مجلة حكمة
الأحلام ل ابن عربي

أن تصدق وأن تؤول – جون-ميشيل هرت / ترجمة: طارق مقبل


  1. مقدمة المترجِم

تذكرُ الدكتورة أمنية الشاكري أن جاك لاكان تَأَثّرَ بِمحيي الدين ابن عربي، وأشارَ إليه في أكثر من موضع، وذلك من خلال هنري كوربان. كما يبدو أنَّ فكر ابن عربي تَسَرَّبَ إلى جاك لاكان بواسطة تلميذه المُقَرّب مصطفى صفوان، الذي درَسَ—قبل سفره إلى باريس ولقائه بِلاكان—على يدي “أبو العلا” عفيفي،[1] والذي كان يُعَدّ من المتخصصين في فكر وفلسفة ابن عربي؛ إذ كتبَ أطروحته للدكتوراه عن فلسفة ابن عربي الصوفية، في قسم اللغات الشرقية في جامعة كمبردج سنة ١٩٣٠.

المقالُ—القصير—الذي نحن بصدده، هو نوعٌ من الامتدادِ لاهتمامِ مدرسةِ التحليلِ النفسي بِفِكْرِ ابن عربي؛ فالمؤلفُ، البروفسور جون-ميشيل هرت (Jean-Michel Hirt)، محللٌ نفسيٌ وأستاذٌ في جامعة (Université Paris-XIII)، وكتبَ كثيرا عن موضوعات الدّين والنّفسِ، كما قامَ بمحاولة لسبر أعماق القرآن في كتاب بعنوان: “الساري ليلا: اقرأ القرآن إلى ما لا نهاية” (Le voyageur nocturne. Lire à l’infini le Coran).

نشرَ البروفسور هرت المقال بالفرنسية عام ٢٠٠٦،[2] ثم نُقِلَ إلى الإنجليزية بِتَرْجَمَة المُحلّلة النفسية الدكتورة كرستينا فالندنوفا (Kristina Valendinova).[3] والجدير بالذكر أن النسخة الإنجليزية تختلفُ في مواضعَ يسيرةٍ عن تلك الفرنسية، والسبب هو أن المؤلف، فيما يبدو، قام بمراجعة المقال مرة أخرى قبل إرساله للترجمة، وهو أمرٌ تَبَيّن لي من مراجعة النسخة الفرنسية—غير المنشورة—التي تَرْجَمَتْ وفقَها الدكتورة فالندنوفا، وتَفَضَّلَتْ، مشكورةً، بإرسالها لي.

مُسْتَندي في الترجمة، بشكل أساسي، هو النص الإنجليزي، مع الاستعانة كذلك بالنسختين الفرنسيتين (المنشورة، والتي لم تُنشرْ)، من أجل التصحيح والمطابقة.[4] وقد أضفتُ مجموعةً من الحواشي من باب التوثيق والإضافة وشرح مقصود الكاتب، إلا حاشيتين، فَهُما للكاتبِ البروفسور هرت (رقم: ٦ و ٨).

وختاما؛ أتَقَدَّمُ بالشكر الجزيلِ إلى البروفسور هِرت على ترحيبه، وإجابته بِشَكْلٍ مُفَصّلٍ على مجموعة من الأسئلة التي طرحتُها عليه حول المقال والترجمة.


  1. النصُّ المترجَم: أن تصدق وأن تؤول

تعتبرُ الرؤيا، في الثقافة العربية-الإسلامية، حدثا دينيا—فالرؤيا هي الجزء السادس والأربعون[5] من النبوة، كما يُؤَكّدُ ذلك أحدُ الأحاديث النبوية المشتهرة—يحصل لأعداد كبيرة من الناس طول الوقت. وإدراكُ مدى هذا “الوحي الدائم” ممكنٌ من خلال [النظر إلى] حجم المادة التي يُقَدّمُها أحدُ الكتبِ البارزة التي كتبها متخصصٌ في التّصوف، بيير لوري، Le rêve et ses interprétations en Islam (الرؤيا وتفسيراتها في الإسلام).[6] وإذا أردنا أن نستحضر أمرا واحدا فقط، من باب التأييد لمؤلف الكتاب، وبالتالي التأكيد على الامتداد الأخروي للرؤيا؛ فسيكون هو الأذان، الذي شُرِعَ في الإسلام بفضلِ الرُّؤى المتشابهة لاثنين من صحابة الرسول محمد [صلى الله عليه وسلم]: عبد الله بن زيد المدني، والخليفة القادم عمر. “وبناءً على ذلك؛ فإن معنى اجتماع الصحابة حول النبي [صلى الله عليه وسلم] كلَ صباح ليعرضوا رؤاهم”، كما يكتب بيير لوري، “هو أنهم أتوا ليحضروا الكُشوفَ عن الحقيقة الإلهية.”[7] ومن هنا جاء انتقادُ المخالفين لمحمد [صلى الله عليه وسلم]، الذين اتهموه، في سورة الأنبياء (الآية ٥)، بأنّ الذي يأتي به (أضغاثُ أحلام).

بالنسبة للإسلام، الدينِ التوحيدي الأخير، تمثلُ الرؤيا معجزةً عاديةً مكتوبة على كلِ أحد، كما أن فعاليّةَ الأحلام —هذا البعد النفسي والفسيولوجي لحياة النبي [صلى الله عليه وسلم] والمتصوفةِ والمؤمنين العاديين—لم تُهْمَلْ قطّ في المجتمعِ المسلمِ على مرّ العصور. إضافةً لذلك؛ فإن الطابعَ الخاص للرؤيا هو أنها تعطي معلوماتٍ عن البُعْدِ المخفيّ لحياة الرائي، وتحديدا لمساعدته على تصَوّر المستقبل.

إنّ الكتاباتِ المتعلقةَ بِنَقْدِ [أي: دراسة] الأحلام ، والتي نَشَأَتْ من هذه المُشاهداتِ قرنا بَعْدَ قَرْنٍ كثيرةٌ، وهي شاهدةٌ على أهمية العلاقة بين الجسد وبين الروح عند المفكرين المسلمين—ناهيك عن أنْ نَذكرَ مسبارَ الأحلام الضخم، والنتيجةَ الضرورية للقرآن؛ [كتاب] ألف ليلة وليلة. تماما مثل هذا المجموع القصصي [أي: ألف ليلة وليلة]؛ فإن كتاب الأحلام الكبير[8] مجهولُ المؤلف، وإنْ كان يُنسبُ إلى ابن سيرين؛ راوي الأحلام والأحاديث النبوية في صدر الإسلام. إننا نَتَعَرّفُ في هذا الكتابِ—الذي تُرْجِمَ [إلى الفرنسية] حديثا من قِبَل يوسف صديق—بشكل خاص على معاني الأحلام المتعلقة “بالنكاح وما يتصل به، من المباشرة، والطلاق، والغيرة، والسّمن، وشراء الجارية، والزنا، واللواط، والجمع بين الناس بالفساد، وتَشَبّه المرأة بالرجل، والتخنثّ، ونظر الفرج”،[9] ولكنْ نَتعرّفُ فيه كذلك على معاني الأحلام المتعلقة “بأنبياءِ الله ورسلهِ، وبِمُحَمّد [صلى الله عليه وسلم].” إن هذا الكتابَ—الذي يُشبه من حيث تغطيتُه الواسعةُ كتابَ ألف ليلة وليلة—يكشف عن اتصالٍ بين البشريّ وبين الإلهيّ، بالإضافة إلى تداخلٍ بين الديني وبين الدنيوي، مما يؤدي إلى مقاربات مفاجئةٍ. مثلا: “ومَنْ رأى كأنه ينكح أُمّه الميتة في قبرها؛ فإنّه يموت؛ لقوله تعالى: (منها خلقناكم وفيها نُعِيدُكُمْ)” [طه، ٥٥].[10]

إنّ انقلابَ الحلم إلى نبوة= لهو اعترافٌ بالتغيير الضروري الذي يطرأُ على الروحي من قِبَلِ الجسدي [أو: غير الروحي].[11] مُتَحرّرا من مبادئ الأخلاقية، ملائما للكفر ولانتهاك الحرمات، ومتلاعبا بالعقل؛ فإن مشهدَ الحلم يجمعُ [من خلال كل ما سبق] بين غير المقبول وبين المستحيل. ومن هذا الاعتبار؛ يشابه الحلمُ الوحيَ الإلهيَ الذي وصل للرسول [صلى الله عليه وسلم]، [ذاك] الإملاء الغريب والخارق للطبيعة الذي لم يجرؤ هو بنفسه [أي: الرسول صلى الله عليه وسلم] على تناوله بشكل نقديّ. سيستقر القرآنُ بعد عقدٍ من وفاة محمد [صلى الله عليه وسلم] (سنة ٦٣٢)، على يد الخليفة الثالث عثمان، الذي قام بتشكيل مجموعٍ ثابتٍ للوحيِ، الوحيِ الذي كان النبيُ [صلى الله عليه وسلم] يضيفُ إليهِ في حياتِه قراءاتٍ مُتَعدّدَةً بشَكل مُستَمرّ، ورَفَضَ أن يُثَبّتَهُ—يقول الله [سبحانه] في إحدى الآيات: (إن علينا جَمْعَهُ وقُرآنه) [القيامة، ١٧].[12]

بِمِعْمارٍ أدبيّ يعود إلى القرن السابع، ولكنْ لا يَقِلُّ في حَدَاثَتِه عن أكثرِ الأعمالِ الغربية ابتكارا؛ [يُعَدّ] القرآنُ انعكاسا (mise en abyme)[13] لقصص الكتاب المقدس، [سواء] المعتمدة منها أو المشكوك في صحتها، مما يعطينا [فرصةَ] إعادةِ قراءتِها بشكل مثير، وذلك بفضل أسلوبه الذي يستخدم كثيرا من أساليبِ عملِ [وأنماطِ تفكيرِ] الأحلام، [إضافةً إلى] التكثيفات، الإزاحات [أي: التغييرات]، والمجازات التي يُفَعِّلُها. هل يمكن أن نكونَ اليوم أَقْدر على قراءة القرآن، بعد أن تَمَكّنّا من التَّصدّي لِعمَلٍ باللغة الإنجليزية قد أُشْرِبَ كلّ اللغاتِ الإنسانية: كتاب Finnegans Wake لِجويس (Joyce)، أو [بعد أن تمكنا من إدراك] علاقة الرحلة الليلية له بإسراء النبي [صلى الله عليه وسلم]؟[14]

إن القرآن يُعَرّفُ نَفْسَهُ بأنه “تذكيرٌ” بالكُتُبِ التّوحيديةِ التي يشيرُ إلى كثير من أنبيائها [بحسب ما هو ضروري لنا]، ولكن يُقَدّمُهم بشكل مختلف، مُبْرِزا الجوانبَ المعلومةَ من قصصهم في الكتاب المقدس، والجوانب غير المعروفة. كالمِرآة المكسورة؛ يعكس القرآنُ أجزاءَ حياتهم [أي: الأنبياء] التي لا تظهر على مرآةِ الكتاب المقدّسِ المسَطّحَةِ. فكيف، إذن، لا نتساءلُ: أليسَ القرآن هو حلمُ دينِ التّوحيد، مستدعيا من كل قارئ من قرائه أن يفكّ شفرةَ محتواه كي يصل إلى أفكار هذا الحلم؟ بالنسبة لكل مُتَصَوّفةِ الفلاسفةِ المسلمين—الذين لم يُفَرّقُوا بَين نشاط التأمل، وذاك الذي يشبه الحلمَ، والخيال؛ إذ تقود كلُها من الطبيعيّ إلى ما هو فوقُ-طبيعي—التأويلُ قطعيٌ، شخصيٌ، ومطلقٌ. بطريقتهم الخاصة، أخذوا لأنفسهم إيماءةَ نبوة محمد [صلى الله عليه وسلم]، بهدف المحافظة على الحَرَكيّة العاليةِ للتنزيل الذي كان هو [أي: النبي صلى الله عليه وسلم] وِعاءَهُ.

إن التعبيرَ هي الكلمة الأساسيةُ التي أنشأتها اللغةُ القرآنية، والتي تحتوي على معنى العبور من الظاهر إلى الباطن، [الباطن] الذي يصبح بعد ذلك ظاهرا في نفسه لمحتوى باطن آخر وهلم جرا—يُفَعِّلُ تَأَرْجُحُ الظاهر والباطن نَفْسَهُ إلى ما لا نهايةٍ. إن كل شخص يخوض في التأويل حسب قدرته أو قدرتها التّأَمّليّة [أو: النظرية]، ومن المرجّحِ أن تُعطي كلُ آية قرآنية معانيَ عديدة، طبقا لدرجة الارتقاءِ الروحي للرّائي، وطبقا لصفائه أو صفائها. من السهل [إذن] أن يرى الواحدُ منا أنّ مثلَ هذه الحريةِ التأويلية غير المقيدة= تُمثّلُ—عند القوى السياسية والدينية— جرأةً غيرَ مقبولة، جرأةً دفع الكثيرُ من المفكرين الروحيين المسلمين حياتَهم ثمنا لها.

وعليه؛ فإنهم [أي: المفكرون المسلمون] يُطَبّقون وَصِيّةَ مفكّرٍ فارسي من القرن الثاني عشر، السهروردي، لطلابه: “اقرأ القرآنَ وكأنهُ أُنزلَ لك وحدَك.”[15]

ولكنْ إذا كان القرآنُ عبارةً عن حلمٍ مُوَجَّهٍ للجميع، ويدفعُ كلَ قارئ إلى تأويله بطريقته الخاصة، كي يصلَ إلى كشفِ الجانب الإلهي الخاص به—[أي:] الإله الخاص بالشخص، الذي لم يَعُد الإلهَ العام للكل—؛ فإننا ندرك التعارضَ الذي يَنشأ في قَلْبِ هذا الدينِ التوحيدي؛ تعارض بين تصديق الحلم وبين تأويله.

في القرآن، تَتَمَثّلُ هذه المعضلةُ في المشهد الأَوّليّ للتضحية بولد إبراهيم، [المشهد] الذي يعتمد هنا على التأويل الغائب للحلم الذي أنزل على الأب—وبالتالي، فإنّ رفضَ التضحيةِ بالابنِ، وهو ما يمثل خلافا أساسيا مع الدين غير التوحيدي،[16] يعتمد في القرآن فقط على قدرته [أي: إبراهيم] أو عدم قدرته على تأويل الحلم.

تُعْرَضُ القصةُ كالتالي:

فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ.

فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ.

وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ.

قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ.

إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاء الْمُبِينُ.

وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ.

                        ]الصافات، ١٠٢-١٠٧[.

يواجِهُ إبراهيمُ، أمامَ هذا الحلم، الاختبارَ الذي لابد أن يواجِهَهُ كلُّ أحدٍ: إما أن يُصَدّقَ حلمَهُ أو أنْ يُؤَوِّلَه. إنه يختار التصديقَ والتضحية بابنه، وكل منهما، في نهاية المطاف، معتمد على حكم الله. إن إبراهيمَ، بطريق المثال [أو: الرمز]، يحملُ في نفسه كلَ الصراعات الدينية اللاحقة بين المؤمنين الذين يُصَدّقون ما يقرؤون في كتبهم المقدسة المرجعية، أو [يُصَدِّقونَ] ما يقوله لهم رجالُ الدّين عنها، وبين غير المؤمنين الذين يُؤَوّلونَ ما يَقرؤونَ دائِما. إن الرؤية الكونية الدينية تُبْنَى [بالمسلك] الأول وتُقَوّضُ [بالمسلك] الثاني. “إن الحرف يقتل، بينما تمنح الروحُ الحياةَ”، كما أكّد بولس الطرسوسي في رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس؛ إن الخصومةَ، في كل دينٍ توحيديٍ، بين المُدافعين عن الحَرف وبين المؤيدين للروح= هي خصومةٌ أزليّة؛ لأنها تستمدّ من الحياة النفسية، [و]من التعارض بين تَدَيّن كل شخصٍ وبين روحانيّته.

في القرن الثاني عشر، كان أعظمُ شيخٍ صوفي أندلسي، الشيخ الأكبر ابن عربي، يرى أن كلَّ فِعْلٍ أرضي يُوجَدُ بشكل مُتَزامِن في نطاقات مُتَعدّدة. إن الحلمَ هو الدليلُ الحيّ على تَعَدّديّة الحالاتِ الإنسانية، وبالتالي على أهميةِ التأويلِ الذي يُتيحُ العبورَ من ضفة من ضفاف الرغبة إلى أخرى، من مستوى وجودي إلى آخر، [و]من البشري إلى الإلهي. في فصوص الحكم، الذي يقول إنه تلقاه في المنام من يدي الرسول [صلى الله عليه وسلم]؛ يكتب ابن عربي: “ومعنى التعبير: الجَوازُ من صورةِ ما رآهُ إلى أمرٍ آخر.”[17]

يرى ابنُ عربي، في هذا الكتاب، أن خطأَ إبراهيم [عليه السلام] الأساسي هو أنه تَقَيَّدَ بالرؤيا، وكأنها أَمْرٌ موضوعي خارجيٌ. الخطأ [إذن] هو التسليم للمعنى الظاهر للحلم واختزالُه إلى فعل، بدلا من الإنصاتِ إلى معناه الباطن، الذي سيقود المرءَ إلى التفكير في الفعل المُشاهَدِ في الحلم، لا إلى تطبيقه [في الواقع]. هذا العبور من الجانب المرئي للحلم إلى روحانيته، يُمَثّل في نفس الوقت تَخَلّيا غَريزِيّا و “ارتقاءً في حياة الروح”. كان على إبراهيم [عليه السلام]، كما يشرح ابنُ عربيّ، أن يفهمَ أنّ صورةَ ابنِه في الحلم لم تَكُنْ إلاّ رَمزا لَهُ [أي: لإبراهيم] وهو يواجِهُ معضلةَ وفضيحةَ موتٍ فرديّ يُنْهي حياةً أرادها اللهُ.[18] في تَعْليقِهِ على التّدخل الإلهيّ [يعني: فداء الذبيح]، يرى ابنُ عربي أن فيه ما يُومِئُ إلى العِتاب: “وقال اللهُ تعالى لإبراهيم -عليه السلام- حين ناداه: (أن يا إبراهيم: قد صَدَّقْتَ الرّؤْيا)، وما قال له: (قدْ صَدَقْتَ في الرُّؤيا أنه ابنك)؛[19] لأنه ما عبرها، بل أخذ بظاهر ما رأى، والرؤيا تطلب التعبير.”[20]

لدينا هنا شخصٌ يرمي مباشرة إلى مزبلة التاريخ كلَّ محاولاتِ رفضِ التأويل، التي تَفاخَرَ بها الكثيرُ من القَتَلة في الماضي والحاضر، منتحلين اسمَ الله ليرتكبوا، في حقيقة الأمر، جرائمَ ربما حلموا بها في لياليهم المحمومة. في مقابل هذا، يوجَد الرجلُ الذي—وهو يبتغي تسليمَ نفسِه لله فقط—يَنْجو من تَصَوّرِه الوهميّ للحقيقة؛ [وذلك] بفضل الحلم، بفضل الإبهام الذي يغرسُه الحلمُ في لغة كلِ أحد، وبفضل التأويلِ المرتبط بالبُعدِ النفسيِّ وبالبحر الروحيّ الذي يَتَوَقَّعُه منه الحلم.[21]


الهوامش:

[1] Omnia El Shakry, The Arabic Freud (Princeton: Princeton University Press, 2017), p. 44.

[2] Jean-Michel Hirt, ‘Croire ou interpréter’, Libres cahiers pour la psychanalyse, 14, 2 (2006), pp. 127–132.

[3] Jean-Michel Hirt, ‘To Believe or to Interpret’, translated by Kristina Valendinova, S: Journal of the Circle for Lacanian Ideology Critique, 2 (2009), pp. 10–13.

[4]  تنشر هذه الترجمةُ العربيةُ—حالها كحالِ النصِّ الإنجليزي—وفق رخصة النشر المفتوح: (Attribution-ShareAlike 4.0 International (CC BY-SA 4.0))، بهذه التفاصيل: (https://creativecommons.org/licenses/by-sa/4.0/).

[5] في الترجمة الإنجليزية: “الجزء الثامن والأربعون”، وهو خطأ؛ إذ في الأصل الفرنسي “الجزء السادس والأربعون”، وهو الموافق للأحاديث النبوية.

[6] Pierre Lory, Le rêve et ses interprétations en Islam [Dream and its Interpretations in Islam] (Paris: Albin Michel, 2003).

[7] عبارةُ بيير لوري مبهَمةٌ نوعا ما، وبمراجعة كتابه Le rêve et ses interprétations en Islam تَبَيَّنَ لي أنه ينقلُ—بشكل مختزل—عن ابن عربي في الفتوحات المكية؛ فرأيت أنه من المناسب أن أنقل نصَّ ابنِ عربي من الفتوحات كاملا ليتضح المعنى: “فعلى التحقيق: إن صور العالَم للحق من الاسم “الباطن” هي صور الرؤيا للنائم، والتعبير فيها كون تلك الصور أحواله، فليس غيره. كما أن صور الرؤيا هي أحوال الرائي لا غيره، فما رأى إلا نفسه. فهذا هو قوله إنه ما خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وهو عينه، وهو قوله في حقّ العارفين: “ويعلمون أن الله هو الحق المبين” أي الظاهر، فهو الواحد الكثير. فمن اعتبر الرؤيا، يرى أمرا هائلا، ويتبين له ما لا يدركه من غير هذا الوجه. ولهذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أصبح في أصحابه سألهم: “هل رأى أحدٌ منكم رؤيا؟” لأنها نبوة، فكان يحب أن يشهدها في أمته.” انظر: محمد بن علي ابن عربي، الفتوحات المكية، تحقيق عبد العزيز سلطان المنصوب (١٣ مجلدا، الجمهورية اليمنية: وزارة الثقافة، ٢٠١٠)، المجلد ٦، ص. ١١١-١١٢.

[8] Le grand livre de l’interprétation des rêves (La Tourd’Aigues: Editions de l’Aube, 2005).

[9]  من باب تحري الدقة، نقلتُ النصّ مباشرة من كتاب منتخب الكلام في تفسير الأحلام المنسوب لابن سيرين، وذلك من نسخة المكتبة الشاملة الحديثة (https://al-maktaba.org/book/21615/728)، والنص يختلف قليلا عن ذاك الذي ضَمّنَهُ المؤلف جون-ميشيل هرت.

[10] مرة أخرى؛ نقلتُ النصّ من كتاب منتخب الكلام في تفسير الأحلام، من الشاملة الحديثة: (https://al-maktaba.org/book/21615/737).

[11] يقصد البروفسور هِرت هُنا—كما وَضَّحَ لي ذلك من خلال مراسلة بالإيميل (بتاريخ: ٦/٩/٢٠٢٠)—أنّ “الحلم” يُعْتَبرُ شيئا جَسَديّا غيرَ روحي (carnal) لأنه يَتَشَكَّلُ من خلال انطباعاتنا وأفكارنا، وبالتالي فإن هذا الأمر “الجسدي” يؤثر في “الرّوحي”. وبيان ذلك أن النبوةَ لابد لها من إنسان يقوم بإيصالها؛ إذن حتى النبوة، وهي أمر روحي، تخضع لتغييرات ومدخلات الجسد.

 [12] قولُ المؤلف إن النبي -صلى الله عليه وسلم- رفضَ أن يثبت نسخة نهائية للقرآن= ربما يكون المقصود به أنه لم يجمعه في مصحف واحد.

[13] ويُتَرْجَمُ كذلك هذا المصطلح إلى الإرصاد، والازدواج، واللانهائية في الصورة وفي الدلالة.

[14] يقصد البروفسور هرت بهذا السؤال، كما أخبرني، أنه كلما كان المرءُ أكثرَ انفتاحا في قراءاته= كان أقدرَ على فهم الأبعاد المتعددة للقرآن؛ فمعرفتُنا بالأعمال الأدبية الكبيرة في القَرْنِ الماضي تُؤَهّلُنا لإدراك المزيد من جماليات القرآن. إذن هذه دعوة لمفسري القرآن إلى أن ينظروا خارجَ القرآن لكي يفهموا القرآن.

[15] وَرَدَتْ هذه العبارةُ للسهروردي في كتابه كلمة التصوف؛ وتمامها: “وعليك بقراءة القرآن مع وجْدٍ وطرب وفكر لطيف. واقرأ القرآنَ كأنه ما أنْزِل إلا في شأنك فقط.” انظر: شهاب الدين السهروردي، المؤلفات الفلسفية والصوفية: الألواح العمادية، كلمة التصوف، اللمحات، تحقيق نجفقلي حبيبي (بيروت: منشورات الجمل، ٢٠١٤)، ص. ١٧٢. وأنا مَدينٌ في معرفتي بموضع هذه العبارة إلى الراحل هنري كوربان، حيث ذكر ذلك في مقاله عن السهروردي (Suhrawardī d’ Alep fondateur de la doctrine illuminative)، الذي ترجمه للعربية الدكتور عبد الرحمن بدوي. انظر: عبد الرحمن بدوي، شخصيات قلقة في الإسلام [دراسات ألّف بينها وترجَمَها الدكتور بدوي رحمه الله] (القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، ١٩٤٦)، ص. ١١٥. وربما يكون من المفيد الإشارةُ إلى أنّ هناك عبارةً قريبةً من عبارة السهروردي، ينقلها الشاعرُ الفيلسوف، وخِرّيج جامعة كمبردج، محمد إقبال، عن أبيه: “يا ولدي؛ اقرأ القرآن كأنه نزل عليك.” انظر: أبو الحسن علي الحسني الندوي، روائع إقبال (دمشق: دار الفكر، ١٩٦٠)، ص. ٣١.

[16]  يقصد البروفسور هرت، كما بَيّنَ لي مشكورا، أن إبراهيم -عليه السلام- كان مستعدا للتضحية بولده، ولكن الله منعه من ذلك، لِيَسُنّ سنةً في الدين التوحيدي—خلافا للدين غير التوحيدي والتقاليد المنتشرة آنذاك—وهي تحريم هذا النوع من التضحية تقربا لله.

[17] نقلتُ النصّ من: محمد بن علي ابن عربي، فصوص الحكم، تحقيق أبو العلا عفيفي (مجلدان، بيروت: دار الكتاب العربي)، المجلد ١، ص. ٨٦.

[18] في شرحه لفكرة ابن عربي حول موقف إبراهيم الخليل، يستخدم الكاتب جون-ميشيل هرت لفظ “الخطأ” (la faute)، في حين يستخدم ابن عربي في الفصوص لفظتي “وَهَم” (ص. ٨٥)، و “فَغَفَلَ” (ص. ٨٦)، ولكنّ البروفسور هرت، كما شرح لي، يُفرّقُ بين رضا الله عن الخليل إبراهيم، وبين إصابته في تأويل الرؤيا؛ إذ يرى أن إبراهيم -عليه السلام- سَلَّم لله حَسبَ ما فهمه من الرؤيا، فاستحقّ بذلك رضا الله، وإن لم يكن مصيبا في التأويل. ومن هنا يتناسق هذا التفسير مع وصف إبراهيم بالإحسان في نفس السياق: (قد صدقت الرؤيا؛ إنا كذلك نجزي المحسنين)—لقد كان إبراهيم محسنا في “تسليمه” لله، لا في “تأويل” الرؤيا. ولكن لا شك أن الأليق بمقام النبوة أن يتحرى معه المرءُ أكملَ الألفاظ وأحسنَها، ومن الممكن التعبير عن هذه الفكرة بشكل أنسب.

[19] لاحظ هنا تفريق ابن عربي بين “صدَّقتَ” بالدال المشددة، وهي الواردة في الآية الكريمة، وبين “صَدَقْتَ” بالدال المخففة، وهذا التفريق هو المرتكز التفسيري الذي ينطلق منه ابن عربي في تأويل الآية؛ إذ يرى أن “صدّقتَ” المشددة لا تقتضي مدحا، وإنما هي وَصْفِيّة، تصف حال إبراهيم، أنه أخذ بظاهر ما رأى؛ أي: صَدَّق الظاهر. وسواء اتفقنا أم اختلفنا مع هذا التفسير لابن عربي، إلا أنّ هذا الملحظ اللغوي يكشف لنا أن ابن عربي كان “حرفيا” في تفسيره للقرآن، وكان يعمل ضمن إطار ما تسمح به لغة القرآن، وهي فكرة كتب عنها بإسهاب الفيلسوف الفرنسي ميشيل شودكيفيتش (Michel Chodkiewicz) رحمه الله في كتابهUn océan sans rivage. Ibn Arabî, le Livre et la Loi ، الذي ترجمه إلى العربية الدكتور أحمد الصادقي، بعنوان: بحر بلا ساحل: ابن عربي الكتاب والشريعة، وصدر عن دار المدار الإسلامي في بيروت سنة ٢٠١٨.

[20] ابن عربي، فصوص الحكم، المجلد ١، ص. ٨٥-٨٦. وأنبه على أنّ ترجمةَ البروفسور جون-ميشيل هرت تختلف قليلا عن النص الأصلي لابن عربي.

[21] تعليقا منه على سؤال طرحتُه عليه حول هذه الفقرة؛ أجابني البروفسور هِرت بهذه الكلمات، التي أُحِبّ أن أنقلها بتمامها (بعد أن استأذنتُ منه):

“Abraham and any man after him is requested by God to interpret His will and not to take the Qurʾān as if it was a book with just one obvious sense, when no human life can hope to understand fully all His words. Regarding this Holy Book, nobody can seriously decide that it’s just a pond when he is in front of an ocean of no limits.”