفة هيدجر(6)، وعلى وجه الخصوص في كتابه مدخل إلى الميتافيزيقا. يتعلق الأمر بما يسميانه باستعصاء الوضع، وهي نقطة تلتقي بدورها بما قلناه أعلاه. إن إضفاء الصعوبة والثقل على الأوضاع والأشياء معناه عدم الاستخفاف بأي شيء، وعدم الانسياق مع الحلول التبسيطية التي تعتمد في أغلب الأحيان على المنع أو الإقصاء. لنتأمل في قوليهما بهذا الصدد. يكتب ريلك ما يلي: “لقد أوجد الناس (اعتمادا على الأعراف) الحلول لكل شيء بشكل هش وهش جدا. في حين أنه لأمر واضح أنه علينا أن نقف بجانب الخطورة. فكل من يحيا يوجد بجانبها. كل شيء في الطبيعة ينمو ويقاوم حسب طريقته الخاصة، ويشكل انطلاقا من ذاته شيئا خاصا،ويحاول بأي وجه أن يكون كذلك فيواجه كل عرقلة. نعرف الشيء القليل ولكن يقينا لن يغادرنا وهو أنه علينا أن نكون بجانب ما هو خطير. إنه لأمر جيد أن يعيش المرء العزلة لأن العزلة خطيرة. وأن يكون شيء ما خطيرا ينبغي اعتباره بمثابة سبب للتعاطي إليه (ص 61).

سيعبر هيدجر فيما بعد على الفكرة نفسها بصدد الفلسفة حيث يقول: “إنه لمن ماهية الفلسفة أن تجعل الأشياء أكثر صعوبة وأكثر ثقلا وليس أن تجعلها أكثر سهولة وأكثر هشاشة. إن إضفاء الخطر على الأشياء والموجود يعيد لها الثقل (الوجود). لماذا هذا الأمر؟ لأن إضفاء الخطر على الأشياء يشكل إحدى الشروط الأساسية والحاسمة لنشأة كل ما هو عظيم” (Introduction à la métaphysique p. 23-24.).

لا بأس أن نضيف نقطة أخرى تنتمي إلى ماهية الشعر حسب تصور ريلك لهذا الأخير وتحتل مكانة متميزة في التحديد الهيدجري للفلسفة. يتعلق الأمر بالإمكان وفتح الآفاق. إذا كان ريلك يصر على ضرورة تقدير الشاعر لتجربته الفردية فذلك لترك المجال مفتوحا لمختلف الإمكانيات المتوفرة لديه في فهم الحياة وبالخصوص في سبيل فتح الآفاق.تنحو المعرفة الشعرية، حسب ريلك، والفلسفية، حسب هيدجر، نحو المستقبل لخلق فجوات داخل الواقع الذي تنشأ فيه وليس لتحديد الشروط والوسائل التي ستمكن من تحقيق المستقبل المنشود (انظر كتاب ريلك ص 51 و 72 وكتاب هيدجر ص 23). معنى هذا أن الإبداع في الفلسفة والشعر بعيد كل البعد عما يسمى على العموم في اللغة الفلسفية بالتأسيس. لا يسعى الشاعر والفيلسوف إلى الفعل في الواقع بشكل مباشر وإلى توجيهه والسيطرة عليه. إنهما يكتفيان بالبحث عن الانفلات من قوته الاستدراجية وخلخلة الطابع القدسي الذي تسعى تلك القوة إلى إضفائه على نفسها.

بقي أن نتساءل الآن عما يمكن استخلاصه من الالتقاء الذي سجلناه بين التصور الهيدجري للإبداع في المجال الفلسفي والتصور الريلكي للإبداع في المجال الشعري. إننا نلاحظ بكل وضوح أن الالتقاء جاء نتيجة التحول الذي أحدثه هيدجر في ماهية الفلسفة حيث بذل كل جهده، في مختلف كتاباته، وبدون استثناء، من أجل تحويل الفلسفة عن الوظيفة التي ارتبطت بها مع نشأتها، أي الوظيفة التأسيسية.

هناك شرط واضح إذن لكي يلتحق الإبداع الفلسفي بالإبداع الشعري ألا وهو أن تبتعد الفلسفة عن فكرة وضع الأسس وعن فكرة البناء. لا يعني هذا، بطبيعة الحال، أن هيدجر يجردها مما عبرنا عنه سابقا بالرسالة. كل ما هنالك هو أن الرسالة يتغير معناها. إذا كانت الرسالة تفيد بالضرورة المرور من القول إلى إخضاع الواقع للقول أي إلى ضبطه انطلاقا من هذا القول فإن الفلسفة ستكون حسب التحديد الهيدجري متنافية مع الرسالة. وأما إذا اكتفينا بربط الرسالة بالبحث عن المعنى وخلق المعنى وإظهار المعنى فإن الفلسفة لن تتنافى في هذه الحالة مع الرسالة.

ولكن هل يمكن اعتبار تحويل الفلسفة عن مهمتها التأسيسية من طرف أحد كبار فلاسفة القرن العشرين مسألة كافية لإلحاق الإبداع الفلسفي بالإبداع الشعري؟ الجواب في نظرنا لن يكون إلا بالسلب. ستظل الفلسفة بدون شك مقرونة بالتأسيس، ولن تحافظ على مكانتها إلا بأدائها لهذه الوظيفة. إننا نعتقد أن هيدجر ذاته لم يتخل في نهاية المطاف عن فكرة التأسيس بشكل قطعي(7). كل ما في الأمر، في نظرنا، هو أنه انتبه إلى صعوبة التأسيس في عالمنا المعاصر وظل في الوقت ذاته ينظر إلى التأسيس بالطريقة التي تم تناوله بها في الفلسفات السابقة عليه. فبدل أن ينتهي، بعد انتباهه إلى الصعوبات التي يطرحها التأسيس، إلى التساؤل والبحث عن طرق أخرى في إنجاز التأسيس، نجده أعطى الأولوية للعملية المعاكسة أي اللاتأسيس.

وإذا كنا نثير انتباهه إلى صعوبة التأسيس في العالم المعاصر كعامل أساسي في تحويله للفلسفة عن وظيفتها التاريخية فإننا لن نغفل نقطة أخرى كان لها دورها الكبير، في نظرنا، في تحديد توجهه هذا. نعتقد أن تخلي هيدجر عن التفكير في التأسيس جاء أيضا وبالخصوص نتيجة تصوره له بالطريقة القديمة أي التأسيس وفق المركز أو القمة ووفق السيطرة التامة والخضوع التام. ولكن هل من الضروري أن يفكر الفلاسفة المعاصرون في التأسيس انطلاقا من مثل هذا التصور؟ هل من الضروري أن ينحصر الإبداع الفلسفي المقرون بعملية التأسيس في هذا الإطار بالذات؟ لا نعتقد ذلك، والدليل هو وجود فلاسفة معاصرين جاءوا بعد هيدجر وفتحوا المجال للإبداع الفلسفي في الإطار نفسه الذي يرفضه فيلسوف الاختلاف، دون السير مع ذلك في الخط الذي انضبط فيه القدماء والمحدثون·

 

مجلة الجابري – العدد الثامن


الهوامش:

1 – Platon, La Républiquetrad. Emile Chambry, ed. Gouthier 1977, p. 313.

2 – Nietzsche, Ainsi parlait Zarathoustra, trad. Maurice de Gaudillac, ed. Gallimard, p. 164.

3 – Platon, la Républiquep. 312.

4 – Nietzsche, p. 165.

5 – Rilke,Lettres à un jeune poète,TradClaude Mouchard et Haus Hartje, ed. Livre de poche 1989 p.37.

سأكتفي في الإحالات الأخرى على ريلك بذكر الصفحة فقط لأن المرجع سيكون دائما هو ذاته.

6 – نتجاوز هنا مسألة تأثير أحدهما على الآخر. لقد اطلع هيدجر على ريلك وكتب عنه ولكنه لا يحيل عليه مثلا حينما يتحدث عن قيمة السؤال في الفلسفة أو حينما يربط هذه الأخيرة بفتح الآفاق أو حينما يطالبها بالعمل على استعصاء الوضع. كل ما نسعى إلى تسجيله هو إمكانية (أو ضرورة) الالتقاء بين الفلسفة والشعر انطلاقا من تحديد هيدجر وريلك لهما.

7 – هناك فعلا هيدجريون كثيرون لن يقبلوا بتاتا هذه الفكرة، ولكننا نتجرأ مع ذلك على إثارتها لأن هناك مجموعة من الأقوال تخترق كتاباته، وبعض المقالات خاصة المقال المعنون: لماذا الشعراء؟ (أو لماذا كان عصرنا في حاجة إلى الشعراء؟) تؤكد أن عملية التأسيس ظلت تراود هيدجر بشكل قوي. سنحاول تطوير الفكرة في مقال آخر.