مجلة حكمة
الأيدي القذر

مشكلة الأيدي القذرة

مدخل فلسفي حولمشكلة الأيدي القذرةا ، نص مترجم ومنشور على (موسوعة ستانفورد للفلسفة). ننوه بأن الترجمة هي للنسخة المؤرشفة في الموسوعة، والتي قد يطرأ عليها بعض التعديل من فينة لأخرى منذ تتمة هذه الترجمة. وختامًا، نخصّ بالشكر محرري موسوعة ستانفورد على تعاونهم، واعتمادهم للترجمة والنشر على مجلة حكمة.


هل ينبغي للقادة السياسيين أن يكسروا أغلظ القيود الأخلاقية من أجل بلوغ الخير الأعظم، أو تجنيب مجتمعاتهم الكوارث؟ شكّل هذا السؤال ما عُرف لاحقًا بين الفلاسفة بــ (مشكلة الأيدي القذرة). إن خيوطًا مختلفة تنسج الجدل الفلسفي القائم حول هذا الموضوع، مردّدةً ذات التعقيدات الموجودة في الاعتقاد الشائع حول السياسات والأخلاق. ومع ذلك فكل هذه الخيوط تتضمن الفكرة القائلة بأن السلوك السياسي السليم يستوجب أحيانًا معارضة الأعراف الأخلاقية الثقيلة. يسعى هذا المدخل إلى حل هذه الخيوط، وتوضيح المشكلات المعيارية الأساسية التي يثيرها شعار “الأيدي القذرة” بشأن السياسة. ابتداءً بفقرة توضيحية مأخوذة من رواية انجليزية شهيرة من القرن التاسع عشر، تقتفي المقالة آثار الأيدي القذرة رجوعًا إلى ميكافيللي، ومع هذا فإنها مدِينة بمعظم شهرتها الحالية لكتابات المنظّر السياسي الأمريكي البارز، مايكل والزر- Michael Walzer. لقد دُرست آراء والزر في ضوء آراء منظّرين سابقين كميكافيللي و ماكس فيبر، كما نوقشت بإيجاز مواضع غموض والتباس معينة في أسلوبه الفكري. كل ذلك يؤدي إلى طرح خمس مشكلات، والتي يهتم بها هذا المدخل بشكل أساسي. اولًا، هل إن بنية مشكلة الأيدي القذرة متناقضة ومشوشة؟ ثانيًا، هل إن كسر القيود الأخلاقية يجري ضمن حدود الأخلاق أم يتجاوزها بصورة ما؟ ثالثًا، هل يمكن لشعار الأيدي القذرة أن يبقى بأكمله محصورًا أو مختصًا بالمجال السياسي أم أنه يعبّر بنفس الطريقة عن مجالات أخرى في الحياة، وفيما يتعلق بالسياسة، هل كبار القادة هم فقط من ستتلوث أيديهم، أم إن ذلك يسري على مواطنيهم أيضًا؟ وهذه هي المشكلة المتعلقة بنطاق الأيدي القذرة. رابعًا، كيف يمكن وصف الظروف التي تستدعي اللجوء إلى تلطيخ الأيدي؟ خامسًا، توجد صلات تربط بين مشكلة الأيدي القذرة وبين المشكلة الناشئة عن المعضلات أخلاقية؛ لكن السؤال هو: هل ينبغي لأوجه الشبه تلك أن تغطي أوجه الاختلاف الهائلة بينهما؟

وفي معرض معالجتنا لهذه القضية تكلمنا عن تمييز مشكلة الأيدي القذرة عن مذهب الواقعية السياسية، مع أن بينهما بعض الصلة، كما ناقشنا مسألة اللجوء إلى أخلاق الدَور لحل المشكلة من أجل الحفاظ على ترابطها المنطقي. ثم انتقلنا لمناقشة مسألة معاقبة أو فضح أصحاب الأيدي القذرة. بحثنا بعد ذلك علاقة مشكلة الأيدي القذرة بـ “عتبة الأخلاق الواجبة”. ثم طرحنا وجهة نظر مفادها أنه غالبًا ما يكون سبب إثارة مشكلة الأيدي القذرة هو موقفها الغامض من المحظورات الأخلاقية المطلقة، الذي يجمع بين رفض هذه المحظورات وبين الشعور بالحزن أو عدم الراحة تجاه هذا الرفض في نفس الوقت.

  1. مقدمة
  2. تأويلات متقلبة
  3. تشوش مفاهيمي؟
  4. صراع داخل الأخلاق؟
  5. نطاق الأيدي القذرة وبعض الفروق البارزة
  6. أيدي المواطنين القذرة
  7. قضية الإطلاق
  8. قائمة المراجع
  9. أدوات أكاديمية
  10. مصادر أخرى على الانترنت
  11. مداخل ذات صلة
  12. مقدمة

تمثّل رواية انثوني ترولوب (الطريقة التي نحيا بها الآن) نقدًا لاذعًا للفساد الذي لحق بالقيم الأخلاقية الفيكتورية المتأخرة. في مرحلة ما تصرح إحدى الشخصيات الرئيسية لهذه الرواية وهي امرأة سطحية تدعى السيدة كاربوري، بقناعتها بأن أفعال الأقوياء الجديرة بالثناء تفلت من التصنيفات العادية أو المتعارف عليها للأخلاق. وتعليقًا على سمات احدى الشخصيات المهيمنة في الرواية، وهو المحتال الكبير ميلموت، تقول السيدة كاربوري لصديقها الصحفي السيد بوكر: “إذا قُيّض لشيء ما أن يصبح عظيمًا ونافعًا، أن يصير نعمةً للإنسانية، بمجرد أن يُخلق إيمان خاص به؛ ألن يجعل ذلك من الإنسان بدوره محسنًا لبني جنسه إن هو خلق ذلك الاعتقاد؟”.    

-ليرد السيد بوكر بقوله: “حتى على حساب المصداقية؟”

-فتجيب السيدة كاربوري بحيوية “أعلى حساب أي شيء آخر؟” “لا يمكن للمرء قياس هكذا رجال بالمعايير العادية”.

-عندها سأل السيد بوكر: “هل يمكن أن تفعلي شرًا لتحققي خيرًا؟”

-“لا أسميه فعلًا شريرًا…. انت تخبرني أن هذا الرجل قد يدمر المئات؛ لكنه بالمقابل قد ينشئ أيضًا عالمًا حيث سيعيش الملايين بسعادة ورخاء”.

-“أنتِ ماكرة بامتياز يا سيدة كاربوري”.

-“أنا مغرمة بشدة بالمجازفة النافعة”.

إن للفلسفة الأخلاقية والسياسية المعاصرة الكثير من المعجبين المتحمسين لـ “المجازفة النافعة”. على أحد قطبي هذا الطيف الواسع يوجد العواقبيون (نسبة للعواقبية) المفتونون بوجهة النظر القائلة بالعالم الجديد حيث “الملايين السعداء”، للحد الذي يجعلهم يعدّون الاعتراض على استخدام الوسائل الشريرة في سبيل تحقيق ذلك تخلّفًا؛ لكنهم يتفقون مع السيدة كاربوري طبعًا في عدم وصف تلك الوسائل بالشريرة. اما على القطب الآخر فيوجد مؤيدو “الأيدي القذرة” الأقل حماسًا، الذين يعتقدون أن بعض النهايات السعيدة كتجنب كارثة مثلًا يتطلب أفعالًا شريرة؛ لكنهم على عكس السيدة كاربوري يصرّون على وصفها بالشريرة، إلا أنها شرّ لا بد منه. ويتفقون مع السيدة كاربوري بأنه لا يمكن الحكم على من يلّوثون أيديهم “وفق المعايير العادية”. على أنهم يعتقدون أنه ينبغي على هؤلاء الذين يفعلون الشر “الضروري” بحكم الظروف الراهنة أن يتقبّلوا الذنب الذي يلحق بأفعالهم اللاأخلاقية؛ وهذا ما يعتقده أيضًا الشاعر ويستن هيو أودن في قصيدته “اسبانيا” حيث صاغ الفكرة كالآتي:

“اليوم يوجد التزايد المتعمد لاحتمالات الموت،

يوجد التقبّل الواعي لذنب القتل الذي لا بدّ منه”

مع إن مبدأ الأيدي القذرة يرجع إلى زمن ميكافيللي، إلا أنه مدين بانتشاره الحالي للمنظر السياسي الأمريكي مايكل والزر والذي دعاه بالأيدي القذرة في مقال مهم له بعنوان “النشاط السياسي: مشكلة الأيدي القذرة”، وصاغ في هذا المقال مصطلح “الأيدي القذرة” مقتبسًا إياه من مسرحية لجان بول سارتر تحمل نفس الاسم (والزر 1973). فيما بعد استخدم والزر الفكرة لا المصطلح في كتابه (الحروب العادلة وغير العادلة) (1977) حيث أوضح فيه أن ذريعة “حالة الطوارئ القصوى” لن تفسر فحسب سبب قيام قوات الحلفاء بالقصف الإرهابي للمدن الألمانية في المراحل المبكرة من الحرب العالمية الثانية بل ستبرر هذا الفعل (والزر 1977a, 267-68). وبالنسبة لهذه المراحل المبكرة، تقريبًا حتى نهاية العام 1941 (فيما يظهر لأن والزر لم يحدد سنة معينة)، فإن المذبحة المتعمّدة لآلاف الألمانيين العزّل كانت لازمة بموجب حالة الطوارئ القصوى، حتى ولو عدّت غير أخلاقية على الإطلاق. إن فكرة انتصار النازية واحتمالية تحققها كانت رهيبة بالنسبة لأولئك الذين سيواجهون الهزيمة، لفداحة ما سيلحق بقيمهم وحيواتهم من أذى بحيث إنهم رأوا أن ثمن الأفعال اللاأخلاقية الشنيعة التي حدثت كان يستحق الدفع. ثم أوضح والزر أن القرارات التي اتخذت في المراحل اللاحقة من الحرب من قصف المدن كانت ببساطة لا أخلاقية (كما في قصف المدن اليابانية ومنها القصف الذري على هيروشيما وناجازاكي) ومن غير الممكن تبريره بحجة حالة الطوارئ القصوى. وحينما أعاد والزر النظر في موضوع حالة الطوارئ القصوى، أعلن بوضوح أنها مسألة تتعلق بالأيدي القذرة، وبالفعل يبدو أنه قد توصل إلى وجهة نظر ترى أن الظروف الطارئة والبالغة الخطورة هي فقط التي من شأنها أن تبرر أفعال الأيدي القذرة. لذا فهو يقول في المناقشة الأخيرة لمسألة حالة الطوارئ القصوى أن مذهب الأيدي القذرة يُطبق “حين يجد القادة العسكريين والسياسيين أنفسهم أحيانًا في موقف لا يمكنهم فيه تفادي التصرف بصورة تتنافى مع المبادئ الأخلاقية، حتى لو عنى ذلك قتل الأبرياء عمدًا”. ومرة أخرى فإن: “… الأيدي القذرة غير مسموحة (ولا ضرورية) إن كان الخطر الذي نواجهه أدنى من أن يهدد استمرارية المجتمع او أن يتسبب في موت جماعي” (والزر 2004a, 46).

  • تأويلات متقلبة

أول ما يمكن ملاحظته بشأن ذلك هو أن تعريف كل من الأيدي القذرة وحالة الطوارئ القصوى متغيران بصورة ملحوظة عن رأي والزر في مقالته الأصلية، ويعبّر هذا التغير عن غموض كبير يكتنف مبدأ الأيدي القذرة. إن تفسيري والزر لمفهوم حالة الطوارئ القصوى في كتابه الحروب العادلة وغير العادلة وفي مقاله اللاحق بعنوان “أخلاقيات الطوارئ” (وسنتناول هذا لاحقًا) يختلفان بعض الشيء عن بعضهما البعض من حيث المعالجة، لكن في كلا التفسيرين لا تظهر الحاجة الملحة إلى كسر القيود الأخلاقية الغليظة سوى في الأوضاع التي تنذر بحلول كارثة؛ بينما في المقال الأصلي لعام 1973 نجد ان الباعث لأفعال الأيدي القذرة كان أبعد ما يكون عن الأوضاع المتطرفة. أحد الأمثلة على ذلك وهو ينطبق على الوقت الحاضر بصورة مدهشة، يتعلق بحاجة أحد الزعماء السياسيين لتعذيب إرهابي مشتبه فيه، على أمل أن يمنع ذلك حدوث عمليات قتل بحق مئات الأبرياء. هذه الحالة هنا وبحسب كتابات والزر اللاحقة تفشل تمامًا في الوصول إلى الحد الذي يمكن أن توصف معه بحالة الطوارئ القصوى، إذ إن الكتابات اللاحقة تصف الباعث على أنه دمار يلحق بالناس جميعًا او بطرق عيشهم أو بكليهما. لدينا مثال آخر لوالزر في مقالته الأصلية هذه المرة، عن سياسي ديمقراطي صالح يرشو رئيسًا فاسدًا لدائرة انتخابية كي يزوده بالأصوات، مقابل الوعد بتسليمه عقود بناء مدرسة بطريقة غير قانونية. هنا ليس الانتهاك الأخلاقي أقل عمقًا من الحالة السابقة فحسب، بل لا تكاد تُعد حالة الطوارئ هذه “قصوى” بأي معنى كان، حتى لو سلّمنا بأنه لا بد من كسب الأصوات من أجل الفوز في انتخابات مهمة، وأن السياسي ينوي بصدق العمل بصورة جيدة في حال فوزه. في مقاربة والزر الأولية للموضوع، استخدم مصطلح “الأيدي القذرة” بصورة تسبب بعض الالتباس، حيث كان يستخدمه في بعض الأحيان ليعني به أفعالًا لا أخلاقية صريحة؛ وفي أحيان أخرى يستخدمه للإشارة للمعنى الفني الأكثر إثارة للاهتمام والذي نناقشه هنا. لذا يقول والزر: “في عالم السياسة من السهل أن تصبح يد المرء قذرة، وغالبًا ما يكون من الصائب حدوث ذلك” (والزر 1973، 174). يشير الشطر الأول من الكلام السابق إلى الميل العام للجوء إلى الأفعال اللاأخلاقية، بينما يشير الشطر الثاني أنه ليس من الصائب دائمًا فعل ذلك. وهو يميز بذلك بين المعنى الإيجابي والشرعي لكلمة “قذرة” وبين المعنى الوصفي البحت لها. أما كلمة “غالبًا” فهي تدل على الموقف الأكثر تسامحًا تجاه الأيدي القذرة، وهي على النقيض من موقف والزر اللاحق.     

يبدي الكتّاب المهتمون بشأن حاجة السياسيين لتلويث أيديهم بأفعال غير أخلاقية بعضًا من هذا التذبذب في الرأي، ففي بعض الأحيان يشددون على ما تنطوي عليه هذه الأفعال من مخاطر جسيمة، غير أنهم في احيانٍ كثيرة أخرى يُظهرون العملية السياسية برمتها وكأنها فوق الأخلاق، أو أنها على اقل تقدير تخضع لمعايير أخلاقية مختلفة، (“لا يمكن للمرء قياس هكذا رجال بالمعايير العادية”). يعرض جون ام باريش-John M. Parrish في كتابه الشامل والمثير للاهتمام (باريش، 2007) مخاوفًا تتعلق بطبيعة السياسة التي تشكّل تحديًا بالنسبة للأخلاق منذ زمن جمهورية أفلاطون. إلا إن فهم باريش لما يسبب الأيدي القذرة فضفاضًا لدرجة أنه يخفي بعضًا من الفروق والشكوك والمشاكل الناشئة عن الجدل الفلسفي الحالي. لكن كي نكون منصفين فهو مهتم برسم خريطة تتبع بشكل ما مسار الجدل المعاصر حول هذه المشكلة، لذا يقر نتيجة لذلك بأنه “ربما تكون المشكلة قد تغيرت بمرور الزمن” وبالتالي توجد “سلسلة من مشاكل الأيدي القذرة” لا مشكلة واحدة (باريش P.18). ومع هذا فإن ما يناقشه من مشكلات أخلاقية أخذها عن مفكرين قدامى، لا تحمل أي علامات تربطها بالمشكلة الحالية. فمثلًا يقترن إصرار أوغسطين على أن الحرب غير مقبولة أخلاقيًا وإن كانت عادلة، مع إصرار آخر مناقض مفاده أن المحارب الذي يقتل عدوه من أجل قضية عادلة ونوايا طيبة لا يُعد آثمًا أبدًا (أي لا يخرق أي قواعد أخلاقية) بفعله هذا. ولكننا مع ذلك نجد في أولى المعالجات الحديثة لموضوع الأيدي القذرة والتي نتج عنها الجدل المعاصر حول مشكلة الأيدي القذرة، من يتفق مع تأكيد باريش على أن الحياة السياسية تنطوي على إشكاليات أخلاقية. إحدى هذه المعالجات المهمة هي لميكافيللي. فيعتقد ميكافيللي أن النهج السياسي المتعارف عليه يوجب على الأمير أن “يتعلّم كيف يكون غير صالح”، ومع ذلك يجب عليه التظاهر بالصلاح بل أن يتصرف بصورة أخلاقية فاضلة إن لم يضر ذلك بمصلحته (ميكافيللي 1513، 52). كما يشدّد ماكس فيبر على الطريقة التي يجب أن يستحوذ بها الاهتمام بالعواقب على تفكير السياسيين على الضد من الأخلاق المتعارف عليها أو تلك المستوحاة من الدين. وهذا التعارض هو أساس التناقض الذي يوضحه فيبر في كتابه “السياسة بوصفها حرفة” بين “أخلاق المسؤولية” و”أخلاق الغايات النهائية”. ومع أن المصطلحات التي أطّر بها فيبر التناقض تميل إلى تشويش المسألة بدلًا من توضيحها، إلا أنه يمكن القول بأن شيئًا واحدًا كان يدور في ذهنه، فيما يتعلق بأخلاق “الغايات النهائية”، وهو أنها أخلاق تتضمن محظورات مطلقة. فهو يرى أن هذه المحظورات في علاقة توتر مع وجهة نظر أخرى تأخذ العواقب بالحسبان. ويصوغ فيبر فكرته على النحو الآتي: “يوجد اختلاف عميق بين التصرف الذي يتّبع مبدأ أخلاقيات الغايات النهائية، والذي يعني، بعبارات دينية، ’يفعل المسيحي الصواب ويترك الباقي على الرب‘، وبين التصرف الذي يتّبع مبدأ أخلاقيات المسؤولية، والذي يعني أن يأخذ المرء في الحسبان ما يستتبع فعله من نتائج متوقعة” (فيبر 1919، 120). إن قطعية هذا الاختلاف هي إحدى مسببات الحيرة والتشوش، وذلك -كما سنرى لاحقًا- لأن مؤيدي الأخلاق المطلقة ليسوا غير مكترثين بالكامل للعواقب، فليست كل أخلاقياتهم تتضمن محظورات مطلقة، وبالمثل فإن المعارضين للأخلاق المطلقة ليسوا بحاجة إلى أن يكون جلّ تفكيرهم هو في العواقب وحسب. إلا أن فيبر مصرّ على أنه من المستحيل في السياسة الالتزام عمومًا بأخلاقية مطلقة تجاه الغايات النهائية، وعلى الأغلب فسبب ذلك أنه يرى أن للعنف دورًا جوهريًا في السياسة. ومع إن والزر في مقاله الأصلي يستشهد بفيبر متفقًا معه إلى حد معين، إلا أن الأخير، فيما يظهر، لا يتشارك في شيء مع رأي والزر اللاحق. فهو لا يعتقد أن أخلاقيات الغايات النهائية مقبولة أغلب الأحيان، لكنها تفشل في حالات الطوارئ القصوى؛ بل يبدو أنه يعتقد أن أخلاقيات الغايات النهائية غير مناسبة للسياسة بصورة عامة. إن اعتقاد فيبر في العنف بأنه جوهري في العملية السياسية هو في الواقع اعتقاد مبالغ فيه، إلا أنه معقول في الظروف التي كتبه فيها. لكن لو ثبتت صحة هذا الاعتقاد فإن هذا سيجعله قريبًا جدًا من فكرة والزر عن حالة الطوارئ القصوى. لكن يبقى الفارق هو أنه بالرغم من أن العنف يُعد عاملًا في توليد حالة الطوارئ القصوى إلا ان فهم والزر اللاحق لهذه الحالة يتطلب أكثر من مجرد تصاعد للعنف.

يبرز هذا الغموض المتعلق بمدى الحاجة الى الأيدي القذرة في العديد من الأعمال المكتوبة حول هذا الموضوع. اتبّع الكثير من الكتّاب رأي والزر المبكر (وكذلك بعض العناصر من معالجة كل من ميكافيللي وفيبر لموضوع الأخلاق السياسية) بخصوص السياسة بوصفها ميدانًا تجري فيه، وهنا اقتبس من نيل لافي-Neil Levy : “نشاطات قذرة هي جزء لا يتجزأ من الحياة السياسية المعتادة”، ثم يضيف لافي: “على السياسيين ان يبرموا الصفقات، وأن يتنازلوا لأجل مصالح يمقتونها، وأن يقدّموا الخدمات ويفرّطوا في العلاقات” (لافي 2007، 52-3، حاشية 26). لا شك أن عددًا من هذه الأمور يُعد مقيتًا أو مدعاة للندم بدرجات متفاوتة، لكن فيما يتعلق بكونها لا أخلاقية فهذا يعتمد على ماهية الصفقات، وما الذي تتضمنه هذه الخدمات، ومدى ثقل هذه التنازلات، ومدى الضرر الذي يتسبب به التفريط (وتجاه أي نوع من العلاقات). إن معظم ما يصفه الكتّاب على اختلافهم على أنه عمل أيدي قذرة هو من الأساس مشكوك في كونه قضية لا أخلاقية. فقد يتوجب على سياسي كي يحافظ على السلطة وينجز عمل مهم، أن يوظّف عضوًا من حزب متحالف مع حزبه في وزارة مهمة، مع وجود زميل له من نفس حزبه يتمتع بمؤهلات أفضل لشغل الوظيفة. إن مثل هذا التصرف مؤلم ومخيب للآمال بالنسبة لكل من السياسي وزميله، ومن الواضح أنه سلوك لا يتصف بالمثالية (حتى لو افترضنا أن الموظف الآخر كان كفئًا بقدر كافٍ) لكنني مع ذلك لا أعتقد أنه يمكن النظر لهذا الفعل على أنه غير أخلاقي. لأنه كي يُقال عنه أنه غير مقبول أخلاقيًا ينبغي أن يتسبب بتعريض علاقات وأهداف مهمة للخطر. لكنه كما هو واضح ليس في مستوى واحد مع التعذيب أو القتل أو الاحتيال الخطير.

في الواقع فإن برنارد ويليامز-Bernard Williams في بحثه في نطاق الأيدي القذرة يميّز بين مستويات الثقل بالنسبة للخطايا الواجب على السياسيين اقترافها، لكنه يشير أيضًا إلى أن سلوكيات السياسيين اللاأخلاقية الضرورية شائعة للغاية وقابلة للتمييز. فهو يميّز بين السلوكيات “المقيتة أو غير المقبولة” أخلاقيًا وبين السلوكيات المجرَّمة أخلاقيًا، وتندرج الأخيرة ضمن فئة واسعة لما يسميه بـ “العنف” (ويليامز 1978، 71). مع إن ويليامز يقبل بفكرة أن بعض الأفعال السياسية المعروفة على نطاق واسع بكونها مشكوك فيها أخلاقيًا، قد تُعد أخلاقية ما إن تُفهم الظروف التي أدّت إليها. إلا أنه يضع لائحة طويلة بما هو غير مقبول أخلاقيًا، والتي تتضمن أمورًا كــ “الكذب أو على الأقل الكتمان، وصياغة العبارات المضللة، والإخلاف بالوعود، والتزلّف، والتحالف المؤقت مع البغضاء، والتضحية بمصالح من هو يستحق في سبيل من لا يستحق، والإكراه وصولًا إلى الابتزاز (على الأقل إن كان المبتز في منصب مهم بدرجة كافية)” (ويليامز 1978، 59). غير أنه من غير المرجح أن تعد كافة هذه الأمور غير صائبة أخلاقيًا في جميع الظروف. صحيح أن هنالك بعض الفلاسفة قد عدّوا بعضًا منها كذلك، كالكذب عند أوغسطين وتوما الأكويني وكانط، والوعد عند كانط؛ إلا أنه من المؤكد أن الكذب مثلًا يعد مقبولًا في الظروف الخطرة، كضرورة حماية شخص بريء من قاتل. وحتى الإكراه (اعتمادًا على تعريف ماهية ذلك الإكراه) ليس دائمًا خاطئًا أخلاقيًا، كالاحتجاز القسري لأناس لسبب معقول، وهو احتمال إصابتهم بمرض معدٍ دون أن يدركوا ذلك. ويبدو أن بعضًا إن لم يكن جميع ما ذكر ويليامز يندرج ضمن فئة “غير الصائب أخلاقيًا في العادة؛ لكنه مقبول في ظروف معينة”. وحتى الابتزاز يمكن أن يُدرج ضمن هذه الفئة، بما أن ابتزاز مجرم متوحش من أجل تحرير ضحيته قد يكون (اعتمادًا على نوع الابتزاز) مقبولًا أخلاقيًا. في بعض الأحيان قد تُستحضر أفكار كالندم وتأنيب الضمير للبرهنة على أن ما استُلزم فعله يبقى مع ذلك غير أخلاقي. لكن بعيدًا عن حقيقة أن فعًلا كابتزاز مجرم متوحش لا يجب أن يستدعي الندم بأي شكل، فإنه توجد العديد من الأفعال التي يمكن للمرء حقًا أن يندم لأن عليه أن يفعلها مع أنها أخلاقية، كمعاقبة طفل بسحب كل ما يحبه منه. إن لتأنيب الضمير وقع أقوى ونبرة وعظية أعلى، ولهذا السبب تحديدًا يجب على المرء ألّا يخلطه مع مشاعر أخرى كالشعور بالضيق والندم والحزن المرافق لفكرة أنه يجب عليه فعل أشياء معينة. إن المزيد من التحقيق في طبيعة تأنيب الضمير والظروف المناسبة له هو أمر معقد ومثير للاهتمام لكنه خارج نطاق المناقشة هذه، ويبدو إن استخدامه بوصفه مقياسًا للأيدي القذرة هو في أفضل أحواله غير حاسم.

إن الفكرة القائلة بأن الأيدي القذرة (بخلاف السلوكيات السيئة تمامًا والأفعال الفاسدة) مألوفة في السياسة هي فكرة مشكوك فيها جدًا، بل من الصعب تحديد مدى توغل هذه الظاهرة في السياسة، فمن الأفضل دراسة كل حالة بظروفها الخاصة على حدة أو كل فئة على حدة. لا شك أن أوضح فئة وعلى ما اعتقد أكثر فئة إثارة للاهتمام هو ما عبّر عنه ويليامز بكلمة “عنف” (مع إن في ذلك اعتبار مثير للجدل وغير موفق في رأيي لاعتبار كل ما هو عنف فهو غير أخلاقي). وهذا يشمل الأفعال التي حاول والزر في نقاشه اللاحق أن يضمّنها في مصطلحه “حالة الطوارئ القصوى”. بمصطلحاته وتطبيقاته اللاحقة جعل والزر نطاق الأيدي القذرة أضيق، ربما حتى أكثر مما أراد ويليامز. لكنني سأحذو حذوه وأركز على الأفعال شديدة السوء كالقتل والتعذيب والاغتصاب والاسترقاق، التي يُقال إنها مبررة في حالات الطوارئ القصوى.

مع ذلك، يجدر بنا في البداية ملاحظة أن الاندفاع في الكشف عن مدى هيمنة الأيدي القذرة قد يودي بنا إلى منح مواقف أخلاقية مربكة ومعقدة وصفًا خاطئًا. واحد من أكثر الأمثلة إثارة للاهتمام في هذا الصدد هو ما تحرّته جينيفر روبنستين- Jennifer Rubenstein، والذي يتعلق بالمشكلات التي تواجهها المنظمات الدولية غير الحكومية (INGOs) التي تقدم المساعدات في حالات الطوارئ، كمخيمات اللاجئين في الكونغو. إذ لاحظ موظفو هذه المنظمات (INGOs) أن ما يوفرونه من طعام ودواء يُسلب معظم الوقت من قبل الفرق المتحاربة داخل مخيمات اللاجئين وخارجها (شاهد أيضًا بعضًا من أمثلة ومناقشة فيونا تيري-Fiona Terry في تيري 2002). وهذا ما يجعلهم بإزاء اتخاذ قرارات مؤلمة، فهل يقطعون الإمدادات ويغادرون مناطق الخطر، بسبب ما يلحقه سلب الموارد من ضرر بما في ذلك استمرار النزاع؟ لكنهم إن فعلوا ذلك سيتركون وراءهم أناس يعانون، أم هل يبقون؟ لكنهم إن قرروا البقاء فسيساهمون دون قصد بما سيلحقه الآخرون من أذى فادح بحق الأبرياء. مثل هذه المشكلات توصف عادةً باستخدام مصطلحات “الأيدي القذرة”، إلا أنه وصف في غير محله كما أوضحت روبنستين، لسبب وحيد وهو أن منظمات الإغاثة نفسها لا تقوم عن قصد بإلحاق الضرر بغية تحقيق خير عظيم أو اجتناب شر عظيم من أي نوع. لذا اقترحت روبنستين فئة جديدة لوصف هذه الأوضاع أسمتها “الأيدي الملطخة”، وذلك لتؤكد أن أفعال الآخرين هي ما لطّخ هذه الأيدي فلوثها (روبنستين 2014، الفصل الرابع). ليس بإمكاننا التحقق من مدى ملائمة فئتها الجديدة في مناقشتنا هذه، إلا أنها تبدو محقة بشأن أن هذه الأمثلة لا يصح وصفها بـ “الأيدي القذرة”. 

يتضح مما سبق أن مشكلة الأيدي القذرة بحاجة مبدئيًا إلى توضيح مفاهيمي؛ ومن المفترض أن يتحقق ذلك بعد النظر في خمس قضايا. أولًا، لدينا قضية تتعلق بما إذا كان سيناريو الأيدي القذرة منطقيًا من الأساس أم لا؛ إذ ربما تكون المشكلة محض تشوش أو التباس. ثانيًا، يوجد سؤال يتعلق بما تتضمنه الأيدي القذرة (كما يُزعم) من تجاوز للقيود الأخلاقية، فهل هذا التجاوز يجري داخل نطاق الأخلاق أم يتعداه بشكل ما. ثالثًا، هل إن المجال السياسي هو وحده ما يستوجب أفعال الأيدي القذرة أم توجد مجالات أخرى؟ رابعًا، ما هو أدق وصف للظروف التي تستلزم أفعال الأيدي القذرة؟ خامسًا، توجد قضية تبحث في العلاقة التي تربط بين مشكلة الأيدي القذرة والمعضلات الأخلاقية، وضرورة وجود شكل من أشكال المطلقية الأخلاقية.   

  • تشوش مفاهيمي؟

 فلنبحث هذه المفاهيم الواحدة تلو الأخرى، كما يبدو فإن البنية الخاصة بمفهوم الأيدي القذرة تنطوي على تناقض أو مفارقة. إذ يقول مؤيدو الأيدي القذرة أنه في الواقع من الصائب أحيانًا أن تفعل ما هو خاطئ، وهذا بالضبط كأنهم يقولون إن فعلًا ما خاطئ وغير خاطئ في الوقت نفسه. إن منظّر الأيدي القذرة لا يقول بأن هذه الأفعال صائبة من جوانب معينة وخاطئة من جوانب أخرى، كما لا يقول بأن ما هو خاطئ عادةً سيكون صائبًا هنا. لكنه يقول إن الفعل ككل بسياقه وبالظروف المحيطة به يحمل كلا الوجهين فهو خاطئ قطعًا ولكنه غير خاطئ أيضًا. فالعمل بإسلوب الأيدي القذرة يعني أن نقتنع بأن س من الأفعال غير مقبول أخلاقيًا لكن يبقى من الصائب فعله. كما كتب والزر مؤخرًا موقفه منه بأنه “مستفز ومتناقض” معًا (والزر 2004a، 33). وقد تناول كاي نيلسن-Kai Nielson هذه النقطة بصورة أكبر، إلا أن هذا تحديدًا ما حيّر الكثير ممن تفكروا في هذه المشكلة. فالفعل المصنف كأيدي قذرة كما يصفه والزر وآخرون هو بالنسبة لنيلسن مجرد “تشوش مفاهيمي مصحوب بآثار أخلاقية مزعجة” (نيلسن 2000، 140). من الواضح إن هكذا تسخيف للمسألة سيصدر بداهةً عن النفعي أو عن عواقبي كبير (نسبة للعواقبية)، فهو سيعلن ببساطة أن قرار الأيدي القذرة هو القرار الذي قد نُفذ بموجبه فعل صائب (يُفضي إلى أحسن النتائج التي لها الأولوية، كالرضا والزيادة الإجمالية للسعادة أو غيرها) مع إنه قد يكون من المؤلم تنفيذه. ومع أن نيلسن يتنكر للنفعية ويطلق على نفسه لقب “عواقبي ضعيف”، إلا أن النتيجة لا تتغير كثيرًا. فهو يعتقد أن الظروف التي تستدعي الأيدي القذرة تضع الوكيل الأخلاقي أمام خيارين لكن كليهما شرّ، وعليه دائمًا أن يختار أهون هذين الشرّين. وبلا شك فإن انتهاك ما يعد في الظروف العادية قيدًا أخلاقيًا مُلزمًا وغليظًا، يجعل الوكيل يشعر بالضيق والألم. سوف “يشعر بالذنب” نعم؛ لكن علينا ألّا نخلط بين الشعور بالذنب وبين كون المرء مذنبًا فعلًا (نيلسن 2000، 140).

في المقابل، يمكن أيضًا أن تُحل المشكلة برفض إمكانية تلويث الأيدي من الأساس. فبالإصرار على حرمة انتهاك بعض القواعد الأخلاقية فإن التناقض سوف يختفي ببراعة تضاهي براعة المراوغة التي قام بها نيلسن لإخفائه. فإن كان موقفنا هو التمسك بحرمة قتل الأبرياء عمدًا مثلًا، حتى أمام الأزمات التي رأى والزر أنها تستلزم قصف المدن الألمانية في المرحلة المبكرة من الحرب العالمية الثانية، عندئذٍ لن توجد أيدٍ قذرة من الأساس. مثل هذا الموقف يدعى غالبًا بالموقف المؤيد للأخلاق المطلقة. وقد تبنى العديد من الفلاسفة هذا الموقف صراحةً، أبرزهم اوغسطين، وتوما الأكويني، وكانط؛ وربما تبنّاه ضمنًا العديد من الفلاسفة الآخرين. وينطوي هذا الموقف على تعقيدات سوف نناقشها لاحقًا.

يتفق الحلّان أعلاه على وضع الأسباب الأخلاقية فوق أي اعتبارات أخرى. يوجد حل ثالث لإلغاء هذا التناقض الشديد، وهو فكرة أن الأخلاق ليست هي العامل الشرعي الوحيد في تقرير صواب الفعل من عدمه؛ بل أن هنالك في بعض الأحيان عوامل أخرى قد تتفوق عليها تمامًا. وهذا يمنحنا جوابًا بشأن القضية الثانية من القضايا الخمس المذكورة آنفًا، فلا تنشأ مشكلات الأيدي القذرة ضمن حدود الأخلاق بل تنشأ حين يحدث تصادم بين الأخلاق وبين ضرورة أخرى منطقية من النوع الخطير بحيث يكون تفوقها على الأخلاق سليمًا تمامًا. قد يثير هذا التفوق الشعور بالندم وبتأنيب الضمير ربما؛ لكن هذا لا ينفي حقيقة أنه سليم وضروري فعلًا. من المهم هنا أن نكشف أن التفوق موضع الإشكال ليس مجرد وصف نظري لما يحدث، إذ من المعروف أن الضرورات الأخلاقية تُتجاوز بكثرة من قبل ضرورات أخرى مقنعة أيضًا كالمصلحة الشخصية، والمصلحة السياسية، والوصولية، وعلاقات الصداقة. لدرجة أنه يمكن القول بأن مجال السياسة هو الميدان الذي يحدث فيه هذا التجاوز أكثر من غيره. والمشاركة فيه محفوفة بالمخاطر الأخلاقية التي تتطلب شخصية أخلاقية استثنائية لتتمكن من التغلب عليها. ومع ذلك لا تكمن أهمية وصعوبة سيناريو الأيدي القذرة في أنه قد يحدث أحيانًا في الواقع؛ بل في أنه حين يحدث يعتبر صائبًا. 

إن سلّمنا بفكرة أن بإمكان “الواجبات” غير الأخلاقية أحيانًا التفوق على الأخلاقية منها، عندئذٍ يتغير موقف الأيدي القذرة وتُعاد صياغته كالآتي: في الظروف المتطرفة تكون الغلبة للاعتبارات “الضرورية” (أو أيًّا كانت) على حساب الاعتبارات الأخلاقية الهامّة. تبدو هذه الصياغة كواحدة من التفسيرات المعقولة لما ذكره ميكافيللي عن ضرورة أن يتعلّم الحكّام كيف يصبحوا سيئين. ومما لا شك فيه أنه حينما نادى بتجاوز الأخلاق كان يتصوّر في ذهنه نموذجًا للأخلاق المسيحية، لذا قد يُفهم من ذلك أنه يعترض على نموذج أخلاقي بنموذج أخلاقي آخر؛ لكن هذا غير صحيح، فشطر كبير من نقاشه يمكن أن يُفهم منه بأنه يضع “اعتبارات الدولة” فوق الاعتبارات الأخلاقية. ويُعد ذلك رفضًا للفكرة القائلة بأن الاعتبارات الأخلاقية تهيمن على جميع ما عداها من اعتبارات.

قد يكون من المفيد هنا أن نميّز بين الهيمنة والشمولية. إن معظم المنظّرين الأخلاقيين يعتبرون الأخلاق شاملة ومهيمنة، بمعنى أنها وثيقة الصلة بجميع القرارات، وأنها أينما دخلت تسود على بقية الأسباب. ومع ذلك قد يعتبر أحدهم الأخلاق شاملة لكنها غير مهيمنة، أو مهيمنة لكنها غير شاملة، أو بالطبع لا شاملة ولا مهيمنة، وسؤالنا الحالي متعلق بأول خيارين. مع أن التفسير الذي يرفع من شأن الأخلاق مستمد من الهيمنة والشمولية على السواء إلا أن كل واحدة منهما في الواقع تعبّر عن صورة مختلفة نوعًا ما لمكانة الأخلاق. تتمثل هيمنة الأخلاق في تفوقها على أي اعتبارات أخرى متى دخلت في أي موضوع. في حين أن الشمولية الأخلاقية تعني أن عامل الأخلاق يدخل في جميع المواضيع ويتصل بها، بغض النظر عمّا إذا كان سيتفوق على بقية الاعتبارات أم لا. وفقًا لوجهة النظر الحالية فمنظّرو الأيدي القذرة يقرّون بالشمولية الأخلاقية (على الأقل فيما يتعلق بالمجالات المهتمين بها) لكنهم يرفضون على مضض هيمنتها على فئة معينة من القرارات.

من المفيد أن نقارن ذلك مع موقف المدرسة “الواقعية السياسية” فلمفكريها وجهة نظر مقاربة نوعًا ما لتلك التي يتبنّاها منظّرو الأيدي القذرة، للحد الذي تختلط معه وجهتا النظر هاتان مع بعضهما. يُنظر إلى الواقعيين في معظم الأحيان (كما يصوّرون هم أنفسهم أيضًا) على أنهم رافضون لشمولية الأخلاق وذلك بأن يلفتوا الانتباه إلى حالات خاصة في السياسة أو العلاقات الدولية. فنجد مثلًا إدوارد هاليت كار-E.H. Carr وهو يصرح بـ “وجهة نظر واقعية” قائلًا “لا وجود لمعايير أخلاقية يمكن تطبيقها على العلاقات بين الدول…” (كار 1962، 153). وكانت آراء بقية الواقعيين قريبة من ذلك رغم ما يغلّفها (ويغلّف آراء كار معها) من شكوك حيال الأساس الأخلاقي. حيث يدعي آرثر شليزنجر جونيور-Arthur Schlesinger Jr. على سبيل المثال أن: “الأساس الذي تستند عليه الشؤون الخارجية هو في الغالب ذو موقف أخلاقي مبهم أو بعبارة أخرى غير متحيز لمبدأ أخلاقي معين، وكنتيجة لذلك لا تعتبر المبادئ الأخلاقية عاملًا حاسمًا في معظم قرارات السياسة الخارجية” (شليزنجر 1971، 73). يحرص المفكر الأمريكي الواقعي البارز هانز مورغنثاو-Hans Morgenthau على فصل السياسة عن الأخلاق بالحفاظ على “استقلالية المجال السياسي” وهو يسلّم باستقلالية بقية المجالات كالاقتصاد والقانون والأخلاق، إلا أنه يصر على أنه يجب على الواقعي السياسي “أن يجعل المبادئ جميعًا ترضخ للمبادئ السياسية” (مورغنثاو 2006، 13). وهو يردد هنا ذات الموقف الذي تبنّاه المفكر الألماني المحافظ كارل شميت-Carl Schmitt، والذي من الواضح أنه متأثر به. فهو المفكر الذي انخرط في صفوف الحزب النازي في الثلاثينيات وتمتع (إن صحّ التعبير) لفترة ببعض الشهرة بوصفه مفكرًا مؤيدًا للنظام النازي. تشير جميع الاقتباسات التي ذكرناها إلى فكرة أن السياسة، أو أن جزءًا كبيرًا منها كالعلاقات الدولية يقع خارج المنظومة الأخلاقية بالكامل، وبالتالي إنكار شمولية الأخلاق؛ ووصف الأخلاق بأنها لا تعتبر عاملًا “حاسمًا” يشير إلى إنكار هيمنتها كذلك. يكتنف موقف الواقعية السياسية غموض كبير ولا يتسع المجال هنا لتوضيحه، لكن بغض النظر عن الغموض في تصريحات أبرز منظري هذه المدرسة، وبغض النظر عن التقارب في وجهات النظر بينهم وبين منظري الأيدي القذرة؛ فالثابت أن في موقف الواقعيين تجاه الأخلاق نبرة مختلفة عن تلك التي في موقف منظري الأيدي القذرة، وأن سبب ذلك يعود في جزء منه إلى الاختلاف بين طريقتي الإنكار للشمولية والهيمنة، فحين يرفض الواقعيون الاعتبارات الأخلاقية فهم يفعلون ذلك دون شعور عميق بالندم أو تأنيب الضمير -على العكس من منظري الأيدي القذرة- حيال الفعل الذي يعتبر غير صائب من الناحية الأخلاقية.

يحافظ إنكار الهيمنة على سلامة البنية المنطقية للأخلاق، فلا يجعلها متعارضة مع ذاتها كما كانت من قبل؛ بل يجعلها في بعض الأحيان وفي ظروف معينة متعارضة مع شيء آخر قد يكون “الضرورة” كما أسماه كل من ميكافيللي ووالزر. لكن ما هي هذه الضرورة؟ من الواضح أنها ليست شكلًا من أشكال الضرورة الحتمية، لأنه قد كان باستطاعة القيادة البريطانية أن ترفض بصورة مطلقة سياسة قصف المدن في الحرب العالمية الثانية، كما هو الحال في سياستها المعلنة قبل الحرب، إذ صرّحت بأنها ستمتنع عن القصف، وقد راعت عمليات القصف الأولية ذلك فعلًا. إلّا أنه يوجد أثر لمذهب الحتمية في فكرة حالة الطوارئ القصوى، وذلك لأنها تلمّح لوجود شيء بإمكانه أن يغلب القوى الأخلاقية التي نعرفها. وقد نستحضر بهذا الصدد دعوى توماس هوبز بأنه لا يمكن تطبيق القوانين الأخلاقية إن كانت ستؤدي إلى تدمير النفس. تتمثل فكرة هوبز في أن معقولية مبدأ حفظ النفس، والذي هو بحد ذاته يعد أساسًا للأخلاق، يجعل التصرف وفق المبادئ الأخلاقية باطلًا ولا معنى له إن هو أدى إلى تهديد هذا المبدأ. وقد صاغ هوبز فكرته كالآتي: “إن قوانين الطبيعة تلزم in foro interno، أي أنها تلزم بالرغبة في أن تتم، ولكنها لا تلزم دائمًا in foro externo، أي بوضعها موضع الفعل. فإن الذي يكون متواضعًا وكيسًا ويفي بكل وعوده، في زمان وفي مكان حيث لا أحد غيره يقوم بذلك، لا يفعل سوى ترك نفسه فريسة للآخرين وجر الخراب المؤكد على نفسه، وهذا يناقض أساس كل قوانين الطبيعة، الذي يميل إلى حفظ الطبيعة” ((Leviathan, Ch. XV, p. 99 (كتاب اللفياثان*-توماس هوبز).

هنا يرسم هوبز سيناريو فريد عن شخص يطيع القانون الأخلاقي “حيث لا أحد غيره يقوم بذلك” وقد يتساءل أحدهم فيما إذا كان من الممكن لمنظومة العهود أن توجد أصلًا في “زمان وفي مكان” فظيعين وعدائيين كما يصورهما هوبز. ولكن قد يصبح الشخص “فريسة للآخرين” إن وُجد عدد كافٍ من غير المتعاونين حوله وسيتسبب ذلك بــ “خراب مؤكد”، لذا فمن الضروري تجنب هكذا خراب، وهذا ما سيحفّز سيناريو حالة الطوارئ القصوى؛ حتى مع حقيقة أنها تستلزم في الأساس أن يقع الخراب على مجموعة لا على فرد. إن رأي هوبز القائل بانتفاء الحاجة الى تطبيق القوانين الأخلاقية (بدلًا من الرغبة في تطبيقها) يكون معقولًا عندما يُنظر إلى الأخلاق على أنها عملية تعاقدية، أو عندما يتعلق الأمر بالواجبات الأخلاقية المعتمدة على المعاهدة (حتى لو لم تكن بقية الواجبات الأخلاقية كذلك). ففي عالم حيث من النادر على المرء أن يحفظ عهدًا أو يلتزم باتفاق، سيغدو الالتزام أمرًا غير معقول، وسيكون الالتزام بأي مما تبقى من ذلك عمل أحمق ولا جدوى منه. ولكن توجد الكثير من المجالات في الأخلاق لا ينطبق عليها ذلك، حتى حينما تكون الظروف متطرفة، والتي يكون فيها الالتزام بالواجبات الأخلاقية مخاطرة كبيرة، ففي هذه المجالات قد لا يكون الالتزام بالواجب الأخلاقي عملًا أحمق كما يصوّره كلام هوبز. لقد سجلت واحدة ممن نجوا من معسكر بيلسن وهي هانا ليفي هاس-Hanna Levy Haas في مذكراتها جدلًا فلسفيًا خاضته مع أحد الرفاق الماركسيين في المعسكر ويدعى البروفيسور ك، حيث ناقش الأخير حجة شبيهة بما ذكره هوبز إلى حد ما (مزينة بمصطلحات ماركسية) وهي أنه لا يمكن تطبيق المبادئ الأخلاقية في معسكرات الاعتقال لأنها أُبطلت جميعًا وحلّت محلها ضرورة البقاء. لكن ليفي رفضت حجته كونها تحتّم على المرء أن “يساوم العدو، وأن يخون مبادئه، وأن يتبرّأ من قيمه الروحية من أجل أن ينفذ بجلده” (ليفي هاس 1982، 65). تشير هذه الآراء على أقل تقدير إلى أن فكرة “الدمار الشامل” خاضعة لتفسيرات ترى أن التخلي عن أو التقليل من شأن المبادئ الأخلاقية يشكّل بذاته عنصرًا أساسيًا في هذا الدمار.

إن ما عدنا به من رحلتنا إلى عالم اللفياثان يضفي بعض المنطق على فكرة أن تطبيق القواعد الأخلاقية قد يُعلّق لبعض الوقت، وبالتالي فإن الواجبات الأخلاقية ستُزاح جانبًا بفعل ضرورة خارجية. وهكذا فحتى لو ثبت أن فكرة الأخلاق التي تهيمن عليها ضرورة خارجية مرفوضة، فإنها ستظهر سبيلًا لإنقاذ الأيدي القذرة من الوقوع في فخ التناقض. عندئذٍ سيكون موقف الأيدي القذرة مترابط منطقيًا لكنه خاطئ، وستفهم هانا ليفي هاس حجة البروفيسور غير أنها ستتمكن من إيجاد سبب لرفضها.        

  • صراع داخل الأخلاق؟

يوجد مسار آخر للخروج من التناقض عبر الاعتقاد بأن الصدام الذي يصوّره منظّرو الأيدي القذرة يجري ضمن حدود الأخلاق. تكمن فكرة هذا المسار في أن الأخلاق نفسها ليست مترابطة منطقيًا أو متسقة مع ذاتها بصورة تامّة. ففي ظروف معينة ذات طبيعة متطرفة يحدث أن يدخل أحد المبادئ الأخلاقية الثقيلة في صراع مع مبدأ آخر. ولتوضيح الأمر يكفي أن نعود إلى تقسيم فيبر للأخلاق، إلى أخلاق الغايات النهائية وأخلاق المسؤولية فهو يسلك المسار ذاته. لم تُعرض فكرة فيبر هنا بصورة واضحة ولكنه قد يعني بها وجود اتجاهين في الأخلاق أو نوعين من الأخلاق، أحدهما يصلح للحياة اليومية ويجب عليه الخضوع للآخر في المسائل المتعلقة بالسياسة، خاصة تلك التي تنطوي على خيارات معقدة في أجواء مشحونة بالعنف. وتميل عدة فقرات في بحث والزر نحو هذا الرأي. فيعتقد أن نظرتنا الأخلاقية ترى كل من أخلاق الحقوق الفردية وأخلاق العواقب أو المنفعة تتواجدان جنبًا إلى جنب بطريقة تجعل من الصائب في الظروف الاستثنائية أن تلغي “نفعية الحالات المتطرفة” أخلاق الحقوق الفردية؛ مع أن الأخيرة هي المهيمنة في الظروف الطبيعية، وباستخدام عباراته يمكن القول أنه: في حالات الطوارئ القصوى “يعيد شكل معين من النفعية فرض نفسه” إنه “نفعية الحالات المتطرفة” والذي يتعارض مع “الحقوق الفردية الطبيعية”. (والزر، 2004a، 40).

إن هذا التعارض بين أخلاق الحقوق الفردية (أو أي نوع آخر من الأخلاق الواجبة) والنفعية هو أحد الطرق التي تضع التصادم ضمن حدود الأخلاق. وتوجد طريقة أخرى وهي باللجوء إلى ما يسمّى بأخلاق الدَور، ففي داخل الأخلاق نفسها توجد مبادئ أو قواعد أخلاقية عامة، ومن ثمّ لدينا متطلبات أخلاقية خاصة تفرضها الأدوار الاجتماعية الهامة، لذا قد تدخل كل منهما في صراع مع الأخرى. كما يحدث حينما ينشأ صراع بين واجبات المحامية في تقديم أفضل دفاع عن موكلها والحفاظ على أسراره من جهة، وبين مقتضيات العدالة الحيادية من جهة أخرى. لذا قد يُحتج بأن للأدوار السياسية حقوق وواجبات خاصة بها بحيث أنها قد تُبطل الحقوق والواجبات الأخلاقية الأكثر عمومية. فحينما يتعلق الأمر بالدور فائق الأهمية الذي تلعبه القيادة السياسية، عندها -كما صاغت السيدة كاربوري المسألة- “لا يمكن للمرء قياس هكذا رجال بالمعايير العادية”. إن هذه الفكرة تمكننا من استخراج فكرة أخرى مهمة من الأعمال المكتوبة حول موضوع الأيدي القذرة (والحاضرة أيضًا في الكتابات الخاصة بالواقعية)، وهي التأكيد على المكانة الأخلاقية الخاصة لدور القيادة السياسية. فوالزر على سبيل المثال يقيم وزنًا كبيرًا لــ “ما وجد القادة السياسيون من أجله” وفي حديثه عن القادة السياسيين والعسكريين يقول والزر: “من المفترض أن ما يتمخض عن كل هذا الجدل حول حالة الطوارئ القصوى هو تعزيز للأخلاق المهنية، وتقديم بيان يوضح متى يكون مسموحًا (وضروريًا) أن نلوّث أيدينا” (والزر، 2004a، 42). إن أول مشكلة تعترض هذه الفكرة هي أن الواجبات والامتيازات الخاصة المرافقة لهذه الأدوار الاجتماعية ترتكز على اعتبارات أخلاقية عامة، لأنها حتى تكون “أخلاقًا” خاصة بهذا الدور أو ذاك يجب أن تؤيدها اعتبارات أخلاقية أعم. قد نعتبر بأن قوانين سفاح المافيا أخلاقيات خاصة بدوره، إلا أن ما نعتبره هكذا هو في الواقع أعراف أكثر منه أخلاق، وحتى لو كان دور قاتل المافيا المأجور يتطلب منه قتل أي شخص يشي به إلى الشرطة، فإن هذا لا يمكن أن يعد قيدًا أخلاقيًا ملزمًا من أي نوع. لكن حتى لو وُجد قيد أخلاقي حقيقي خاص بدور ما ومؤيد من اعتبارات أخلاقية أوسع، فمن الممكن أن تتدخل واجبات أخلاقية عامة أخرى في هذا التأييد فتبطله. ومثال على ذلك أنه يمكن لقيد السرية المهنية أن يُلغى. كالسرية الطبية المتعلقة بأسرار المريض، فهذه الأسرار مثلًا يمكن افشاؤها إن كان ذلك ضروريًا لإنقاذ حياة شخص ما. وقضية تاراسوف-Tarasof Case الشهيرة توضح الكثير في هذا الصدد. إنها تتعلق باستشاري نفسي في جامعة كاليفورنيا في بيركلي أخبره مريضه بأنه يخطط لقتل صديقته السابقة. كان قلق الاستشاري كافيًا لجعله يكسر قاعدة السرية المهنية ويبلغ الشرطة الذين حققوا في القضية ولكن لم يتخذوا أي إجراء بحق المريض، عندها قتل المريض صديقته تاراسوف. فيما بعد، رأت إحدى المحاكم أنه كان على الاستشاري أن يخبر تاراسوف أو عائلتها بالخطر المحدق؛ في حين أن محاكم أخرى لم ترَ أنه ملزم بذلك. لكن في المجمل كان هنالك إقرار عام بأنه يمكن كسر القاعدة المهنية المتعلقة بسرية المريض، إذا تعارضت معها مطالب أخلاقية أكثر إلحاحًا.

في الواقع، إن استخدام أخلاق الدور في الدفاع عن مشكلة الأيدي القذرة يقلب المنطق الذي تقوم عليه أخلاق الدور، لأن منطقها في الأصل يسمح أو يقتضي إسقاط واجبات الدور إن هي تعارضت مع واجبات أخلاقية أعمق وأعم. لكن ما يحدث في سيناريو الأيدي القذرة هو العكس، فهو يسمح لأخلاق الدور بتجاوز الاعتبارات الأخلاقية الأعمق التي تمثل الأساس الذي يقوم عليه وجود أخلاق الدور أصلًا. هنا تتكون لدينا مفارقة أخرى بخصوص الأيدي القذرة، لا يمكن حلّها سوى بافتراض أن الدور السياسي مميز عن باقي الأدوار، بسبب قدرة أخلاقياته على تجاوز الأخلاقيات العامة. (وفي حال طُبق سيناريو الأيدي القذرة خارج الدور السياسي، سيعني ذلك وجود مجموعة صغيرة من الأدوار الفريدة والمختلفة عن باقي الأدوار). في الحقيقة توجد جذور قوية لهذا الاستثناء السياسي متأصلة في سيناريو الأيدي القذرة، ومع هذا كيف حاز الدور السياسي على مكانة كهذه؟ قد نتوقع أن تمجيدًا كهذا للدور لا يأتي إلا من شخص كشميت-Schmitt، ولكن على ما يبدو فإن والزر نفسه ميّال لذلك. فلقد فُهم موقف والزر من الصراع القائم في مشكلة الأيدي القذرة على أنه يراه كصراع بين أخلاق الحقوق الفردية ومذهب نفعية الحالات المتطرفة؛ لكن الاقتباس الذي سنذكره الآن يضع موقفه ضمن نطاق أخلاق الدور بصورة أكبر، فيقول في معالجته اللاحقة للموضوع: “لا يمكن لأي حكومة أن تعرض حياة مجتمعها وجميع أعضائه للخطر، طالما أن بإمكانها تجنب أو تقليل الخطر ولو بطرق غير أخلاقية… هذا ما وُجد القادة السياسيون من أجله، هذه هي مهمتهم الأولى” (والزر 2004a، 42). كذلك فإن خطورة هذه المهمة تُشتق من القيمة العليا التي يؤمن بها “المجتمع الأخلاقي” الذي ينتمي إليه القائد السياسي. في العادة تنطوي واجبات القائد على حسابات للمنفعة، لكن في الظروف المتطرفة ستتفوق مسؤولية القائد الأولى (أخلاقيات دوره) على جميع ما عداها من قيود أخلاقية واجبة وحسابات نفعية عامة. حينما تتعرض “استمرارية” نمط حياة المجتمع للتهديد، فإن ما ينتظرنا هو “خسارة أعظم مما يمكن تخيله، ولا يفوقها شيء سوى فناء البشرية ذاتها” (والزر 2004a، 43). هذه المزاعم، إن صحّت، فإنها سوف تمنح الدور السياسي أهمية فائقة منقطعة النظير، لذا فهي تحتاج للفحص عن كثب.

إن الاقتباسين أعلاه يشددان على قيمتين مختلفتين تمامًا ولكن والزر يميل إلى الخلط بينهما. القيمة الأولى تتعلق بحياة جميع أفراد المجتمع ذاتها، أما الثانية فمتعلقة باستمرارية “نمط الحياة”. فالبقاء هو محل الخلاف المشترك بين القيمتين، لكن دلالته وأهميته في كل منهما تختلف كليًا. إذ إن احتمالية حدوث مذبحة عالمية مثلًا ستضغط على أي قيد يضيّق من نطاق الصلاحيات التي تمنع حدوث هذه المذبحة، في حين أن احتمالية حدوث تغييرات قسرية أو عكسية أو راديكالية في نمط العيش سيكون أقل تهديدًا بالطبع. حتى الاحتلال المعتدل نسبيًا قد ينطوي على تغييرات شاملة ومؤسفة تطرأ على نمط حياة المجتمع المحتل، منها الحط من مكانة المواطنة في مقابل مكانة المحتلين، أوقد تكون هذه التغييرات على شكل قيود على الحريات التقليدية كالخطاب السياسي أو المظاهر الدينية. ومع ذلك فإن نمط الحياة المعدل هذا قد تطور عبر التاريخ ليفضي بنا إلى المجتمعات الحالية، التي أفسحت المجال للتأقلم على الأقل، بل ولبعض الازدهار أيضًا. لذا فإن ذبح الأبرياء لتجنب مثل هكذا تغييرات أو حتى تغييرات أسوأ في ذات السياق لا يمكن عدّه أمرًا مبررًا.

حتى لو افترضنا أن الأيدي القذرة غير متاحة إلا للمجتمعات السياسية التي تواجه ظروفًا متطرفة، فإن القصد من “المجتمعات السياسية” ليس واضحًا، هل يُقصد به فقط تلك التي تمتلك دولًا وحكومات؟ لا يقول والزر بذلك صراحة، إلا أن تحيزّه المؤيد لوجود الدولة واضح في مناقشته لحالة الطوارئ القصوى في كتابه الحروب العادلة وغير العادلة. فمثلًا يقول والزر في مستهل تلك المناقشة: “هل باستطاعة العساكر ورجال الدولة أن يتجاهلوا حقوق الأبرياء لمصلحة مجتمعهم السياسي؟ أنا ميال للرد عن هذا التساؤل بالإيجاب، إلا إنه ايجاب مغلف بالتردد والقلق” (والزر 1977، 254). ثم يرفض والزر في مقال مختلف يتكلم عن الإرهاب، الحجج المدافعة عن الإرهاب الذي يرتكبه وكلاء غير تابعين للحكومة، مع إن هذه الحجج شبيهة جدًا بتلك التي قبلها والزر نفسه على أنها تضفي الشرعية على قصف المدن الألمانية. فعلى سبيل المثال يدّعي والزر أن حجة الإرهابيين المعتادة بأن لم يكن أمامهم سوى هذا الخيار لمواجهة الظلم، ما هي إلا “كذبة”. فيقول: “إن الملاذ الأخير ليس سوى نهاية وهمية، فاللجوء إلى الإرهاب هو الحل الأخير فكريًا وأيديولوجيًا ولكنه ليس الأخير في سلسلة حقيقية من الإجراءات، لذا وصفه بالأخير هو من أجل تبريره وحسب” (والزر 2004b، 54). لكن مثل هذا التشكيك لا يوّجه مثلًا إلى الحكومات التي تتذرع بالمبرر ذاته (الملاذ الأخير) لتبرير ما ترتكبه من إرهاب في حالات الطوارئ القصوى.

قد يواجه أي مجتمع سياسي حتى لو لم يكن على شكل دولة أو حكومة، حالات طوارئ قصوى، حتى مع صعوبة تفسير هذا المفهوم. لذا من حيث المبدأ يمكن تبرير إرهاب الدول الفرعية. ويبدو أن والزر يتفق الآن مع هذا الرأي ولكن على مضض، إذ أضاف تعليقات توضح ذلك في طبعة أخرى لاحقة لمقاله عن الإرهاب، مع إنها في الواقع تتعارض بعض الشيء مع جوهر المقال المذكور. نُشرت هذه التعليقات والتوضيحات في عام 2004، وجاء فيها: “هل يُبرر الإرهاب في “حالة الطوارئ القصوى” بالمعنى الذي شُرحت به هذه الحالة سابقًا؟ (أي كما شرحها والزر في فصل سابق بعنوان “أخلاقيات حالة الطوارئ”). نعم، يمكن أن يُبرر ولكن في حالة واحدة فقط، وهي أن يكون الاضطهاد الذي يزعم الإرهابيون أنهم يفعلون ما يفعلون ردًا عليه، في مستوى يوازي الإبادة الجماعية” (والزر 2004b، 54). إن ما يعدّه والزر في بعض الأحيان على أنه حالة طوارئ قصوى لا يندرج ضمن معاني “الإبادة الجماعية”. فمثلًا مسألة الانتصار النازي لم تكن تعني على الأرجح إبادة جماعية للمجتمع البريطاني، مع ذلك وفقًا لوالزر فإن ما واجهه البريطانيون آنذاك كان حالة طوارئ قصوى. هذا التمييز في المعاملة بين الدولة والدولة الفرعية من قبل والزر لا يزال لغزًا محيرًا.

يمضي والزر بذلك فيرفض الفكرة القائلة: بأن أي إرهاب حقيقي حديث كان “وسيلة لتجنب كارثة” لا “الوصول إلى النجاح السياسي” (والزر 2004b، 54). إذن يبدو أن الطريق أمام الإرهابين، الذين يسعون إلى حماية نمط الحياة الاجتماعية مفتوح، إذ بإمكانهم تلويث أيديهم في حالات الطوارئ القصوى بالنظر إلى ارتفاع احتمالية نجاحهم في تحقيق مسعاهم. في مقال لاحق، يسمح والزر من جديد بحالات استثنائية يكون فيها إرهاب الدولة الفرعية معَلّلًا ولكنه ليس شرعيًا أو مبررًا. ويرى الإرهاب المعلّل على شكل “حملة إرهابية يشنّها يهود متشددون ضد المدنيين الألمان في الأربعينات، إن وُجدت احتمالية لنجاح هذه الحملة (في الواقع سيكون النجاح مستبعدًا بشدة) في وقف القتل الجماعي بحق اليهود” (والزر 2006، 7). كان الفعل في الاقتباس المذكور في الفقرة السابقة “مبرّرًا” أما الآن فهو “معلّل” فحسب، إن هذا التحوّل في موقف والزر غير مفهوم ويحتاج مزيدًا من التوضيح؛ إذ يبدو أن لجوئه إلى هكذا تصنيفات قد جعله مشوشًا ومتحيًرا. ولكن حتى وفقًا لشروط والزر نفسه، ستوجد حالة محتملة النجاح لاستخدام الإرهاب من قبل جماعات لا تشكل دولة. كاستخدام الجماعات الفلسطينية له، بغية إنقاذ ما تبقى من معالم حياتهم الاجتماعية من الخراب الذي لحق بها من جراء احتلال الإسرائيليين لمدنهم، واستيطانهم فيها، وتنفيذهم هجمات عسكرية عليها. وجدير بالذكر هنا، أن الفلسطينيين يطلقون على ما عانوه من نزع ملكيتهم ونهبها على يد الإسرائيليين بالنكبة، [كتبت في المقالة الأصلية هكذا al-Nakba، (المترجمة)]. لا شك أن من بين مآربهم هو “الوصول إلى النجاح السياسي”، لكن هذا لا يغير من حقيقة أن أفعالهم ما هي إلا استجابة لحالة طوارئ قصوى. ليس الغرض هنا هو تقديم أي ادعاءات فيما يتعلق بالصراع الفلسطيني-الإسرائيلي؛ بل للتأكيد على فكرة ذكرناها سابقًا، وهي أن ما فعله والزر يبقى لغزًا محيرًا، بأن جعل الإبادة الجماعية المعيار الوحيد الذي يصوّر على أساسه شكل التهديد الذي يتعرض له نمط حياة المجتمع.

إن ميل والزر لدمج هذين التصنيفين (العلة والمبرر) يستحق بعض الاهتمام كونه يعكس الصراعات الكامنة في سيناريو الأيدي القذرة. وقد تنبّه إلى أهمية تمييزهما عن بعضهما في مقال سنة 1973، إذ يعلّق والزر مستشهدًا بجون لانجشو اوستن-J.L. Austin، “قد يبدو المصطلحان متقاربين بشدة… لكنهما مختلفان من الناحية المفاهيمية… فالعلة (أو الحجة) تعني في الغالب الاعتراف بالخطأ؛ في حين أن التبرير يعني عادةً إنكار الخطأ والإصرار على البراءة” (والزر 1973، 170؛ والزر 1974، 72). لكن حينما نلتفت إلى أفعال الأيدي القذرة نرى أنها تشتمل على كل من الاعتراف بالخطأ والتبرير، وهذا سيؤدي إلى محو الخط الفاصل بين المصطلحين لأن الاعتراف بالخطأ يقتضي أن يكون الفعل غير مبرر والعكس بالعكس، ووجودهما معًا في نفس الوقت في سيناريو الأيدي القذرة يعني وجود مشكلة. إن معظم مناقشة والزر تعامل أفعال الأيدي القذرة على أنها مبررة بطريقة ما، بغض النظر عن استخدام دورها كحجة. من الجدير بالذكر أن واحدًا فقط من المعلقين على هذا الموضوع رفض بصراحة تبرير أفعال الأيدي القذرة، وهي المنظرة السياسية تامار مايزلس-Tamar Meisels، في أثناء مناقشتها لمسألة الإرهاب والتعذيب؛ لكنها مع ذلك تقبل تقديم الأسباب التي تعلل وجودها (مايزلس 2008a، 213-221). إن هذا الرفض لا يبعدنا عن حقيقة مفهوم الأيدي القذرة فحسب، بل يجعلها غير مثيرة للاهتمام لا فلسفيًا ولا أخلاقيًا.             

إن ما ناقشناه آنفًا عن أهمية وحجم المجتمع السياسي يقودنا تلقائيًا إلى السؤال عمّا إذا كانت الأيدي القذرة محصورة فقط في المحيط السياسي. فحينما يكون تلطيخ الأيدي ضروريًا لتجنب مذبحة واسعة النطاق، أو تجنب الإضرار باستمرارية النمط الأخلاقي والسياسي لمجتمع ما، لِم لا يسري ذلك على القتل غير المبرر بحق الأقليات أو الأفراد، أو على الإضرار البالغ بأنماط حيواتهم؟ لماذا تكون الأولوية دائمًا للمجتمع السياسي والدور السياسي على حساب مجتمعات القلة أو عائلات الأفراد على مختلف أدوارهم؟ ولماذا أهمية بقائه تفوق أهمية بقاء الأفراد بغض النظر عن أدوارهم؟ لا توجد إجابة واضحة لهذه الأسئلة. عندما ناقش والزر مسألة حالة الطوارئ القصوى وقصف المدن في الحرب العالمية الثانية، واجه مثل هذه الأسئلة لكن إجاباته كانت مغلفة “بالتردد والقلق” على حد تعبيره. كان نقاشه مليئًا بعبارات تلجأ إلى ما “يحتمل أن يشعر” به الناس و “ما لا يقال عادةً” وعبارات أخرى من هذا القبيل. فيقول: “… لا نقول عادةً أن الضرورة اقتضت أو أنه مسموح أخلاقيًا لأفراد مجتمع محلي أن يهاجموا الأبرياء حتى في أشد حالات الطوارئ تطرفًا. فالمسموح هو أن يهاجموا من يهاجمهم وحسب. في حين تتمتع المجتمعات في أوقات الأزمات بصلاحيات أكبر وأكثر تنوعًا من صلاحيات الأفراد. وهذا ما لا أستطيع تفسيره أو تبريره دون أن أنسب نوعًا من التعالي أو التفوق إلى الحياة المجتمعية، والذي لا اعتقد أنها تتمتع به” (والزر 1977، 254). كما لا يعتقد أن المسألة متعلقة بالعدد. ومع ذلك نجده يصر على تفوق المجتمع السياسي: “قد يكون من الأجدر بنا أن نقول إننا يمكن أن نتصور العيش في مجتمع حيث يُقتل فيه أفراد بين الحين والآخر، لكننا لا يمكن أن نتصور أبدًا العيش في عالم حيث تتعرض شعوب بأكملها إلى القتل أو الاستعباد. فبقاء المجتمعات السياسية وحريتها -الذي يتشارك أعضاؤها نمط حياة واحد ورثوه عن أسلافهم، وسيوّرثوه لأبنائهم- هي أسمى قيم المجتمعات الدولية” (والزر 1977، 254). إذا غضضنا الطرف عن التهرب من ذكر تبعات اختيار فرد واجه احتمالين، إما أن يُقتل أو أن يقتل شخصًا بريئًا كي ينقذ نفسه، إن هو اختار عدم قتل الشخص البريء، لأنه سيكون ميتًا على أي حال؛ فمن المحتمل أننا سنتساءل عن مدى صحة تجاهل ما ستشعر به عائلة الضحية الذي قُتل دون ذنب (لأنه رفض أن يقتل شخصًا بريئًا)، لأنه سيكون حتمًا شعورًا لا يطاق، والحياة بعد ذلك ستكون جحيمًا. وقد نتساءل، لِم لا نجد الأمر “لا يُطاق” بنفس الدرجة حين يُذبح مئات الآلاف من الأبرياء بهدف صون حرية وبقاء مجتمعاتنا السياسية. كما إن الاستناد إلى “أسمى قيم المجتمعات الدولية” ليس مقنعًا بدرجة كبيرة. إن ما يعنيه والزر غالبًا بــ “المجتمع الدولي” هو المجتمع القائم على دولة وحكومة، لذا ليس من المستغرب أن تضع بقاءها في منزلة رفيعة تسمو على جميع ما عداها من قيم. ومن المفهوم أيضًا أن يكون للجماعات التي لا تشكل دولة أولويات مختلفة خاصة بها. فلو افترضنا وجود أم في إحدى الأحياء الفقيرة في العالم الثالث أو في مخيم بدائي للاجئين، تسعى جاهدة لإبقاء أطفالها على قيد الحياة؛ فإنها سترى نفسها خاضعة لما يسميه والزر -عندما يتحدث عن المجتمعات السياسية-: “قاعدة الضرورة (والضرورة لا تعرف القواعد)” (والزر 1977، 254).

يعترف والزر في مقاله الأصلي عن الأيدي القذرة بصورة عابرة بأن الظاهرة التي يدرسها قد تتجاوز نطاق السياسة. فيقول: “لا أريد أن أزعم أنها معضلة سياسية لا غير، فمما لا شك فيه أننا يمكن أن نلوّث أيدينا في الحياة الخاصة كذلك، بل أننا قد نُجبر على ذلك أحيانًا. كل ما في الأمر أنها حاضرة بقوة في المجال السياسي…” (والزر 1974، 76). مع ذلك لم يكن لهذا الاعتراف أثر كبير على موقفه الذي ركز فيه بالكامل على حالة الطوارئ القصوى في السياقات السياسية، (ففي النهاية عنوان المقال الأصلي هو “النشاط السياسي: مشكلة الأيدي القذرة”). تحيّر الكتاب الآخرون من التركيز الشديد على السياسة. فيرفض مايكل ستوكر-Michael Stocker على سبيل المثال هذا التضييق (ستوكر 2000، 32-3). ويجادل ستوكر أيضًا بأنه على الرغم من أن ظاهرة الأيدي القذرة متميزة من وجوه عديدة إلا أن لها صفات مشتركة كثيرة مع الصراعات الأخلاقية بوجه عام، وهذا أحد أسباب اعتقاده بأن فكرة الأيدي القذرة منطقية ومتسقة مع ذاتها. يرى ستوكر أن ما يسميه بـالحساب المزدوج يمثل صفة رئيسة في سيناريو الأيدي القذرة، ويعني بالحساب المزدوج أن الواجبات الأخلاقية تُحسب مرتين، مرة حينما تؤخذ بنظر الاعتبار لتقرير ما يجب أن يُفعل، ثم تُتجاوز ليحل محلها فعل آخر واقعي أكثر؛ ومرة أخرى حينما يسبب تجاوزها لاحقًا شعورًا بالذنب والندم. على أن هذه الحالة ليست خاصة بالأيدي القذرة فهي تحدث “في جميع المجالات” التي تتطلب تفكيرًا أخلاقيًا وتقريرًا.  

على الرغم من أن ظاهرة الأيدي القذرة ينبغي أن تكون محددة، إلا أنه من السهل تشبيهها بالمعضلة الأخلاقية؛ ولكنه تشبيه تجدر مقاومته. فإذا واجه شخص ما حالة طوارئ قصوى هذا يعني أنه -وباللغة العامية- واقع على الأغلب في “معضلة أخلاقية” بمعنى أنه في وضع ينطوي على خيارات صعبة ومربكة، لكنها ليست معضلة أخلاقية بالمعنى الفلسفي. في اللغة الشائعة تسمى كافة الظروف التي تسبب شعورًا بالحيرة والشك وتتطلب تفكيرًا أخلاقيًا عميقًا لحلّها بالمعضلات الأخلاقية، ويدرك ذلك جيدًا الفلاسفة الذين يدرّسون أو يعطون المشورة بشأن أخلاقيات العمل. إن استخدام المصطلح بهذا المعنى غير ضار إطلاقًا، لكن استخدامه الفلسفي يشير إلى موقف أكثر إزعاجًا يجب تفريقه عن الأيدي القذرة. إن كلًا من الأيدي القذرة والمعضلات الأخلاقية تنطوي على خيار عسير سيؤدي إلى خسارة أخلاقية فادحة في جميع الأحوال. يكمن الاختلاف الأبرز بين الفئتين في أن المعضلة الأخلاقية لا تنشأ إلا حينما يكون كلا الخيارين غير مبررين أخلاقيًا بل أن الأخلاق تقف على الضد منهما بشكل متساوٍ. (توجد معضلة مماثلة تخص المواقف المعيارية اللاأخلاقية-إن وجدت- حيث تقف الاعتبارات الأخلاقية المعيارية على الضد من فعل س وعدم فعل س (الفعل ونقيضه) بشكل متساوٍ). وهذا يعني أن أي مسار سيختاره الوكيل الأخلاقي لن يكون مبررًا، ولا يوجد ما يشي بضرورة أو لزوم اتباع أحد المسارين دونًا عن الآخر. في حين أن المسار الذي يُتخذ في الأيدي القذرة يُبرر بأنه المسار “الضروري”، فمثلًا في حالات الطوارئ سياسية الطابع فإن حماية المجتمع هي ما ينتصر في النهاية دائمًا، حتى على حساب حياة الأبرياء. هذه هي الخاصية التي تميز الأيدي القذرة عن المعضلات الأخلاقية.

يوجد سؤال آخر لم يُطرح بعد، وهو هل يوجد شرح مفصل لما يُسمى بــ “حالة الطوارئ”؟ سواء كانت قصوى أم غير ذلك، بحيث يوضح لنا ما هي الظروف النموذجية التي يُزعم أنها تستدعي تلويث الأيدي. واحدة من طرق التوضيح التي يمكن تجربتها هي إمعان النظر في مختلف الحالات التي تحدث في مجال السياسة، والتي يرزح فيها التصرف الأخلاقي بوجه خاص تحت وطأة الضغوط. عندها قد يكون أول ما يُلفت النظر هو أن السياسة أساسًا ميدان للمفاوضات أو المساومات، والضغط الذي يلازم هذه المفاوضات هو ما يوّلد الحاجة إلى تلويث الأيدي. لا شك بأن المفاوضات ملمح سائد في الحياة السياسية، ولكن مع ذلك لا يُمكن عدّها خاصًة بالسياسة دون غيرها، كما أنها لا تُشكّل بالضرورة ضغطًا يدفع نحو سلوك لا أخلاقي. يمكن القول بالطبع أن القدرة على المفاوضة أو المساومة هي عامل أخلاقي لا غنى عنه في جميع المساعي التعاونية الناجحة، كونها تدل -إضافة إلى فائدتها العملية- على احترام بقية المشاركين في النشاط العام. لكن على الرغم من ذلك فإن للمساومة جانب أخلاقي خطير، كما هو واضح من استخدامنا لكلمة “مساوم” لوصف الشخص الذي دنّس مبادئه للحد الذي جعله غير جدير بالثقة. إن المفاوضات أشبه بصفقة تضحي فيها الأحزاب بأهداف جيدة مقابل أن تكسب أخرى، ولكن إلى أي عمق يمكن أن تصل هذه التضحيات؟ هذا السؤال هو ما يأخذنا إلى منطقة الأيدي القذرة. حالة أخرى تتعلق بما ناقشناه آنفًا عن هوبز، أي حالة العزلة الأخلاقية. وكما قلنا سابقًا أنه وبخلاف ما يفترض هوبز فحقيقة أن الالتزام بالأخلاق عمومًا قد انهار بدرجة كبيرة، لا تحررنا تمامًا من جميع القيود الأخلاقية، لكنها على الأقل توضح الأساس المنطقي الذي يُبنى عليه ذلك الالتزام. توجد حالة ثالثة تحتاج مزيدًا من التوضيح ومن المهم ذكرها هنا، هي التخليص. فغالبًا ما يجد السياسيون وغيرهم أنفسهم في مواقف يكونون فيها وارثين لـ أو مقيدين بقرارات وسياسات من سبقهم (أو حتى سياساتهم هم السابقة) والتي تبيّن الآن أنها كانت طائشة ولا أخلاقية. فمثًلا قد يحاول أحد السياسيين إيقاف حرب غير عادلة تسبب بها سلفه، ولكن في الوقت نفسه قد لا يكون وقفها او الانسحاب الفوري منها مرغوبًا فيه بحسب وجهات نظر عديدة من ضمنها وجهة النظر الأخلاقية. عندئذٍ قد يعتقد أن أفضل طريقة للخلاص من هذه الحرب هي الاستمرار فيها مؤقتًا، مع بقائها على حالها غير عادلة، وذلك بقصد تأمين انسحاب يضمن حقوق الأبرياء بشكل أفضل ويكون من الممكن تنفيذه سياسيًا أيضًا. بالطبع فإن مثل هذه المواقف تتطلب شرحًا أكثر تفصيلًا مما يسمح به المقام هنا، لكن مع ذلك، فإن ما ناقشناه أعلاه يدل على أنه بالإمكان مناقشة موضوع الأيدي القذرة بوضوح أكبر يتجاوز مجرد مصطلحات عامة وغامضة كــ “حالة الطوارئ” أو “الخطر العظيم”.                  

إن ما ناقشناه عن التخليص قبيل قليل يثير مسألة حول الأيدي القذرة قلّما عولجت. إن سيناريوهات الأيدي القذرة تُبنى في الغالب على نحو خاص جدًا كحصر الوكيل الأخلاقي في نطاق ضيق من الخيارات تحكمها ظروف خارجية لا يمكنه السيطرة عليها في الوقت الراهن. ثم يعمم هذا السيناريو، كما لو كانت هذه الظروف الخارجية او أي ظرف آخر يشبهها غير قابلة للتغير بالنسبة لأي أحد يؤدي نفس هذا الدور (كأن يكون سياسي مثلًا). إلا أن هذه نظرة صارمة وغير مرنة تجاه المواقف والأدوار الأخلاقية وتجاه قدرات الوكيل الأخلاقي. ففي قصة التخليص أعلاه، قد فُرضت “اللاأخلاقية الضرورية” على السياسي بسبب ظروف خارجية تسبب فيها أو ورثها من سلفه؛ لكن الهدف من تضمين أخلاق التخليص داخل الأيدي القذرة هو للتأكيد على إمكانية تدخل الشر بصورة مؤقتة والحاجة إلى تغيير الظروف التي تؤدي إلى هذا التدخل. يجب على الزعيم المصمم على الخلاص أن يمضي في شن الحرب غير العادلة، لسبب وحيد وهو أنه في تلك اللحظة لن يكون بإمكانه تغيير مجرى الأحداث التي أدت إليها فيوقفها. ينبغي أن يُرى التقييد هنا وفي الحالات الأخرى للأيدي القذرة على أنه يخلق واجب أخلاقي، على الوكيل الالتزام به، وهو أن يغير الخلفية التي نشأت على إثرها هذه الأزمة الأخلاقية لكيلا يتكرر السيناريو مجددًا. قد يستخدم السياسي في قصة الحرب غير العادلة هذه نجاحه في إنهاء الحرب أخيرًا في التخلص من السياسات الاستعمارية أو الاستعمارية الجديدة التي تسببت في اللجوء إلى الحرب، وفي اجتثاث كل من أفرطوا في القتل من المؤسسة الدفاعية، وفي إعادة التفكير بشأن التحالفات التي لعبت دورًا في التشجيع على الحرب غير العادلة، الخ. من الضروري بالطبع امتلاك الشجاعة والحكمة والحظ لرؤية الاحتمالات المناسبة، ولكن بدون بذل جهود حقيقية في سبيل ما ذكرناه من تغيير فإن تذرّع السياسي بــ “الضرورة” حينما يلجأ إلى الأيدي القذرة هو عذر كاذب.         

  • أيدي المواطنين القذرة

لقد كان النقاش يركز بشكل كبير على موقف يكون فيه سياسي واحد -ذكر كان أم أنثى- هو من يتعيّن عليه أن يلوث يده، لكن يوجد سؤال مهم آخر يتعلق بما يلحق بأيدي المواطنين المدنيين من دنس نتيجة ما يفعله السياسي نيابة عنهم، وتبرز هذه المشكلة بشكل صارخ في الدولة الديمقراطية حيث تُطبق فيها النظرية النيابية على العكس من الدولة الأوتوقراطية. وقد أكّد والزر في مقاله الأصلي بأن جزءً من الضغط والعذاب الذي تسببه مشكلة الأيدي القذرة نابع من حقيقة أننا نحن، المحكومون، نريد من قادتنا أن يكونوا فاضلين، لكننا في الوقت عينه نريد لشخصياتهم أن تكون قادرة على كسر القيود الأخلاقية الغليظة في حالة الطوارئ القصوى. ويكتب والزر في معرض حديثه عن السياسي الذي يلوّث يده لسبب وجيه مع علمه بأن ما يفعله غير أخلاقي: “إننا نعتبره رجلًا صالحًا لأن لديه هذا التردد، لكننا… مع ذلك نأمل بأن يتخلص من تردده هذا… فطالما أنه يعي بأن ما يفعله خاطئ، فإننا نثق بأنه سيختار الطريق الأصوب”. (والزر 1973، 166؛ 1974، 68). لكن إن كان الأمر كذلك، فإن تأييدنا للفعل قد يعني ضمنًا أننا نشارك فيه بأيدينا كذلك. ومع إن والزر لم يتعمق في هذه الجزئية كثيرًا إلا أنه قال في آخر مقاله الأصلي، عندما كان يناقش موضوع الحاجة إلى عقاب من لوّثوا أيديهم، بأننا لا يمكننا معاقبة الزعيم صاحب الأيدي القذرة “دون أن نلوّث أيدينا، لذا يجب أن نجد طريقة ما لندفع الثمن نحن أيضًا” (والزر 1973، 180؛ 1974، 82).

أما بقية الكتاب فقد تعمّقوا في هذه الجزئية وتحدثوا عنها إما بصورة مباشرة أو من خلال حديثهم عن الحاجة لــ “معاقبة” الأيدي القذرة. فقد اشتكى ديفيد أرتشارد-David Archard من أن “مسألة إمكانية تواطؤ المواطنين الديمقراطيين -الذين هم من يفوضون السياسيين للتصرف نيابة عنهم- وبالتالي تلطيخ أيديهم أيضًا لم تناقش بصورة كافية” (أرتشارد 2013، 777). إن أرتشارد هنا يردد نفس الرأي الذي تبناه قبله كل من مارتن هولس-Martin Hollis ودينيس ثومبسون-Dennis Thompson. ويصوغ هولس فكرته على النحو التالي: “إن للسياسيين المعينين بموجب القانون داخل دولة شرعية، سلطة مستمدة أساسًا من الشعب. وفي الوقت الحاضر هذا يعني أنت وأنا… فعندما تتلوث أيديهم يعني ذلك أن أيدينا تلوثت أيضًا” (هولس 1996، 146-7). وعلى غرار والزر فهم يفترضون أن المحكومين يريدون من الحكّام أن يلوثوا أيديهم، وهذا ما يفسح المجال لإلقاء قدر من المسؤولية أو “القذارة” على المحكومين أيضًا.

إذا أخذنا حجة والزر أولًا، نرى أنه ليس واضحًا تمامًا أننا “نحن” نريد أو نأمل أن ينتهك زعماؤنا أعمق المحظورات الأخلاقية حينما يرون ذلك ضروريًا ليحققوا غايات سياسية مهمة أو يتجنبوا نهايات وخيمة، حتى إن كانوا واعين بأن ما يفعلونه جريمة. لا شك أن بعضنا يوافق على أفعال القادة وبعضنا لا، لكن المسألة ليست حساب عدد الموافقين والرافضين في المجتمع، بل هي ما إذا كان هنالك شيء كامن في العلاقة بين المواطنين الديمقراطيين وقادتهم يخوّل لهؤلاء القادة أن يلوّثوا أيديهم بهذه الطريقة. يؤيد أرتشارد صراحةً هذا التخويل مدعيًا بأنه السبب في تلطيخ أيدي المدنيين. ويؤيد هذا الكلام كل من هولس ودينيس ثومبسون ونيل لافي وجنا تومبسون.

لكن ما هي طبيعة هذا التخويل أو التفويض بالتحديد؟ لا بد أن الأمر أكثر من مجرد منح جماعة من الناس الإذن العام بالحكم نيابة عنا، لأنه عندئذٍ سيكون أكثر اتساقًا مع القيود الضمنية والصريحة لما يمكن لهذه الجماعة فعله وما لا يمكن. لذا يحتاج أرتشارد نظرية ترسم حدود هذا التفويض، وكي يصل إلى ذلك اقترح فكرة تقسيم العمل. بمعنى أنه يقسم العمل إلى جزأين، جزء أخلاقي وآخر سياسي (أرتشارد 2013، 782). في الغالب لا يوجد خلاف على الجزء السياسي، لأنه يستند إلى الفكرة القائلة بأن تحقيق أعلى قدر من الكفاءة يكون عبر أداء المهام الشرعية المتنوعة والمطلوب إنجازها في مجتمع مقسم، ويعد الحكم واحدًا من هذه المهام. ذكرت هذه الفكرة، الموجودة في أغلب أنواع الحكومات، المهام الشرعية لكنها لم تذكر القيود المفروضة ولا التصريحات الممنوحة عند أداء هذه المهام. هنا يأتي دور الجزء الأخلاقي، الذي يقول بأن الأدوار المجتمعية المختلفة تنطوي على واجبات وامتيازات تختلف تبعًا لنوع هذا الدور. ولكن مهما كان نوع المزايا التي يمنحها الدور الأخلاقي، لا يمكن أن يعني ذلك إطلاق أيدي الحكام كي يفعلوا أي شيء في سبيل تحقيق الأهداف التي يريدونها. وحتى لو دمجنا فكرتي الدور والتفويض معًا، لن يكون بإمكاننا تبرير قيام صاحب الدور بفعل أي شيء يريده فقط لأنه يراه الطريق الأمثل لتحقيق الغرض من دوره. ولو كان ذلك مبررًا فعلًا، لعنى ذلك أنه بمقدور من يُخول لجمع الديون أن يعذب المدين ليحصل منه على الدين، إن كان هذا هو السبيل الوحيد لانتزاع الأموال منه.

قد يقال إن حالة مثال جامع الديون سخيفة ولا تشكّل خطرًا، بخلاف الدور السياسي فحالاته أكثر خطرًا بمراحل وتطول كل من السياسيين والمدنيين الديمقراطيين. ومع ذلك فقد رأينا سلفًا بأنه من الصعب احتواء الأيدي القذرة داخل حدود المجال السياسي، وأن القليل جدًا من القرارات السياسية تكون ذات أهمية بالغة بدرجة كافية لوضع الدور السياسي في مكانة مميزة تحرر أصحابه من أثقل القيود الأخلاقية، تلك التي تضيق الخناق على كل ما هو غير سياسي كأمثال جامع الديون. إن إدراك هذه الحقائق يفسر لِم ضيق والزر شيئًا فشيئًا دائرة الظروف التي تستدعي تلويث الأيدي. وبالتالي ينبغي للسؤال المتعلق بالتخويل أن يركز على ما إذا كان من المنطقي القول بأننا “نحن” من منحنا التخويل لانتهاك أعمق القواعد الأخلاقية في حالات الطوارئ القصوى. يجيب دينيس ثومبسون على هذا السؤال بنعم، ويقول إن سياسيي الأيدي القذرة لا يفعلون ما يفعلون “من أجلنا فحسب، ولكن بموافقتنا كذلك- ولا فقط باسمنا بل وفقًا لمبادئنا” (ثومبسون 1987، 18).

إن إجابة ثومبسون الواثقة هذه غير مدعّمة بحجة أو دراسة، كما أنها تفترض أن المجتمع الديمقراطي المتعدد سيكون له موقف واحد، وهذا غير ممكن. يعتمد دينيس ثومبسون هنا على شرعية العملية الديمقراطية وقبول المواطنين بمخرجاتها. بعيدًا عن المشكلات العامة مع فكرة القبول، فإن أغلب أفعال الحاكم القذرة تكون غير قانونية ومخالفة للدستور، كما في موضوع التعذيب أو في مسألة انتهاك السياسات المعلنة التي أدت في الأساس إلى انتخاب هذا الحاكم. إضافة إلى ذلك، فإن ما نتوقعه من زعمائنا السياسيين يعتمد على الأرجح على هويتنا وما نتمسك به “نحن” من قيم أخلاقية وسياسية. لنفترض أن زعيمًا وضِع في موقف يستلزم منه أن يعذب طفلًا، كي يجبر أبيه المتطرف على الإدلاء بمعلومات تتعلق بــ “قنبلة موقوتة” (ولنفترض أنه قرار أيدي قذرة حقيقي وليس نابعًا عن جهل بـ أو تجاهل لخيارات أخرى أفضل)، عندها سيكون من المنطقي أن نعتقد بأن هؤلاء المواطنين الذين يوافقون على ان ينتهك السياسي الأخلاقي -في ظروف كهذه- المحظورات الأخلاقية العميقة كي يعذب الطفل، مشاركون حتمًا في الذنب أو العار الذي سيلحق بذلك السياسي. ولكن في المقابل سوف يوجد العديد من المواطنين الذين سيرفضون التعذيب حتى في ظل هكذا ظروف، كما سيوجد أيضًا من يعتقدون أن الانتهاك الذي حصل للقيم الأخلاقية لم يكن عميقًا أو ثقيلًا من الأساس، كما يزعم عموم الناس، وبالتالي سيجعل هذا من قرار الزعيم السياسي صائبًا بل وأخلاقيًا أيضًا. نستطيع أن نرى هنا أنه من غير المعقول أن نعد هاتين الفئتين من المشاركين في فعل الأيدي القذرة على النحو الذي صوره أرتشارد وآخرون، بأن كل المواطنين الديمقراطيين مشاركين في الفعل لمجرد كونهم مواطنين.    

يوجد سؤال آخر يسبق السؤال المتعلق بالموافقة أو التخويل او التوقع، وهو السؤال المتعلق بما يجب علينا أن نتوقعه أو نريده او نسمح به، وما يجب علينا أن نلتزم به من مبادئ. إنه السؤال القائل: هل يجب على السياسيين -بأثقل ما تحمل كلمة “يجب” من معنى- أن يلوّثوا أيديهم؟ إن كان السياسيون على حق (في ظروف معينة شديدة التطرف) أن يلوّثوا أيديهم وكانوا على حق في فعل ذلك بالنيابة عنّا، عندها يجب على الأقل اعتبار من يوافقون منا على ذلك مشاركين في الفعل، ويتحملون قدرًا من المسؤولية. فنحن لسنا مجرد أشخاص تدنسوا بهذه الأفعال، بل تواطأوا عليها.  

إن التشديد على فكرة الذنب المشترك بين الزعماء والمواطنين يثير مشكلة أخرى، تتعلق بالكيفية التي ينبغي بها معاملة مرتكب الفعل القذر بعد انتهاء الأزمة. يعترض والزر على الذنب الذي نحملّه للسياسي قائلًا بأن هذا يعني أنه يجب أن يُعاقب أو يوصم بالعار لأنه فعل ما أردنا “نحن” منه أن يفعله (والزر 1973، 177-8؛ 1974، 97-80). وقد اتفق الكثيرون مع وجهة النظر هذه، إلا أنها تعرضت للنقد من آخرين كتامار مايزلس ونيل لافي. يتضمن الادعاء القائل بمعاقبة أو التشنيع على صاحب الأيدي القذرة، الذي اضطر إلى فعل أمر غير صائب من الناحية الأخلاقية، مشاكل جدية، تدور هذه المشاكل حول المسؤولية الأخلاقية. فبعد كل شيء، إن كانت المسؤولية الأخلاقية تشترط أن تتوفر حرية التصرف أولًا كي يكون اللوم ممكنًا، فهذا يعني أنه لا يمكن إدانة أو لوم صاحب الأيدي القذرة الذي فعل ما هو ضروري وصائب بدرجة ما (تبعًا لظروفه في ذلك الحين) (لمزيد من الانتقادات والتفاصيل حول هذا الموضوع يمكن الاطلاع على: لافي 2007؛ وكذلك مايزلس a2008، 226-27). إن ما ذكر أعلاه لا يدور حول صواب إلقاء اللوم من عدمه، بل على فكرة أن جميع المواطنين مساهمين في الفعل القذر ومع هذا فالمدان واحد، إذ ليس من العدل أن نلوم شخصًا واحدًا على ذلك حتى لو كان اللوم في محله، بل إنه يُعد موقف ازدواجي بامتياز. ففي حين أننا جميعًا نحصل على النهاية السعيدة بفضل الجرم الضروري -إن صحّ التعبير- الذي اقترفه وكيلنا الأخلاقي، يحصل هو على نهاية وخيمة كالنبذ أو ما هو أسوأ منه. كما رأينا سابقًا فإن والزر يرى أنه بعد معاقبة الزعيم صاحب الأيدي القذرة ستتلوّث أيدينا كذلك (يبدو أنه لا يرى أن ما يجعل أيدينا قذرة هو تخويلنا للزعيم منذ البداية بأن يتصرف نيابة عنا). ومع إن والزر لم يشرح رأيه بالتفصيل، إلا أنه كان كافيًا لفتح أبواب الجدل. فيمكن القول بأننا نلوث “أيدينا” حينما نعاقب هؤلاء الوكلاء، وذلك لأنهم بشكل ما يُعدّون “أبرياء” أو على الأقل لا يستحقون العقاب لأنهم فعلوا “الصواب”. وبالتالي نستحق العقاب بدورنا، فيقودنا هذا إلى افتراض يعود بنا بصورة عجيبة إلى نقطة البداية في هذه المشكلة، وهو الافتراض القائل بأن “علينا” الآن تحميل أنفسنا ذنبًا إضافيًا وهو ذنب معاقبة ذواتنا، لأن عقابنا لها كان فعلًا صائبًا ولكنه غير أخلاقي، وهلم جرا. يبدو أن توزيع المسؤولية بين الحكام والشعب لا يفعل شيئًا سوى أنه يزيد من المشاكل المتعلقة بالترابط المنطقي للمفهوم.

إن فكرة الذنب أو العار المشترك تثير تساؤلات أخرى، حول تحمّل كل من المواطنين الديمقراطيين وقادتهم مسؤولية معالجة الكارثة التي حلّت بضحايا قرار الأيدي القذرة. يناقش ستيفن دي فيزي-Stephen de Wijze (دي فيزي، 2018) ذلك بقوله إن ما يقع على عاتق القادة ليس تبرير قرارهم لمن انتخبوهم وحسب، بل أنهم والمواطنين الديمقراطيين معهم مسؤولون عن تعويض الضحايا عن الأذى “الضروري” الذي لحق بهم، نتيجة قرار الأيدي القذرة. ويؤمن دي فيزي بأنه على الرغم من اشتراك المدنيين في هذا القرار إلا أن أيديهم تبقى أقل تلوّثًا من أيدي قادتهم؛ ومع ذلك فهم ملزمون بتعويض ضحايا ذلك القرار. ويقول إن على جميع المواطنين حتى أولئك الذين عارضوا القرار أن “يتحملوا العبء الأخلاقي، وأن يساهموا في الإصلاح” (دي فيزي، 2018، 144). لذا عليهم أن يدفعوا “بعض الغرامات” ربما على شكل زيادة في الضرائب من أجل دفع هذه التعويضات.

يوجد قدر من المعقولية في الادعاء القائل بأن حتى أشرس المعارضين الديمقراطيين ملزمون بتأدية بعض المهام الإصلاحية والواجبات الأخلاقية، كنتيجة لسلوك قادتهم ذوي الأيدي القذرة. ولا حاجة حتى ندعم هذا الادعاء أن نلجأ إلى الامتدادات المشوشة -كما رأينا- لفكرة الذنب المشترك أو التلوث الأخلاقي المشترك. تخلق العضوية داخل مجتمع سياسي ديمقراطي (أو حتى في بعض المجتمعات غير الديمقراطية) مجموعة من العلاقات تحمل كل واحدة في داخلها شكلًا من أشكال الهوية، كشعور القادة والمواطنين بدرجة من الفخر المشترك حيال القرارات الجيدة، وبدرجة من العار والاغتراب تجاه السيئة منها. إن كل ما ذكر أعلاه لا يعني أن المعارض مسؤول بأي حال من الأحوال عن هذه القرارات، لكنه يعني أن يتحمّل مسؤولية خاصة تتمثل في نقد القرارات بما في ذلك قرارات الأيدي القذرة التي يعارضها؛ وأن يبذل ما يستطيع من جهد في سبيل إصلاح الأضرار الناتجة عنها بغض النظر عن مدى تلوّث يديه. إذ ينبغي التمييز بين المسؤولية عن الأفعال السيئة والمسؤولية عن الإصلاح والتعويض عن هذه الأفعال، مع أن تحديد الخط الفاصل بين هاتين المسؤوليتين أمر معقد.

  • قضية الإطلاق

إن كلًا من الأيدي القذرة والمعضلات الأخلاقية يرفضان فكرة أن بعض المحظورات الأخلاقية أو ما يسمى بالواجبات السلبية تكون “مطلقة”، ولكن لكل منهما طريقته في الرفض. إن أنكرنا وجود محظورات أخلاقية تبقى قائمة مهما كانت الظروف، عندها سيكون تجاوز المحظورات الأخلاقية العميقة شرعيًا في بعض الظروف. في الواقع فإن العديد من النظريات الأخلاقية المعاصرة إلى جانب النفعية، تصر على أن إمكانية تجاوز المحظورات الأخلاقية تبقى دائمة. فعلى سبيل المثال، تصر النظرية الحدسية-The intuitionism لويليام ديفيد روس-W. D. Ross وأتباعه على أن جميع الواجبات والالتزامات هي بدهية (أي واجبات الوهلة الأولى)؛ ما يعني أنه يمكن للواجب البدهي الخاص بعدم قتل الأبرياء أن يتعارض مع واجب بدهي آخر، كرفع مستوى الرفاهية أو واجب الحاكم بأن يحافظ على الدولة أو أن يحمي المجتمع. عندها سيكون واجب المرء الحقيقي هو وزن كل من الواجبين البدهيين المتعارضين لمعرفة مدى ثقلهما. وبالتالي قد يرى شخص أن مسألة الأيدي القذرة ما هي إلا نسخة من هذه الرؤية، فهي تقول بأن ما يوضع في كفة الميزان الثانية مقابل الواجبات البدهية شديدة الأهمية، يجب أن يكون ذا وزن هائل كي يستطيع ترجيح كفة الميزان لصالحه. باستخدام مصطلحات توماس ناجل-Thomas Nagel فإن الأيدي القذرة ستمثّل هنا ما سماه بــ “عتبة الأخلاق الواجبة” حيث ستكون عتبة بعض الأفعال مرتفعة جدًا. وحتى ينجح استيعاب سيناريو الأيدي القذرة ضمن الأخلاق الواجبة يجب أن نجعل هذا السيناريو مقبولًا، وذلك لأنه سيكون جزءًا من الأخلاق العادية أو المألوفة عوضًا عن كونه سيناريو أخلاقي خاص بحالات الطوارئ، ولأنه لا مجال في عتبة الأخلاق الواجبة او ما يسمى بــ “الاستثناء المتوازن” (كودي- Coady 2004، 778-9؛ كودي 2008، 285-7، 299) لفكرة أن الفعل خاطئ وصحيح في الوقت ذاته. إذ قد يشعر شخص ما بنوع من الندم إن هو لم يستطع تجنب فعل خاطئ بدهيًا، لكن في المقابل لن يكون الفعل خاطئًا إن هو وازن بين الأفعال بضمير (سيكون من المريح أكثر إن لم تتعارض الواجبات البدهية مع بعضها البعض وبالتالي لن توجد مشكلة). وبالطبع فإن من يقوم بالاستثناء المتوازن سيقرّ أن بعض الأفعال البدهية أقوى من غيرها وبالتالي تكون معارضتها أشد وطأة وأكثر ثقلًا مما سواها. إن هذا الإقرار أساسي في عملية الموازنة كونها ستفقد الهدف من وجودها إن لم توجد فروقات في الأوزان بين الواجبات البدهية. لكن تظل الحقيقة هي أن رفع الحظر على قتل الأبرياء (أي منح الاستثناءات) هو جزء طبيعي بل وروتيني من عملية الموازنة بين الواجبات الأخلاقية لاستخراج الواجب الأسمى، الذي لا يمكن رفع الحظر عنه. فإن انتهت عملية الموازنة بين الواجبات البدهية إلى نتيجة مفادها أن قتل الأبرياء عمدًا مقبولًا أو واجبًا من الناحية الأخلاقية، عندها لا يمكن أن يُعد هذا الفعل خاطئًا أخلاقيًا.

في الحقيقة توجد هنا مقارنة مثيرة للاهتمام مع مذهب المنفعة. إذ كما رأينا سابقًا أنه من الشائع اعتبار النفعية مضادة للاستثناء المتوازن أو لعتبة الأخلاق الواجبة، وإظهار الأيدي القذرة على إنها شكل من أشكال الأخلاق الواجبة (أو الجوهرية [أي المرادة لذاتها]) والتي تخضع لنفعية الحالات المتطرفة. لكن قد يُفسح المجال لاستيعاب صورة نفعية لعتبة الأخلاق وللأيدي القذرة كذلك. فمثلًا تقبل الصور الأكثر تعقيدًا للنفعية كنفعية القاعدة أو النفعية غير المباشرة، حتمًا بالفكرة القائلة بأنه لا يمكن تجاوز الواجبات والفضائل بالحسابات النفعية العادية، إن كان تجاوزها سيؤدي إلى نتائج ضارة؛ إلا في الظروف العصيبة أو حالات الطوارئ “القصوى” التي يكون فيها الضرر الناجم عن الالتزام بهذه الواجبات أو الفضائل أكبر بكثير من نفعه. لذا وفقًا للحسابات والحقائق التجريبية يمكن للنفعية أن تسمح بوجود العتبات وحالات الطوارئ القصوى وحتى الأيدي القذرة داخلها. تعطينا هذه الفكرة صورة نفعية عن عتبة الأخلاق الواجبة لكنها لا تعطينا صورة نفعية عن الأيدي القذرة. وذلك لأن تجاوز المحظورات في النفعية (وفي عتبة الأخلاق الواجبة كذلك) في حالات الطوارئ القصوى يُعد قرارًا صائبًا فقط، وليس قرارًا صائبًا وخاطئًا في نفس الوقت. المعنى الوحيد الذي يمكن أن يبقى فيه القرار خاطئًا هو شبيه بذلك المنسوب لروس في الحاشية 35، بأنه لولا وجود حالة الطوارئ القصوى لكان التجاوز خاطئًا. بالنسبة للنفعية (وبالنسبة لروس أيضًا) فإن هذا القرار خالٍ من أي شوائب أخلاقية عالقة ما عدا شعورًا بقليل من عدم الارتياح.    

إن وجود الشوائب الأخلاقية العالقة وما تسببه من تأنيب الضمير يدل على أن الأيدي القذرة تدفع ضريبة مخالفتها للمطلقية الأخلاقية. ومع إن منظري الأيدي القذرة يرفضون الأخلاق المطلقة إلا أنهم لا يزالون واقعين تحت سيطرتها بالنظر للأهمية التي يعطونها لبعض القيود الأخلاقية. ولكن كيف نقرر ما إذا كان ينبغي رفض المطلقية الأخلاقية أم لا؟ ويصعب بنفس القدر إيجاد حل للنزاع القائم بين مؤيدي الأخلاق المطلقة وبين غير المؤيدين لها. لا يقول مؤيدو الأخلاق المطلقة بأن جميع المحظورات الأخلاقية مطلقة؛ بل أن بعضها كذلك، كالمحظورات المتعلقة بتجريم القتل المتعمد للأبرياء، والاغتصاب، والتعذيب (عند بعض المنظّرين). أما خصومهم فيدّعون بأن حتى هذه المحظورات يمكن أن يقبلها “حدسنا” على إنها شرعية في حالات الطوارئ. إن مؤيدي الأخلاق المطلقة لا يعتبرون حالات الطوارئ محض خيال (كما هي حقيقة البعض منها)؛ بل كل ما في الأمر أن لحدسهم رأي مختلف فيما يتعلق بمدى تطرف هذه الحالات. كما إنهم يستطيعون لفت الانتباه إلى حقيقة أن أغلب المنظّرين الأخلاقيين بما في ذلك خصومهم هم في واقع الأمر يؤيدون المطلقية في بعض القضايا الأخلاقية. فعلى سبيل المثال لا يسمح النفعيون بأي استثناءات -تحت أي ظرف- لقاعدتهم الأساسية في تعظيم النتائج المُرضية، كذلك فإن التعاقدية الرولزية [نسبة إلى جون رولز- John Rawls] تعطي أولوية مطلقة لبعض المبادئ المتعلقة بالحرية، وينطبق هذان المثالان على بقية النظريات الأخلاقية التي تعارض المطلقية في العادة. قد يُرد على ذلك بأن نظرية الأخلاق المطلقة تُطبق في مستوى مختلف عن باقي النظريات، وهذا صحيح كون أن الإطلاق فيها يخص محظورات موجودة في الواقع كالقتل والتعذيب؛ في حين أن النظريات الأخرى تستخدم الإطلاق في مستويات أكثر تجريدية. لكن لِم قد يُعد ذلك فرقًا مهمًا أصلًا، وإن كان كذلك، فلِم الافتراض بأنه يعارض نظرية الأخلاق المطلقة. ففي نهاية المطاف، من المعقول أن تكون رؤيتنا للقتل أو التعذيب على إنها أعمال خاطئة دائمًا مقنعة أكثر من أي اعتقاد آخر يرى أن الأولوية الدائمة هي لتحقيق أعظم سعادة لأكبر عدد من الناس، أو أن الأولوية الدائمة هي للخيارات المعززة للرضا. ويبدو أيضًا أن بعض المحظورات الأخلاقية المحددة -كالمبدأ القائل بأنه من الخطأ تعذيب طفل بريء من أجل المتعة- لا تتأثر بأمثلة خيالية مضادة لها، ولكن علينا ألّا نقلل من قدرات الفلاسفة على الإتيان بأمثلة مضادة عجيبة تبيح ذلك. من الواضح أنه لا يزال هنالك الكثير من الكلام الذي لم يقال حول طبيعة المطلقية الأخلاقية، والتي يمكن أن يؤخذ منها ويرد عليها. لكن على الأقل كان لنقاشنا عنها فائدة، تتمثل في تسليط الضوء على أهمية المحظورات المطلقة في صياغة سيناريوهات الأيدي القذرة.

كان موقف والزر من مسألة الإطلاق (كما يجب أن يكون) هو الرفض باحترام. فيقول: “في اعتقادي لا يمكن تبرير الإرهاب أبدًا. ومع ذلك فأنا لا أريد الدفاع عن الحظر المطلق. لم أجد يومًا الموقف الأخلاقي الذي يقول {أقِم العدل حتى لو سقطت السماوات} معقولًا” (والزر 2006، 7). بعد أن يدّعي والزر بأن المطلقية “قديمة جدًا، ربما أقدم من أي شيء يتعلق بفهمنا للأخلاق”، يقول في موضع آخر، أنه عندما يصل الوضع إلى كارثة أو إلى حالة طوارئ قصوى “فإن المحظورات المطلقة تمثّل، في نظري، رفضًا للتفكير بما يعنيه سقوط السماوات” (والزر 2004a). يمكن بلا شك تصوير هذا الرفض على أنه موقف غبي، لكن لو حاولنا استخراج نظرة معاصرة “لسقوط السماوات”، ربما ستخطر على بالنا مسألة التعذيب، وهي من أوائل القضايا التي ضربها والزر كمثال يستدعي الأيدي القذرة. لقد أثار التقبل السهل بين المفكرين عقب أحداث 11 أيلول-سبتمبر، 2001 لمسألة اللجوء إلى التعذيب في حالات الطوارئ -والتي كانت غالبًا أقل من أن توصف بـ “القصوى”- تساؤلات عديدة حول ما إذا كانت المطلقية لا تزال قابلة للتطبيق، وقد أثيرت حتى من جانب أولئك الذين أيّدوا الأيدي القذرة في السابق أو دعموا استثناءً من أي نوع. فقد كان هنري شو-Henry Shue مثلًا معارضًا للتعذيب على الدوام، ومع ذلك فقد ورد في مناقشته الأصلية للمسألة بأنه قد يسمح بالتعذيب في ظروف “متطرفة” محددة (شو 1977-78). غير أن شو وفي مقال حديث له، ينتقد رأيه السابق وجميع الآراء المشابهة والمنتشرة بين المفكرين، التي تقبل التعذيب في الظروف المتطرفة، كحل أخير يلجأون إليه ولكن ليس هنا -بحسب تعبيره- بل في “أرض الأحلام” (شو 2006). ويعني بذلك أن جميع سيناريوهات الفلاسفة التي تدور حول “القنبلة الموقوتة” هي حبكات خيالية تبعدنا عن حقيقة الحكم الأخلاقي في العالم الحقيقي. يعتبر موقف شو الآن من الناحية العملية موقفًا حازمًا ومطلقًا. وبالمثل فقد التزم الآخرون بنوع من المطلقية فيما يتعلق بالتعذيب. فيقدم بوب بريشر-Bob Brecher مثلًا، نقدًا لسيناريو القنبلة الموقوتة (السيناريو الذي يستخدمه والزر في مقاله الأصلي عن الأيدي القذرة) ويؤيد، من منظور عواقبي صرف، الحاجة إلى إدانة مطلقة للتعذيب (بريشر 2007). لذا فإن الجدل القائم حول التعذيب والذي تولد جزء كبير منه من “الحرب على الإرهاب”، قد أحيا الاهتمام بقوى الحكم الأخلاقي المطلق وضرورته، مع إن الكثير حول طبيعة هذا الحكم وأنواعه بحاجة إلى توضيح. على أي حال، يوجد سبب واضح للتعامل مع مشكلة الأيدي القذرة بدرجة من الشك، يتعلق هذا السبب بحماس السيدة كاربوري لــ “المجازفة النافعة” وازدرائها لمن يقيسون الأشخاص الاستثنائيين بــ “المعيار العادي” الذي يناسب بقيتنا.        

  • قائمة المراجع

Acheson, Dean, 1965, “Ethics in International Relations Today”, in M.G. Raskin and B. Fall (eds.), The Vietnam Reader, New York: Random House, pp. 13–15.

–––, 1971, “Homage to Plain Dumb Luck”, in R.A. Divine (eds.), The Cuban Missile Crisis, Chicago: Quadrangle Books, pp. 196–207.

Alexandra, Andrew, 2007, “Professional Ethics for Politicians?”, in Igor Primoratz (ed.), Politics and Morality, New York: Palgrave Macmillan, pp. 76–91.

Allett, John, 2000, “Bernard Shaw and Dirty-Hands Politics: A Comparison of Mrs Warren’s Profession and Major Barbara”, in Paul Rynard and David P. Shugarman (eds.), Cruelty and Deception: The Controversy over Dirty Hands in Politics, Peterborough, Ontario: Broadview Press; Australia: Pluto Press, pp. 51–65.

Applbaum, Arthur, 2000, “Democratic Legitimacy and Official Discretion”, in Paul Rynard and David P. Shugarman (eds.), Cruelty and Deception: The Controversy over Dirty Hands in Politics, Peterborough, Ontario: Broadview Press; Australia: Pluto Press, pp. 111–132.

Archard, David, 2013, “Dirty Hands and the Complicity of the Democratic Public”, Ethical Theory and Moral Practice, 16: 777–790.

Aristotle, The Politics, trans. T.A. Sinclair, revised T.J. Saunders, Harmondsworth: Penguin, 1981.

Beiner, Ronald, 2000, “Missionaries and Mercenaries”, in Paul Rynard and David P. Shugarman (eds.), Cruelty and Deception: The Controversy over Dirty Hands in Politics, Peterborough, Ontario: Broadview Press; Australia: Pluto Press, pp. 43–49.

Bradshaw, Leah, 2000, “Principles and Politics”, in Paul Rynard and David P. Shugarman (eds.), Cruelty and Deception: The Controversy over Dirty Hands in Politics, Peterborough, Ontario: Broadview Press; Australia: Pluto Press, pp. 87–99.

Brecher, Bob, 2007, Torture and the Ticking Bomb, Oxford: Blackwell.

Callahan, Joan C., 1988, Ethical Issues in Professional Life, New York: Oxford University Press.

Carr, E.H., 1962, The Twenty Year Crisis 1919–1939: An Introduction to the Study of International Relations, London: Macmillan.

Coady, C.A.J., 1989, “Escaping from the Bomb: Immoral Deterrence and the Problem of Extrication”, in Henry Shue (ed.), Nuclear Deterrence and Moral Restraint, New York: Cambridge University Press, pp. 163–225.

–––, 1990, “Messy Morality and the Art of the Possible”, Proceedings of the Aristotelian Society 64 (Supplement): 259–279.

–––, 1991, “Politics and the Problem of Dirty Hands”, in Peter Singer (ed.), A Companion to Ethics, Oxford: Basil Blackwell, pp. 373–383.

–––, 2004, “Terrorism, Morality and Supreme Emergency”, Ethics, 114: 772–789.

–––, 2006, “The Moral Reality in Realism”, in C.A.J. Coady (ed.), What’s Wrong with Moralism?, Oxford: Blackwell, pp. 21–36.

–––, 2008, Messy Morality: the Challenge of Politics, Oxford: Oxford University Press.

Cragg, A.W., 2000, “Bribery, Business, and the Problem of Dirty Hands”, in Paul Rynard and David P. Shugarman (eds.), Cruelty and Deception: The Controversy over Dirty Hands in Politics, Peterborough, Ontario: Broadview Press; Australia: Pluto Press, pp. 175–186.

Cullity, Garrett, 2007, “The Moral, the Personal and the Political”, in Igor Primoratz (ed.), Politics and Morality, New York: Palgrave Macmillan, pp. 54–75.

Day, J.P., 1989, “Compromise”, Philosophy, 64: 471–485.

Erasmus, D., 1516, The Education of a Christian Prince, trans. and intro. L.K. Born, New York: Columbia University Press, 1936.

Gaita, R., 1991, “Ethics and Politics”, in Good and Evil: An Absolute Conception, Basingstoke: Palgrave Macmillan, pp. 247–268.

Garrett, S., 1996, Conscience and Power: An Examination of Dirty Hands and Political Leadership, Basingstoke: Palgrave Macmillan.

Grayling, A.C., 2006, Among the Dead Cities: Was The Allied bombing of Civilians in WWII a Necessity or a Crime?, London: Bloomsbury.

Greene, Ian, and Shugarman, David P., 2000, “Ethical Politics and the Clinton Affair”, in Paul Rynard and David P. Shugarman (eds.), Cruelty and Deception: The Controversy over Dirty Hands in Politics, Peterborough, Ontario: Broadview Press; Australia: Pluto Press.

Hampshire, S., 1978, “Morality and Pessimism”, in S. Hampshire (ed.), Public and Private Morality, Cambridge: Cambridge University Press, pp. 1–22.

Hobbes, Thomas, 1660, Leviathan, ed. and intro. by E. Curley, Indianapolis: Hackett.

Hollis, Martin, 1996, Reason in Action: Essay in the Philosophy of Social Science, Cambridge: Cambridge University Press.

Kavka, Gregory S., 1987, “Nuclear Coercion”, in Moral Paradoxes of Nuclear Deterrence, Cambridge: Cambridge University Press, pp. 165–191.

Kleinig, John, 2007, “Torture and Political Morality”, Igor Primoratz (ed.), Politics and Morality, New York: Palgrave Macmillan, pp. 209–227.

Levinson, Sanford, 2003, “The Debate on Torture: War Against Virtual States”, Dissent, 30 (3): 79–90.

Levy, Neil, 2007, “Punishing the Dirty”, in Igor Primoratz (ed.), Politics and Morality, New York: Palgrave Macmillan, pp. 38–53.

Levy-Haas, Hanna, 1982, Inside Belsen, trans. by Ronald L. Taylor, Brighton, Sussex: Harvester Press; Totowa, New Jersey: Barnes & Noble.

Louden, Robert B., 1992, Morality and Moral Theory: A Reappraisal and Reaffirmation, New York: Oxford University Press.

Lovell, David W., 2007, “Lying and Politics”, in Igor Primoratz (ed.), Politics and Morality, New York: Palgrave Macmillan, pp. 189–208.

Machiavelli, Niccolo, 1513, The Prince, ed. P. Bondanella, Oxford: Oxford University Press, 1984.

Marx, Karl, 1967, Writings of the Young Marx on Philosophy and Society, ed. And trans. L.D. Easton, and K.H. Guddat, New York: Anchor.

McDonald, Michael, 2000, “Hands: Clean and Tied or Bloody and Dirty”, in Paul Rynard and David P. Shugarman (eds.), Cruelty and Deception: The Controversy over Dirty Hands in Politics, Peterborough, Ontario: Broadview Press; Australia: Pluto Press, pp. 187–197.

Meisels, Tamar, 2008a, The Trouble with Terror: Liberty, Security, and the Response to Terrorism, Cambridge: Cambridge University Press.

–––, 2008b, “Torture and the Problem of Dirty Hands” Canadian Journal of Law and Jurisprudence, 21 (1): 149–173.

Mendus, Susan, 2009, Politics and Morality, Cambridge: Polity Press.

Miller, Seumas, 2007, “Noble Cause Corruption in Politics”, in Igor Primoratz (ed.), Politics and Morality, New York: Palgrave Macmillan, pp. 92–112.

Morgenthau, Hans J., 2006, Politics Among Nations: The Struggle for Power and Peace, 7th edition, Boston: McGraw-Hill Higher Education.

Nagel, Thomas, 1978, “Ruthlessness in Public Life”, in S. Hampshire (ed.), Public and Private Morality, Cambridge: Cambridge University Press, 1978, pp. 75–91.

–––, 1979, “War and Massacre”, in Thomas Nagel, Mortal Questions, Cambridge: Cambridge University Press, pp. 53–74.

Nielson, Kai, 2000, “There is No Dilemma of Dirty Hands”, in Paul Rynard and David P. Shugarman (eds.), Cruelty & Deception: The Controversy over Dirty Hands in Politics, Peterborough, Ontario: Broadview Press; Australia: Pluto Press, pp. 139–155.

Oberdiek, H., 1986, “Clean and Dirty Hands in Politics”, International Journal of Moral and Social Studies, 1 (1): 41–61.

O’Niell, O., 1990, “Messy Morality and the Art of the Possible”, Proceedings of the Aristotelian Society, 64 (Supplement): 281–294.

Plato, The Republic, any edition; especially Book 1.

Parrish, John M., 2007, Paradoxes of Political Ethics, Cambridge: Cambridge University Press.

Primoratz, Igor (ed.), 2007, Politics and Morality, New York: Palgrave Macmillan.

Ross, W.D., 1930, The Right and the Good, Oxford: Clarendon Press.

Rousseau, J.J., 1750–55, The First and Second Discourses Together with the Replies to Critics and Essay on the Origin of Languages, ed. V. Gourevitch, New York: Perennial Library, 1986.

Rubenstein, Jennifer, 2014 (forthcoming), Between Samaritans and States: the Political Ethics of Humanitarian INGOs., Oxford: Oxford University Press.

Rynard, Paul, and Shugarman, David P., (eds.), 2000, Cruelty and Deception: The Controversy over Dirty Hands in Politics, Peterborough, Ontario: Broadview Press; Australia: Pluto Press.

Sartre, J.P., 1955, No Exit and Three Other Plays: ‘Dirty Hands’, ‘The Flies’, and ‘The Respectful Prostitute’, New York: Vintage.

Schlesinger, Arthur, 1971, “The Necessary Amorality of Foreign Affairs”, Harper’s Magazine, August: 72–77.

Shue, Henry, 1977–78, “Torture”, Philosophy and Public Affairs, 7 (2): pp. 124–43. Reprinted in Sanford Levinson (ed.), Torture: A Collection, Oxford, Oxford University Press, 2004, pp. 47–60.

Shue, Henry, 2003, “Response to Sanford Levinson”, Dissent, 50 (3): 90–95.

–––, 2006, “Torture in Dreamland: Disposing of the Ticking Bomb”, Case Western Journal of International Law, 37 (2–3): 231–239.

Shugarman, David P., 2000, “Democratic Dirty Hands?”, in Paul Rynard and David P. Shugarman (eds.), Cruelty and Deception: The Controversy over Dirty Hands in Politics, Peterborough, Ontario: Broadview Press; Australia: Pluto Press, pp. 229–249.

Sidgwick, H., 1898, “Public Morality”, in Practical Ethics, London: Swan Sonnenschein & Co, pp. 52–82.

Simpson, Evan, 2000, “Justice, Expediency, and Practices of Thinking”, in Paul Rynard and David P. Shugarman (eds.), Cruelty and Deception: The Controversy over Dirty Hands in Politics, Peterborough, Ontario: Broadview Press; Australia: Pluto Press, pp. 101–110.

Sorell, Tom, 2000, “Politics, Power, and Partisanship”, in Paul Rynard and David P. Shugarman (eds.), Cruelty and Deception: The Controversy over Dirty Hands in Politics, Peterborough, Ontario: Broadview Press; Australia: Pluto Press, pp. 67–86.

Stocker, Michael, 1990, Plural and Conflicting Values, Oxford: Oxford University Press.

–––, 2000, “Dirty Hands and Ordinary Life”, in Paul Rynard and David P. Shugarman (eds.), Cruelty and Deception: The Controversy over Dirty Hands in Politics, Peterborough, Ontario: Broadview Press; Australia: Pluto Press, pp. 27–42.

Sutherland, S.L., 2000, “Retrospection and Democracy: Bringing Political Conduct under the Constitution”, in Paul Rynard and David P. Shugarman (eds.), Cruelty and Deception: The Controversy over Dirty Hands in Politics, Peterborough, Ontario: Broadview Press; Australia: Pluto Press, pp. 207–227.

Terry, Fiona, 2002, Condemned to Repeat: the Paradox of Humanitarian Intervention, Ithaca and London: Cornell University Press.

Thompson, D.F., 1987, Political Ethics and Public Office, Cambridge Mass.: Harvard University Press.

Thompson, Janna, 2007, “Political Complicity: Democracy and Shared Responsibility”, in Igor Primoratz (ed.), Politics and Morality, New York: Palgrave Macmillan, pp. 153–169.

Waldron, Jeremy, 2005, “Torture and Positive Law: Jurisprudence for the White House”, Columbia Law Review, 105 (6): 1681–1750.

Walzer, Michael, 1973, “Political Action: The Problem of Dirty Hands”, Philosophy and Public Affairs, 2 (2): 160–180.

–––, 1974, “Political Action: the Problem of Dirty Hands”, in Marshall Cohen, Thomas Nagel and Thomas Scanlon (eds.), War and Moral Responsibility, Princeton: Princeton University Press, pp. 62–82.

–––, 1977, Just and Unjust Wars: A Moral Argument with Historical Illustrations, New York: Basic Books.

–––, 2004a, “Emergency Ethics”, in Arguing About War, New Haven: Yale University Press, pp. 33–50.

–––, 2004b, “Terrorism: A Critique of Excuses”, in Arguing About War, New Haven: Yale University Press, pp. 51–66.

–––, 2006, “Terrorism and Just War”, Philosophia, 34: 3–12.

Weber, Max, 1919, “Politics as a Vocation”, in From Max Weber: Essays in Sociology, H.H. Gerth and C. Wright Mills (eds.), London: Routledge and Kegan Paul, 1977, pp. 77–128.

Wijze, Stephen de, 2007, “Dirty Hands: Doing Wrong to do Right”, in Igor Primoratz (ed.), Politics and Morality, New York: Palgrave Macmillan, pp. 3–19.

–––, 2018, “The Problem of Dmocratic Dirty Hands: Citizen Complicity, Responsibility, and Guilt.” The Monist, 101 (2): 129–149.

Williams, Bernard, 1978, “Politics and Moral Character”, in Stuart Hampshire (ed.), Public and Private Morality, Cambridge: Cambridge University Press, pp. 55–73.

Wolf, Susan, 1982, “Moral Saints”, Journal of Philosophy, 79 (8): 419–39.

Yeo, Michael, 2000, “Dirty Hands in Politics: On the One Hand, and On the Other”, in Paul Rynard and David P. Shugarman (eds.), Cruelty and Deception: The Controversy over Dirty Hands in Politics, Peterborough, Ontario: Broadview Press; Australia: Pluto Press, pp. 157–173.

  • أدوات أكاديمية

How to cite this entry.

Preview the PDF version of this entry at the Friends of the SEP Society.

Look up topics and thinkers related to this entry at the Internet Philosophy Ontology Project (InPhO).

Enhanced bibliography for this entry at PhilPapers, with links to its database.

  • مصادر أخرى على الانترنت

]Please contact the author with suggestions[.

  • مداخل ذات صلة

consequentialism | Machiavelli, Niccolò | perfectionism, in moral and political philosophy | political realism: in international relations | terrorism | war | Weber, Max

مصدر الاقتباس المذكور لتوماس هوبز

* توماس هوبز، كتاب اللفياثان: الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة، ترجمة ديانا حبيب حرب وبشرى صعب، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث (كلمة) ودار الفارابي، ط1/ 2011، ص163.

المعلومات المرفقة

1- عنوان المقالة واسم كاتبها: The Problem of Dirty Hands, by Coady, C.A.J.

2- اسم المترجمة: بان خليل

3- رابط المقالة:  

https://plato.stanford.edu/entries/dirty-hands/