مجلة حكمة
الأرض قصة قصيرة

الأرض (قصّة قصيرة) – ليونيد أندرييف / ترجمة: إبراهيم قيس جركس


[1]

استدعى العَليّ الأعلى ملاكاً بردائه الناصع البياض وقال له: ((أريد منك أن تصيخ السمع إلى الأرض جيداً. وعندما تسمع شيئاً منها، أخبرني بذلك)).

أصغى الملاك ذو الرداء الأبيض إلى الأرض طويلاً، وأجاب: ((أسمعُ نحيباً. الأرض تبكي. وأسمع شيئاً ما يصرخ، صراخ وأنين، أصوات أطفال يتألّمون. الأرض تتألّم. وأسمع ضحكات سخرية، صرخات شهوة وهمهمات قاتل. الأرض ترتكب خطايا. وقاطنو الأرض خائفين)).

قال العَليّ الأعلى: ((أرسلتُ العديد من أقرانك إلى الأرض ولم يَعُد منهم أحد حتى هذه اللحظة. انتظر رجوعهم بلا جدوى وأكاد أبكي ألماً وحرقة، لكنهم لم يأتوا، والأرض مازالت تبكي، حتى بَهُتَت نجوم سمائي وأصبحت مظلمة. أشعر بالأسى من أجلك، لكنّ دورك قد حان: امضِ إلى الأرض، اظهَرْ بهيئة إنسان، وسِرْ بينهم، حاول فهمَهُم وما هي حاجاتهم. ابتعد عن الثرثارين لكن لازِم الهادئين، حتى يتكلّموا، وحافظ على كلماتهم بعناية، كما لو أنها اللؤلؤ المكنون. العَب مع الأطفال المَرحين، لكن تذكّر أنّ هناك أطفال حزينين وجوههم شاحبة، وعيونهم واسعة ومظلمة. أطفال لا يضحكون ولا يلعبون، لا يعرفون من تسالي طفولتهم البرئية شيئاً، حزنهم رهيب وقاتم حتى بالنسبة لإله، لهؤلاء الأطفال قدّم لهم محبّتك ورحمتك الملائكية. سأنتظرك بفارغ الصبر، سأوقِفُ اسوداد النجوم وسأضاعف نورها بنور أملي)).

تلقّى الملاك بركات مولاه واستقام طواعيةً بردائه الأبيض البرّاق ثمّ قفز من أمام العرش القُدسي هبوطاً نحو الأرض البائسة والتعيسة. في تلك الليلة الظلماء، كانت تجتاح الأرض عاصفة رعدية هوجاء مدمّرة، إذ قضى الكثيرون نحبهم تحت أنقاض منازلهم المُهَدّمة، أو غرقاً في أعماق البحار الهائجة. ولَمَعَ البرق…

[2]

والآن عاد الملاك، بردائه الأبيض البرّاق، مَثُلَ أمام عرض مولاه بطواعية وتهيّب بانتظار أسئلته. شعر العَلي الأعلى بالسعادة لعودته واحتفى به بأن أبرَقَ السماء بعدد من الشُهُب التي زيّنت سماء الليل: لتشكّل وهجاً نصف دائري. وكان العَلي الأعلى في غاية السعادة أيضاً لرؤية مدى بياض ونصاعة رداء الملاك. وهنا بدأ بطرح أسئلته:

((أنا سعيدٌ جداً بمجيئك، أنت تستحق مكانك في السماء بجدارة، ولكن أخبرني يا عزيزي _أليست الأرض نغطّاة بالدماء والقذارة؟ أنا لا أرى أي آثار منها على ردائك)).

أجاب الملاك: ((كلا، أبتي، الأرض مليئة بالقذارة والدماء والسخام، لكنني تفاديتها وتجنّبت أي احتكاك بها، لذا حافظت على نصاعة ردائي)).

تجهّم وجه العليّ الأعلى وسأل متشككاً: ((لكن هل توقّف سكان الأرض عن إراقة الدماء عليها؟ لا توجد ولا بقعة دم واحدة على ردائك. بل هو ناصع البياض كالثلج)).

أجاب الملاك: ((كلا، يا أبتي، الدماء تجري على وجه الأرض جَريَ الأنهار، لكنني تفاديتها، لهذا حافظت على نظافتي. وبما أنّه يستحيل السير بين البشر وتفادي قذاراتهم ودمائهم والحفاظ على نظافة الرداء، لم أهبط إلى الأرض وأمشي على سطحها، بل حلّقت فوقها على ارتفاع منخفض، ومن هناك أرسلت أمطرت قاطنيها بابتساماتي وملاماتي وبركاتي…)).

قال العليّ الأعلى: ((من المستحيل إذن معرفة ما يحتاجه البشر بهذه الطريقة. لكن، ربما، فهمت في النهاية)).

أجاب الملاك: ((إطلاقاً يا أبتي، الشيء الأساسي الذي فعلته هو أنني علمتهم كيف يعيشون بدون معاناة، بدون مآسي، بدون دموع، وبدون دماء، لكنهم لم يضغوا إليّ جيداً يا أبتي، هم ما يزالون على قذارتهم كما كانوا من قبل، كالحيوانات، وبرأيي يجب إبادتهم جميعهم عن بكرة أبيهم)).

_((أهذا ما تعتقده؟))

_((نعم يا أبتي. لكن هذا ليس أسوأ ما في الأمر، أنّهم عَناء الليل والنهار، يشتمون ويبكون، ينحنون بنفس القدر لك وللشيطان، إنّهم يتمرّغون في القذارة الدموية، لكنّ الأمر الرهيب حقاً، والفاحش، وغير المقبول أنّ ملائكتك، الذين أرسلتهم من قبل، ملائكتك ناصعو البياض من قطيعك القدسي، تلطّخوا بالدماء والقذارة لدرجة بات يصعب فيها تمييزهم، لقد تلطّخوا بدمائهم وتلوّثوا بقذاراتهم، وتورّطوا بخطاياهم وجرائمهم)).

_((وهل رايتهم؟))

_((بكل أسف، لقد رأيتهم وشَهِدتُ حالهم يا أبتي. لكنني لم أنحنِ لهم، بل تظاهرت بأني لم أتعرّف عليهم، إذ أنّ اغلبهم لم يعد محتفظاً برصانته، وخاطبوني بطريقة غير مهذّبة، وارتكبوا أعمالاً غير لائقة، بل وحتى مشينة)).

_((أين رأيتهم يا عزيزي؟))

_((أشعر بالحرج لمجرّد الإفصاح مولاي. لقد رأيتهم في الحانات وفي السجون، يأكلون من وعاء مشترك مع اللصوص والقَتَلَة. لقد رأيتهم بين الزُناة، الصحفيين، والخُطاة على اختلاف أنواعهم. من المستحيل وصف ما حَدَثَ لأروبتهم: لم يفقدوا أسلوبهم الملائكي فحسب، بل تمزّقت أرديتهم وتحوّلت إلى مادّة يُرثى لها، حتى أصبح لونها لا يمكن تمييزه تقريباً: في سعيهم خلف الأناقة غطّوا أنفسهم ببقع من ألوان أخرى، بمواد ذات لون أحمر حتى. سمعت أنّ العديد منهم يتوقون إلى السماء والعودة إليها، حتى أنّهم لديهم أمر يتشاركون فيه جميعاً، لكنهم يخشون العودة الآن في وضعهم الحالي. في إحدى الليالي، رأيت مشرّداً نائماً، كان مخموراً ويهذي، وتعرّفت من فوري على ذاك الملاك المتمرّد، أرسلته أنت ومنحته كامل الثقة، وهذا ما سمعته منه وسط تخريفاته وشطحاته التجديفية: ((أشعر بالمرارة بعيداً عن السماء، التي حُرِمتُ منها، لكنني لا أريد أن أكون ملاكاً بين البشر، لا أريد رداءاً أبيض ناصعاً، لا أريد جناحين!)). هذا ما نطق به حرفياً هذا المارق يا أبتي: ((لا أريد جناحين!)).

[3]

بهذا نفض الملاك ريشه الأبيض منهياً روايته، ثم انتظر المديح والثناء من العَليّ الأعلى على نظافته وحذره الحكيم. لكن بدلاً من ذلك، اجتاح العليّ الأعلى غضب جارف وحكم على هذا المعصوم البائس باللعنة الأبدية. وعندما هدأت ثورة الأب السماوي، وخفّ بريق البرق الرهيب في عينيه، تكلم بنبرة هادئة مخاطباً الملاك النقي:

((غادر من هناك حالاً ولا تَعُد حتى تتّحد مع معاناة الإنسان بجسدك وروحك معاً. افهم ما أقوله وتذكّر جيداً، يا صغيري، هذه الأردية الناصعة ليست ضرورية سوى لأولئك الذين لم يغادروا السماء قط: أمّا بالنسبة لأولئك الذين هبطوا إلى الأرض، فإنذ هذه الأردية البيضاء، كردائك، خزي وعار!. أرى أنّك حافظت على نفسك وأمنتها، ولهذا أنت تثير اشمئزازي. غادر بسرعة، وإلا فالبرق يعتمل بصدري منك. وعندما تقابل على الأرض رُسُلي السابقين من قبلك، هؤلاء الذين يخشون العودة، أخبرهم باختصار  وبسماحة، إذ أنك ستنطق بلساني وتتكلّم نيابةً عني: “عودوا إلى السماء، لا تخافوا ولا تخشوا شيئاً، أباكم يحبّكم وينتظركم بفارغ الصبر”)).

نخر الملاك المُعَنّف هازئاً بمرارة، وبشكل مسموم حتى، لكنه تظاهر بمظهر متواضع وأخفض عينيه وأجاب: ((لقد أخبرتهم ذلك، لكنهم ليسوا راغبين))

_((ما الذي لا يرغبونه بالضبط؟))

_((إنّهم لا يرغبون في العودة إلى السماء)).

_((هل هم خائفون؟ أخبرهم بأنني سأمنحهم أردية جديدة))

_((كلا. إنّهم لا يريدون ذلك. هذا ما قالوه يا أبتي: “إذن سنعود إلى السماء ونرتدي أردية بيضاء مرة أخرى، لكن ماذا عن أولئك الذي غادروا؟ إذا كنا سنعود، فسنعود كلّنا أجمعين، وإلا فلا عودة”)).

استغرق العليّ الأعلى في التفكير فترة طويلة، وأخيراً قال: ((هكذا إذن هي الأرض. أرى الآن ضعف ملائكتي وقلّة حيلتهم، وبدأت أعتقد أنّ علي الهبوط إلى الأرض بنفسي)).

قال الملاك: ((جميعهم كانوا ينادونك ويتضرّعون إليك وينتظرونك زمناً طويلاً الآن. ولكنك يا أبتي _سامحني على وقاحتي_ إذا هبطت إلى الأرض، فإنّك لن تعود مرة أخرى)).

قال العليّ الأعلى متعجّباً: ((وماذا عن سماواتي ومملكتي إذن؟ ستغدو فارغة وخاوية)).

_((إنهم يقولون: عندئذٍ ستقوم مملكتك على الأرض، وعندها لن تحتاج أنت، ولا حتى هم أنفسهم، ولا حتى الإنسان المُعَذّب والمُضطَهَد إلى سماوات أخرى، هذا ما يقولونه هم، وأنا أرى أنّهم على حق. وداعاً يا أبتي، مرة أخيرة وإلى الأبد!)).

بهذه الكلمات ودّع الملاك مولاه الأعلى وقفز هابطاً نحو الأرض مرة أخرى حتى اختفى أي أثر له بين دموع الأرض وقذاراتها ودمائها. وتجمّدت السماوات في تأمل وسكون ثقيل، في محاولة للإصغاء إلى الأرض الصغيرة والحزينة _صغيرة جداً وكئيبة ورهيبة وغارقة في مآسيها وحزنها. كانت الشهب الاحتفائية تتلاشى وتخبو بهدوء، وفي ضوء مساراتها الحمراء بدا العرش القدسي خاوياً وبارداً حدّ المَوات.