مجلة حكمة
استراتيجية الخطاب الشعري عند حجازي - صلاح فضل

استراتيجية الخطاب الشعري عند حجازي – صلاح فضل

مجلة الجابري – العدد الاول


كانت أول قصيدة تتصدر ديوان أحمد عبد المعطي حجازي الأول “مدينة بلا قلب” مؤرخة في عام 1956، وقد احتفى بـها رجاء النقاش طويلا في مقدمة الديوان واعتبرها إيذانا بميلاد اتجاه جديد في الشعر سينضو عنه ثوب الرومانسية المراهق دون أن يتلبس بمصطلحه البديل “الواقعية” وكان ختامها بالكلمات التالية :

أصدقائي
ها هي الساعة تمضي
فإذا كنتم صغارا، فاحلفوا ألا تموتوا
واحذروا عامكم السادس عشر !

ومن الواضح أننا يمكن أن نراها الآن بعد أربعين عاما باعتبارها استهلالا لاستراتيجية جديدة في الخطاب الشعري، تتمرد على وجدانية الرومانسيين المرهقة وعلى خطابة الإحيائيين الشهيرة في الآن ذاته، تخرج على الشعر المهموس الذي كان يدعو إليه مندور وعلى الشعر التقليدي الذي يحظى بالهتاف في المحافل لتقدم نمطا ثالثا يتجه إلى الآخرين ويحتضنهم ويبثهم فكرا شعريا طازجا لصيقا بالتجربة الحيوية المعاشة ومتغيراتـها الملموسة، فهل يمثل نوعا من شباب الشعر ونزقه وحرقة تجربته المشتركـة مع المتلقى في لون جديد من الفردية غير الانعزالية، إنـها الفردية النموذجية للإنسان الذي يريد أن يكون ناضجا وممثلا لجيله، يتوجه إليهم بخطاب حر مباشر يستحلفهم كي يتجاوزوا محنة احتراق أخيلة الصبيان بالأوهام المثالية بينما تصدع “فايدة كامل” بصوت البنات صائحة ” أنا بنت ست عشر سنة” كي تعلن تمردها وتتولـها الأنثوي الذي صنعه “خراط الصبايا”.

كان حجازي يفتتح مع صلاح عبد الصبور وآخرين نـبرة شعرية تبنى خطا تواصليا ينحرف عن المسار السابق للخطاب الشعري، حيث يغلب عليه نموذج “أنا وأنت” المدمج في عبارة ” معك أيها القارئ” نخاطب الناس والمدن والأشياء، لتشكيل ملامح نسـق جديد وخلق أفق مفتوح على الغير دون أن يفنى فيه. ولم يلبث هذا النداء الجديد أن علق بالذاكرة الشعرية وأخذ يتشكل سرديا بملامح مستحدثة، تدخل تفاصيل الحياة الدالة في نسيج الصورة الشعرية، أخذ يبني عددا من المشاهد البصرية المركزة في التفاتات تشكيلية ذكية في مثل قوله !

ـ يا عم ..
من أين الطريق ؟
أين طريق السيدة ؟
ـ أيمن قليلا، ثم أيسر يا بني
قال … ولم ينظر إليّ.

حيث نجد خيطين لافتين يدخلان جديلة اللغة الشعرية ؛ خيط الحوار السردي الموزون، بكلماته الواقعية الساخنة ” يا عم” وحركيته النشطة “أيمن قليلا ثم أيسر”، ثم نجـد خيطا ثانيا مستلا من ترجمات اللغات الأجنبية حيث يأتي فعل القول بعد المقـول في نص الحوار، على غير عادة اللغة العربية في تقديمه. وأكثر من ذلك فهذا الروح المديني المنصرف عن الآخر والمتمثل في اللفتة الدالة “قال.. ولم ينظر إليى هو تسريب لشعور الغربة في الصيغة والوصف معا، فالاغتراب لا يقتصر على الموقف، بل يتمثل خصيصا في صياغـة الكلمات والمسافة التي تفصلها عن نسق القول الشعري المعهود. لسنا إزاء استعارة أو رمز شعري بليغ مما نعهده في الأسلوب العربي السائد، بل نعاين انحرافا ملموسا إلى صيغ وصور جديدة، حوارية وصفية ستتعفر بتراب الشارع وتصغى لإيقاعاته، وتشكل ملامحهـا من أوضاع الناس فيه وهم يتخاطبون ؛ حيث يجيبك من تنادي دون أن يعني بالنظر إليك والتواصل الكلي معك مثلما يفعل الناس الطيبون من أهل القرى. مفارقة المدينة والحضارة والزحام والآلات تبدل أحوال الناس وتقلب أوضاع الحياة وما يمكـن أن يولده. كل ذلك من اغتراب نفس يترجمه تغريب لغوي، هذا هو لُب الخطأ الشعري الجديد لتمثيل حياة مخالفة لمن تنادي من الأحياء.

لكن طبيعة هذا التنادي، وما يؤذن به من ميلاد لشعرية جديدة تتبدى بشكل أصفى في مثل قوله !

كلماتنا مصلوبة فوق الورق
لما تزال طيفا ضريرا ليس في جنبيه روح
وأنا أريد لـها الحياة
وأنا أريد لـها الحياة على الشفاه
تمضي بـها شفة إلى شفة، فتولد من جديد

هذا هو نوع الحيوية التي انبثقت الدعوة الصريحة إليـها في أول بزوغ حجازي أن يطير الشعر من فوق الورق الذي يقيده ويميته كي تتخلق فيه الروح، التداول هـو روح الشعر، انتقاله إلى المشافهة ـ مثل القبلات ـ هو الذي يؤذن بمولـده. لا بـد إذن من استراتيجية جديدة للخطاب الشعري الحركي ينتقل من القرية إلى المدينة، ويطـوف بعدها بأرجاء الكون. لعل عروبة الخطاب هي التي تقترح مسارها على هذا النهج الجديـد في الساحة متناغم مع حركة المجتمع العربي في مصر وهو يكتشف ذاته ويمد ذراعه لبقية أرجاء الوطن في مطلع المد الناصري.

هل كان هذا التنادي هو مفتاح اللحظة التاريخية عند منتصف القرن وكان الشعر بحساسيته الفائقة وطليعتيه الواثقة هو صانع صيغه وموجه حركته ؛ هل كان التنادي تعبيرا عن صوت الأمة في قول حجازي :

فلتكتبوا يا شعراء إنني هنا
أشاهد الزعيم يجمع العرب
ويهتف الحرية… العدالة… السلام
فلتلمع الدموع في مقاطع الكلام

ومع أننا نلاحظ أسلوبيا غلبة النداء على جميع قصائد هذا الديوان وارتفاع نسبته بين مجمل الصيغ الشعرية إلا أن خطابه مع ذلك لم يكن خطابيا محترفا بقدر ما كـان تناديا حميما إلى أفق جمالي ودود. ولعل بكارة التجربة القومية وراء الحلم الجماعـي وصدق النبرة كانت تخلع على هذا الخطاب مشروعية لابد أن نتمثلها اليوم بتحنان حقيقي كلما أدركنا المسافة التي أخذت تفصلنا عنها وتحيلها إلى رذاذ الذكرى العاطرة.

النفي ورثاء الذات :
بعد هذه البداية الفاتحة سرعان ما تمرغت المجموعة الثانية لشاعرنا “لم يبق إلا الاعتراف” في تراب الأنـيّ الموقوت من أحوال السياسة اليومية، حتى أصبحت تحتاج اليوم بعد عدة عقود فحسب لشروح وتعليقات عن مناسباتـها الوطنية والقومية، أصبحت تثير لدينا كثيرا من مشاعر الإشفاق المرير عندما نطالع بين قصائدها أغنية للاتحاد الاشتراكي أو قصيدة عن “لومومبـا” أو غيرها من النصوص التي أصبحت بعيدة عن اهتمام المتلقي لهما أنعش ذاكرته التاريخية وتعاطف مع روح التبشير القومي فيها، لم يعد من الممكن لنا اليـوم أن نتوتر مع ما فيها من عرق بطولي ملحمي كشف الزمن عصبه وضاعف مواجعه.

الطريف أن عنوان الديوان ليس واردا على راس أية قصيدة منه، ومع أن صيغة النفي والاستثناء فيه مفتعلة ؛ إذ ليس هناك أي اعتراف على النفس أو الغير، إلا أن بعض اللفتات الذكية فيه يمكن أن تمثل تعديلا لتوجه مسار الخطاب الشعري عند حجازي وتكييفا جديدا لعلاقة صوت القصيدة بالمتلقي. من أهم هذه اللفتات مقطوعة “لا أحد” التي يقول فيها :

رأيت نفسي أعبر الشارع عاري الجسد
أغض طرفي خجلا من عورتي
ثم أمده لأستجدي التفاتا عابرا،
نظرة إشفاق على من أجد
فلم أجد !
.. .. ..
إذن
لو أنني ـ لا قدر الله ـ أصبت بالجنون
وسرت أبكي عاريا .. بلا حياء
فلن يرد واحد عليّ أطراف الرداء
.. .. ..
لو أنني ـ لا قدر الله ـ سجنت، ثم عدت جائعا
يمنعني من السؤال الكبرياء
فلن يرد بعض جوعي واحد من هؤلاء
.. .. ..
هذا الزحام لا أحد !

وإذا كان الشاعر العباسي، ولعله دعبل الخزاعي، قد قال من قبل :

إني أقلب عيني حين أفتحها على كثير ولكن لا أرى أحدا

فإن نفي حجازي للآخرين ممن كان يتوجه إليهم بخطابه أشد مرارة وتبريرا، فهو يمضي من حلم الجماعة إلى واقع الفردية المعاصرة، يبلغ بتجربة الاغتراب في المدينة أقصى حدودها من الشعور بالاستلاب والفزع الداخلي. الطريف أن لهجته التقريرية “إذن” المبنية على فرضيتن بالجنون والسجن، وجملته الاعتراضية الشعبية المحببة ” لا قدر الله” تضفيان على أسلوبه طابع الحديث النثري، دون أن تنجح القافية الدالية في تسويره داخـل حدود الشعر الغنائي، فاللحظة مضادة للفناء في جوهرها، ومضادة للبوح والاعتراف، إنـها تنبئ عن واقع افتراضي أسيف يتدارك فيه الشاعر نفسه، ويلملم ذاته ويردها إلى الكف عن التنادي والتخاطب، وكأنه يبطل سعيه وحبه ومزاعمه وأناشيده السابقة للبطل والشهيد والمدن والشهور العربية من قبل.

ينحرف باستراتيجيته الشعرية الغيرية المسرفة في مواليد للآخرين استجداء لحبهم أو حماسهم وتعاطفهم، يلجأ لكبرياء المبدع وشعوره بالانكفاء والاكتفاء. حتى ولو كان ينقض غزله، ويبخع نفسه، ويجيء هذا النفي المطلق :

هذا الزحام لا أحد

ليحدد نوع الرؤية الجديدة للشاعر، فهي فردية في صميمها، وجودية في منـزعها، قطعية صارمة لا أثر للشـك أو التردد عليها، شديـدة اليقين والامتلاء. ترى في المبالغة القصوى قرارها الدلالي الأخير. وهو قرار مبني على مقدمات وهمـية تخضع لمنطق صوري شعوري في الآن ذاته، مما يسمح لنا بأن نعتبرها رؤية خطابية إن صح هـذا التعبير، أو لنقل بطريقة أخف إنـها تتذرع بأسلوب خطابي يستثير العواطف لوقف التعاطف، فالعري الذي فزع منه في الحلم وأصبح أشد ما يخشاه عند الجنون كناية عن مفارقة المجتمع ومواصفاته التقليدية، واقتران الجنون بالسجن هـو الربط اللاشعـوري بين لا معقولية الحياة وعبثية السياسة، والشاعر الغيري هو الذي يشفق من هذه المفارقات. أما الشاعر الرجيم الحميم ـ ولم يكن حجازي كذلك ـ فهو يبحث عن هذه المفارقات ويجد نفسه فيها.

تقوض عالم حجازي البطولي ولما يصل إلى غاياته، رثى عمره الجميل دون أن يبلغ الأربعين، رأى كيف تجرف تحولات الحياة أحلامه الشعرية وكم تحصد أعمار جيلـه، تفجع كثيرا، لكن مقطوعة محكمة “مرثية لاعب سيرك” تظل من أصفـى وأقوى ما خلفتـه هذه المرحلة في شعر حجازي. ابرز ما يتمثل فيها هو تلك البؤرة المزدوجة التي توهمك بأنـها تحدق في المشهد الخارجي بينما هي غارقة في استبطان الذات. لقد أدرك الشاعر بعد انقشاع الغيم البطولي الوردي أن التمثال الذي نصبه ليسقط في قلب خطئه، وأن هذا السقوط المحتوم لم يكن بوسع أحد أن يتداركه، وأن هذا هو جوهر المأساة على الطريقة الإغريقية، لكن التعبير بتوظيف تقنية الأمثولة جديـد في أدوات حجازي الفنية :

في العالم المملوء أخطاء
مطالب وحدك ألا تخطئا
لأن جسمك النحيل
لو مرة أسرع أو أبطأ
هوى .. وغطى الأرض أشلاء

ولأن كاف الخطاب امتداد لاستراتيجية التعبير عند الشاعر فإنـها تنصرف إلى واحد من ثلاثة أطراف ؛ أولها اللاعب ذاته وهي تصفه بينما تتوجه إليه لنصب خيمته التخييلية. وثانيها القارئ الذي يتماهى مع هذا اللاعب ويستغرق لديه في موجة من الإشفاق على النفس والرثاء للمصير، وثالثها الشاعر الذي يدور حول تجربته ويستحضـر بشكـل لا شعوري خبرته وعذاباته ونفسه اللوامة وهوة السقوط وهي تفغر فمها له. تتسع الكاف لتشير لكل هؤلاء كما يتسع الجسد النحيل ليضم بين عطفيه أجسادنا جميعـا لو أخطأنا الإيقاع المطلوب، لو أسرعنا قليلا أو أبطأنا بأكثر مما ينبغي، سيصبح قدرنا ـ ولا مفر ـ مثل مصير اللاعب في سيرك الحياة. الشاعر يسبق الحوادث في السرد لأن الزمن يتعقبه، السقوط حتمي لأن الكمال مستحيل. من الذي لا يخطئ ؟ هل هذه هي سقطة التمثيل في السيرك، أم سقطة السياسة في مشاريعها الوهمية أم سقطة الشعر في تعلقه بالمثل الأعلى الذي لا وجود له ؟

تصلح الأمثولة لجميع هذه الاحتمالات وهـي تشير إليها بينما تصنع هيكلها الدلالي

في أي ليلة ترى يقبع ذلك الخطأ
في هذه الليلة أو في غيرها من الليال
حين يفيض في مصابيح المكان نورها وتنطفي
ويسحب الناس صياحهم،
على مقدمك المفروش أضواء !
.. .. ..
حين تلوح مثل فارس يجيل الطرف في مدينته
مودعا، يطلب ود الناس، في صمت نبيل
ثم تسير نحو أول الحبال،
مستقيما مؤمنا
وهم يدقون على إيقاع خطوتك الطبول
ويملأون الملعب الواسع ضوضاء
ثم يقولون : ابتدئ
في أي ليلة ترى يقبع ذلك الخطأ

يشد المقطع توتره بسرد المشهد وإرهافه وعرض صوره عبر الانتقال من التساؤل إلى الوصف التفصيلي للمكان والناس والألوان والإيقاعات، مما يجعل حدث الكلام منبئا عن حدث الأفعال في تطابق نثري متصاعد، لكن المقطع يشد وتره الغنائي عبر تقنية أليفـة هي تكرار البداية في النهاية “في أي ليلة ترى يقبع ذلك الخطأ” وهو ليس تكرارا صوتيا بقدر ما هو مصيري قدري يتربص باللاعب والمشاهد والمخاطب بشكل لا فكاك منه، كل ما هناك أننا لا نعرف موعده. ولأن وقوع البلاء أخف من انتظاره تصبح القصيدة إرهاصا مرهقا بالخطأ ومرثية حارقة لضحيته، هنا تتحول الإرادة الصانعـة إلى أداة مسخرة والفن الرفيع إلى مجرد تمهيد للسقوط. فالفنان لم يسحر جمهوره فحسب، ولكنه امتلك المدينة بعد أن نبض له قلبها حتى أصبحت “مدينته”. وتقابل الموقـع التركيبي بين ضوضاء وأضواء يكشف عن تراسل الصوت والصورة في منظومة الشهرة بقدر ما يكشف عن فداحة الثمن المنتظر.

ومن اللافت أن يكون النموذج الفني الذي يؤثره الشاعر في أمثولته نموذجا استعراضيا متحركا، وأن تكون هذه الحركة الصامتة هي مصدر نبله وفروسيته حتى يصبح الصورة المعكوسة للشاعر المتكلم المتجه إلى الآخرين، وهو يضع لهم إيقاعاتهم الوجدانية والجماعية. فلغة الحركة الرشيقة المحسوبة بدقة هي شعر اللاعب كما أن كلمة الشاعر هي لعبته الموزونة، وكلاهما مغزول على نول الاتصال والانبهار. لكن : أين يكمن الخطأ في الشعر ؟ في الرهان على الجياد الخاسرة ؟ في الرهان على الزعيم الذي انقهر ومات ؟ في الرهان على زمن التحرير الذي ولى وخلف عصرا آخر ؟ في الرهان على ما في العمـر من “جمال” سياسي وعاطفي زائل ؟ أم في الرهان على التعليق الشديد بإعجاب الآخـرين وهو متحول لا محالة إلى رثاء وإشفاق ؟

لعل تحويل الواقعة إلى أمثولة تحتمل التأويل وتعدد المعنى هو العبور من الزائل إلى الدائم، من اللعب إلى الفن، من البهلوانية إلى الشعر الرصين الحكيم. ويصبح العمـر المرثي في الديوان بأسره هو عمر المخاطب الجماعي في ارتداده إلى ذاته بعد انسحاب الضوء عنه من تلك البؤرة المزدوجة.

ومع أنه يرصد تشكل المأساة كما تقع أمام عيوننا فإنه مجرد شاهد عليها، لا يتقدم دراميا في قلب وقائعها ولا يستبطن دخائل شخوصها حتى يصبح من صانعيها. يظل خارجيا في ملامسته لـها، تحجبه الكاف عن الياء، الخطاب عن تقمص الدور. ولو كـان صلاج عبدالصبور هو الذي يكتب هذه القصيدة الحجازية لاختلفت ضمائره، لأنه كان شاعرا دراميا لا بد أن يتماهى بحق مع لاعبه ويجسد وساوسه ويبرز دينامية خطئه وجهده الإرادي العظيم لتجاوزه، ولو كان البياتي هو الذي يكتبها لأشبع المهرج شماتة واستعدى عليه شرفاء الأرض، ولو كان السياب لبحث عن أسطورة يخلع عليها ثوب القداسة حتى تصبح عشتارية بعثية، ولكن استراتيجية حجازي الشعرية تختلف عن كل هؤلاء، لأنـها تجعل من خطابه تعبيرا مباشرا عن المخاطب في خطوبه القومية الكبرى وأتراحه الشخصية على حد سواء.

تعبيرية حجازي :
اعتمادا على التمييز الذي نقيمه بين أساليب الشعر العربي المعاصر وتوزعها أو تراوحها بين قطبين هما التعبير والتجريد، بوسعنا أن نضع حجازي بارتياح في منطقة الشعر التعبيري، لأنه يصدر عن تجربة متخيلة تشير إلى مرجعية متصورة لدى القارئ في حياته الخاصة والعامة. تتميز بقدر واضح من التماسك والشفافية. تستخدم أدوات التصوير والترميز لتقريب هذه التجربة وتعميق الوعي المتواصل بـها، حتى يصبح في مقدور القارئ أن يحدد “الموضوع الجمالي” للقصيدة ومظاهره الحيوية. لا يطاردنا السـؤال الملحاح ” عم يتحدث ؟” فيلهينا عن تأمل الكيفية التي يشكل بها خطابه والحركات التي يتخذها لتكوينه، بل ليسلمنا منذ البداية ـ ربما من أول عتبات النص في عنوان القصيدة ـ مفتاح الدلالة الكلية وشفراتـها العديدة. وهو يمتح بعد ذلك من معين الشعرية العربية ويستقطر إيقاعاتـها العديدة ليخلص إلى صوته ونبرته الشخصية، وهي نبرة جهيرة ومباشرة، ترتفع عن الاستغراق فيما هو حي ملموس وتقع دون التعدد الدرامي المتوتر، فتحل موقعها في المنطقة الحيوية التي شغل السياب أكبر مساحة منها بـهمومه الشخصية والقومية وكشوفه الجمالية، يدرك حجازي مرحلة تالية لـها ويفتح فيها أفقا يسير على خطاه شعـراء كبار مثل أمل دنقل وغيره، لكنه يمزجها بتجربته الشخصية ويتشرد من أجلها، يتسكع في شوارع باريس فيتمثل نفسه مرافقا لحسناء فاتنة، ليست سوى “الثورة العربية”

بلحمها ودمها!.
أنا، والثورة العربية
نبحث عن عمل في شوارع باريس،
نبحث عن غرفة،
نتسكع في شمس إبريل
.. .. ..
إن زمانا مضى،
وزمانا يجيء !
قلت للثورة العربية :
لابد أن ترجعي أنت
أما أنا
فأنا هالك
تحت هذا الرذاذ الدفيء !

امتلأ كيان الشاعر بروح الجماعة كما كان يفعل منذ الجاهلية الأولى، فتقمص شخصيتها واصطحب معه في منفاه أجمل بناتـها المعاصرات في ذروة شبابـها الثورة، على أن مذاق هذه الكلمة عام 1974 يختلف تماما عن نكتها المعطوبة الآن، وصفة العـروبة فيها كانت تجعلها أختا كبرى لثورات التحرير العالمية العاتية حينئذ، اصطحبهـا معه ليمارس البطالة ويعاني حالة الشلل القاتل في المنفـى. واللعبة التخييلية التي يصطنعها في غاية البساطة والألفة ؛ إنـها الاستعارة المكنية التي طالما اتكأ عليها الشاعر العربي. فقد صارت الثورة شابة يافعة تهرب مع عشيقها إلى ديار غريبة ؛ يتضوران جوعا ويبحثان عن المأوى، وهو إذ يدرك تحولات الزمن وتقلبات التاريخ يؤثر أن يلقى مصيره بمفرده ويناشدها الرجوع لديار الأهل لتموت في حضنهم، أما هو فمصـيره الهلاك الجميل تحت الرذاذ الدافئ، لعله يستحضر لا شعوريا موقفا مشابـها لأمرئ القيس :

بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه وأيقن أنا لاحقـان بقيصـرا
فقلت له لاتبـك ويحـك إنـما نحاول أمرا أو نـموت فنعذرا

هذه البكائية الجديدة تجعل الصاحبة بديلا للصاحب، وتضع باريس محل القيصر، وتندب المستحيل الذي لم يتحقق ؛ سواء كان هو الأمر أو الملك قديما أم الثورة والمجد حديثا، وتسعد بالاستسلام للمصير ومواجهة الهلاك بشجاعة شعرية. لعل كلمة “هالك” هي المسئولة عن هذا الاستحضار واقتران التيه الجديد بالقديم، لكن حسن الضياع في سبيل الحلم العظيم دون تحقيقه يملأ كيان الشاعر منذ الأبد، ويصله بروح الجماعة إلى الأزل . هذا الأفق المطلق يتحرك فيه حجازي متلبسا قناع البطولة القومية وهو يتوهم امتلاك روح أمته الشابة بـهذه الاستعارة المكنية البسيطة فيبدو مرة أخرى مثل لاعب السيرك الماهر المتربص بالخطأ.

سيناريو القصيدة :
من أبرز معالم التعبيرية عند حجازي أن قصائده موزعة على مساحات مضيئة من الشعر السياسي والإنساني دون لبس أو ارتباك. كل قصيدة لـها “سيناريو” بالغ التحديد والصفاء، لـها بنية دلالية مكتملة لا تشكو الطول ولا القصر ولا الترهل، تدخل عالمها فتهديك إلى معالمها دون عناء. تمتلك إيقاعها النفسي والموسيقي الفريد، تشيد إلى معطيات الحياة بألوانـها الحقيقية، تبني زمنها في تراكم الأفعال والصفات وتوالي المشاهد. تنصب خيمة المتخيل بيسر ومهارة على أرض مبسوطة ومسورة. علـى أن لغته الشعـرية قد أصابـها في المنفى قدر كبير من الاكتناز والامتلاء، تركزت فيها عصارة خبرته المتجددة بخمر الأسلاف وعطر المكان. استنجد بـها كي يحمي غربته من الذوبـان والتلاشي، صارت الكلمة وطنه الذي يبيت فيه، وتعويذته التي يلجأ إليها، وتبلورت لديه ذاكرة بصرية سينمائية محدثة، تحيل سيناريو القصيدة إلى لقطات موصولة بإحكام شديد، في “مونتاج” مدروس وتركيب ذكي غير مصطنع. يستعين بالسرد والطرد، بالزمن والمجاز في تخليق كائنه الشعري. يحكي عن تجاربه اليومية ما يجعلها رموزا كونية تعلو على الآني الموقوت، يقول في “أغنية” :

أنت فاتنة
وأنا هرمٌ،
أتأمل في صفحة السين وجهي،
مبتسما دامعا
.. .. ..
أنت فاتنة
تبحثين عن الحب، لكنني
أقتفي أثرا ضائعا.
كان لا بد أن نلتقي في صباي
إذن
لعشقتك عشق الجنون
وكنا رحلنا معا

توقظ قافية العين المفتوحة رؤى حلمية وشعرية في ضمير القارئ وهو يشهد الموقف ويرقب أطرافهفي دواخلهم، فتتردد أصداء من شرقي في ذاكرة النص الخبيئة

قد يهون العمر إلا ساعــة … وتـهون الأرض إلا موضعـا

لكن المشهد هنا مفعم بالتفاصيل البصرية، بالفتون والغضون، بالحب واقتفاء الأثـر، بالرحلة المستحيلة في الزمن الضائع، ومفعم بالتوزيع الإيقاعي المتوازن بين الضمائر والسطور في تناوب نسقي جميل، تتبادل فيه المرئيات والكلمات لعبة الغياب والحضور. فالفاتنة نفحة باريسية والهرم كهل مصري، وصفحة السين تنعكس على وجدانـه مثل وجه النيل فيلتقي على محياه الدمع بالابتسام. هي تبحث عن الحب في بلـد تحرر فيه الإنسان، وهو أشد ظمأ منها للعشق لكن أولوياته قاسية ومنفاه وبيل، يتوهم حربه مع الزمان الذي حرمه من الصبوات ناسيا أن جنون شبابه لم يكن في أحضان الغير بقدر ما كان في سكر الأناشيد القومية والوطنية.

لقد أصبح الآن بلا قلب، مثل مدينته الأولى، بل يبدو وكأنه قد فقد روحه، ولم يعد بوسعه سوى أن يرقب من بعد حركة جسده وهو يتقافز أمام عينيه !.

يهبط الجسد الأدمي وحيدا إلى القاع،
يبحث عن نفسه في المحطات،
مزدلفا في سراديب معتمة،
تتداعى به لزمان سحيق
.. .. ..
يوغل الجسد الآدمى الحزين
ويقفز كالقرد من ظلمة في الطريق
إلى ظلمة،
تابعا أثر امرأة واجهته
فحول عينيه عنـها،
وظل يراقبها في زجاج النوافذ،
حتى مضت وهو لا يستفيق

تسلم العين قيادها في هذه المقطوعة إلى القاف الساكنة في رحلة القلب حيث يمارس صوت القصيدة معراجا عكسيا إلى سراديب الماضي القدسي ، فكأن الروح التي تتطلع للفردوس هي التي تصعد للسماء، أما الجسد المثقل بالحزن والخيبة فإنه يهبط إلى القرار، وليست الذاكرة سوى مدفن الحياة الماضية وأشواقها المحبطة. لكنه يعبر عما يحدث الآن، فالفعل مضارع وآنى (يهبط، يبحث، تتداعى، يوغل، يقفز) حتى إذا وقع على الصورة الموازية للمشهد الافتتاحي اتخذ سمت الحال المحكي وهو يسرد قصة ذهوله أمام الفتنة وعجزه عن مبادرتـها.

المهم لدينا أن حركة القصيدة المنتظمة في المكان والزمان لا تـهتز ولا تتشتت. لا تنفلت من يدي القارئ ولا تغيم في نظره، وتظل طريقتها في التعبير هي إبراز الفاعل المترجم لحالة الذات بدقة “الجسد الآدمي” فهو يتحدث عن شق من نفسه بعد انشطار الأنا إلى روح مضيع وجسد متوغل، لا يبقى من غنائية النص سوى ظل باهت خفيف يتمثل في ترجيع الفاعل والقافية، وتوازي صيغة اسم الفاعل “مزدلفا، تابعا”، أما بقية أصوات المقطوعة فتزحف بتثاقل الجسد المرهق إلى قرار الماضي وعتمته وخلوه من المعنى مثل حركات القردة. هنا تتضافر مستويات التعبير الصوتي والنحوي لتخليق الدلالة الشعرية في متخيل النص الكلي.

والطريف أنه سرعان ما يستفيق من هذه الغنوة المتثاقلة ويلتفت إلى ضمير الغيبة الذي يصلح امتدادا لسرد ما يفعل هذا “الجسد الآدمي” قائلا :

إنه يتجاوز ميعاده،
ثم يدخل معتذرا،
خالعا عنه ما يرتدي،
جالدا نفسه بيديه،
يمزق أعضاءه ندما،
ويقدمها لقما للمعادن،
نابضة بالضراعة والخوف،
لكنه في النهاية ينظر من حوله،
فإذا هو ملقى به،
في بداية ذات الطريق
.. .. ..
كل يوم له هذه التجربة.

يلاحظ القارئ أن الطابع الذي يغلب على تجارب هذا الديوان “كائنات مملكة الليل” أقرب إلى مناخ “أربعاء الرماد” الإليوتي، ممتزجا بشذرات من الحداثة الفرنسية المستلة برفق عن إطارها التاريـخي لتعبر عن هجاء الزمن وعبثية دورته. فهو يشهق بالذنب والنـدم في لحظة واحدة، ويترك لبعض السقطات السيريالية أن تلمع في عبارته مفارقة لنسيجها المعتاد “ويقدمها لقما للمعادن” تستعصي على الذوبان الدلالي، لكنها تصنع مشهدها المبيت مقدما في سيناريو القصيدة مطروحا على الطريق قبل أن تختمها بـهذه النفحة الدورية “كل يوم له هذه التجربة” فينتهي بـها المقطع كما انتهى بالقصيدة السابقة، مما يجعل المقطع الأخير استئنافا لقول آخر، أو مونتاجا لقصيدة موازية، فتلعب علاقات الفصل والوصل دورها في تسوير النص، لكن الملاحظ أن المخاطب لم يصبـح هو الآخر، احتل المتكلم رقعة الضمير الشعري بين الأنا وهو، واصبح هو الذي يتم توجيه النص إليه. إنـها لحظة المراجعة في استراتيجية الخطاب الشعري بعد الامتلاء طويلا بالآخرين والتمرد عليهم ورثاء الذات فيهم.

اتساق الخطاب وكثافته :
من بين 16 قصيدة يتضمنها ديوان حجازي الأخير “شجر الأسمنت” هناك 8 قصائد مهداة إلى شخص معين، وبقيتها تحمل مؤشرات دالة على نوع الخطاب الشعري مثل طللية وأغنية للقاهرة. لكنها جميعا محددة الزمان والمكان بشكل لافت على اختلاف الترتيب. ومعنى هذا أن نص حجازي لا يداخله أي التباس أو تشتت وهو في ذروة نضجه، بل يظل تعبيريا محددا ناصع الوضوح موصولا بأنواع الخطاب الشعري المألوف في الذائقة العربية. لأن العنوان والإهداء، وهما مما يحلو للنقاد اليوم أن يطلقوا عليه عتبات النص، يكفلان توجيه الدلالة إلى بؤرتـها المقصودة دون إبـهام، فلا يصبح هناك مجال لإشاعة قدر من الغموض الذي يغلف النص الشعري بطبقة رقيقة تحميه من فداحة الانكشاف في النص التواصلي المباشر، مع أن هذه العتبات لا تحرق كل مستويـات الدلالة الممكنة في التأويل، إذ يظل بوسع القارئ أن يفهم هذا المخاطب في الإهداء، لا باعتباره شخصا محددا ـ عبدالرحمن منيف أو صلاح عبدالصبور أو جاك بيرك أو أمل دنقل أو غيرهم ـ وإنما بما يتجمع فيه وصوله من معطيات رمزية تحيله إلى نموذج للأديب أو الشاعر بما يشغله حضورا وغيابا من قضايا أو يثيره من مشكلات. غاية ما هناك أن القصيدة بـهذه المؤشرات تنتظم في خطاب متسق لا يقع في أحادية الدلالة بقدر ما يتبع استراتيجية منظورة في توجيهها.

وإذا كانت تلك الإشارات تنأى بالنص عن التجريد بما تنقذه من إمكانات اللبس والتشتت فإنـها لا تحرمه من إمكانية الكثافة التي تعتمد في تقديري على أمرين : أحدهما ارتفاع نسبة الأشكال المجازية والثاني استغلال مساحات الصمت لإبراز جسد الكلمات وتفجير طاقتها الشعرية.

ولنأخذ نموذجا لهذا الوضع آخر قصائد الديوان: “منتصف الوقت” وهي مهداة بإبـهام يسير إلى “جمال الدين بن شيخ” لأنها لا تتحدث عنه مثل بقية الإهداءات غالبا، بل تبدأ بشكل تغلب عليه الرؤيا وتدور فيه كلمات المتصوفة:

كأني في انتصاف الوقت حين خرجت من ظلي
يعريني فراغ عاصف يلتف من حولي
كأني في انتصاف الوقت أولد، أو أموت،
كزهرة تشهق في منحدر السيل.

وإذا كانت كناية الخروج من الظل أو فقدانه تشير إلى تبدلات الحياة وتحولات تجاربـها الوعرة فإن استواء الولادة والموت عبر حرف العطف التخييري “أو” يلقي بنا في فضاء المطلق الشعري والوجودي معا، دون أن تنقذه كاف التشبيه التراثية بالزهرة في منحدر السيل، إنه يقارب “حالة” ولا يستطيع أن يفصح عنها، فيكسب نتيجة لذلك قدرة فائقة على تكثيف القول وتشعيره.

لكن سرعان ما يبدو أنه لا يطيق بعدا عن التصريح ولا يقيم طويلا في منطقة التلميح. أقول لهذه الأرض البعيدة:

لا تناديني
ولا تستعجليني !
لم تزل ريحي تـهب
ولم تزل لي دورة أكملها
قبل غروب الشمس أو منتصف الليل
وما يعجلني ؟ لا التاج معقود على رأسي
ولا بنلوب عاكفة على نولي !

نراجع القصيدة في بعض عتباتـها فنجدها مؤرخة في باريس عام 1989، فنعرف أن الأرض البعيدة ليست سوى مصر، وأن الأزمة حينئذ كانت هي عودة الشاعر المعجـل إلى وظنه ونداؤه لأرضه، وأنه عندما استحال في منفاه كونا كاملا ظل يخامره الشعور بالضياع في مهب الريح وفقدان العمر مع دورة الشمس، ومع أنه يصور كل ذلك إثباتا لوجوده المتحقق المتطلع للمستقبل فإن صيغة إثبات تعكس اختمار الصـورة في مرآة النفي في لا وعي الشاعر وكأنـها أسئلة يلقيها على نفسه أكثر مما هي حقائق يزهو بإثباتـها: هل مازالت ريحي تـهب، وهل لم تزل لي دورة أكملها ؟ وبين النفس والاستفهام علائق نحوية وشعرية عميقة، أي أن ما ظنه إثباتا لم يلبث أن تحول إلى نفي.

ثم يأتي التساؤل الإنكاري الطريف الذي يستحضر فيه صوت القصيدة بشكل غير مباشر أطراف أسطورتين : إحداهما قريبة، وهي لشوقي في منفاه الوطني وما بويـع به من إمارة الشعر وعقد تاجها على رأسه. أما الأسطورة الثانية فهي أبعد من ذلك، لأنـها تتصل بتلك المرأة / الوطن / بنلوب المنتظرة لعودة البطل الملحمـي الغائب عوليس والمكرسة حياتـها من أجله، ترد الخطاب بنقص غزلها، هذا التساؤل الذي يداعب وهم المجد والبطولة وهو ينفيه من أفق المتكلم ليرده إلى بصيرة الإنسان الواقعي المعاصر لابد أنه يعكس ساعات طوال من الحوار بين الشاعر وصديقه المغترب الأبدي عن العودة ومشكلاتـها. لكنه يرتفع بالخطاب عن هذا الظرف المباشر ليولد في منطقة الشعر البعيدة عندما يقف الصوت لينادي الأرض وهو يرتق مشاعره وأفكاره ويحاذر ذاته وقراءه. بحيث يصبح انخفاض نبرة البطولة إيذانا بارتفاع درجة الشعرية وغلبة نموذج الأمثولة مؤشرا لزيادة كثافة القول وامتلائه المفعم بروح التساؤل والشكل والشعور بانعدام اليقين.

وعندما تكتمل دورة القصيدة يعود صوتـها ليخاطب أرضه ومصره:

أقول لـهذه الأرض البعيدة !
أشرقي من عتمة !
وتجسدي من كلمة !
وتشردي مثلي
أقول لـها:
لقد مت معي، فابتدئي الآن معي
يا وردة تزهر في المحل
أقول لـها: اتبعيني لا تناديني
ولا تستعجليني !
إنني أمضي على رسلي
ولي شرطان ينبلجان يوما فيك
حينئذ يلوح شراعي الضليل،
أبيض في غروب الشمس أو منتصف الليل
وما يعجلني ؟ لا التاج معقود على رأسي
ولا بنلوب عاكفة .. على نولي !

ومع أن كل ذات شاعرة تجر العالم وراءها كأنه كلبها المحبب الصغير، إلا أن هناك تحولا يسيرا في خطاب هذا السندباد ذي الأشرعة الضليلة البيضاء، فقد هاجر في البداية يتسكع في شوارع باريس، وبرفقته عشيقة صباه “الثورة العربية” لكنه لم يلبث أن توهم خياله وحسب أن وطنه قد مات في غيبته وأن له أن يبعث مع عودته، ولأن القـارئ المعاصر لم يعد يحتمل فخريات الشعراء ولا نزقهم البطولي الصبياني فإنه يتنفـس ارتياحا لتكرار صيغة النفس “لا التاج معقود على رأسي، ولا بنلوب عاكفة على نولي” خاصة وهي تجمع القصيدة في منديل معقود تتكثف شعريتها بقدر ما تغزل مجازاتـها وتستحلب أساطيرها بتؤدة وأناة، محافظة على اتساقها وطابعها التوصيلي البارز، وإن كانت قد صيغت بشكل متعمد كثيرا من نبراتـها الخطابية وإيقاعاتـها الغنائية، لكنها تظل شاهدة على قدرة الشعر في اختزان رحيق الحياة وتعتيقه، وإغرائه للقراء بمعاودة توليده وتخليقه، في محاولات متجددة لاكتشاف جمالياته وتوصيف تقنياته وأساليبه.