مجلة حكمة
كانت كانط كانْت

إيمانويل كانْت

الكاتبمايكل رولف
ترجمةعلي الحارس

إيمانويل كانت (1724-1804) هو الاسم الذي يحتل مركز الفلسفة الحديثة؛ إذ صاغ مركّبًا من العقلانوية (rationalism) والتجريبوية (empiricism) في أوائل العصر الحديث، ووضع مصطلحات قسم كبير من فلسفة القرنين التاسع عشر والعشرين، وما يزال يمارس تأثيرًا عظيمًا حتّى يومنا هذا في مجالات الميتافيزيقا، والإپستيمولوجيا، والأخلاق، والفلسفة السياسية، والجماليات، وغيرها. وتتبوّأ استقلالية الإنسان مكانة الفكرة الرئيسية في “الفلسفة النقدية” لدى كانْت، وتتبدّى بشكل خاصّ في كتبه النقدية الثلاثة: نقد العقل المحض (1781، 1787)، ونقد العقل العملي (1788)، ونقد ملكة الحكم (1790). وهو يحاجج بأنّ الفهم البشري مصدر القوانين العامّة للطبيعة التي تشكّل بنية تجربتنا بأجمعها؛ وبأنّ العقل البشري يوفّر لنفسه القانون الأخلاقي، والذي هو أساس الاعتقاد بالإله والحرّية والخلود. وبناءً عليه، فإنّ المعرفة العلمية والأخلاق والاعتقاد الديني منسجمة في ما بينها ومتينة لأنّها تستند جميعًا إلى الأساس نفسه، وهو استقلالية الإنسان، وهذا الأساس هو نفسه أيضًا الغاية النهائية للطبيعة وفقًا للرؤية الغائية للحكم التأمّلي، والذي يقدّمه كانْت من أجل توحيد الشطرين النظري والعملي لمنظومته الفلسفية.


1. حياته كانت ومنجزاته

ولد إيمانويل كانت في (22 أبريل 1724) بمدينة كونيكْسبيرگ، بالقرب من الساحل الجنوبي الشرقي لبحر البلطيق، وقد تبدّل اسم هذه المدينة ليصبح (كالينينگراد) في أيامنا، وهي جزء من دولة روسيا حاليًا، لكنّها كانت عاصمة پروسيا الشرقية في أيّام كانْت، وكانت اللغة الألمانية تغلب على لسان أهلها. وعلى الرغم من بعدها الجغرافي عن بقيّة المدن الپروسية والألمانية، كانت كونيكْسبيرگ حينها من المراكز التجارية الكبرى، وميناءً عسكريًا هامًّا، وموئلًا لحياة جامعية كوزموپوليتانية نسبيًا.[1]

عاش كانْت في كنف أسرة مهنية ذات موارد متواضعة، فأبوه كان من شيوخ السرّاجين، وأمّه كانت ابنة رجل يعمل في المجال نفسه، لكنّها كانت على مستوًى من التعليم يفوق معظم نظيراتها في طبقتها الاجتماعية. ولم تعانِ أسرة كانْت من فقر مدقع، لكنّ عمل أبيه كان يتراجع عندما بلغ كانْت عتبة الشباب، واضطرّ والداه أحيانًا لطلب المعونة المالية من الأقارب.

وكان والدا كانْت يعتنقان المذهب التقوي، فارتاد مدرسة تدين بهذا المذهب (تدعى: كوليگيوم فريديريكيانوم) من الثامنة من عمره حتّى الخامسة عشرة. والمذهب التقوي هو حركة إنجيلية لوترية شدّدت على الالتزام بالمذهبية، والاعتماد على (النعمة الإلهية)، وتجربة العواطف الدينية، والتكريس الشخصي الذي يتضمّن العمل بانتظام على دراسة الكتاب المقدّس والصلاة والتأمّل الباطني. ولقد ردّ كانْت بقوّة على ما تعرّض له في تلك المدرسة من إجبار على البحث الروحي، فلجأ إلى الأدب الكلاسيكي اللاتيني، وكان يحتلّ حينها موقعًا محوريًا في منهاج المدرسة. وفي ما بعد شدّد كانْت بعد نضوجه على العقل والاستقلال الذاتي، بدلًا من العواطف والاعتماد على أيٍّ من المرجعية أو النعمة الإلهية، وهذا ربّما يعكس في جزء منه ردّ فعله ضدّ المذهب التقوي في فتوّته. وعلى الرغم ممّا كان يشعر به من كراهية لأيّام الدراسة التقوية، فلقد كان يكنّ أعمق مشاعر الاحترام والإعجاب لوالديه، ولأمّه خصوصًا، والتي وصف “تديّنها الأصيل” بأنّه “لم يكن حماسيًا على الإطلاق”. ويرى مانفريد كون، في كتابه عن سيرة كانْت، بأنّ تأثير والديه من ناحية مذهبهما التقوي كان أقلّ بكثير من تأثيرهما من ناحية قيمهما المهنية المتمثّلة في “الاجتهاد في العمل، والصدق، والنظافة، والاستقلالية”، وهي قيم علّماه إيّاها بأمثلة عملية.[2]

التحق كانْت بجامعة كونيكْسبيرگ، المعروفة بـ(آلبرتينا)، وهنالك سرعان ما تضاءل اهتمامه القديم بالأدب الكلاسيكي لصالح الفلسفة، والتي كان يدرسها كلّ طلبة السنة الأولى، وضمّت الرياضيات والفيزياء بالإضافة للمنطق والميتافيزيقا والأخلاق والقانون الطبيعي. وقد أطلعه أساتذته على مقاربة كريستيان ڤولف (1679-1750) الذي قدّم نقدًا تحليليًا لفلسفة لايبنيتس (1646-1716) كان له تأثير كبير على الجامعات الألمانية. لكنّ كانْت اطّلع أيضًا على مجموعة متنوّعة من النصوص التي كتبها نقّاد ألمان وبريطانيون في نقد فلسفة ڤولف، ومعها جرعات قوية من الأرسطية والتقوية في كلّية الفلسفة. وكان معلّمه المفضّل يدعى مارتين كنوتسين (1713-1751)، وهو تقوي شديد التأثّر بكلّ من ڤولف والفيلسوف الإنگليزي جون لوك (1632-1704). وقد أطلع كنوتسين تلميذه كانت على جهود آيزاك نيوتن (1642-1727)، فكان له تأثير بيّن على أوّل كتب كانْت (أفكار في التقدير الصحيح للقوى الحيّة [1747])، والذي كان محاولة نقدية للتوسّط في خلاف دار في الفلسفة الطبيعية بين أنصار لايبنيتس وأنصار نيوتن حول القياس المناسب للقوّة.

وبعد التخرّج من الكلّية أمضى كانْت ستّة أعوام معلّمًا خصوصيًا للأطفال خارج كونيكْسبيرگ، وفي هذه المدّة كان والداه قد توفّيا ولم يكن قد حقّق من الأمان المالي ما يكفي للسعي خلف مهنة في الحقل الأكاديمي. وفي نهاية المطاف عاد إلى كونيكْسبيرگ في العام (1754) وبدأ بالتدريس في جامعته (آلبرتينا) في العام التالي، واستمرّ بتدريس الفلسفة فيها طوال أربعة عقود حتّى تقاعده في العام (1796) حين بلغ الثانية والسبعين من عمره.

أبدى كانت نشاطًا شديدًا في نشر كتاباته بعد عودته من العمل في التدريس الخصوصي، فنشر في العامين (1754-1755) ثلاثة مؤلّفات علمية، كان أحدها (التاريخ الطبيعي الكلّي ونظرية الأجرام الفلكية؛ [1755])، وهو كتاب رئيسي طوّر فيه، من بين أمور أخرى، ما عُرِف لاحقًا بالفرضية السديمية في تشكّل المنظومة الشمسية. ومن سوء حظّه أن أفلست المطبعة ولم يحرز الكتاب سوى القليل من التأثير أوّل الأمر. ومن أجل تأمين متطلّبات التدريس في الجامعة كتب كانت أيضًا أطروحتين باللاتينية: الأولى بعنوان (عرض موجز لبعض التأمّلات حول النار؛ [1755]) ونال بها درجة الماجستير؛ والثانية بعنوان (توضيح جديد للمبادئ الأولى للإدراك الميتافيزيقي؛ [1755]) أهّلته للتدريس محاضرًا دون راتب. وفي السنة التالية نشر عملًا آخر باللاتينية تحت عنوان (توظيف الميتافيزيقا المتّحدة بالهندسة في الفلسفة الطبيعية، ومنها عيّنة أولى تحتوي المونادولوجيا الفيزيائية؛ [1756])، أملًا في أن يخلف كنوتسين كأستاذ مساعد في المنطق والميتافيزيقا، لكنّه فشل في تأمين هذا المنصب. وكان كلا كتابيه: (التوضيح الجديد) الذي كان أوّل عمل اهتمّ فيه بالميتافيزيقا بشكل رئيسي، و(المونادولوجيا الفيزيائية)، تطويرًا إضافيًا لموقفه من تفاعل الجواهر المتناهية، والذي سلّط الضوء عليه أوّلًا في كتابه (القوى الحيّة). وكلا الكتابين يخرجان عن الرؤى اللايبنيتسية-الڤولفية، لكنّه لم يكن خروجًا جذريًا؛ و(التوضيح الجديد)، خصوصًا، يبدي علامات التأثّر بأفكار كريستيان أوگست كروسيوس (1715-1775)، وهو من النقّاد الألمان لڤولف.[3]

وبما أنّ كانْت لم يكن يستلم راتبًا مقابل محاضراته في (آلبرتينا)، بل كان يحصل على المال بشكل مباشر من الطلبة الذين يتلقّون محاضراته، كان لزامًا عليه أن يدرّس عددًا هائلًا وأن يجتذب الكثير من الطلبة جريًا وراء كسب العيش. وبقي كانْت على حاله هذا خمسة عشر عامًا (1755-1770) ألقى فيها المحاضرات بمعدّل عشرين ساعة في الأسبوع، وتنوّعت دروسه بين المنطق والميتافيزيقا والأخلاق، إلى جانب الرياضيات والفيزياء والجغرافيا الفيزيائية. واستخدم في محاضراته كتبًا دراسية ألّفها كتّاب من النهج الڤولفي، من أمثال ألكساندر گوتليب باومگارتين (1714-1762) وگيورك فريدريك ميير (1718-1777)، لكنّه لم يتّبع نهجم بصرامة، واستخدمهم كقاعدة يبني عليها أفكاره الخاصّة التي كان يستمدّها من نطاق واسع من الأفكار التي تهتمّ بالشؤون المعاصرة له، وكان مصدر هذه الأفكار في الغالب من الفلاسفة المشاعريين (sentimentalists) البريطانيين من أمثال: ديڤيد هيوم (1711-1776) وفرانسيس هاچينسون (1694-1747) اللذين تُرجِم البعض من كتاباتهما إلى الألمانية في منتصف خمسينيات القرن الثامن عشر؛ ومن الفيلسوف السويسري جان جاك روسو (1712-1778) الذي نشر الكثير من كتاباته في أوائل ستينيات القرن الثامن عشر. ولقد تمتّع كانْت منذ أوائل عمله في التدريس بالشعبية والنجاح، وسرعان ما شيّد له سمعة محلّية تعكس صورته مثقّفًا شابًا واعدًا، وأصبح من الشخصيات المرموقة في مجتمع كونيكْسبيرگ.

وبعد أعوام من الهدوء النسبي، أطلق كانْت موجة أخرى من المنشورات في المدّة (1762-1764)، وتضمّنت خمسة مؤلّفات في الفلسفة:

  1. (الدقّة الزائفة لأشكال القياس الأربعة؛ [1762]) وهو إعادة للنظر بانتقادات موجّهة للمنطق الأرسطي طوّرها فلاسفة ألمان آخرون.
  2. (الحجّة الممكنة الوحيدة في دعم إثبات وجود الإله؛ [1762-1763])، وهو كتاب رئيسي استند فيه كانْت إلى عمله السابق في كتابيه (التاريخ الشامل) و(التوضيح الجديد) لتطوير حجّة أصيلة في إثبات وجود الإله باعتباره شرطًا للإمكانية الداخلية لكلّ الأشياء، وذلك بينما يقوم بانتقاد الحجج الأخرى لإثبات وجود الإله. ولقد اجتذب الكتاب عدّة مراجعات منها الإيجابي ومنها السلبي.
  3. وفي العام (1762) أيضًا أرسل كانْت مقالة بعنوان (تحقيق حول تمايز مبادئ اللاهوت الطبيعي والأخلاق) إلى مسابقة عقدتها الأكاديمية الملكية الپروسية، لكنّها حلّت في المركز الثاني بعد مقالة موزس ماندلسون، ونشرت لاحقًا في العام (1764). وقد ابتعد كانْت في هذه المقالة (وهي تُعرَف بـ”مقالة الجائزة”) عن رؤى لايبنيتس-ڤولف بشكل أكثر أهمّية ممّا فعله في مؤلّفاته السابقة، واحتوت على أوّل مناقشة مطوّلة مطبوعة له حول فلسفة الأخلاق. وقد استند فيها إلى مصادر بريطانية لانتقاد العقلانية الألمانية من جانبين: اعتمد في الأوّل منهما على نيوتن في التمييز بين أساليب الرياضيات وأساليب الفلسفة؛ واعتمد في الثاني منهما على هاچينسون في الادّعاء بأنّ «الشعور غير القابل للتحليل بالأمور الخيّرة» يزوّدنا بالمحتوى المادّي لالتزاماتنا الأخلاقية، وهو ممّا لا يمكن إثباته على نحو عقلي محض انطلاقًا من المبدأ الصوري للكمال وحده (2:299).[4]
  4. وتعود هذه الثيمات للظهور في عمله المعنون (محاولة لتقديم مفهوم المقدار السلبي إلى الفلسفة؛ [1763])، لكنّ أطروحته الرئيسية تتمحور حول أنّ التقابل الحقيقي للقوى المتضاربة، كما هو الحال في العلاقات السببية، لا يمكن اختزاله في علاقة التناقض المنطقية، وفقًا لما يراه لايبنيتس. وقد حاجج كانْت في عمله هذا أيضًا بأنّ أخلاقية أيّ عمل هي وظيفة للقوى الداخلية التي تحفّز المرء على الفعل، وليست الأفعال الخارجية (الفيزيائية) أو عواقبها.
  5. وفي نهاية هذه المرحلة جاء عمله المعنون (ملاحظات حول الشعور بالجميل والجليل؛ [1764])، وهو يتعامل، في المقام الرئيسي، مع الاختلافات المزعومة في أذواق الرجال والنساء، وفي أذواق الثقافات المختلفة. وبعد نشر عمله هذا ملأ كانْت نسخته الخاصّة به (المزوّدة بأوراق بيضاء بين كلّ ورقتين) بملاحظات كتبها بخطّه (وكثيرًا ما لم تكن وثيقة الصلة بما ورد في موضع الورقة)، وعكست كثير منها التأثير العميق لجان جاك روسو على تفكيره بشأن فلسفة الأخلاق في مرحلة أواسط ستّينيات القرن الثامن عشر.

ولقد ساعدت هذه المؤلّفات على أن يؤمّن كانْت لنفسه سمعة أوسع في ألمانيا، لكنّ مؤلّفاته لم تكن تعتبَر، في معظمها، مؤلّفات أصيلة بوضوح، إذ كان الطابع العام لمؤلّفاته الأولى هو أنّها تهتمّ، كما هو حال مؤلّفات معاصريه من الفلاسفة الألمان، باستخدام أفكار الكتّاب التجريبويين البريطانيين لإصلاح أو توسيع التقليد العقلاني الألماني دون تقويض أسسه. وبينما نجد في بعض مؤلّفاته المبكّرة ميلًا للتشديد على الأفكار العقلانية، فإنّنا نجد في مؤلّفات أخرى تشديدًا أكثر على التجريبوية (empiricism)؛ ولقد كان كانْت يسعى في هذه المرحلة لصياغة موقف مستقلّ، لكنّ رؤاه ظلّت متقلّبة حتّى سبعينيات القرن الثامن عشر.

وفي العام (1766) نشر كانْت مؤلّفه الأوّل حول إمكانية الميتافيزيقا، والذي أصبح في ما بعد موضوعًا رئيسيًا ضمن عمله الفلسفي الناضج؛ إذ كتب عملًا بعنوان (أحلام من يشاهد الأرواح كما تبدو في أحلام الميتافيزيقا) بعد مدّة قصيرة من نشره لمقالة قصيرة بعنوان (مقالة في أمراض الذهن؛ [1764])، وذلك بسبب اهتمام شديد بالعرّاف السويدي إيمانويل سويدينبورگ (1688-1722) الذي ادّعى بأنّ بصيرته تنفذ إلى عالم للأرواح على نحو مكّنه من الخروج بسلسلة من التكهّنات التي تصل إلى حدّ الإعجاز في الظاهر. وفي هذا العمل المثير للاهتمام يقارن كانْت، ساخرًا، بين مشاهدات سويدينبورگ الروحية وبين اعتقاد الميتافيزيقيين العقلانيين بوجود نفسٍ لامادّية تستمرّ بعد الموت، ويخلص إلى أنّ المعرفة الفلسفية بكلّ منهما مستحيلة لأنّ العقل البشري محصور بالتجربة. لكنّ كانْت لطّف من نبرته التشكيكية في عمله هذا باقتراحه بأنّ “الإيمان الأخلاقي” يدعم، على الرغم من ذلك، الاعتقاد بوجود نفس لامادّية وخالدة، حتّى وإن كان من غير الممكن التوصّل إلى المعرفة الميتافيزيقية ضمن هذا المجال (2:373).

وفي العام (1770) جرى تعيين كانْت، وقد بلغ حينها السادسة والأربعين، أستاذًا لكرسيّ المنطق والميتافيزيقا في (آلبرتينا)، بعد أن قضى خمسة عشر عامًا يعمل محاضرًا دون راتب، بالإضافة لعمله منذ العام (1766) كأمين مكتبة بديل من أجل دعم دخله. وكان قد رُفِض تعيينه في هذا المنصب نفسه في العام (1758)، لكنّ سمعته تنامت منذ ذلك الحين، فرفض تسنّم كرسيّ الفلسفة في إرلانگين (1796) ويينا (1770) أملًا في الحصول على كرسيّ مماثل في كونيكْسبيرگ. وبعد الترقية عمل كانْت بالتدريج على توسيع محاضراته لتشمل الأنثروپولوجيا (قدّم كانْت أوّل منهاج تعليمي للأنثروپولوجيا في ألمانيا، وأحرز المنهاج شهرة كبيرة)، واللاهوت العقلاني، وعلم أصول التدريس، والحقوق الطبيعية، وحتّى علم المعادن والتحصين العسكري. ولتدشين المنصب الجديد كتب كانْت أطروحة أخرى باللاتينية (حول صورة ومبادئ العالمين المحسوس والمعقول؛ [1770])، وتُعرف باسم “أطروحة التدشين”.

تخلّى كانْت في (أطروحة التدشين)، على نحو أكثر جذرية، عن كلٍّ من: العقلانية الڤولفية والمشاعرية البريطانية، وذلك بالمقارنة مع كتاباته الأولى؛ فلقد ميّز، مستلهمًا كروسيوس والفيلسوف الطبيعي السويسري يوهان هاينريش لامبيرت (1728-1777)، بين مَلَكَتين أساسيتين للإدراك: قابلية الإحساس والفهم (الإدراك العقلي)، بينما كان أنصار رؤية لايبنيتس-ڤولف يعتبرون الفهم (الإدراك العقلي) المَلَكَة الأساسية الوحيدة. وبناءً عليه، يرفض كانْت الرؤية العقلانية القائلة بأنّ قابلية الإحساس ليست سوى نوع مشوّش من الإدراك لعقلي، ويستبدل بها رؤيته القائلة بأنّ قابلية الإحساس متمايزة عن الفهم، ويجلب للإدراك الحسّي صوره الذاتية الخاصّة به (المكان والزمان)؛ وقد طوّر هذه الفكرة بناءً على نقده السابق لرؤية لايبنيتس العلائقية للمكان في عمله (حول الأساس النهائي للتمييز بين الجهات في المكان؛ [1768]). وبالإضافة لما سبق، يحاجج كانْت، كما يشير عنوان (أطروحة التدشين)، بأنّ قابلية الإحساس والفهم موجَّهان نحو عالمين مختلفين: قابلية الإحساس تمنحنا منفذًا للعالم المحسوس، بينما يمكّننا الفهم من استيعاب عالم مميّز قابل للإدراك. وهذان العالمان يرتبطان بعلاقة مفادها أنّ ما يستوعبه الفهم في العالم القابل للإدراك هو “نموذج” لـ”الكمال المفاهيمي” وهو “معيار مشترك لكلّ الأشياء الأخرى ما دامت واقعية”. ومن الناحية النظرية، فإنّ نموذج الكامل القابل للإدراك هذا هو الإله؛ وأمّا من الناحية العملية، فهو “الكمال الأخلاقي” (2:396). وبهذا تكون (أطروحة التدشين) قد طوّرت شكلًا من الأفلاطونية، ورفضت رؤية المشاعرية البريطانية القائلة بأنّ الأحكام الأخلاقية تقوم على أساس الشعور باللذّة أو بالألم، إذ يعتقد كانْت بأنّ الأحكام الأخلاقية تقوم على أساس الفهم المحض لوحده.

ولم يتخلّ كانْت بعد العام (1770) قطّ عن الرؤى القائلة بأنّ قابلية الإحساس والفهم مَلَكَتان متمايزتان عن الإدراك، وبأنّ المكان والزمان صورتان ذاتيّتان لقابلية الإحساس عند البشر، وبأنّ الأحكام الأخلاقية تقوم على الفهم (أو العقل) المحض وحده. لكنّ اعتناقه للأفلاطونية في (أطروحة التدشين) لم يدم إلّا لوقت قصير، فسرعان ما أنكر أنّ فهمنا قادر على التبصّر في العالم اللامحسوس، ممّا مهّد الطريق نحو موقفه الناضج الذي أبداه في كتابه (نقد العقل المحض؛ [1781])، وبموجبه يقوم الفهم (كما قابلية الإحساس) بتوفير الصور التي تشكّل بنية تجربتنا بالعالم المحسوس، والذي تكون معرفة الإنسان به محدودة، وذلك بينما يكون العالم المدرَك بالعقل (أو: عالم المعقولات) غير قابل لأن يعرَف لنا على نحو تام. ولقد أمضى كانْت عقدًا من الزمن وهو يعمل على كتابه (نقد العقل المحض) ولم ينشر أيّ عمل مهمّ في المدّة (1770-1781)، لكنّ نشر كتابه هذا جاء علامة على بداية موجة جديدة من النشاط أنتج كانْت به أهمّ مؤلّفاته وأكثرها رسوخًا في الأذهان. ولم تكن مراجعات الكتاب الأولى القليلة تستوعب ما جاء فيه (وفقًا لرأي كانْت)، فحاول توضيح نقاطه الرئيسية في نصّ أقصر بكثير حمل عنوان (مناقشات تمهيدية لأيّة ميتافيزيقا مستقبلية يمكن طرحها كعلم؛ [1783]). ومن بين الكتب الرئيسية التي سرعان ما تلت ذلك: (تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق؛ [1785]) وهو عمله الرئيسي في مجال المبدأ الرئيسي للأخلاق؛ و(الأسس الميتافيزيقية لعلم الطبيعة؛ [1786]) وهو عمله الرئيسي في الفلسفة الطبيعية ضمن ما يدعوه العلماء المرحلة النقدية (1781-1798)؛ والطبعة الثانية من (نقد العقل المحض) والتي احتوت على تعديلات جوهرية (1787)؛ و(نقد العقل العملي؛ [1787]) وهو مناقشة أشمل لموضوعات في فلسفة الأخلاق تقوم على أساس كتابه (تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق) وتعدّل ما جاء فيه بطريقة ما؛ و(نقد ملكة الحكم؛ [1790]) وتعامل فيه مع علم الجمال والغائية. كذلك نشر كانْت أيضًا عددًا من المقالات المهمّة في هذه المرحلة، ومنها: (فكرة لتاريخ شامل لهدف كوزموپوليتاني؛ [1784])؛ و(البداية التخمينية لتاريخ الإنسان؛ [1786])، وهو يعدّ مع سابقه المساهمتين الرئيسيتين لكانْت في مجال فلسفة التاريخ؛ و(جواب على السؤال: ما هو التنوير؟؛ [1784]) وهو يثير النقاش حول بعض الأفكار الرئيسية التي وردت في مقالاته السياسية التي ظهرت لاحقًا؛ و(ماذا يعنيه أن يوجّه المرء تفكيره؟؛ [1786])، وبه تدخّل كانْت في الجدال حول (وحدة الوجود) الذي اندلع في الحلقات الفكرية الألمانية بعد أن اتهم فريدريش هاينريش ياكوبي (1743-1819) گوتهولت إفرايم ليسينگ (1729-1781) المتوفّى حديثًا بأنّه من أنصار (السپينوزية).

أمّنت هذه المؤلّفات لكانْت شهرة عالمية وهيمنت على الفلسفة الألمانية في نهاية ثمانينيات القرن السابع عشر؛ لكنّ كانْت أعلن في العام (1790) بأنّ كتابه (نقد ملكة الحكم) أوصل مشروعه النقدي إلى نهايته (5:170). وفي ذلك الحين كان كارل ليونهارت راينهولت (1758-1823)، والذي روّج لأفكار كانْت الأخلاقية والدينية في كتابه (رسائل في الفلسفة الكانْتية؛ [1786])، قد حاز في العام (1787) منصب الكرسيّ المخصّص للفلسفة الكانْتية في مدينة يينا، وكان الموقع المركزي لهذا الكرسي في كونيكْسبيرگ لكنّه سرعان ما تطور ليصبح بؤرة انطلاق المرحلة التالية للتاريخ الفكري الألماني. ولم يكد يستلم راينهولت منصبه حتّى بدأ بانتقاد رؤى كانْت والابتعاد عنها؛ وفي العام (1794) انتقل الكرسيّ إلى يوهان گوتليپ فيشته الذي زار كانْت في كونيكْسبيرگ، وكان كتابه الأوّل (محاولة لنقد الوحي بكلّ أنواعه؛ [1792]) قد نشره مغفلًا من اسم الكاتب فجرى الظنّ في أوّل الأمر على أنّ كانْت هو من ألّفه. وأطلق هذا المنصب اسم فيشته في عالم الشهرة، لكنّه سرعان ما ابتعد عن كانْت وطوّر موقفًا أصيلًا يقف موقف النقيض تمامًا، ووصل الأمر في نهاية المطاف إلى شجب كانْت لتصرّف فيشته علنًا في العام (1799) (12:370–371). وعلى الرغم من أنّ الفلسفة الألمانية كانت حينها تقيّم تراث كانْت وتستجيب له، استمرّ كانْت في نشر مؤلّفات مهمّة في تسعينيات القرن الثامن عشر، ومنها: (الدين في حدود مجرّد العقل؛ [1793]) الذي حظره ملك پروسيا لأنّ كانْت نشره على الرغم من رفض الرقابة للمقالة الثانية منه؛ و(نزاع كلّيات الجامعة؛ [1798])، وهو مجموعة مقالات استلهمها من مشاكله مع الرقابة ومن تعامله مع العلاقة بين كلّيتي الفلسفة واللاهوت في الجامعة؛ و(حول المقولة الشائعة: ما يصحّ نظريًا قد لا ينفع عمليًا؛ [1793])؛ و(نحو سلام دائم؛ [1795])؛ و(عقيدة الحقّ) وهو القسم الأوّل من (ميتافيزيقا الأخلاق؛ [1797])؛ وهذه جميعها تعدّ مؤلّفاته الرئيسية في الفلسفة السياسية. ويضاف إلى ما سبق: (عقيدة الفضيلة) وهو القسم الثاني من (ميتافيزيقا الأخلاق؛ [1797])، وهو أنضج مؤلّفات كانْت في الفلسفة الأخلاقية واستغرق التخطيط له أكثر من ثلاثين عامًا؛ و(علم الإناسة برؤية پراگماتية؛ [1798]) وهو كتاب يقوم على محاضراته في علم الإناسة؛ وجرى في ما بعد نشر عدّة مجموعات أخرى من ملاحظات محاضراته في حقول أخرى، لكنّه لم يعدّها بنفسه.

تقاعد كانْت من التدريس في العام (1796)، وكان حينها قد عاش حوالي عقدين من حياة شديدة الانضباط ركّز فيها قبل أيّ شيء آخر على إكمال منظومته الفلسفية، والتي لم تبدأ تأخذ شكلًا محدّدًا في ذهنه إلّا في أواسط حياته. وبعد تقاعده وصل إلى الاعتقاد بأنّ هنالك فجوة في منظومته تفصل الأسس الميتافيزيقية للعلم الطبيعي عن الفيزياء نفسها، وشرع في العمل على إغلاق هذه الفجوة بسلسلة من الملاحظات التي تفترض وجود مادّة أثيرية أو سُعرية. ولم يكمل كانْت هذه الملاحظات (المعروفة باسم: المؤلّفات المتأخّرة) ولم ينشرها، والخبراء مختلفون حول أهمّيتها وصلتها بعمله السابق لها؛ لكن من الواضح أنّ بعض هذه الملاحظات المتأخّرة تبدي علامات جليّة للتدهور العقلي لكانْت، والذي وصل إلى درجة مأساوية في العام (1800). وفي (12 فبراير 1804) توفّي كانْت قبل أن يبلغ الثمانين بقليل.

2. مشروع كانت في نقد العقل المحض

الموضوع الرئيسي لكتاب (نقد العقل المحض) هو إمكانية الميتافيزيقا، وذلك وفقًا لفهم محدّد. إذ يعرّف كانْت الميتافيزيقا بأنّها «الإدراكات التي من شأنها أن تسمح للعقل بعد حصولها أن يسعى مستقلًّا عن أيّة تجربة»، وكان هدفه في الكتاب أن يصل إلى «قرار بشأن إمكانية أو عدم إمكانية الميتافيزيقا عمومًا، وتحديد مصادرها، بالإضافة إلى توسيع حدودها، على أن يكون ذلك كلّه بالانطلاق من المبادئ» (Axii. وراجع أيضًا Bxiv; و 4:255–257). وبهذا تكون الميتافيزيقا عند كانْت متعلّقة بمعرفة قبلية، أو بمعرفة التي لا يعتمد تسويغها على التجربة؛ وهو يقرن المعرفة القبلية بالعقل. ويتمثّل مشروع كتابه هذا بالتحقّق ممّا إذا كان العقل البشري قادرًا على المعرفة القبلية، وكيف يكون ذلك، وإلى أيّ حدّ.

2. 1. أزمة التنوير

للتوصّل إلى فهم أفضل لمشروع هذا الكتاب يجب علينا أن نأخذ بالحسبان السياق التاريخي والفكري الذي كُتِب فيه.[5] إذ كتب كانْت كتابه هذا في نهاية حقبة التنوير تقريبًا، وكان التنوير يمرّ بأزمة حينذاك. وعندما ننظر إلى تلك المدّة بما لدينا من معلومات نجد أنّ ثمانينيات القرن الثامن عشر كانْت عقدًا انتقاليًا ابتعد فيه التوازن الثقافي عن التنوير قطعًا ليتّجه نحو الرومنطيقية، لكنّ كانْت لم يكن في موقع يتيح له الخروج بهذه النتيجة المستندة إلى ما حصل بعد ذلك من أحداث.

لقد كان التنوير ردّة فعل لصعود العلم الحديث وما حقّقه من نجاحات في القرنين السادس عشر والسابع عشر. وأدّى الإنجاز المذهل الذي جاء به نيوتن خصوصًا إلى توليد شعور واسع بالثقة والتفاؤل بقدرة العقل البشري على التحكّم بالطبيعة وتحسين حياة البشر. ومن تأثيرات هذه الثقة الجديدة بالعقل: تعرّض المرجعيات التقليدية إلى مساءلة متزايدة؛ فما هو الداعي للحاجة للمرجعيات السياسية أو الدينية لتخبرنا كيف نعيش أو بماذا نؤمن إذا كان كلّ واحد منّا يمتلك القدرة على معرفتها بنفسه؟ وفي الكتاب يعبّر كانْت عن هذا الالتزام التنويري بسيادة العقل فيقول:

«إنّ عصرنا هو عصر النقد الذي يجب أن يخضع له كلّ شيء. وهذا ما يحاول الدين أن يستثني نفسه منه باللجوء إلى قدسيته، وكذلك التشريع باللجوء إلى سلطانه؛ ولكنّهما يستثيران بفعلهما هذا شعورًا مبرّرًا بالريبة، ولا يمكنهما أن يطالبا بالاحترام الحقيقي الذي لا يمنحه العقل إلّا لمن يتمكّن من تحمّل امتحانه الحرّ والعلني» (Axi).

إنّ التنوير مفاده أن يفكّر المرء لنفسه، لا أن يفكّر الآخرون له، وفقًا لما جاء في مقالته (ما هو التنوير؟) (8:35). وفي هذه المقالة يعبّر كانْت أيضًا عن الإيمان التنويري بحتميّة التقدّم؛ فثلّة من المفكّرين المستقلّين سيقومون تدريجيًا بتحفيز حركة ثقافية أوسع تؤدّي في نهاية المطاف إلى قدر أكبر من حرّية التصرّف والإصلاح الحكومي. والثقافة التنويرية «تكاد تكون حتمية» إذا أمكن توفير «حرية المرء بالاستخدام العلني لعقله في كلّ القضايا» (8:36).

وتكمن المشكلة عند البعض في أنّه بدا من غير الواضح ما إذا كان التقدّم سيحصل حقًّا عندما يتمتّع العقل بكامل السيادة على المرجعيات التقليدية؛ أو ما إذا كان إعمال العقل دون الاستعانة بغيره يؤدّي عوضًا عن ذلك إلى المادّية والجبرية والإلحاد والشكوكية (Bxxxiv)، أو حتّى التهتّك أو الاستبداد (8:146). ولقد جرى الربط بين التزام التنوير بسيادة العقل وبين التوقّع بأنّه لن يؤدّي لأيٍّ من هذه العواقب، بل بأنّه سيدعم معتقدات أكيدة بعينها دأبت التقاليد على إقرارها، وفي صلب هذه المعتقدات: الإيمان بالإله، والنفس، والحرّية، والتوافق بين العلم وأخلاقيات الدين. وعلى الرغم من أنّ هنالك قلّة من المفكّرين رفضوا بعض هذه المعتقدات أو جميعها، فإنّ الروح العامّة للتنوير لم تكن على هذا القدر من الراديكالية. لقد كان التنوير يبتغي الاستعاضة عن المرجعيات التقليدية بمرجعية عقل الفرد البشري، لكنّه لم يكن يستهدف إسقاط المعتقدات التقليدية الأخلاقية والدينية.

وعلى الرغم ممّا ذكرناه، فإنّ الإلهام الأصلي للتنوير جاء من الفيزياء الجديدة ذات الطابع الميكانيكي؛ فإذا كانت الطبيعة محكومة بأكملها بسلطة الميكانيكا، أي: قوانين العلّية، فعندها قد يبدو أنّه لا مجال للحديث عن حرّية، أو نفس، أو أيّ شيء آخر سوى المادّة في حالة الحركة. وكان هذا تهديدًا للرؤية التقليدية القائلة بأنّ الأخلاق تتطلّب الحرّية؛ إذ لا بدّ من أن نكون أحرارًا لنختار الصواب عوضًا عن الخطأ، وإلا فلن نكون مؤهّلين لتحمّل المسؤولية. وشمل التهديد أيضًا الاعتقاد الديني التقليدي بأنّ النفس لا تفنى بالموت أو أنّها تُبعَث في الآخرة. وبناءً عليه، فإنّ العلم الحديث، فخر التنوير ومنبع تفاؤله بشأن قوى العقل البشري، كان يهدّد بهدم المعتقدات التقليدية الأخلاقية والدينية التي كان يُنتَظر من التفكير العقلاني الحرّ أن يدعمها. ولقد كان هذا الأمر بمثابة الأزمة الفكرية الرئيسية للتنوير.

جاء كتاب كانْت (نقد العقل المحض) ردّ فعل على هذه الأزمة، وكان موضوعه الرئيسي هو (الميتافيزيقا) لأنّها، بحسب رأي كانْت، مجال عمل العقل، فهي «المخزن لكلّ ما نمتلكه بفضل العقل المحض، وفق ترتيب منهجي» (Axx)، ومرجعية العقل كانت تتعرّض حينها للمساءلة. والهدف الرئيسي الذي يبتغيه كانْت هو أن يبيّن بأنّ نقد العقل بالعقل نفسه، دون عون أو إعاقة من المرجعيات التقليدية، يثبت وجود أساس راسخ ومنسجم لكلٍّ من: العلم النيوتني، والتقاليد الأخلاقية والدينية. وبعبارة أخرى: إنّ البحث العقلاني الحرّ يدعم بشكل كافٍ كلّ هذه المصالح البشرية الضرورية ويثبت أنّها منسجمة بعضها مع بعض؛ وبناءً عليه، يستحقّ العقل السيادة التي يعزوها التنوير له.

2. 2. ثورة كانت الكوپرنيكية في الفلسفة

إذا أردنا أن نبيّن كيف حاول كانْت تحقيق هذا الهدف من خلال كتابه يمكننا الاستعانة بالاطّلاع على دواعي رفضه للأفلاطونية في (أطروحة التدشين)؛ إذ يمكن القول بأنّ (أطروحة التدشين) حاولت أيضًا التوفيق على نحوٍ ما بين العلم النيوتني وبين التقاليد الأخلاقية والدينية، لكنّ استراتيجيتها كانت مختلفة عن ما ورد في (نقد العقل المحض)، حيث جاء في (الأطروحة) أنّ العلم النيوتني صائب في العالم المحسوس الذي نطّلع عليه بقابلية الإحساس، وأنّ الفهم يستوعب مبادئ الكمال الإلهي والأخلاقي في عالم معقول متمايز، والذي هو نماذج يقاس عليها كلّ شيء في العالم المحسوس. وبناءً عليه، فإنّ معرفتنا بالعالم المعقول قبلية لأنّها لا تعتمد قابلية الإحساس، وهذه المعرفة القبلية تزوّدنا بالمبادئ اللازمة للحكم على العالم المحسوس، لأنّ العالم المحسوس نفسه يحاكي العالم المعقول أو يتوافق معه على نحو ما.

لكن بعد أن كتب كانت (أطروحة التدشين) عبّر عن شكوك تنتابه بشأن الرؤية الواردة فيها، وقد شرح ذلك في رسالة بعث بها في (21 فبراير 1772) إلى صديقه وطالبه السابق ماركوس هيرتس، قال فيها:

«اكتفيت في أطروحتي بشرح طبيعة التمثّلات الفكرية على نحو سلبي محض، أي: عندما قلت بأنّها ليست سوى تعديلات أحدثها في النفس موضوعٌ ما. لكنّني تغاضيت بصمت عن سؤال آخر يقول: كيف يمكن لتمثّلٍ يشير لموضوعٍ ما دون أن يتأثّر به أن يكون ممكنًا. … وبأيّة وسيلة تُعطى لنا هذه التمثّلات العقلية إن لم تكن بواسطة ما تؤثّر علينا به؟ وإذا كانت هذه التمثّلات الفكرية تعتمد على فاعليتنا الداخلية، فمن أين يأتي توافقها المفترَض مع الموضوعات، مع أنّ الموضوعات نفسها ليس من الممكن إنتاجها على هذا النحو؟ … في ما يتعلّق بكيفية ما قد يقوم فهمي بتشكيله لنفسه من مفاهيم للأشياء على نحو قبلي تمامًا، مفاهيم تتّفق معها الأشياء بالضرورة، وفي ما يتعلّق بكيفية ما قد يقوم فهمي بصياغته من مبادئ حقيقية بشأن إمكانية تلك المفاهيم، مبادئ يجب على التجربة أن تتّفق معها تمامًا مع أنّها مستقلّة عن التجربة؛ فإنّ السؤال عن كيفية إنجاز ملكة الفهم لهذا التوافق مع الأشياء نفسها ما يزال متروكًا طيّ الغموض» (10:130–131).

في هذا النصّ يعبّر كانْت عن الشكوك التي تنتابه حول كيفية أن تكون المعرفة القبلية بعالم معقول ممكنة. وهو يتّخذ في (أطروحة التدشين) موقفًا مفاده أنّ العالم المعقول مستقلّ عن الفهم البشري وعن العالم المحسوس، وأنّ كليهما يتوافقان (بطرائق مختلفة) مع العالم المعقول. لكنّنا إذا تركنا الأسئلة المتعلّقة بما يعنيه توافق العالم المحسوس مع العالم المعقول، فكيف يمكن للفهم البشري أن يتوافق مع العالم المعقول أو يستوعبه؟ إذا كان العالم المعقول مستقلًّا عن فهمنا فيبدو حينها أنّه لا يمكننا أن نستوعبه إلّا إذا تأثرنا به انفعاليًا على نحو ما. لكنّ كانْت يرى بأنّ قابلية الإحساس هي ملكة انفعالية أو استقبالية تتأثّر بالموضوعات المستقلّة عنّا (2:392, A51/B75). وبناءً عليه، فإنّ الطريقة الوحيدة التي تمكّننا من استيعاب العالم المعقول المستقلّ عنّا هي من خلال قابلية الإحساس، وهي تعني أنّ معرفتنا به لا يمكن أن تكون قبلية؛ فالفهم المحض لوحده لا يستطيع أن يقوم بأكثر من تمكيننا من تشكيل تمثّلات للعالم المعقول، لكن بما أنّ هذه التمثّلات العقلية «تعتمد على فاعليتنا الداخلية» بشكل كامل، كما جاء في رسالة كانْت لهيرتس، فليس هنالك سبب متين يدفع للاعتقاد بأنّها قد تتوافق مع عالم معقول مستقلّ؛ فهذه التمثّلات العقلية القبلية ليس هنالك ما يمنع من أن تكون من اختلاقات الدماغ ولا تتوافق مع أيّ شيء مستقل عن الذهن البشري. وعلى أيّة حال، فإن الغموض يحيط كلّيًا بالسؤال حول كيف يمكن أن يكون هنالك توافق بين تمثّلات عقلية محضة وعالم معقول مستقلّ.

ولقد اتّبع كانْت في كتابه (نقد العقل المحض) استراتيجية شبيهة لما اتّبعه في (أطروحة التدشين)، فكلا المؤلَّفَين يحاول التوفيق بين العلم الحديث والتقاليد الأخلاقية والدينية عبر إحالتها إلى عالمين متمايزين: محسوس للأوّل، ومعقول للثاني؛ لكنّ (نقد العقل المحض) يقدّم تفسيرًا للمعرفة القبلية يتّصف بأنّه أقلّ تكلّفًا بكثير، على الرغم من أنّه تفسير ثوري. ومن رسالة كانْت لهيرتس نتوصّل إلى أنّ المشكلة الرئيسية التي تعاني منها رؤيته في (أطروحة التدشين) هي أنّها تحاول تفسير إمكانية المعرفة القبلية بعالم مستقلّ كلّيًا عن الذهن البشري؛ فلقد تبيّن أنّ هذا المسعى يصل إلى طريق مسدود، ولم يصرّ كانْت بعدها قطّ على أنّه يمكننا امتلاك معرفة قبلية بعالم معقول لسبب محدّد هو أن هذا العالم سيكون حينها مستقلًّا عنّا كلّيًا. ومع ذلك، فإنّ الموقف الثوري لكانْت في (نقد العقل المحض) يرى بأنّه يمكننا امتلاك معرفة قبلية بالبنية العامّة للعالم المحسوس لأنّه ليس مستقلًّا كلّيًا عن الذهن البشري؛ فالعالم المحسوس، أي: عالم المظاهر، يشكّل الذهن البشري بنيته باستخدام مركّب من: المادّة الحسّية التي نستقبلها بانفعالية، والصور القبلية التي تزوّدنا بها ملكاتنا الإدراكية. ولا يمكننا أن نمتلك معرفة قبلية إلّا حول جوانب من العالم المحسوس تعكس صورًا قبلية تزوّدنا بها ملكاتنا الإدراكية. وكما يقول كانْت: «لا يمكننا أن نعرف قبليًا عن الأشياء إلّا ما وضعناه فيها بأنفسنا» (Bxviii) إذن، فـ(نقد العقل المحض) يخبرنا بأنّ المعرفة القبلية لا يمكن أن تكون ممكنة إلّا عند، وضمن حدود، اعتماد العالم المحسوس نفسه على الطريقة التي يشكّل بها الذهن البشري بنية تجربته.

ويضع كانْت خصائص رؤيته البنيوية للتجربة في كتابه (نقد العقل المحض) من خلال قياسها بالثورة التي أطلق كوپرنيكوس شرارتها في علم الفلك:

«لقد جرت العادة حتّى يومنا هذا على الافتراض بأنّه يجب على إدراكنا بأكمله أن يتوافق مع الموضوعات؛ لكنّ كلّ المحاولات الرامية لاكتشاف أيّ شيء حولها بالاعتماد على المعرفة القبلية من خلال مفاهيم من شأنها توسيع إدراكنا لم تحصد أيّ شيء بالاستناد إلى هذا الافتراض المسبق. ولذلك دعونا لمرّة واحدة نحاول معرفة ما إذا كان يمكننا التوسّع في مناقشة مشكلات الميتافيزيقا من خلال الافتراض بأنّ الموضوعات يجب أن تتوافق مع إدراكنا، وهو أمر يتّفق على نحو أفضل مع الإمكانية المطلوبة للإدراك القبلي لها، أي: إثبات أمرٍ ما بشأن الموضوعات قبل أن تُعرَض علينا. وهذا الأمر من شأنه أن يتطابق تمامًا مع الأفكار الأولى لكوپرنيكوس الذي لم يحرز تقدّمًا جيّدًا في شرحه لحركة الأجرام الفلكية عندما كان يفترض بأنّ مجموعة الأجرام تدور حول المراقب، فحاول أن يرى ما إذا كان سيحرز نجاحًا أكبر إذا جعل المراقب هو من يدور ويدع الأجرام على حالها. وهنا يمكننا أن نحاول فعل أمر مشابه في الميتافيزيقا في ما يخصّ الحدس بالموضوعات. فإذا كان يجب على الحدس أن يتوافق مع بنية الموضوعات، فلا يمكنني أن أرى من أين لنا أن نعلم أيّ شيء بشأنها على نحو قبلي؛ لكن إذا كانت الموضوعات (باعتبارها موضوعاتٍ للحواسّ) تتوافق مع بنية ملكة الحدس لدينا، فعندها يمكنني أن أمثّل هذه الإمكانية لنفسي على نحو جيّد جدًّا. ومع ذلك، بما أنّه لا يمكنني التوقّف عند هذه المعارف الحدسية، إذا كان لها أن تتحوّل إلى إدراكات، ويجب عليّ أن أشير إليها باعتبارها تمثّلات لأشياء باعتبارها موضوعاتٍ لها وأن أحدّد هذه الموضوعات من خلالها، فيمكنني عندها افتراض أحد أمرين: إمّا أنّ المفاهيم التي أقيم عليها هذا التحديد تتوافق أيضًا مع الموضوعات، وحينها سألاقي مجدّدًا الصعوبة نفسها حول كيف يمكن لي أن أعلم أيّ شيء عنها على نحو قبلي؛ وإمّا أنّ الموضوعات، أو بشكل مساوٍ: التجربة التي يُعتمَد عليها وحدها في إدراك الموضوعات (باعتبارها موضوعاتٍ معطاة)، أو ماهيّة الموضوع نفسه، تتوافق مع تلك المفاهيم؛ وفي كلتا الحالتين أرى على الفور مخرجًا أسهل من الصعوبة التي تواجهنا، وذلك لأنّ التجربة نفسها هي نوع من الإدراك الذي يتطلّب الفهم، وعليّ أن أفترض مسبقًا في نفسي أنّ لها قاعدةً قبل أن يُعرَض عليّ أيّ موضوع، وبالتالي فهي قبلية، وهذه القاعدة يُعبّر عنها في المفاهيم بشكل قبلي، ولهذا يجب أن تتوافق معها كلّ موضوعات التجربة بالضرورة، وأن تتّفق معها أيضًا» (Bxvi–xviii).

إن هذا المقطع يدلّ على أنّ ما بدّله كانْت في كتابه (نقد العقل المحض) هو، في الأساس، رؤيته بشأن دور الفهم وقدراته، وذلك لأنّه كان يعتقد حقًّا، كما ورد في (أطروحة التدشين) بأنّ قابلية الإحساس تساهم بصورتي المكان والزمان، وهو ما يدعوه بالحدسيات المحضة (أو القبلية) (2:397) لإدراكنا للعالم المحسوس. لكنّ كانْت يدّعي في (نقد العقل المحض) بأنّ الفهم المحض أيضًا محدود بتوفير الصور، والتي يدعوها بالمفاهيم المحضة أو القبلية، وهذه الصور تنشئ بنية إدراكنا للعالم المحسوس؛ وذلك عوضًا عن تزويدنا بالبصيرة للدخول في العالم المعقول. إذن، يمكن القول بعدها بأنّ قابلية الإحساس والفهم كلاهما يعملان سويّة لتشييد بنية إدراك العالم المحسوس، والذي يتوافق، لذلك، مع الصور القبلية التي تزوّدنا بها ملكتانا الإدراكيتان: الحدسيات القبلية لقابلية الإحساس، والمفاهيم القبلية للفهم. وهذا التفسير يقبل القياس بثورة (مركزية الشمس) التي أطلقها كوپرنيكوس في علم الفلك، لأنّ كلا التفسيرين يتطلّبان أن يدخل ما يقدّمه المراقب في حساب تفسيرات الظاهرات، على أن لا يعني ذلك اختزال الظاهرات إلى ما يساهم به المراقب وحسب؛[6] إذ يرى كوپرنيكوس بأنّ الأجرام الفلكية تظهر لنا على الأرض على نحو تتأثّر فيه بعاملين: حركات الأجرام الفلكية وحركة الأرض التي ليست جرمًا ثابتًا يدور حوله كلّ شيء آخر. فبهذا القياس يرى كانْت بأنّ ظاهرات التجربة البشرية تعتمد على كلّ من: البيانات الحسّية التي نستقبلها بانفعالية من عبر قابلية الإحساس، والطريقة التي يعالج بها دماغنا هذه البيانات وفقًا لقواعده القبلية. وهذه القواعد تزوّدنا بإطار العمل العامّ الذي يظهر فيه لنا العالم المحسوس وكلّ ما فيه من موضوعات (أو ظاهرات). وبناءً عليه، فإنّ العالم المحسوس وظاهراته ليست مستقلّة بالكامل عن الذهن البشري، والذي يساهم في بنيتها الرئيسية.

كيف تقوم الثورة الكوپرنيكية في الفلسفة، وفقًا لكانْت، بتطوير استراتيجية (أطروحة التدشين) للتوفيق بين العلم الحديث والتقاليد الأخلاقية والدينية؟ أوّلًا إنّ هذه الثورة تمنح كانْت طريقة جديدة وذكية لوضع العلم الحديث على أساس قبلي؛ فهو أصبح بعدها في موقف يمكّنه من المحاججة بأنّنا نستطيع امتلاك معرفة قبلية حول القوانين الأساسية للعلم الحديث لأنّ هذه القوانين تعكس مساهمة الذهن البشري في إنشاء بنية تجربتنا. وبعبارة أخرى: إنّ العالم المحسوس يتكيّف بالضرورة مع قوانين أساسية محدّدة (منها: أنّ لكلّ حدث علّة) لأنّ الذهن البشري ينشئ بنيتها وفقًا لهذه القوانين. وعلاوة عليه، يمكننا تحديد هذه القوانين بالتأمّل في شروط التجربة الممكنة، والتي تكشف أنّه سيكون من المستحيل لنا أن نجرّب عالمًا يحتوي، على سبيل المثال، حدثًا لا سبب له. ويستنتج كانْت من ذلك أنّ الميتافيزيقا ممكنة حقًّا بمعنى أنّه يمكننا امتلاك معرفة قبلية بأنّ العالم المحسوس بأكمله، وليس مجرّد تجربتنا الحقيقية بل أيّة تجربة بشرية ممكنة، يتوافق بالضرورة مع قوانين محدّدة. ويدعو كانْت هذا الأمر: الميتافيزيقا المحايثة، أو ميتافيزيقا التجربة، وذلك لأنّها تتعامل مع المبادئ الجوهرية المحايثة للتجربة البشرية.

لكن، ثانيًا، إذا كان «يمكننا أن ندرك في الأشياء قبليًا ما وضعناه بأنفسنا فيها وحسب»، فلن يكون بإمكاننا أن نمتلك حينها معرفة قبلية حول الأشياء التي يكون وجودها وطبيعتها مستقلّين كلّيًا عن الذهن البشري، وهو ما يدعوه كانْت: الأشياء بذاتها (Bxviii). وهو يعبّر عن ذلك بقوله: «من هذا الاستنباط لما نملكه من ملكة الإدراك القبلي … تنشأ نتيجة غريبة جدًّا […]، وهي بالتحديد: أنّنا بهذه الملكة لا يمكننا أبدًا أن نتخطّى حدود التجربة الممكنة، [… و] أنّ مثل هذا الإدراك يصل إلى المظاهر وحسب، ويترك الشيء بذاته باعتباره أمرًا حقيقيًا بذاته دون أن ندركه» (Bxix–xx). وهذا يعني أنّ الأساس البنيوي للمعرفة العلمية عند كانْت يحصر العلم بنطاق المظاهر ويعني ضمنيًا أن الميتافيزيقا الترَنسندنتالية (أي: المعرفة القبلية بالأشياء بذاتها التي تتجاوز حدّ التجربة البشرية الممكنة) هي معرفة مستحيلة. وعلى هذا الأساس يرفض كانْت في (نقد العقل المحض) ما دافع عنه في (أطروحة التدشين) من التبصّر بالعالم المعقول، فهو الآن يدّعي بأنّ رفض المعرفة بالأشياء بذاتها ضروري للتوفيق بين العلم والتقاليد الأخلاقية والدينية؛ وهو يدّعي بأن السبب يكمن في أنّ الاعتقاد بالإله والحرّية والخلود له أساس أخلاقي حصرًا، لكنّ اعتناق هذه المعتقدات على أساس أخلاقي لن يكون مسوَّغًا إذا أمكن لنا أن نعلم بأنّها كاذبة، وهنا يقول كانْت: «ولذلك يجب عليّ أن أنكر المعرفة كي أفسح المجال للإيمان» (Bxxx). إنّ حصر المعرفة بالمظاهر وإحالة الإله والنفس لمجال غير معلوم للأشياء بذاتها يضمن أنّ من المستحيل دحض الادّعاءات حول الإله وحرّية النفس أو خلودها، وهي التي يمكن للحجج الأخلاقية أن تسوّغ اعتقادنا بها عند ذلك. وعلاوةً عليه، فإنّ حتمية العلم الحديث لن تهدّد بعدها الحرّية التي تتطلّبها التقاليد الأخلاقية، لأنّ العلم، ولذلك: الحتمية، لا تنطبقان إلّا على المظاهر، وهنالك مجال للحرّية في ميدان الأشياء بذاتها، وهو الميدان الذي توجد فيها الذات أو النفس. ونحن لا يمكننا أن نعلم (نظريًا) أنّنا أحرار، لأنّه لا يمكننا أن نعلم أيّ شيء حول الأشياء بذاتها؛ لكنّ هنالك أساسًا أخلاقيًا قويًا بالخصوص للاعتقاد بحرّية البشر، والتي تؤدّي دور “حجر الأساس” الذي يدعم كلّ المعتقدات الأخرى التي تقوم على الأخلاق (5:3–4). إنّ كانْت يستعيض، بهذه الطريقة، عن الميتافيزيقا الترَنسندنتالية بعلم عملي جديد يدعوه ميتافيزيقا الأخلاق. وبناءً عليه، يتبيّن أنّ هنالك نوعين ممكنين من الميتافيزيقا: ميتافيزيقا التجربة (أو الطبيعة) وميتافيزيقا الأخلاق، وكلاهما يعتمدان على ما أحدثه كانْت من ثورة كوپرنيكية في الفلسفة.

3. المثالية الترَنسندنتالية

ربّما يمكننا أن نعتبر الدعوى المركزية الأكثر إثارة للخلاف في (نقد العقل المحض) هي القول بأنّ البشر لا يجرّبون سوى المظاهر، لا الأشياء بذاتها؛ وأنّ المكان والزمان ليسا سوى صورتين ذاتيتين للحدس البشري لا يمكنهما أن يوفّرا لأنفسهما شروط البقاء بذاتيهما إذا قرّر المرء التجرّد من كلّ الظروف الذاتية للحدس البشري. ويدعو كانْت هذه الدعوى بـ(المثالية الترَنسندنتالية).[7] وثمّة من يحاجج بأنّ أفضل تلخيصاته لها وردت في قوله:

«وبناءً عليه، كنّا نرغب بأن نقول بأنّ الحدس بأكمله ليس سوى تمثّل للمظهر؛ وبأنّ الأشياء التي نحدسها ليست بذاتها ما نحدسه عنها، ولا علاقاتها مبنية على النحو الذي يبدو لنا؛ وأنّه إذا أزلنا ذاتنا من الحسبان، أو حتّى إذا اقتصرنا على إزالة التكوين الذاتي للحواسّ بشكل عامّ، فعندها سيزول التكوين بأكمله، وكلّ علاقات الموضوعات بالمكان والزمان، بل إنّ المكان والزمان نفسيهما سيزولان، فهما مظهران لا يمكنهما أن يوجدا بنفسيها، ولا يوجدان إلّا فينا وحسب. أمّا ما قد يتعلّق بالموضوعات بأنفسها، مجرّدةً ممّا تستقبله حواسّنا، فيبقى بأكمله في نطاق ما نجهله؛ فنحن لا نطّلع إلّا على طريقة إدراكنا لها، وهو أمر خاصّ بنا، وبالتالي فهو لا يتعلّق بأيّ كائن آخر بالضرورة، ولكنّه يتعلّق بكلّ كائن بشري حتمًا. وهذا هو ما ينصبّ عليه اهتمامنا. إنّ المكان والزمان هما صورتان محضتان له؛ والإحساس بشكل عامّ هو مادّته. ولا يمكننا أن ندرك العبارة الأولى إلّا بنحوٍ قبلي، أي: بنحوٍ يسبق كلّ حسّ حقيقي، ولهذا يدعى بالحدس المحض؛ أمّا العبارة التالية فتأتي من إدراكنا المسؤول عن دعوتها بالإدراك البعدي، أي: الحدس التجريبي. إنّ العبارة الأولى تتمسّك بقابلية الإحساس لدينا على نحو ضروري حتمي، بغضّ النظر عن نوع الإحساس؛ أمّا العبارة التالية فيمكنها أن تكون مختلفة جدًّا عن ذلك» (A42/B59–60).[8]

ويقدّم كانْت المثالية الترَنسندنتالية في قسم من الكتاب يُدعى (الجماليات الترَنسندنتالية)، ويتّفق الخبراء بشكل عام على أنّ المثالية الترَنسندنتالية تحتوي، على الأقلّ، الادّعاءات التالية:

  • بمعنىً ما: إنّ الإنسان لا يجرّب سوى المظاهر، لا الأشياء بذاتها.
  • المكان والزمان ليسا شيئين بذاتيهما، أو تحديدات لأشياء بذاتها تتبقّى من استخلاص كلّ الظروف الذاتية للحدس البشري. [يعنون كانْت هذا الاستنتاج بالحرف (a) في (A26/B42) ويكرّر ذلك في (A32–33/B49). وهو يشكّل على الأقلّ جزءًا حاسمًا ممّا يعنيه بقوله بأنّ المكان والزمان مثاليين على نحو ترَنسندنتالي (A28/B44, A35–36/B52).]
  • المكان والزمان ليسا سوى صور ذاتية للحدس البشري القابل للإحساس. [يعنون كانْت هذا الاستنتاج بالحرف (b) في (A26/B42) ويكرّر ذلك في (A33/B49–50).]
  • المكان والزمان حقيقيان من الناحية التجريبية، وهذا يعني أنّ «كلّ ما قد يحضر أمامنا خارجيًا باعتباره موضوعًا» هو ضمن المكان والزمان، وأنّ أحداسنا الداخلية حول أنفسنا هي ضمن الزمان (A28/B44, A34–35/B51–51).

لكنّ الخبراء يختلفون بشكل واسع حول كيفية تفسير هذه الادّعاءات، وليس هنالك ما يمكن أن يُدعى تفسيرًا معياريًا للمثالية الترَنسندنتالية عند كانْت؛ لكن يمكن الإشارة إلى نمطين عامّين من التفسيرات حظيا بتأثير خاصّ، وسنقدّم في هذا القسم مراجعة عامّة لهذين التفسيرين، مع التشديد على أنّ هنالك الكثير من العمل الأكاديمي المهمّ حول المثالية الترَنسندنتالية لا يندرج بسهولة ضمن أيٍّ من هذين النمطين.

3. 1. تفسير (الموضوعين)

يُعتبَر تفسير (الموضوعين) التفسير التقليدي للمثالية الترَنسندنتالية عند كانْت؛ ويعود إلى أوّل مراجعة لكتابه (نقد العقل المحض)، والتي تُدعى (مراجعة گوتينگن) التي كتبها كريستيان گارڤه (1742-1798) ويوهان گيورك فيدير (1740-1821).[9] واستمرّ هذا التفسير يتمتّع بمنزلة الطريقة المهيمنة لتفسير المثالية الترَنسندنتالية عند كانْت طوال حياته، ولا يزال من الخيارات الحيّة لتفسيرها حتّى يومنا هذا، لكنّه لم يعد يتمتّع بالمنزلة المهيمنة التي كانت له في الماضي.[10]

وبموجب هذا التفسير: المثالية الترَنسندنتالية هي في الأساس دعوى ميتافيزيقية تميّز بين صنفين من الموضوعات: المظاهر، والأشياء بذاتها. وهنالك اسم آخر لهذه الرؤية هو (تفسير العالَمَين)، وذلك لأنّه يمكن التعبير عنها أيضًا بالقول بأنّ المثالية الترَنسندنتالية تميّز في الأساس بين عالم المظاهر وعالم آخر للأشياء بذاتها.

والأشياء بذاتها، وفقًا لهذا التفسير، حقيقية بالمطلق بمعنى أنّها توجد وتمتلك كلّ خصائصها أيًّا كانت حتّى لو لم يكن هنالك أيّ إنسان يدركها. أمّا المظاهر فليست حقيقية بالمطلق وفقًا للمعنى السابق، وذلك لأنّ وجودها وخصائصها يعتمدان على إدراك إنسان لها. وعلاوة عليه، متى ما وُجِدت المظاهر فإنّها توجد، بمعنىً ما، ضمن ذهن إنسان يدركها. وبناءً عليه، فالمظاهر كيانات ذهنية أو تمثّلات ذهنية؛ وإذا أضفنا إليه الادّعاء بأنّنا لا نجرّب سوى المظاهر، فسيجعل ذلك المثالية الترَنسندنتالية شكلًا من أشكال الظاهراتية بناءً على هذا التفسير، وذلك لأنّه يختزل الموضوعات المجرّبة إلى تمثّلات ذهنية. وإنّ كلّ تجاربنا (أي: كلّ إدراكاتنا للموضوعات والأحداث ضمن المكان، وحتى لهذه الموضوعات والأحداث بذاتها، وكلّ الأفكار والمشاعر التي هي غير مكانية لكنّها زمانية)، تندرج في صنف المظاهر التي توجد في ذهن الإنسان الذي يدركها. وهذه المظاهر تفصلنا بشكل كامل عن حقيقة الأشياء بذاتها، والتي هي غير مكانية وغير زمانية. وعلى الرغم ممّا سبق فإنّ نظرية كانْت تشترط، وفقًا لهذا التفسير، وجود الأشياء بذاتها، لأنّها يجب أن تبثّ لنا البيانات الحسّية التي نبني المظاهر على أساسها. ونحن عاجزون، من ناحية المبدأ، عن معرفة الكيفية التي تؤثّر بها الأشياء بذاتها على حواسّنا، لأنّ تجربتنا ومعرفتنا محدودة بعالم المظاهر الذي يبنيه الذهن في داخله؛ ولهذا فإنّ الأشياء بذاتها هي نوع من الوضع النظري الذي يكون وجوده ودوره من شروط النظرية دون أن يكون قابلًا للإثبات بشكل مباشر.

والمشكلات التي يعاني منها تفسير (الموضوعين) ذات طابع فلسفي؛ ومعظم قرّاء كانْت الذين فسّروا مثاليته الترَنسندنتالية على هذا النحو عبّروا عن انتقادهم لهذا التفسير، وكان الانتقاد شديدًا في كثير من الحالات، وذلك لأسباب منها:

أوّلًا، إن هذا التفسير يعني في أفضل حالاته أنّ كانْت يسير على خطّ رفيع عندما يدّعي من جهة بأنّه لا يمكننا امتلاك معرفة حول الأشياء بذاتها، لكنّه يدّعي من جهة أخرى بأنّ الأشياء بذاتها موجودة، وأنّها تؤثّر على حواسّنا، وأنّها غير مكانية وغير زمانية. ويعني هذا التفسير في أسوأ حالاته أنّ نظرية كانْت تعتمد على ادّعاءات متناقضة حول ما يمكن وما لا يمكن لنا معرفته حول الأشياء بذاتها. وقد عبّر جاكوبي عن هذا الاعتراض بشكل مؤثّر عندما اشتكى من أنّه «بدون ذلك الافتراض المسبق [بالأشياء بذاتها] لم أتمكّن من دخول المنظومة، لكنّني مع هذا الافتراض المسبق لم أتمكّن من البقاء داخل المنظومة» (Jacobi 1787, 336).

وثانيًا، حتّى إذا تمّ التغلّب على هذه المشكلة، فلقد بدا للكثيرين أنّ نظرية كانْت، على أساس هذا التفسير، تتضمّن شكلًا جذريًا من الشكوكية يحتجز كلّ فرد منّا داخل محتويات ذهنه الخاصّ به ويفصله عن الواقع. ولقد جاءت بعض نسخ هذا الاعتراض من مقدّمات يرفضها كانْت. وثمّة نسخة تصرّ على أنّ الأشياء بذاتها واقعية أمّا المظاهر فليست كذلك، ومنه جاءت رؤية كانْت بعدم القدرة على امتلاك تجربة أو معرفة بالواقع. لكنّ كانْت ينكر أنّ المظاهر غير واقعية: فهي واقعية تمامًا كما أنّ الأشياء بذاتها واقعية، لكنّها تنتمي إلى صنف ميتافيزيقي مختلف. وثمّة نسخة أخرى تدّعي بأنّ الحقيقة تتضمّن دائمًا حالة من التناظر بين المظاهر الذهنية والأشياء بذاتها، وهذا يستلزم أنّه من المستحيل علينا، وفقًا لرؤية كانْت، أن نمتلك معتقدات حقيقية حول العالم. لكن تمامًا كما أنّ كانْت ينكر أنّ الأشياء بذاتها هي الواقع الوحيد (أو التفضيلي)، فإنّه ينكر كذلك أنّ التناظر مع الأشياء بذاتها هو النوع الوحيد للحقيقة. فالأحكام التجريبية ليست صادقة إلّا عندما تتناظر مع موضوعاتها التجريبية بالتوافق مع المبادئ القبلية التي تشكّل بنية كلّ التجربة البشرية الممكنة. لكنّ الحقيقة القائلة بأنّ (كانْت لا يمكنه اللجوء على هذا النحو إلى معيار موضوعي للحقيقة التجريبية الداخلية بالنسبة لتجربتنا) لم تصل قطّ إلى الحدّ الكافي لإقناع بعض المنتقدين بأنّ كانْت بريء ممّا يلصق به من شكل غير مقبول من أشكال الشكوكية، ويعود سبب التبرئة أساسًا إلى إصراره على عدم إمكانية معالجة جهلنا حول الأشياء بذاتها.

وثالثًا، وأخيرًا، لقد صدم كانْت الكثير من قرّائه بغياب الانسجام عند إنكاره بأنّ الأشياء بذاتها مكانية أو زمانية. فالدور الذي تؤدّيه الأشياء بذاتها، وفقًا لتفسير (الموضوعين)، هو أن تؤثّر على حواسّنا، وبذلك توفّر البيانات الحسّية التي تشكّل ملكاتنا الإدراكية بها بنية المظاهر ضمن إطار أحداسنا القبلية للمكان والزمان، ومفاهيمنا القبلية كالعلّية. لكن إذا لم يكن هنالك مكان أو زمان أو تغيّر أو علّية في ميدان الأشياء بذاتها، فكيف إذن يمكن للأشياء بذاتها أن تؤثّر علينا؟ إنّ التأثير الترَنسندنتالي يبدو أنّه يتضمّن علاقة علّية بين الأشياء بذاتها وقابلية الإحساس لدينا. وإذا كانت هذه، ببساطة، هي الطريقة التي لا محيد عنها في التفكير بشأن التأثير الترَنسندنتالي، لأنّه لا يمكننا إعطاء محتوى أكيد لهذه الفكرة إلّا بتوظيف مفهوم العلّة بينما لا يمكن القول قطعًا بأنّ الأشياء بذاتها تؤثّر علينا على نحو علّي، فسيبدو حينها لا بأنّنا نجهل كيف تؤثّر علينا الأشياء بذاتها وحسب، بل سيبدو، عوضًا عن ذلك، أنّه لا ترابط في القول بأنّ الأشياء بذاتها لا يمكنها أن تؤثّر فينا على الإطلاق إذا لم تكن ضمن مكان أو زمان.

3. 2. تفسير (الجانبين)

تحاول قراءة (الجانبين) تفسير المثالية الترَنسندنتالية عند كانْت بطريقة تتيح الدفاع عنها ضدّ بعض هذه الاعتراضات على الأقلّ. وبموجب هذه الرؤية، لا تميّز المثالية الترَنسندنتالية بين صنفين من الموضوعات بل تميّز، عوضًا عن ذلك، بين جانبين مختلفين لصنف واحد هو نفسه للموضوعات. ولهذا السبب فإنّها تدعى أيضًا تفسير (العالم الواحد)، وذلك لأنّها تعتقد بأنّ هنالك عالمًا واحدًا في أنطولوجيا كانْت، وأنّ في هذا العالم هنالك بعض الموضوعات على الأقلّ لها جانبان مختلفان: جانب يظهر لنا، وجانب آخر لا يظهر لنا؛ أي: أنّ المظاهر هي جوانب للموضوعات نفسها التي توجد أيضًا بذاتها. ولهذا فإنّ المظاهر، وفقًا لهذه القراءة، ليست تمثّلات ذهنية، والمثالية الترَنسندنتالية ليست شكلًا من أشكال الظاهراتية.[11]

وهنالك نسختان رئيسيتان على الأقلّ لنظرية (الجانبين)؛ والنسخة الأولى تتعامل مع المثالية الترَنسندنتالية باعتبارها نظرية ميتافيزيقية يكون بموجبها للموضوعات جانبان بمعنى امتلاكها لمجموعتين من الخصائص: مجموعة للخصائص العلائقية التي تبدو لنا وهي مكانية وزمانية، ومجموعة أخرى للخصائص الجوّانية التي لا تظهر لنا وليست مكانية أو زمانية (Langton 1998). وهذا التفسير (الثنائي بحسب الخصائص) يواجه اعتراضات إپستيمولوجية مشابهة لما يواجهه تفسير (الموضوعين)، لأنّنا لسنا أقدر على اكتساب المعرفة حول خصائص لا تظهر لنا بالمقارنة مع قدرتنا على اكتساب المعرفة حول موضوعات لا تظهر لنا. وعلاوة عليه، إنّ هذا التفسير يبدو أيضًا أنّه يعني ضمنًا أنّ الأشياء بذاتها مكانية وزمانية، انطلاقًا من أنّ المظاهر لها خصائص مكانية وزمانية، وبموجب هذه الرؤية تكون المظاهر هي نفسها موضوعات باعتبارها أشياء بذاتها. لكنّ كانْت ينكر بصراحة أن يكون المكان والزمان من خصائص الأشياء بذاتها.

والنسخة الثانية من نظرية (الجانبين) تبتعد بشكل أكثر جذرية عن تفسير (الموضوعين) التقليدي عندما تنكر أن تكون المثالية الترَنسندنتالية نظرية ميتافيزيقية في حقيقتها؛ فهي تفسّر المثالية الترَنسندنتالية على أنّها نظرية إپستيمولوجية في أساسها، تميّز بين موقفين من موضوعات التجربة: الموقف البشري، وهو ينظر إلى الموضوعات بالنسبة للظروف الإپستيمولوجية الخاصّة بالملكات الإدراكية عند البشر (تحديدًا: صور قبلية لحدسنا القابل للإحساس)؛ وموقف العقل الحدسي، وفيه يمكن معرفة الموضوعات نفسها بذاتها وبشكل مستقلّ عن أيّة ظروف إپستيمولوجية (Allison 2004). ولا يمكن للبشر اتّخاذ الموقف الثاني في الواقع، لكنّهم يستطيعون تشكيل مجرّد مفهوم فارغ للأشياء باعتبارها توجد في ذاتها، وذلك من خلال التجرّد من كل المحتوى الناتج عن التجربة والاكتفاء فقط بالفكرة الصورية المحضة لأيّ موضوع بشكل عام. إذن، فالمثالية الترَنسندنتالية، وفقًا لهذا التفسير، هي في جوهرها دعوى تقول بأنّنا محدودون بالموقف البشري، وأنّ مفهوم الشيء بذاته يؤدّي دور تمكيننا من استقصاء حدود الموقف البشري عبر تخطّي هذه الحدود بفكر مجرّد (لكنّه فارغ).

ومن الانتقادات الموجّهة لهذه الرؤية الإپستيمولوجية لنظرية (الجانبين): أنّها تتجنّب الاعتراضات الموجّهة للتفسيرات الأخرى بأن تعزو لكانْت مشروعًا أكثر محدودية بالمقارنة مع ما يسمح به نصّ كتابه (نقد العقل المحض)، فهنالك مقاطع تدعم هذه القراءة،[12] لكن هناك أيضًا الكثير من المقاطع في الكتاب (بنسختيه) يصف فيها كانْت المظاهر باعتبارها تمثّلات في الذهن، ويقدّم فيها تمييزه بين المظاهر والأشياء بذاتها، لا من ناحية الأهمّية الإپستيمولوجية وحسب، بل الأهمّية الميتافيزيقية أيضًا.[13] وليس من الواضح ما إذا كان كلّ هذه النصوص يقبل تفسيرًا منسجمًا واحدًا فقط.

4. الاستنباط الترنسندنتالي عند كانت

الاستنباط الترَنسندنتالي هو الحجّة المركزية لكتاب (نقد العقل المحض)، وهو من أشدّ النصوص تعقيدًا وصعوبة في تاريخ الفلسفة؛ وبالنظر لهذا التعقيد الشديد فمن الطبيعي أن توجد الكثير من الطرائق المختلفة لتفسير الاستنباط.[14] وفي هذا العرض العام المختصر سنقدّم منظورًا لبعض أفكاره الرئيسية.

إنّ الاستنباط الترَنسندنتالي يرد في قسم من (نقد العقل المحض) يُدعى (تحليل المفاهيم)، وهو يتعامل مع المفاهيم القبلية التي يرى كانْت بأنّ فهمنا يستخدمها لتشييد بنية التجربة بالترافق مع الصور القبلية للحدس المحسوس (المكان والزمان)، والذي يناقشه في (الجماليات الترَنسندنتالية). ويدعو كانْت هذه المفاهيم القبلية “المقولات”، وهو يحاجج في موضع آخر (في ما يُدعى: الاستنباط الميتافيزيقي) بأنّها تحتوي مفاهيم من أمثال الجوهر والعلّة. ويهدف الاستنباط الترَنسندنتالي إلى إثبات أنّها مفاهيم قبلية أو مقولات منتجة موضوعيًا، أو أنّها تنطبق بالضرورة على كلّ الموضوعات في العالم الذي نجرّبه. وفي سبيل هذا الإثبات يحاجج كانْت بأنّ المقولات شروط ضرورية للتجربة، أو بأنّه ما كان أن يكون لنا تجربة من دون المقولات؛ وهو يعبّر عن هذا بقوله:

«الإنتاجية الموضوعية للمقولات، باعتبارها مفاهيم قبلية، تستند إلى الحقيقة القائلة بأنّ التجربة ليست ممكنة إلّا من خلالها (إلى الحدّ الذي يتعلّق فيه شكل التفكير بهذا الأمر). وذلك لأنّها تكون حينها متعلّقة على نحو ضروري وقبلي بالموضوعات المجرّبة، لأنّ بواسطتها وحدها يمكن التفكير أصلًا بالموضوع المجرّب. وبناءً عليه، فإنّ الاستنباط الترَنسندنتالي لكلّ المفاهيم القبلية يمتلك مبدأً يجب أن يوجَّه نحو البحث بأكمله، وهو بالتحديد: يجب إدراك هذه المفاهيم على أنّها شروط قبلية لإمكانية التجربة (سواء كان ذلك للحدس الذي نواجهه فيها، أو للتفكير). والمفاهيم التي تزوّدنا بالأساس الموضوعي لإمكانية التجربة ضرورية لهذا السبب وحسب» (A93–94/B126).

وإنّ الاستراتيجية التي يوظّفها كانْت للمحاججة بأنّ المقولات شروط للتجربة هي المصدر الرئيسي لغموض الاستنباط الترَنسندنتالي وعبقريته في الآن ذاته. وتتلخّص هذه الاستراتيجية في المحاججة بأنّ المقولات ضرورية بشكل خاصّ للوعي الذاتي، وهو الذي يرد لدى كانْت في كثير من الأحيان بالمصطلح الذي وضعه لايبنيتس، أي: “الإبصار” ( apperception).

4. 1. الوعي الذاتي

من الطرائق التي يمكن بها مقاربة حجّة كانْت: أن نقارن رؤيته حول الوعي الذاتي برؤيتين بديلتين يرفضهما؛ وكلّ من هذه الرؤى (رؤية كانْت والرؤيتان اللتان يرفضهما) يمكن النظر إليها على أنّها تقدّم أجوبة متنافسة على السؤال: ما هو مصدر إحساسنا بنفس مستمرّة ثابتة تصمد أمام كلّ التغيّرات في تجربتنا؟

الجواب الأوّل على هذا السؤال، والذي يرفضه كانْت، يرى بأنّ الوعي الذاتي ينشأ من محتوى بعينه عندما يوجد في كلّ من تمثّلات المرء. وهذا المفهوم المادّي للوعي الذاتي، كما يمكن أن ندعوه، يمكن أن نعزوه إلى تفسير جون لوك للهوية الذاتية، إذ يقول: «بما أنّ الوعي ذاته هو الذي يجعل المرء يكون نفسه في عين نفسه، فإنّ الهوية الشخصية تعتمد على هذا الأمر فقط، سواء كان ملحقًا بالجوهر الفرد وحسب، أو كان قادرًا على التتابع من خلال تتالي عدّة جواهر» (Essay 2.27.10). وما يدعوه لوك “الوعي ذاته” ربّما يُفهّم على أنّه محتوًى تمثّليٌ يوجد بشكل دائم في تجربة المرء وأنّهما كليهما يعرّفان أيّة تجربة على أنّها له وأنّها تعطيه إحساسًا بنفس مستمرّة بفضل وجوده المستمرّ في تجربته. ويعتقد كانْت بأنّ من المشاكل التي تعاني منها هذه الرؤية: أنّه ليس هنالك هذا المحتوى التمثّلي الموجود بشكل ثابت في التجربة، ولذلك فإنّ الإحساس بنفس مستمرّة لا يمكن أن ينشأ من محتوى غير موجود (ما يدعوه لوك بـ”الوعي”) يتوفّر في أيّ من تمثّلات المرء. ويعبّر كانْت عن ذلك بقوله: إنّ الوعي الذاتي «لا يتأتّى، مع ذلك، من قيامي بمصاحبة كلّ تمثّلٍ بوعيٍ، بل من إضافتي تمثّلًا لآخر ووعيي بهذا التأليف. وبناءً عليه، فإنّ تمكّني من ربط مجموعة متنوّعة من التمثّلات المعطاة في وعيٍ واحدٍ هو المسؤول وحده عن تمكيني من تمثّل هوية الوعي بهذه التمثّلات» (B133). وهنا يدّعي كانْت، بالضدّ من الرؤية اللوكية، بأنّ الوعي الذاتي ينشأ من ربط (أو تأليف) التمثّلات بعضها مع بعض دون النظر لمحتواها. وباختصار، إنّ لدى كانْت مفهومًا صوريًا للوعي الذاتي، وليس مفهومًا مادّيًا. وبما أنّ تجربة المرء ليس فيها أيّ محتوًى بعينه يقال عنه أنّه ثابت، فالوعي الذاتي لا بدّ أنّه يُشتقّ من امتلاك تجربة المرء لصورة أو بنية ثابتة، وإنّ وعي المرء بهويّة نفسه على امتداد كلّ تجاربه المتغيّرة لا بدّ أن يتكوّن من الوعي بالوحدة الصورية لتجربته ونظاميّتها المسيّرة بقانون. وإنّ الصورة المستمرّة لتجربة المرء هي أمر يلازم بالضرورة إحساسه بنفس مستمرّة.

وهنالك نسختان ممكنتان على الأقلّ للمفهوم الصوري للوعي الذاتي: نسخة واقعية، وأخرى مثالية. فوفقًا للرؤية الواقعية: تكون الطبيعة ذاتها محكومة بقانون ويصبح المرء ذا وعي ذاتي من خلال الاعتناء بانتظاماتها المحكومة بقانون، وهذا ما يجعل هذه الرؤية أيضًا بمثابة رؤية تجريبوية للوعي الذاتي. وبموجب هذه الرؤية: فإنّ الفكرة القائلة بذات مطابقة تصمد أمام تجربة المرء بأكملها إنّما تنشأ من انتظامٍ للطبيعة محكومٍ بقانون، وإنّ تمثّلات المرء تبدي اتّساقًا وانتظامًا لأنّ الواقع نفسه متّسق ومنتظم. ويرفض كانْت هذه الرؤية الواقعية ويعتنق مفهوم الوعي الذاتي الذي يتّصف بأنّه صوري ومثالي في الحين نفسه؛ إذ يرى كانْت بأنّ البنية الصورية لتجربة المرء، أي: وحدتها وانتظامها المحكوم بقانون، هو من إنجازات ملكاتنا الإدراكية وليست خاصّية للواقع بذاته. والتجربة لها صورة ثابتة لأنّ الذهن يشكّل بنية التجربة على نحو محكوم بقانون؛ ولذلك فإنّ الوعي الذاتي يتكوّن لدى كانْت من الوعي بما يقوم به الذهن من نشاطٍ محكومٍ بقانون في تأليف أو ربط البيانات الحسّية لتشكيل تجربة موحّدة. وبحسب تعبير كانْت: «إنّ وحدة الوعي تكون مستحيلة إذا لم يتمكّن الذهن، خلال إدراكه للمجموعة المتنوّعة، من أن يصبح على وعي بالهوية والوظيفة المستخدمتين في الربط التأليفي لهذه المجموعة المتنوّعة لتصير إدراكًا واحدًا» (A108).

ويطرح كانْت الحجج في تأييد هذا المفهوم الصوري المثالي للوعي الذاتي، وضدّ الرؤية الصورية الواقعية، بالاستناد إلى «أنّنا لا نستطيع تمثّل أيّ شيء باعتباره مرتبطًا بالموضوع إلّا بعد أن نكون قد أنتجنا نحن بأنفسنا هذا الربط» (B130). وبعبارة أخرى، حتّى إذا كان الواقع بنفسه محكومًا بقانون، فإنّ قوانينه لا يمكنها أن تهاجر، ببساطة، إلى الذهن أو تطبعه بطابعها بينما يقف الذهن منفعلًا بالكامل أمامها؛ فلا بدّ للمرء من ممارسة ملكة فاعلة لتمثّل العالم باعتباره مركّبًا أو منظّمًا على نحو محكوم بقانون، لأنّنا لن نتمكّن بخلاف ذلك من تمثّل العالم باعتباره محكومًا بقانون حتّى وإن كان كذلك حقًّا. وعلاوة عليه، إنّ هذه القدرة على تمثّل العالم باعتباره محكومًا بقانون يجب أن تكون قبلية لأنّها شرط للوعي الذاتي، ويجب على المرء أن يكون على وعي ذاتي أوّلًا كي يتعلّم من تجربته أنّ في العالم انتظامات محكومة بقانون. ولذلك فمن الضروري للوعي الذاتي أن يمارس المرء قدرة قبلية لتمثّل العالم باعتباره محكومًا بقانون، لكنّ هذا الأمر من شأنه أن يكفي أيضًا للوعي الذاتي إذا تمكّن المرء من ممارسة قدرته القبلية على تمثّل العالم باعتباره محكومًا بقانون حتّى إذا كان الواقع بنفسه غير محكوم بقانون؛ وفي هذه الحالة يبطل المفهوم الواقعي والتجريبوي للوعي الذاتي، وتصحّ الرؤية المثالية الصورية.

إنّ ثقة كانْت بأنّه ليس من الممكن لأيّ تفسير تجريبوي أن يفسّر الوعي الذاتي ربّما تستند إلى افتراضه بأنّ الإحساس بالنفس الذي يشعر به كلّ إنسان، أي: أن يفكّر المرء بنفسه على أنّها متطابقة على امتداد كلّ تجاربه المتغيّرة، يتضمّن عنصري الضرورة والشمول، وهما العلامتان المميّزتان للقبلية في رأيه. ويتّضح لنا هذا الافتراض ممّا يمكن أن ندعوه بمفهوم كانْت للإبصار (apperception): «(أنا أفكّر) يجب أن تكون قابلة لمرافقة كلّ تمثّلاتي؛ فبخلاف ذلك سيكون هنالك شيءٌ ما ممثّلًا فيَّ دون أن يكون قابلًا لأن يُفكَّر فيه على الإطلاق، وهذا يكافئ القول بأنّ التمثّل هو إمّا مستحيل، وإمّا لا يعني لي شيئًا على الأقلّ» (B131–132).[15] ويجدر لفت الانتباه هنا إلى ادّعاءي كانْت بعنصري الضرورة والشمول الموجودين ضمنيًا في كلمتي “يجب” و”كلّ” في القول السابق، إذ يقول كانْت بأنّ التمثّل إذا كان يُراد له أن يعتبر خاصًّا بالمرء فيجب بالضرورة أن يكون متاحًا للإدراك الواعي بطريقة ما (قد تكون غير مباشرة)، أي: يجب على المرء أن يكون قادرًا على مرافقته بعبارة “أنا أفكّر…”. إنّ كلّ التمثّلات لدى المرء يجب أن تكون متاحة للوعي بهذه الطريقة (لكن ليس من الواجب عليها أن تكون واعية في الحقيقة)، لأنّ هذا هو، ببساطة ومرّة أخرى، ما يجعل التمثّل يُعتبّر خاصًّا بالمرء. وبناءً عليه، فالوعي الذاتي عند كانْت يتضمّن معرفة قبلية بالحقيقية الضرورية الشاملة التي يُعبَّر عنها في مبدأ الإبصار هذا، والمعرفة القبلية لا يمكن أن تقوم على التجربة.

وربّما طوّر كانْت هذا الخطّ من حجّته حول الاستنباط الترَنسندنتالي بعد قراءته لكتابات يوهان نيكولاوس تيتينس (1736-1807) وليس من مواجهته المباشرة مع كتابات لوك (Tetens 1777, Kitcher 2011). وكان تيتينس يتّبع في مسألة (الوعي الذاتي) نهج لوك، وتعامل أيضًا مع حجج هيوم في رفض الذات المستمرّة. ولذلك فإنّ المعارضة الفعلية التي واجهها كانْت في مسألة الاستنباط ربّما جاءت من مواقف لوكية وهيومية كما قدّمها تيتينس، بالإضافة لرؤًى عقلانية ربّما واجهها كانْت بشكل مباشر في كتابات لايبنيتس وڤولف وبعض أتباعهما.

4. 2. الموضوعية والحكم عند كانت

بالاستناد إلى هذا المفهوم الصوري المثالي للوعي الذاتي، تنتقل حجّة كانْت (خطّ مركزي منها على الأقل) خلال شرطين إضافيين للوعي الذاتي من أجل إثبات الإنتاجية الموضوعية للمقولات. والشرط التالي هو أنّ الوعي الذاتي يتطلّب من المرء أن يمثّل عالمًا موضوعيًا متميّزًا عن تمثّلاته الذاتية، أي: متميّزًا عن أفكاره وإحساساته المتعلّقة بالعالم الموضوعي. ويستخدم كانْت هذه الصلة بين الوعي الذاتي والموضوعية لإدخال المقولات في حجّته.

ولكي يكون المرء على وعي ذاتي فلا يمكنه أن ينشغل كلّيًا بمحتويات إدراكاته الحسّية، بل يجب عليه أن يميّز ذاته عن بقيّة العالم؛ لكن إذا كان الوعي الذاتي من منجزات الذهن فكيف يمكن للذهن بعدها أن يحقّق الإحساس بأنّ هنالك تميّزًا بين الأنا التي تدرك حسّيًا وبين محتويات إدراكاتها الحسّية؟ يرى كانْت بأنّ الذهن يحقّق هذا المعنى من خلال تمييز التمثّلات التي تنتمي بالضرورة بعضها إلى بعض عن التمثّلات التي لا ترتبط بالضرورة بعضها ببعض بل هي تترافق وحسب على نحو الإمكان. ويمثّل كانْت لحجّته بالإدراك الحسّي لمنزلٍ ما (B162): فلنتخيّل منزلًا يبلغ من السعة حدًّا لا يمكن حصره بالمجال البصري لشخص يقف أمام بابه، ولنتخيّل بعدها أنّنا ندور حول المنزل، وندرك حسّيًا كلّ جانب من جوانبه على نحو تعاقبي؛ ففي نهاية المطاف يتمكّن المرء من الإدراك الحسّي للمنزل ككلّ، لكن دون أن يحدث ذلك في اللحظة نفسها، بل يحكم المرء بأنّ كلّ تمثّلات جوانب المنزل ينتمي بعضها إلى بعض بالضرورة (باعتبارها جوانب للمنزل نفسه) وأنّ من ينكر ذلك فهو مخطئ. لكن لنتخيّل بعدها أنّ المرء قد ترعرع في هذا المنزل ويرتبط معه بحسّ من الحنين للذكريات، فعندها لن يحكم بأنّ تمثّلات المنزل مرتبطة بالضرورة بمشاعر الحنين تلك؛ أي: لن يعتقد بأنّ غيره ممّن يرون المنزل للمرّة الأولى سيكونون مخطئين إن أنكروا ارتباطه بمشاعر الحنين تلك، بل سيدرك أنّ هذا المنزل مرتبط بمشاعر الحنين الخاصّة به دون أن ينسحب ذلك على الآخرين بالضرورة؛ وهو سيميّز، على الرغم من ذلك، هذه الصلة الذاتية المجرّدة عن الصلة الموضوعية بين جوانب المنزل، والتي جاءت موضوعيتها من أنّ جوانب المنزل ينتمي بعضها إلى بعض في “الموضوع” نفسه، وذلك لأنّ هذه الصلة تصدق عند الجميع بشكل شامل، ولأنّ من الممكن أن يكون المرء مخطئًا بشأنها. والمغزى هاهنا ليس أنّه يجب علينا ننجح في تحديد التمثّلات التي ينتمي بعضها إلى بعض بالضرورة وتحديد التمثّلات الأخرى التي تترافق بالإمكان وحسب، بل أن نكون على وعي ذاتي بأنّه يجب علينا على الأقلّ أن نرسم حدّ التمييز العام هذا بين الصلات الموضوعية للتمثّلات والصلات التي هي ذاتية فقط.

وعند هذه النقطة (في نصّ الطبعة الثانية على الأقل) يقدّم كانْت الادّعاء الرئيسي بأنّ الحكم هو من يمكّن المرء من تمييز الصلات الموضوعية للتمثّلات التي تنتمي بالضرورة بعضها إلى بعض عن الترابطات التي هي ذاتية وممكنة فحسب، فيقول: «إنّ الحكم ليس سوى طريقة إحضار الإدراكات المعطاة للوحدة الموضوعية للإبصار. وهو الهدف من الرابط (يكون) بينها: تمييز الوحدة الموضوعية للتمثّلات المعطاة عن الوحدة الذاتية؛ وذلك لأنّ هذه الكلمة تعيّن علاقة التمثّلات بالإبصار الأصلي ووحدته الضرورية» (B141–142). إنّ كانْت يتحدّث هنا حول الفعل الذهني للحكم الذي ينتج عن تشكيل حكم ما. والحكم هو فعلُ ما يدعوه كانْت بالتأليف، والذي يعرّفه بأنّه «فعلُ وضع التمثّلات المختلفة سويّة بعضها مع بعض واستيعاب تنوّعها ضمن إدراك واحد» (A77/B103). وبعبارة أخرى، إنّ التأليف بشكل عام هو ربط عدّة تمثّلات في تمثّل واحد (أكثر) تعقيدًا، والحكم هو تحديدًا: ربط المفاهيم بحكم، أي: وصل الموضوع بالمحمول بواسطة كلمة رابطة، كما هو الحال في قولك “الجسم (يكون) ثقيلًا” أو “المنزل (يكون) رباعي الجوانب”. ولا يتوجّب على الأحكام أن تكون صادقة، بالطبع، لكنّها تحتوي دائمًا على قيمة للصدق (صادقة أو كاذبة) لأنّها تدّعي الإنتاجية الموضوعية. وعندما يقول المرء، في مقابل ذلك: “إذا حملت الجسد فسأشعر بضغط وزنه”، أو “إذا رأيت هذا المنزل فسأشعر الحنين”، فإنّه لا يصدر حكمًا حول الموضوع (الجسد أو المنزل) بل هو يعبّر عن ترابط ذاتي قد لا ينطبق إلّا عليه (B142).[16]

إنّ إشارة كانْت إلى الوحدة الضرورية للإبصار أو الوعي الذاتي في الاقتباس السابق يعني (على الأقلّ) بأنّ فعل الحكم هو الطريقة التي ينجز بها الذهن الوعي الذاتي. إذ يجب على المرء أن يمثّل عالمًا موضوعيًا كي يميّز نفسه عنه، وهو يمثّل العالم الموضوعي من خلال إصدار حكم بأنّ بعض التمثّلات ينتمي بعضها إلى بعض بالضرورة. وعلاوة عليه، لقد ورد في القسم (4. 1) أنّ كانْت يرى بأنّه لا بدّ للمرء من امتلاك قدرة قبلية على تمثّل العالم باعتباره محكومًا بقانون، انطلاقًا من «أنّنا لا نستطيع تمثّل أيّ شيء باعتباره مرتبطًا [أو متّصلًا] بالموضوع إلّا بعد أن نكون قد أنتجنا نحن بأنفسنا هذا الربط» (B130). ويلي ذلك أنّ الصلات الموضوعية في العالم لا يمكنها أن تطبع نفسها، ببساطة، في ذهن المرء، بل إنّ التجربة بعالم موضوعي يجب إنشاؤها بممارسة قدرة قبلية على الحكم، وهي ما يدعوه كانْت بـ(ملكة الفهم) (A80–81/B106). والفهم ينشئ التجربة بتوفير القواعد القبلية، أو إطار عمل القوانين الضرورية، ثمّ يقوم المرء بالحكم على التمثّلات بأنّها موضوعية على نحو يتوافق مع تلك القواعد. وتلك القواعد هي المفاهيم المحضة للفهم، أو المقولات، ولذلك فهي شروط للوعي الذاتي، انطلاقًا من أنّها قواعد للحكم على عالم موضوعي، والوعي الذاتي يتطلّب تمييز المرء لنفسه عن العالم الموضوعي.

ويحدّد كانْت المقولات في ما يدعوه (الاستنباط الميتافيزيقي)، والذي يسبق الاستنباط الترَنسندنتالي.[17] وبما أنّ المقولات هي قواعد قبلية للحكم، فإنّ كانْت يحاجج، وبإيجاز شديد، بأنّ جدولًا مقولاتيًا جامعًا يمكن اشتقاقه من جدول للصور المنطقية الرئيسية للأحكام؛ وعلى سبيل المثال: يرى كانْت بأنّ الصورة المنطقية للحكم (الجسد ثقيل) تتّصف بأنها مفرَدة، وتوكيدية، ومطلقة، وإخبارية؛ لكن بما أنّ المقولات ليست مجرّد وظائف منطقية، بل قواعد لإصدار الأحكام حول الموضوعات أو حول عالم موضوعي، فإنّ كانْت يتوصّل لجدوله المقولاتي بأن يأخذ بالحسبان كيف تقوم كلّ وظيفة منطقية بإنشاء أحكام حول الموضوعات (ضمن الصور الحدسية الزمكانية عند المرء). وعلى سبيل المثال: يدّعي كانْت بأنّ الأحكام المقولاتية تعبّر عن علاقة منطقية بين الموضوع والمحمول تتوافق مع العلاقة الأنطولوجية بين الجوهر والعرَض؛ وأنّ الصورة المنطقية للحكم الافتراضي تعبّر عن علاقة تتوافق مع العلّة والتأثير. وإذا أضفنا إلى هذه المحاججة الاستنباط الترَنسندنتالي فإنّه سيحاجج حينها بأنّ المرء يصبح على وعي ذاتي عند تمثّله لعالم موضوعي يتكوّن من جواهر تتفاعل وفقًا لقوانين العلّية.

4. 3. مزوّد الطبيعة بالقانون

يضيف كانْت شرطًا أخيرًا إلى الشروط السابقة، وهو شرط الوعي الذاتي الذي ينصّ على أنّ فهم المرء يجب أن يتعاون مع قابلية الإحساس لإنشاء بنية زمكانية واحدة موحّدة غير محدودة تتعلّق بها تجاربه كلّها.

وإذا أردنا أن نعلم السبب الذي يقتضي هذا الشرط الأخير فيجب أن نأخذ بالحسبان أنّنا قد رأينا، حتّى هذا الموضع، لماذا يعتقد كانْت بأنّه يجب على المرء أن يمثّل عالمًا موضوعيًا كي يكون ذا وعي ذاتي، لكنّ المرء يستطيع أن يمثّل عالمًا موضوعيًا حتّى وإن لم يكن من الممكن أن تتعلّق كلّ تمثّلاته بهذا العالم الموضوعي. وإذا نظرنا إلى كلّ ما قد قيل حتّى هذا الموضع، فسنجد بأنّ المرء قد يكون لديه مع ذلك تمثّلات جامحة لا يمكن أن تتعلّق على الإطلاق بأيّ إطار عمل موضوعي لتجربته. ويرى كانْت بأنّ هذا الأمر قد يشكّل مشكلة لأنّه يعتقد، كما رأينا، بأنّ الإبصار يتضمّن عنصري الشمول والضرورة، فبحسب (مبدأ الإدراك الواعي) لديه: «(أنا أفكّر) يجب أن تكون قابلة لمرافقة كلّ تمثّلاتي» (B131). ومع ذلك، فإذا كان لدى المرء، من جهة، تمثّلات لا يمكن أن يجد لها علاقة ما بعالم موضوعي فعندها لا يمكنه أن يجعل هذه التمثّلات ترافق (أنا أفكّر) أو تمييزها باعتبارها تمثّلاته الخاصّة به، لأنّه لا يستطيع أن يقول (أنا أفكّر) حول أيّ تمثّل معطى إلّا بإيجاد علاقة له بعالم موضوعي، وذلك وفقًا للحجّة التي ناقشناها للتوّ؛ وبناءً عليه، يجب على المرء أن يكون قادرًا على إيجاد علاقة لأيّ تمثّل إذا أراد له أن يُعتبَر خاصًّا به. ومن جهة أخرى، إنّ الوعي الذاتي سيكون أيضًا من المستحيلات إذا قام المرء بتمثّل عوالم موضوعية متعدّدة، حتّى وإن كان قادرًا على إيجاد علاقة لكلّ تمثّلاته بعالم موضوعي ما، وفي هذه الحالة لا يمكنه أن يكون واعيًا بنفس متطابقة تمتلك، مثلًا، التمثّل (1) في البنية الزمكانية (أ) والتمثّل (2) في البنية الزمكانية (ب). وقد يكون من الممكن تخيّل أمكنة وأزمنة منفصلة، لكن ليس من الممكن تمثّلها باعتبارها حقيقية على نحو موضوعي؛ ولهذا فإنّ الوعي الذاتي يشترط على المرء أن يستطيع إيجاد علاقة لكلّ تمثّلاته بعالم موضوعي واحد.

ويرى كانْت في (الجماليات الترَنسندنتالية) بأنّ السبب الذي يوجب على المرء أن يمثّل هذا العالم الموضوعي الواحد بواسطة زمكان موحّد وغير محدود، هو أنّ المكان والزمان هما الصورتان المحضتان للحدس البشري؛ ولو كان للإنسان صور مغايرة للحدس فإنّ تجربته لتظلّ يتوجّب عليها أن تشكّل كلًّا موحَّدًا من أجل أن يكون المرء ذا وعي ذاتي، لكنّ هذا الكلّ لن يكون حينها زمكانيًا. لكنّنا إذا أخذنا بالحسبان أنّ المكان والزمان هما صورتا الحدس لدى المرء، فإنّ فهمه يجب أن لا يتوقّف عن التعاون مع قابلية الإحساس عندنا لإنشاء كلٍّ زمكاني للتجربة، والسبب، نكرّره هنا أيضًا، هو «أنّنا لا نستطيع تمثّل أيّ شيء باعتباره مرتبطًا بالموضوع إلّا بعد أن نكون قد أنتجنا نحن بأنفسنا هذا الربط» و«كلّ ربط … هو فعل الفهم» (B130). ولهذا السبب يميّز كانْت بين المكان والزمان باعتبارهما صورتين محضتين للحدس، واللذين ينتميان في جوهرهما لقابلية الإحساس، وبين الأحداس الصورية للمكان والزمان (أو الزمكان)، واللذين يوحّدهما الفهم (B160–161). وهذه الأحداس الصورية هي كلٌّ زمكاني يقوم فهم المرء ضمنه بإنشاء التجربة وفقًا للمقولات.[18]

إنّ المعنى الضمني الأهمّ في ادّعاء كانْت بأنّ (الفهم ينشئ كلًّا واحدًا للتجربة يمكن أن تكون لجميع تمثّلات المرء علاقة به) هو: بما أنّه يعرّف الطبيعة «باعتبارها المادّي» كـ«الحصيلة الإجمالية لكلّ المظاهر»، وبما أنّه حاجج بأنّ المقولات منتجة موضوعيًا لجميع المظاهر الممكنة، فتستلزم هذه الرؤية أن تكون المقولات مصدر كلّ القوانين الأساسية للطبيعة «باعتبارها المادّي» (B163, 165). ولذلك خلص كانْت، على هذا الأساس، إلى أنّ الفهم هو الجهة الحقيقية التي تمنح القانون للطبيعة، فقال: «كلّ مظاهر الطبيعة تندرج ضمن المقولات في ما يتعلّق بربطها، والتي تعتمد عليها الطبيعة (إذا أخذنا الطبيعة بمعناها العامّ وحسب)، باعتبارها الأساس الأصلي لمشروعيتها الضرورية (بالنظر إلى الطبيعة صوريًا)» (B165). أو بعبارة أقوى: «إنّنا نقوم بأنفسنا بإحضار النسق والانتظام الذي ندعوه الطبيعة إلى المظاهر، وبالإضافة لذلك لن نستطيع العثور عليها هناك إذا لم نكن نحن، أو طبيعة ذهننا، قد وضعناها هناك في الأصل. … فالفهم إذن ليس مجرّد ملكة لصياغة القوانين عبر المقارنة بين الظاهرات، بل هو نفسه ما يشرّع الطبيعة، أي: من دون الفهم لن تكون ثمّة طبيعة على الإطلاق» (A125–126).

5. الأخلاق والحرية عند كانت

بعد أن ناقشنا قسمين رئيسيين من مشروع كانْت اليقيني في الفلسفة النظرية ضمن كتابه (نقد العقل المحض)، والمثالية الترَنسندنتالية، والاستنباط الترَنسندنتالي، لننتقل الآن إلى فلسفته العملية الواردة في كتابه (نقد العقل العملي). وبما أنّ فلسفة كانْت تتّصف بالمنهجية العميقة، فإنّ هذا القسم يبدأ بنظرة تمهيدية على كيفية التلاؤم بين النظري والعملي في فلسفته (راجع القسم السابع من هذا المدخل أيضًا).

5. 1. الاستقلال الذاتي نظريًا وعمليًا

إنّ الفكرة الجوهرية في فلسفة كانت هي الاستقلال الذاتي للإنسان؛ ولقد رأينا ذلك في ما سبق عندما تناولنا رؤية كانْت البنائية للتجربة، وبموجبها يكون فهم المرء مصدرًا للقوانين العامّة للطبيعة. و(الاستقلال الذاتي) يعني حرفيًا أن يكون المرء مصدرًا للقوانين التي تحكمه؛ ويعني في رؤية كانْت: أنّ فهم المرء يقدّم القوانين التي تشكّل الإطار القبلي لتجربته. وفهم المرء لا يقدّم المادّة أو المحتوى لتجربته، لكنّه يقدّم البنية الصورية الأساسية التي يجرّب من خلالها أيّة مادّة يستلمها عبر الحواسّ. والحجّة المركزية ضمن رؤية كانْت هذه هي الاستنباط الترَنسندنتالي، وبموجبه يشترط الوعي الذاتي أن ينشئ فهم المرء تجربته على هذا النحو؛ ولذلك يمكننا أن ندعو الوعي الذاتي بأنّه المبدأ الأعلى في فلسفة كانْت النظرية، لأنّه (على الأقلّ) يشكّل أساس كلّ المعرفة القبلية للمرء حول بنية الطبيعة.

وتستند فلسفة كانْت الأخلاقية أيضًا إلى فكرة الاستقلال الذاتي؛ إذ يعتقد بأنّ ثمّة مبدأً جوهريًا واحدًا للأخلاق، وهذا المبدأ تتأسّس عليه كلّ الواجبات الأخلاقية المحدّدة. وهو يدعو هذا القانون الأخلاقي (كما يتبدّى لنا) بالأمر المطلق (راجع الفقرة [5. 4]). إذ يرى كانْت بأنّ القانون الأخلاقي من منتجات العقل، أمّا القوانين الأساسية للطبيعة فهي منتجات لفهم الإنسان. وهنالك اختلافات مهمّة بين معاني الاستقلال الذاتي التي نتمتّع به المرء في إنشاء تجربته وفي الأخلاق؛ وعلى سبيل المثال: إنّ كانْت يعتبر الفهم والعقل ملكتين إدراكيتين مختلفتين، على الرغم من أنّه يستخدم “العقل” أحيانًا بمعنى واسع ليشملهما كليهما؛[19] وبناءً عليه، تكون المقولات، وبالتالي: قوانين الطبيعة، معتمدة على صورنا المحدّدة بشريًا للحدس، بينما لا يكون العقل كذلك. والقانون الأخلاقي لا يعتمد على أيّ كيفيات خاصّة بالطبيعة البشرية، بل على طبيعة العقل كما هو وحسب، على الرغم من أنّ تمظهراته لنا كأمر مطلق (باعتباره قانونًا للواجب) تعكس الحقيقة القائلة بأنّ الإرادة البشرية لا تتحدّد بالضرورة على يد العقل المحض بل هي تتأثّر أيضًا بحوافز أخرى متجذّرة في حاجات المرء وميوله؛ وإنّ واجباته المحدّدة المشتقّة من الأمر المطلق تعكس حقًّا الطبيعة البشرية وإمكانيّات الحياة البشرية. لكنّ كانْت يعتقد، على الرغم من هذه الاختلافات، بأنّ المرء يزوّد نفسه بالقانون الأخلاقي على النحو الذي يزوّد به نفسه بالقوانين العامّة للطبيعة، ولكن بشكل مختلف. وعلاوة عليه، إنّ كلّ إنسان يعطي بالضرورة القانون الأخلاقي ذاته لنفسه، تمامًا كما ينشئ كلّ إنسان تجربته وفقًا للمقولات نفسها. والخلاصة:

  • إنّ الفلسفة النظرية تتعلّق بما يكون عليه العالم (A633/B661). ومبدؤها الأعلى هو الوعي الذاتي الذي تتأسّس عليه معرفة المرء بالقوانين الأساسية للطبيعة؛ إذ يقوم فهم المرء بإنشاء التجربة وفقًا لهذه القوانين القبلية باستخدام ما يتلقّاه من بيانات حسّية.
  • الفلسفة العملية تتعلّق بما ينبغي أن يكون عليه العالم (المصدر السابق، A800–801/B828–829). ومبدؤها الأعلى هو القانون الأخلاقي الذي يشتقّ منه المرء الواجبات التي تحكم الكيفية التي ينبغي أن يتصرّف بها في أوضاع محدّدة. ويدّعي كانْت أيضًا بأنّ تأمّل المرء في واجباته الأخلاقية وحاجته للسعادة يقود إلى فكرة العالم المثالي، وهو ما يدعوه كانْت بالخير الأسمى (راجع القسم السادس من هذا المدخل). وإذا أخذنا بالحسبان الكيفية التي يكون عليها العالم (الفلسفة النظرية) والكيفية التي ينبغي أن تكون عليها (الفلسفة العملية) فإنّ الإنسان يهدف إلى جعل العالم أفضل بواسطة إنشاء أو تحقيق الخير الأسمى.

وبناءً عليه، فإنّ قسمي فلسفة كانْت كليهما يتعلّقان بإنشاء عالم ما بشكل مستقلّ ذاتيًا، ولكن بطريقتين مختلفتين؛ ففي الفلسفة النظرية يستخدم المرء مقولاته وصور الحدس لديه في إنشاء عالم من التجربة أو الطبيعة، وفي الفلسفة العملية يستخدم المرء القانون الأخلاقي لإنشاء فكرة عالم أخلاقي أو مجالٍ من الغايات يوجّه سلوكه (4:433)، ليقوم في نهاية المطاف بتحويل العالم الطبيعي إلى الخير الأسمى. وفي الختام، إنّ المثالية الترَنسندنتالية هي الإطار الذي يتلاءم ضمنه قسما الفلسفة الكانْتية هذان (20:311)؛ فالفلسفة النظرية تتعامل مع المظاهر، وهي التي تنحصر بها تمامًا معرفة المرء، أمّا الفلسفة العملية فتتعامل مع الأشياء في ذاتها، على الرغم من أنّها لا تعطي المرء معرفة حول الأشياء في ذاتها بل تكتفي بتقديم الأساس العقلاني لمعتقدات بعينها حول هذه الأشياء من أجل غايات عملية.

ولفهم حجج كانت القائلة بأنّ الفلسفة العملية تسوّغ معتقدات بعينها حول الأشياء بذاتها، من الضروري أن ننظر إليها ضمن سياق نقده للميتافيزيقا العقلانية الألمانية؛ فالموضوعات الثلاثة التقليدية للميتافيزيقا الخاصّة اللايبنيتسية-الڤولفية هي: علم النفس العقلاني، وعلم الكون العقلاني، واللاهوت العقلاني؛ وقد تعاملت هذه الموضوعات مع النفس البشرية، والكلّ العالمي، والإله (بالترتيب). وفي القسم المعنون (الجدل الترَنسندنتالي) من كتابه (نقد العقل المحض) يحاجج كانْت ضدّ الرؤية اللايبنيتسية-الڤولفية القائلة بأنّ الكائن البشري قادر على المعرفة القبلية في كلّ مجال من تلك المجالات، وهو يدّعي بأنّ أخطاء الميتافيزيقا اللايبنيتسية-الڤولفية تعود لوهم ينشأ من طبيعة العقل البشري نفسها؛ إذ يرى كانْت بأنّ العقل البشري ينتج بالضرورة أفكارًا حول النفس والكلّ العالمي والإله، وأنّ هذه الأفكار لا مناص لها من إنتاج وهم لدى المرء مفاده أنّه يمتلك معرفة قبلية حول الموضوعات الترَنسندنتالية المتوافقة مع تلك الأفكار؛ لكنّ هذا وهم، والسبب هو عجز المرء في الحقيقة عن المعرفة القبلية بشأن أيّ من هذه الموضوعات الترَنسندنتالية؛ ومع ذلك يحاول كانْت أن يثبت أنّ هذه الأفكار الوهمية لها استخدام إيجابي عملي، إذ يرى بأنّ أفكار المرء عن (النفس، والعالم الكلّي، والإله) تزوّده بمحتوى المعتقدات المسوّغة أخلاقيًا حول (خلود الإنسان، وحريّته، ووجود الإله؛ بالترتيب)، لكنّها ليست موضوعات ملائمة للمعرفة التأمّلية.[20]

5. 2. الحرّية

إنّ المعتقد الأهمّ حول الأشياء بذاتها، من بين ما يرى كانت بأنّ الفلسفة العملية وحدها يمكنها تسويغه، هو المعتقد المتعلّق بالحرّية البشرية؛ فالحرّية مهمّة في نظر كانْت لأنّ التقييم الأخلاقي يفترض مسبقًا أنّ الإنسان حرّ بمعنى أنّه يمتلك القدرة على فعل العكس. ولمعرفة السبب يجب علينا أن نتأمّل المثال الذي يقدّمه كانْت حول رجل يرتكب جرم السرقة (5:95ff.)؛ إذ يعتقد كانْت بأنّه لكي يكون فعل هذا الرجل خاطئًا من الناحية الأخلاقية فلا بدّ أن يكون ضمن نطاق قدرته على السيطرة وقتها، بمعنى أنّه كان قادرًا وقتها على عدم ارتكاب السرقة؛ أمّا إذا لم يكن هذا الأمر ضمن نطاق سيطرته وقتها، فعلى الرغم من أنّه قد يكون من النافع معاقبته من أجل توجيه سلوكه أو التأثير على الآخرين، فإنّه من مجافاة الصواب وصْفُ ما فَعَلَهُ بأنّه خاطئ أخلاقيًا على الرغم من ذلك؛ فالصواب والخطأ الأخلاقي لا ينطبق إلّا على الفاعل الحرّ الذي يسيطر على أفعاله ويمتلك القدرة، في وقت الفعل، على القيام بفعلٍ صائب أو خاطئ. ويرى كانْت بأنّ هذا أمر يقضي به الفهم المشترك بكلّ بساطة.

وعلى هذا الأساس يرفض كانْت نوعًا من التوافقية يدعوه “مفهوم الحرّية المقارن” ويعزوه للايبنيتس (5:96–97) (لاحظ أنّ كانْت لديه نوع محدّد من التوافقية حسب ما يراه، وسأشير له بـ”التوافقية” ببساطة، على الرغم من أنّه قد تكون هنالك أنواع أخرى من التوافقية التي لا تلائم الخصائص التي يعيّنها كانْت لرؤيته في التوافقية). وبموجب الرؤية التوافقية، كما يفهمها كانْت، يكون المرء حرًّا متى ما كان سبب أفعاله يقع داخله؛ وبناءً عليه، فلا يكون مفتقرًا للحرّية إلّا عندما يدفعه أو يحرّكه شيء خارجي، لكنّه حرّ متى ما كان السبب الأقرب لحركات جسده داخليًا بالنسبة له باعتباره “كائنًا فاعلًا” (5:96). وإذا ميّزنا بين الاختلاجات اللاإرادية وبين الحركات الإرادية للجسد، فعندها تكون الأفعال الحرّة، وفقًا لهذه الرؤية، مجرّد حركات جسدية إرادية. ويسخر كانْت من هذه الرؤية باعتبارها “خدعة تعيسة” تحاول حلّ مشكلة فلسفية قديمة “بقليل من المراوغة بالكلمات” (المصدر السابق). وهو يقول بأن هذه الرؤية تماثل بين الحرّية البشرية وبين “حرّية كلب الشواء” [كلب الشواء: نوع منقرض من أنواع الكلاب كان يُستخدَم لتدوير سيخ الشواء عبر الجري المستمرّ في قفص يحتوي على آلية لنقل حركته.(المترجم)]، أو القذيفة وهي منطلقة، أو حركة عقارب الساعة (5:96–97)؛ فالأسباب الأقرب لهذه الحركات داخلية بالنسبة للكلب والقذيفة والساعة في وقت الحركة، وهذا لا يمكن أن يكون كافيًا للمسؤولية الأخلاقية.

لكن لماذا؟ يرى كانْت بأنّ السبب يكمن، في نهاية المطاف، في أنّ أسباب هذه الحركات تحدث في وقت الفعل. ولنعد هنا لمثال (السرقة)، إذ قد يقول من يناصر (التوافقية) أنّ فعل السارق يتّصف بالحرّية لأنّ سببه الأقرب يقع داخله، ولأنّ السرقة ليست اختلاجًا بل فعلًا إراديًا؛ إذ قرّر السارق ارتكاب السرقة، وصدر فعله عن هذا القرار؛ لكنّ كانْت يرى بأنّه إذا كان قرار السارق ظاهرة طبيعية تحدث في وقتها، فلا بدّ أن يكون أثرًا ناتجًا عن سبب حدث في وقت سابق. وهذا جزء جوهري من الرؤية الشاملة النيوتنية التي يعتقد بها كانْت، وهي تقوم على قوانين قبلية (خصوصًا: مقولة العلّة والمعلول)، وبموجبها يقوم فهم المرء بإنشاء التجربة: فلكلّ حدث علّة (سبب) يبدأ في وقت سابق. وإذا كان هذا السبب أيضًا هو حدث وقع في وقته، فلا بدّ أن يكون له أيضًا سبب بدأ في وقت أسبق، وهكذا دواليك. وكلّ الأحداث الطبيعية تحدث في وقتها وهي تتحدّد بالكامل على يد سلاسل سببية تعود إلى ماضٍ سحيق؛ ولذلك فليس ثمّة مجال للحرّية في الطبيعة، فالطبيعة حتمية إلى حدّ بعيد.

إنّ جذر المشكلة يكمن، لدى كانْت، في الوقت. وبالعودة إلى ما أسلفناه، فإنّ خيار السارق بارتكاب السرقة إذا كان حدثًا طبيعيًا في وقته فهو ينتمي إلى سلسلة علّة ومعلول (سبب وأثر) تمتدّ إلى ماضٍ بعيد، لكنّ الماضي أصبح خارج سيطرته في الوقت الحاضر، وما إن يصير الماضي ماضيًا حتّى لا يعود قادرًا على تغييره؛ ويرى كانْت بأنّ هذا هو الذي يجعل أفعال السارق خارجة عن سيطرته في الوقت الحاضر ما دامت أحداث الماضي هي من يحدّدها، فحتّى إذا كان قادرًا على التحكّم بأحداث الماضي في الماضي فلا يمكنه التحكّم بها الآن، لكنّ الحقيقة تقول بأنّ أحداث الماضي لم تكن في نطاق سيطرته أيضًا ما دامت هي الأخرى تحدّدها أحداث جرت في ماضٍ أبعد، ففي نهاية المطاف ستمتدّ السوابق السببية لأفعاله إلى ما قبل مولده، ولا شكّ في أنّ ما جرى ما قبل مولده من أحداث لم يكن في نطاق سيطرته قطّ. وبناءً عليه، إذا كان خيار السارق بارتكاب السرقة حدثًا طبيعيًا في وقته، فهو ليس ضمن نطاق سيطرته، لا في الوقت الحاضر ولا في أيّ وقت آخر، ولم يكن له أن يفعل سوى أن يسرق؛ وفي هذه الحالة سيكون من الخطأ تحميله المسؤولية الأخلاقية عن هذا الفعل.

إذن، فالتوافقية، كما يفهمها كانْت، تضع المسألة في الموضع الخطأ؛ فحتّى إذا كان سبب الفعل الذي يقوم به المرء داخليًا بالنسبة له، فما دام يقع في الماضي فهو خارج إطار سيطرته في الوقت الحاضر (على سبيل المثال: إذا كان ما يقوم به اليوم يحدّده قرار اتّخذه أمس، أو شخصية طوّرها في طفولته). والمسألة الحقيقية ليست ما إذا كان سبب الفعل داخليًا أو خارجيًا بالنسبة له، بل ما إذا كان قادرًا على التحكّم به الآن؛ لكنّ كانْت يرى بأنّ سبب الفعل لا يمكن أن يكون ضمن نطاق سيطرته الآن إلّا إذا لم يكن في وقته؛ وهذا هو ما يدعو كانْت إلى الاعتقاد بأنّ المثالية الترَنسندنتالية هي الطريق الوحيد لمعرفة نوع الحرّية الذي تقتضيه الأخلاق. والمثالية الترَنسندنتالية تسمح لسبب الفعل بأن يكون شيئًا في ذاته خارج إطار الوقت، أي: الذات النومينونية، وهي حرّة لأنّها ليست جزءًا من الطبيعة. فمهما يكن نمط الشخصية التي طوّرها المرء، أو الآثار الخارجية التي تؤثّر عليه، يرى كانْت بأنّ كلّ أفعاله القصدية الإرادية هي آثار فورية لذاته النومينونية، وهي لا تتحدّد بالعلّية (السببية) (5:97–98)؛ فالذات النومينونية هي سببٌ لا سبب له يقع خارج إطار الزمان، وبالتالي فهي ليست معرّضة للقوانين الطبيعية الحتمية التي يشكّل فهم المرء تجربته بموجبها.

وفي هذه الصورة التي رسمها كانْت يبرز العديد من الألغاز التي لم يقدّم لها حلولًا؛ فعلى سبيل المثال: إذا كان فهم المرء ينشئ كل المظاهر في تجربته للطبيعة، دون الاقتصار على مظاهر أفعاله الخاصّة به وحسب، فلماذا يتحمّل عندها المسؤولية عن أفعاله الخاصّة به وحسب دون أن تشمل كلّ ما يحدث في العالم الطبيعي؟ بل يضاف إلى ذلك: إذا لم يكن المرء وحيدًا في العالم، وكانت هنالك الكثير من الذوات النومينونية الأخرى التي تتصرّف بحرّية وتتعاون في أفعالها الحرّة على تشكيل تجربة، فكيف يحدث التفاعل بين الفاعلين المتعدّدين المتمتّعين بالحرّية على نحو ترَنسندنتالي؟ وكيف يمكن لزيد أن يدمج أفعال عمرو الحرّة في التجربة التي ينشئها فهمه؟[21] وعلى الرغم من هذه الألغاز غير المحلولة، يعتقد كانْت بأنّه لا يمكن للمرء أن يفهم كنه التقييم الأخلاقي والمسؤولية الأخلاقية سوى عن طريق التفكير حول حرّية الإنسان بهذه الطريقة، وذلك لأنّه السبيل الوحيد لمنع الضرورة الطبيعية من تقويضهما كليهما.

وأخيرًا، إذا كان كانْت يلجأ إلى المثالية الترَنسندنتالية لفهم كنه الحرّية، فإنّ تفسير تفكيره حول الحرّية يعود بنا إلى النزاعات بين تفسيري (الموضوعين) و(الجانبين) في المثالية الترَنسندنتالية. ويبدو للوهلة الأولى أنّ تفسير (الموضوعين) أفضل لفهم كنه رؤية كانْت حول الحرّية الترَنسندنتالية عند مقارنته بتفسير (الجانبين)؛ فإذا كانت الأخلاق تشترط أن يكون المرء حرًّا على نحو ترَنسندنتالي فسيبدو حينها أنّ ذاته الحقيقية، وليس جانبًا من ذاته، يجب أن يوجد خارج إطار الزمان وفقًا لحجّة كانْت، لكنّ تطبيق تفسير (الموضوعين) على الحرّية يثير مشكلات خاصّة به، لأنّه يتضمّن التمييز بين الذاتين الظاهراتية والنومينونية، وهذا ما لا يُثار في تفسير (الجانبين). وإذا كانت ذات المرء النومينونية وحدها الحرّة، وكانت الحرّية شرطًا للمسؤولية الأخلاقية، فحينها تكون ذاته الظاهراتية غير مسؤولة أخلاقيًا. لكن كيف تكون العلاقة بين الذاتين الظاهراتية والنومينونية؟ ولماذا يجري إيقاع العقوبة على الذات الظاهراتية؟ ليس من الواضح ما إذا كان اللجوء إلى نظرية كانْت للحرّية يمكنه أن يساعدنا على تسوية النزاعات حول التفسير المناسب للمثالية الترَنسندنتالية، أو ما الحدّ الكافي للجوء إلى هذه النظرية للوصول إلى هذه التسوية، وذلك لأنّ ثمّة أسئلة خطيرة تعتري تماسك نظرية كانْت في كلا التفسيرين.

5. 3. الحقيقة العقلية

هل يمكن للمرء أن يعلم بأنّه حرّ وفقًا لهذا المعنى الترَنسندنتالي؟ يقدّم كانْت إجابة ملتبسة؛ فمن جهة نجده يميّز بين المعرفة النظرية والاعتقاد المسوّغ أخلاقيًا (A820–831/B848–859)، إذ لا يمتلك المرء معرفة نظرية تفيد بأنّه حرّ أو تتجاوز حدود التجربة الممكنة، لكنّه يمتلك المسوّغات الأخلاقية للاعتقاد بأنّه حرّ وفقًا لهذا المعنى؛ ونجد كانْت من جهة أخرى يستخدم أيضًا عبارات أقوى من تلك في مناقشة الحرّية، ومن ذلك قوله على سبيل المثال: «الحرّية وحدها، من بين كلّ أفكار العقل التأمّلي، هي التي نعلم بإنّ إمكانيتها قبلية، وإن كنّا لا نستطيع التبصّر فيها، وذلك لأنّها شرط القانون الأخلاقي الذي نعرفه»، ويضيف كانْت لهذا النصّ حاشية يشرح فيها بأنّنا نعلم بأنّ الحرّية قبلية لأنّه «إن لم تكن ثمّة حرّية فلن نواجه القانون الأخلاقي في ذواتنا على الإطلاق»، وهو يرى بأنّ مواجهة كلّ إنسان للقانون الأخلاقي هي من القبليات (5:4). ولهذا السبب يدّعي كانْت بأنّ القانون الأخلاقي «يثبت» الحقيقة الموضوعية التي لا شكّ فيها للحرّية، «وإن كانت حقيقة عملية وحسب» (5:48–49). إذن، يريد كانْت أن يقول بأنّنا نمتلك فعلًا المعرفة بحقيقة الحرّية، لكنّها معرفة عملية لحقيقة عملية، أو إدراك «لغايات عملية وحسب»، وهو يعني بذلك تمييزها عن المعرفة النظرية القائمة على التجربة أو التأمّل في شروط التجربة (5:133)؛ وإنّ معرفتنا العملية بالحرّية تقوم على القانون الأخلاقي بدلًا من ذلك. والفرق بين تعبيري كانْت، الأقوى والأضعف، يبدو أنّه يكمن أساسًا في أنّ التعبير الأقوى يشدّد على أنّ اعتقادنا، أو معرفتنا العملية، حول الحرّية لا يتزعزع، وأنّه يقدّم بدوره الدعم للمعتقدات ذات الأساس الأخلاقي حول الإله وخلود النفس.

ويدعو كانْت إدراك المرء للقانون الأخلاقي، أي: وعيه بأنّ القانون الأخلاقي ملزم له أو بأنّ له سلطة عليه، بأنّه «حقيقة عقلية» (5:31–32, 42–43, 47, 55)؛ ولهذا فهو يرى بأنّ الحقيقة العقلية هي الأساس العملي لاعتقاد المرء، أو معرفته العملية، بأنّه حرّ. ويصرّ كانْت على أنّ هذا الوعي الأخلاقي «لا يُنكَر» و«قبلي» و«لا مفرّ منه» (5:32, 47, 55). ولكلّ إنسان ضمير، واستيعاب للأخلاق بالفهم المشترك، واقتناع راسخ بأنّه مسؤول من الناحية الأخلاقية؛ وقد يكون لدى المرء معتقدات مختلفة حول مصدر السلطة الأخلاقية (الإله، أو الأعراف الاجتماعية، أو العقل البشري)، وقد يصل إلى استنتاجات مختلفة حول ما تقتضيه الأخلاق في حالات معيّنة، وقد ينتهك حسّ الواجب لديه، لكنّ البشر جميعًا يمتلكون الضمير واعتقادًا لا يتزعزع بأنّ الأخلاق تسري عليهم. ويرى كانْت بأنّ هذا الاعتقاد لا يحتاج، ولا يمكن أن يحتاج، إلى تسويغ أو إلى «أن يُثبَت بأيّ استنباط» (5:47)، فتحمُّلُ الإنسان للمسؤولية الأخلاقية ليس سوى حقيقة جذرية حول البشر. لكنّ كانْت يضيف إلى ما سبق ادّعاءً معياريًا يرى فيه بأنّ من الحقائق أيضًا التي لا تحتاج، ولا يمكن أن تحتاج، إلى إثبات: أنّ الإنسان مسؤول أخلاقيًا، أي: أنّ للأخلاق سلطة على الإنسان. ويعتقد كانْت بأنّ الفلسفة يجب أن تشتغل في الدفاع عن هذا المعتقد الأخلاقي الذي يدعمه الفهم المشترك، وأنّنا عاجزون في جميع الحالات عن إثبات ذلك أو دحضه (4:459).

وقد يعتقد كانْت بأنّ الحقيقة العقلية، أو إدراك المرء بالالتزام الأخلاقي، يعني ضمنيًا بأنّ الإنسان حرّ على أساس (ينبغي تعني ضمنيًا: يستطيع)؛ وبعبارة أخرى: ربّما يعتقد كانْت بأنّه عندما ينبغي علينا (أخلاقيًا) أن نفعل شيئًا ما فهذا يستلزم أنّنا نستطيع فعله أو قادرون على فعله. وهذا ما يوحي به أحد نصوص كانْت، على سبيل المثال، حين يطلب من القارئ أن يتخيّل شخصًا يتعرّض للتهديد بالإعدام الفوري من أحد الأمراء ما لم «يشهد شهادة زور ضد رجل مستقيم يرغب الأمير بالقضاء عليه بحجج مفتعلة»، فيقول كانْت هنا: «ربّما لن يجسر على التأكيد بأنّه سيشهد شهادة الزور أو يمتنع عنها، لكن يجب عليه أن يعترف دون تردّد بأنّ من الممكن أن يقوم بذلك؛ وهو بهذا يحكم بأنّه قادر على فعل أمرٍ ما لأنّه يعي بأنّه ينبغي عليه فعله، ويلاحظ الحرّية التي بين جنبيه، الحرّية التي ما كان له أن يعلمها لولا القانون الأخلاقي» (5:30)؛ وهذا مثال افتراضي لفعل لم يجرِ بعد. وعلى أساس هذه المحاججة يبدو أنّ الشعور بالذنب حول لاأخلاقية الفعل الذي قام به المرء في الماضي من شأنه أن يعني ضمنيًا بناءً على هذا الاستدلال، وبشكل أكثر مباشرة، أنّ المرء يمتلك (أو امتلك، على الأقلّ) القدرة على التصرّف بعكس ما فعل، وبالتالي فهو حرّ بالمعنى الكانْتي.

5. 4. الأمر المطلق

يقدّم كانْت أيضًا في كتابيه (تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق) و(نقد العقل العملي) رؤية أكثر تفصيلًا للاستنتاج بأنّ الأخلاق والحرّية يعني أحدهما الآخر ضمنيًا بشكل متبادل، وتدعى هذه الرؤية أحيانًا بـ(دعوى التبادل) (Allison 1990). وبموجب هذه الرؤية: إنّ من يتصرّف على نحو أخلاقي يمارس الحرّية، والطريق الوحيد لممارسة الحرّية بشكل كامل هو التصرف على نحو أخلاقي. وتختلف حجج كانْت في دعم رؤيته هذه ضمن كتابيه السابقين، لكنّ البنية العامّة لحجّته في كتابه (نقد العقل العملي) ربّما يمكن تلخيصها كما يلي:

أوّلًا: الفكرة الرئيسية المتمثّلة بامتلاك إرادة للفعل في الأصل تستلزم الفعل وفقًا لمبدأ ما، أو ما يدعوه كانْت بالمسلّمة (maxim)، وهو قاعدة أو سياسة ذاتية للتصرّف، فهي تقول للمرء ما يقوم بفعله وأسباب هذا الفعل، ويطرح لها أمثلة بـ«عدم ترك الإهانات تمرّ دون عقاب» أو «زيادة المرء لثروته بكلّ الوسائل الآمنة» (5:19, 27). وقد لا نعي وجود المسلّمات، وقد لا نتصرّف وفقًا للمسلّمات نفسها بشكل منسجم، وربّما لا تنسجم مسلّماتنا بعضها مع بعض، لكنّ كانْت يعتقد بأنّه بما أنّنا كائنات عاقلة فإنّ أفعالنا ستسعى دائمًا لغاية أو هدف ما، وهو ما تعبّر عنه المسلّمات. وربّما يكون هدف الفعل أمرًا بسيطًا كتلبية رغبة ما، أو أمرًا أكثر تعقيدًا كأن يعمل المرء ليصير طبيبًا أو محاميًا؛ وفي كلتا الحالتين يرى كانْت بأنّ أسباب أفعال المرء ليست الرغبات أو الاندفاعات، فمن يلبّي رغبته يختار العمل وفقًا لمسلّمة تحدّد تلبية الرغبة هدفًا لفعله؛ وعلى سبيل المثال: إذا كنت أرغب ببعض القهوة، فربّما أتصرّف حينها وفقًا لمسلّمة توجّهني للذهاب إلى المقهى وشراء بعض القهوة من أجل تلبية هذه الرغبة.

ثانيًا: يميّز كانْت بين نوعين رئيسيين للمبادئ أو القواعد التي يمكننا التصرّف على أساسها، أي: ما يدعوه المبادئ المادّية والمبادئ الصورية. فعندما يتصرّف المرء لتلبية رغبة ما، كما هو الحال في المسلّمة التي تقتضي الذهاب للمقهى للحصول على القهوة، فهو يتصرّف بناءً على مبدأ مادّي (5:21ff.)؛ فهنا تقوم الرغبة (الحصول على القهوة) بتحديد الهدف، وهو ما يدعوه كانْت: موضوع الفعل أو مادّته، والمبدأ يقول للمرء كيف ينجز هذا الهدف (الذهاب إلى المقهى). ويرى كانْت بأنّ التماشي مع المبادئ المادّية هو ما يدعوه (الأوامر الافتراضية)، وهي المبادئ العقلانية التي تقول للمرء بأنّ عليه التصرّف على نحو محدّد إذا كان قد اختار تلبية رغبة ما. وإذا كانت المسلّمات هي، بشكل عامّ، قواعد تصف كيف يتصرّف المرء فعلًا، فإنّ الأوامر، بشكل عامّ، تقرّر كيف ينبغي عليه أن يتصرّف؛ ويكون الأمر افتراضيًا إذا لم يكن يقول للمرء كيف يتصرّف إلّا في حالة اختياره السعي خلف هدف يبتغي تلبية رغبة ما (5:20). ومن الأوامر الافتراضية مثلًا: إذا كنت تريد القهوة فاذهب إلى المقهى؛ وهذا الأمر الافتراضي لا ينطبق على المرء إلّا إذا كان يرغب بالقهوة واختار تلبية هذه الرغبة.

وفي مقابل المبادئ المادّية تصف المبادئ الصورية كيف يتصرّف المرء دون الرجوع إلى أيّة رغبة. وأسهل الطرائق لفهمها هو من خلال النوع الموافق لها من الأوامر، وهو ما يدعوه كانْت بـ(الأوامر المطلقة). والأمر المطلق يأمر المرء بأن يتصرّف على نحو معيّن دون شروط؛ وبناءً عليه، فبينما لا تنطبق الأوامر الافتراضية على المرء إلّا بشرط امتلاكه وتحديده لهدف تلبية الرغبات التي تملي عليه الأوامر الافتراضية كيفية تلبيتها، فإنّ الأوامر المطلقة تنطبق على المرء مهما كانت أهدافه ورغباته. ويعتبر كانْت القوانين الأخلاقية بمثابة أوامر مطلقة تنطبق على الجميع دون شروط؛ ومنها على سبيل المثال: أنّ المتطلّب الأخلاقي المتمثّل بمساعدة المحتاجين ينطبق على المرء دون أن يقتصر على حالة رغبته بمساعدة المحتاجين، وأنّ واجب الامتناع عن السرقة لا يتعطَّل إذا كان لدى المرء رغبة يمكن تلبيتها بالسرقة؛ فالقوانين الأخلاقية ليس لها مثل هذه الشروط، بل هي تنطبق دون شروط، وهذا هو ما يجعلها تنطبق على الجميع على النحو ذاته.

ثالثًا: ما دام المرء لا يتصرّف إلّا وفقًا لمبادئ مادّية أو أوامر افتراضية، فهو لا يتصرّف بحرّية، بل هو يتصرّف لا لشيء سوى تلبية ما له من رغبة أو رغبات، وهذه الرغبات لا تكون في نهاية المطاف ضمن نطاق سيطرته. ويمكن القول بأنّ المرء قادر، ضمن نطاق محدود، على تشكيل رغباته بشكل عقلاني، لكن ما دام يتصرّف من أجل تلبية الرغبات فهو يختار أن يدع الطبيعة تحكمه عوضًا أن يحكم هو نفسه (5:118). فالإنسان حرّ دائمًا بمعنى أنّه يمتلك القدرة دائمة على حكم نفسه بشكل عقلاني عوضًا عن أن يدع رغباته تضع له غايات حياته؛ لكنّه قد يفشل (بشكل حرّ) في ممارسة هذه القدرة. وعلاوة على ذلك، بما أنّ كانْت يعتقد بأنّ الرغبات لا تدفع المرء للتصرّف إطلاقًا، وأنّ المرء هو من يختار دائمًا تصرّفاته وفقًا لمسلّمةٍ ما حتّى وإن كانت هذه المسلّمة تجعل بالتحديد من تلبية رغبةٍ ما هدفًا للتصرّفات، فإنّ اعتقاد كانْت هذا يستلزم أيضًا أنّ المرء حرّ دائمًا بمعى أنّه حرّ باختيار مسلّماته. ومع ذلك، فإنّ تصرّفات المرء ليست حرّة بمعنى الاستقلال الذاتي إذا اختار التصرّف وفقًا للمبادئ المادّية وحسب، لأنّه في هذه الحالة لا يزوّد نفسه بقانون، بل هو يختار السماح لما للطبيعة فيه من عناصر (أي: رغباته) بتحديد القانون الذي يسيّر تصرّفاته.

وأخيرًا: إنّ السبيل الوحيد للتصرّف بحرّية (بالمعنى الكامل لممارسة الاستقلال الذاتي) هو أن يستند إلى المبادئ الصورية أو الأوامر المطلقة، وهو أيضًا التصرّف على نحو أخلاقي. ولا يعني كانْت بذلك أنّ التصرّف المستقلّ ذاتيًا يتطلّب عدم الاعتناء بالرغبات، وهو أمر قد يكون من المستحيلات (5:25, 61)، بل يعتقد بأنّ الإنسان يقوم نمطيًا بصياغة المسلّمات على نحو يدخل تلبية الرغبات في حساباته، لكن «ما إن نصوغ لأنفسنا مسلّمات الإرادة» حتّى نصبح واعين بالقانون الأخلاقي فورًا (5:29)، وهذا الوعي الفوري بالقانون الأخلاقي يأخذ الشكل التالي:

«على سبيل المثال: لقد جعلت من مسلّماتي أن أزيد من ثروتي بكلّ الطرائق الآمنة. وحدث أنّني أحوز مبلغًا من المال تركه أحدهم عندي أمانةً، وتوفّي دون أن يترك وثيقة تثبت إيداع المال عندي. ومن الطبيعي أنّ هذه الحالة تنطبق على مسلّمتي؛ ولا يبقى إلّا أن أعلم ما إذا كانت هذه المسلّمة تصمد كقانون عملي عام، ولذلك سأطبّقها على هذه الحالة متسائلًا عن ما إذا كان يمكنني الاستناد على مسلّمتي في الوقت نفسه للخروج بقانون يقول: يمكن للجميع أن ينكروا ما اؤتمنوا عليه إذا لم يكن هنالك ما يثبتها. وهنا سأعي فورًا أنّ مبدأً كهذا، حين يصبح قانونًا، سيلغي نفسه بنفسه لأنّه لن يودع بعدها أيّ أحد أملاكه أمانةً عند الآخرين على الإطلاق» (5:27).

وبعبارة أخرى، لتقييم المسموحية الأخلاقية لأيّ مسلّمة يجب التساؤل عن ما إذا كان يمكن للجميع التصرّف على أساسها، أو ما إذا كان يمكن أن تُشاء كقانون شامل؛ والمسألة هنا ليست في ما إذا كان من صالح الجميع أن يتصرّفوا وفقًا لمسلّمتي، ولا إذا ما كانت هذه المسلّمة تعجبني، بل تنحصر المسألة في ما إذا كان من الممكن لهذه المسلّمة أن تُشاء كقانون شامل. إنّ المسألة تتعلّق بصورة المسلّمة، وليس بمادّتها أو محتواها؛ ويرى كانْت بأنّ المسلّمة تستمدّ صورتها المسموح بها أخلاقيًا من إمكانية أن تُشاء كقانون شامل وحسب؛ فإذا فشلت في هذا الاختبار، كما في المثال المذكور، فلا يُسمح للمرء أخلاقيًا باتّباعها.

وإذا اجتازت مسلّمتي اختبار القانون الشامل، فمن المسموح به أخلاقيًا عندها أن يتصرّف المرء على أساسها، لكنّه لن يعبّر عن استقلاله الذاتي بشكل كامل إلّا إذا كان السبب الأساسي للتصرّف على أساس هذه المسلّمة هو أنّ المسموح به أو المطلوب أن يتصرّف المرء على أساسها. ولنتخيّل هنا شخصًا يحرّكه شعور التعاطف لصياغة مسلّمة لمساعدة المحتاجين، ففي هذه الحالة يكون السبب الأصلي لصياغة المسلّمة هو شعور محدّد حرّك المرء، ومثل هذا الشعور لا يقع بكامله ضمن نطاق سيطرة المرء، وربّما لا يكون موجودًا حين يحتاج أحدهم إلى المساعدة حقًا؛ لكنّه ينجح في اختبار كانْت: إذ يمكن أن يُشاء كقانون شامل ينصّ على أن يقدّم الجميع المساعدة إلى من هو بحاجة إليها انطلاقًا من دوافع تعاطفية؛ ولذلك فلن يكون من الخطأ التصرّف بموجب هذه المسلّمة عندما يحرّك المرء شعور بالتعاطف. لكنّ مساعدة المحتاجين لن تعبّر بالكامل عن الاستقلال الذاتي للمرء إلّا إذا كان السبب الأساسي لتصرّفه هذا لا ينبع من امتلاكه لشعور أو رغبة، بل من أنّه قد يكون من الصواب، أو من المسموح به على الأقلّ، أن يتصرّف على هذا النحو؛ فهو لا يتصرّف على نحو مستقلّ ذاتيًا إلّا إذا إذا كان مثل هذا المبدأ الصوري المحض يزوّد التصرّف بدافعه الأساسي.

إذن، فالقانون الأخلاقي هو قانون للاستقلال الذاتي بمعنى أنّ «الحرّية والقانون العملي غير المشروط يعني أحدهما الآخر ضمنيًا بشكل متبادل» (5:29). وحتّى عندما تكون مسلّمات المرء توحي بها في الأصل مشاعره ورغباته، فإذا تصرّف فقط بموجب المسلّمات المسموح بها أخلاقيًا (أو المطلوبة) لأنّها مسموح بها أخلاقيًا (أو مطلوبة)، فعندها تكون أفعاله مستقلّة ذاتيًا؛ والعكس صحيح أيضًا، إذ يرى كانْت بأنّ هذا هو السبيل الوحيد للتصرف على نحو مستقلّ ذاتيًا.[22]

6. الخير الأسمى والمصادرات العملية عند كانت

يعتقد كانْت بأنّ العقل لا مفرّ له من عدم الاقتصار على إنتاج الوعي بالقانون الأخلاقي، إذ يضيف له إنتاج فكرة عالم يحتوي على الفضيلة الكاملة والسعادة الكاملة كليهما، وهو يدعو هذا العالم بـ(العالم الأسمى)؛ ويرى كانْت بأنّ واجب المرء بتعزيز الخير الأسمى هو حصيلة كلّ واجباته الأخلاقية، ولا يمكن أداء هذا الواجب إلّا إذا اعتقد المرء بأنّ الخير الأسمى حالة ممكنة من حالات شؤون الحياة؛ ويُضاف إليه أنّ كانْت يعتقد بأنّ المرء لا يمكنه أن يعتقد بأنّ الخير الأسمى ممكن إلّا إذا اعتقد أيضًا بخلود النفس ووجود الإله. وعلى هذا الأساس، يدّعي كانْت بأنّ من الضروري أخلاقيًا الاعتقاد بخلود الروح ووجود الإله، ويدعوهما بمصادرات العقل العملي المحض. وفي هذا القسم سنقدّم نقاطًا عامّة موجزة لرؤية كانْت حول الخير الأسمى وحجّته في الدفاع عن هذه المصادرات العملية في (نقد العقل العملي) وغيره من مؤلّفاته.

6. 1. الخير الأسمى

رأينا في القسم السابق كيف يرى كانْت بأنّ القانون الأخلاقي هو مبدأ صوري محض يملي على المرء أن لا يتصرّف إلّا وفقًا للمسلّمات التي تمتلك ما يدعوه (صورةً تُزوِّد بالقانون)، وهذا لا يحدث إلّا في الحالة التي يمكن بها للمسلّمات أن تُشاء كقوانين شاملة. ويضاف إلى ذلك أنّ السبب الرئيسي الذي يدعو المرء لاختيار التصرّف وفقًا لتلك المسلّمات يجب أن يكون هذه الصورة المزوِّدة بالقانون، لا أن يكون الداعي لذلك هو أن يؤدّي التصرّف بموجبها إلى إنجاز غاية أو هدف يلبّي رغبة ما (5:27). وعلى سبيل المثال: يجب على المرء أن يساعد المحتاجين، لا لأنّ هذا التصرّف يشعره بالراحة في حقيقة الأمر (حتّى وإن أدّت المساعدة إلى هذا الشعور)، بل لأنّ من الصواب فعل ذلك؛ وقد صارت مساعدة المحتاجين أمرًا صائبًا (أو مسموحًا) لأنّ هذه المسلّمة يمكن أن تُشاء كقانون شامل.

وعلى الرغم من أنّ كانْت يعتقد بأنّ أخلاقية الفعل تعتمد على صورة مسلّمته، لا على غايته أو هدفه، نجده يدّعي مع ذلك بأمرين في الوقت نفسه: أنّ كلّ فعل بشري له غاية، وأنّه لا مفرّ للإنسان من الاهتمام بعواقب أفعاله (4:437; 5:34; 6:5–7, 385). وليس هذا شرطًا أخلاقيًا، بل هو مجرّد جزء ممّا يعنيه أن يكون الإنسان كائنًا عاقلًا. وعلاوة عليه، يعتقد كانْت أيضًا بالرؤية الأقوى التي تقول بأنّ من الميّزات التي لا محيد عنها للعقل البشري أنّ الإنسان يشكّل أفكاره دون الاقتصار على العواقب الفورية والقريبة لأفعاله بل يضيف إليها العواقب النهائية أيضًا؛ وهذا مظهر عملي للمطالبة العقلية العامّة بما يدعوه كانْت “اللامشروط” (5:107–108).[23] ويمكن القول تخصيصًا: بما أنّ الإنسان يمتلك بشكل طبيعي رغبات وميولًا، وأنّ للعقل “تفويضًا” بتولي أمر تلبية كلّ الميول والرغبات، فإنّ كانْت يرى بأنّ المرء لا محيد له عن تشكيل فكرة حول التلبية القصوى لكلّ ميوله ورغباته، وهو ما يدعوه كانْت بالسعادة (5:61, 22, 124). لكنّ هذه الفكرة غير محدّدة لأنّه لا يوجد من يستطيع أن يعلم «ما يرغب به ويشاؤه حقًّا»، وبالتالي: ما يوصله إلى السعادة الكاملة (4:418). ويقوم الإنسان أيضًا بتشكيل فكرة حول عالمٍ أو مجالٍ أخلاقيٍ من غايات، وفيه يتصرّف الجميع وفقًا للمسلّمات التي يمكن أن تكون قوانين شاملة وحسب (A808/B836, 4:433ff.).

لكنّ كلتا الفكرتين لا تعبّر بنفسها عن غاية الإنسان المكتملة بلا شروط، كما هو الحال في ما يطالب به العقل البشري وفقًا لاستخدامه العملي. والعالم الأخلاقي الكامل لن يتمكّن بنفسه من أن ينشئ للإنسان «الخير الكلّي المكتمل … حتّى ضمن ما يحكم به عقل محايد»، لأنّ من طبيعة البشر أيضًا أن يحتاجوا إلى السعادة (5:110, 25)؛ والسعادة لوحدها لن تكون خيرًا غير مشروط، لأنّ الفضيلة الأخلاقية شرط لقيمة امتلاك السعادة (5:111). ولذلك فإنّ ما تحدّثنا حوله من غاية مكتملة بلا شروط يجب أن تضمّ كلًّا من الفضيلة والسعادة، ويعبّر كانْت عن هذا الأمر بقوله: «الفضيلة والسعادة يشكّلان معًا امتلاك المرء للخير الأسمى، وإنّ السعادة الموزّعة بالنسبة نفسها تمامًا التي تحدّدها الأخلاق (كقيمة المرء ومدى جدارته بأن يكون سعيدًا) تشكّل الخير الأسمى لعالم ممكن» (5:110–111). وهذا العالم المثالي الذي يجمع بين الفضيلة المكتملة والسعادة المكتملة هو ما يعنيه كانْت في العادة عند مناقشته للخير الأسمى.

ويقول كانْت بأنّ على الإنسان واجب تعزيز الخير الأسمى، وفقًا لمعناه المذكور آنفًا (5:125)؛ لكنّه لا يقصد تعريف واجب جديد غير مشتقّ من القانون الأخلاقي يضاف إلى كلّ الواجبات الخاصّة المشتقّة من القانون الأخلاقي.[24] وعلى سبيل المثال: إنّ كانْت لا يدّعي بأنّه بالإضافة لواجبات المرء بمساعدة المحتاجين وعدم السرقة وغيرها ثمّة واجب إضافي بتمثّل الخير الأسمى باعتباره الغاية النهائية لكلّ السلوك الأخلاقي، بالترافق مع السعادة، والعمل على تعزيز هذه الغاية؛ بل إنّ كانْت يعتقد، كما مرّ بنا في ما سبق، بأنّ من المميزات التي لا مفرّ منها للتفكير البرهاني عند البشر، وليس من متطلّبات الأخلاق، أن يمثّل المرء كلّ الواجبات الخاصّة باعتبارها تؤدّي إلى تعزيز الخير الأسمى. ولهذا فإنّ واجب تعزيز الخير الأسمى ليس واجبًا خاصًّا على الإطلاق، بل هو حصيلة كلّ الواجبات المشتقّة من القانون الأخلاقي، فهو «لا يزيد عدد الواجبات الأخلاقية بل يزوّدها بنقطة مرجعية خاصّة لتوحيد كلّ الغايات» (6:5). وكذلك لا يقصد كانْت أنّ هنالك واجبًا على أيّ أحد بملاحظة (أو في الحقيقة: تحقيق) الخير الأسمى بقدرته الذاتية، وإن كان يستخدم لغة توحي بهذا الأمر أحيانًا (5:113, 122)؛ فبدلًا من ذلك، وفي مؤلّفاته الأخيرة على الأقلّ، يدّعي كانْت بأنّ المسعى المشترك لـ«مجتمع أخلاقي» بأكمله يمكنه في الحقيقة أن ينتج الخير الأسمى، وبأنّ واجب الأفراد هو تعزيز هذه الغاية (وليس إنتاجها دون تدخّل العوامل الأخرى) بكلّ ما أوتوا من قوّة بواسطة القيام بما يأمر به القانون الأخلاقي (6:97–98, 390–394).[25]

أخيرًا: يرى كانْت بأنّه يجب علينا أن نفهم الخير الأسمى باعتباره حالة ممكنة من حالات شؤون الحياة إذا أراد المرء تحقيق واجبه بتعزيز الخير الأسمى؛ ولا يقصد كانْت بكلامه هذا بأنّه لا محيد للمرء عن تمثّل الخير الأسمى كأمر ممكن، لأنّ رؤيته تقول بأنّه لا يجب تمثّل الخير الأسمى كأمر ممكن إلّا في حالة الرغبة بأداء واجب تعزيزه، لكنّ هذا لا يضمن الفشل في تأدية هذا الواجب. وعوضًا عن ذلك، يمتلك المرء الخيار بين فهم الخير الأسمى باعتباره أمرًا ممكنًا، أو اعتباره غير ممكن، أو البقاء على جانب عدم الالتزام بموقف محدّد (5:144–145). لكن لا يمكن تأدية واجب تعزيز الخير الأسمى إلّا بانتقاء خيار فهمه على أنّه أمر ممكن، لأنّه لا يمكن تعزيز أيّة غاية بدون الاعتقاد بإمكانية إنجازها (5:122). ولهذا فإنّ تحقيق حصيلة كلّ الواجبات الأخلاقية لتعزيز الخير الأسمى يتطلّب الاعتقاد بأنّ عالمًا تكتمل فيه الفضيلة والسعادة ليس مجرّد “سراب ذهني”، بل هو أمر يمكن إنجازه حقًّا (5:472).

6. 2. مصادرات العقل العملي المحض

يحاجج كانْت بأنّه لا يمكن للمرء الامتثال لواجبه بتعزيز الخير الأسمى إلّا إذا اعتقد بخلود النفس ووجود الإله؛ وذلك لأنّ الامتثال لهذا الواجب يوجب عليه الاعتقاد بأنّ الخير الأسمى ممكن، لكنّ هذا الاعتقاد يوجب عليه الاعتقاد بخلود النفس ووجود الإله، وفقًا للرؤية الكانْتية.[26]

ولنتناول أوّلًا الحجّة الأخلاقية التي يوردها كانْت للدفاع عن الاعتقاد بالخلود. لقد رأينا في ما سبق كيف أنّ الخير الأسمى قد يكون عالمًا تكتمل فيه الأخلاق والسعادة، لكنّ كانْت يعتقد بأنّ من المستحيل على «الكائن العاقل في العالم المحسوس» أن يبدي «انسجامًا كاملًا في ميوله المتعلّقة بالقانون الأخلاقي»، وهو أمر يضفي عليه كانْت صفة «القدسية» لأنّه لا يمكن للمرء إطلاقًا أن يجتثّ ميل عقله إلى منح الأولوية لمحفّزات النزوع على محفّز الواجب، وقد دعا كانْت هذا الميل بأنّه شرّ جذري (5:122, 6:37). ويدّعي كانْت بأنّ القانون الأخلاقي يتطلّب القدسية على الرغم من ذلك، ولذلك «فلا يمكن العثور عليه إلّا في تقدّمٍ لا ينتهي نحو الانسجام الكامل»، أو في تقدّمٍ يمضي إلى اللانهاية (5:122). وهذا لا يعني أنّه في مفهوم الخير الأسمى يمكننا الاستعاضة عن التقدّم الذي لا ينتهي بالقانون الأخلاقي للقدسية، بل علينا أن نمثّل الانسجام الكامل باعتباره عملية لامتناهية تتّجه إلى حدود القدسية. ويتابع كانْت حجّته فيقول: «لكنّ هذا التقدّم الذي لا ينتهي غير ممكن إلّا وفقًا لافتراضٍ مسبقٍ باستمرارٍ لا ينتهي لوجود الكائن العاقل نفسه وشخصيته (وهو ما يدعى بخلود النفس). وبناءً عليه، فإنّ الخير الأسمى غير ممكن من الناحية العملية إلّا بالافتراض المسبق لخلود النفس، ولذلك فإنّ هذا القول، الذي لا يمكن فصله عن القانون الأخلاقي، هو من مصادرات العقل العملي المحض» (المصدر السابق). وهذه الفكرة الكانْتية لا تلزم المرء بأن يتخيّل نفسه محقّقًا القدسية في ما بعد وإن كان عاجزًا عن تحقيقها في هذه الحياة، بل تفيدنا هذه الفكرة بأن المرء يجب عليه أن يمثّل القدسية باعتبارها تقدّمًا مستمرًّا نحو الانسجام التامّ لميوله مع القانون الأخلاقي الذي يبدأ في هذه الحياة ويمتدّ إلى اللانهاية.

ويمكننا أن نلخّص الحجّة الأخلاقية الكانْتية في الدفاع عن الاعتقاد بالإله في كتابه (نقد العقل العملي) على النحو التالي: يعتقد كانْت بأنّ الفضيلة والسعادة ليستا متّحدتين وحسب، بل هما متّحدتان بالضرورة بموجب فكرة الخير الأسمى، لأنّ امتلاك الفضيلة هو وحده من يجعل المرء جديرًا بالسعادة؛ وهذا ادّعاء يبدو أنّ كانْت يعتبره جزءًا من محتوى القانون الأخلاقي (4:393; 5:110, 124). لكن لا يمكن للمرء أن يمثّل الفضيلة والسعادة باعتبارهما متّحدتين بالضرورة إلّا من خلال تمثّل الفضيلة باعتبارها السبب الكافي للسعادة. وهذا يعني أنّ عليه تمثّل الخير الأسمى لا على أنّه مجرّد حالة حياتية يعيش فيها الناس سعداء فاضلين، بل حالة حياتية يعيش فيها الناس سعداء لأنّهم فاضلون (5:113–114, 124). ومع ذلك، فإنّ ممّا يتجاوز قدرات البشر، أفرادًا وجماعات، أن يضمنوا إنتاج الفضيلة للسعادة، وليس هنالك قانون طبيعي معروف يضمن هذا الأمر أيضًا، ولذلك يجب الاستنتاج بأنّ الخير الأسمى مستحيل ما لم نفترض «وجود سبب طبيعي، متميّز عن الطبيعة، يتضمّن أساس هذه الصلة، وهو بالتحديد: التماشي الدقيق للسعادة مع الفضيلة» (5:125). وهذا السبب الطبيعي لا بدّ أن يكون الإله، لأنّه يجب أن يمتلك الفهم والإرادة كليهما. وربّما لا يعتقد كانْت بأنّ الإله هو السبب الكافي للسعادة التي يُثاب بها في الحياة المستقبلية من التزم بالفضيلة في هذه الحياة، بل ربّما يرى في هذا الشأن بأنّ المرء يمثّل تقدّمه الذي لا ينتهي نحو القدسية، بدءًا من هذه الحياة وصولًا إلى اللانهاية، باعتباره السبب الكافي لسعادته، والتي تبدأ كذلك من هذه الحياة وتمتدّ إلى الحياة المستقبلية، وذلك وفقًا للقوانين الغائية التي صاغها الإله وسبّبها كي تنسجم مع الأسباب الكافية في الطبيعة (A809–812/B837–840; 5:127–131, 447–450).

وكلا الحجّتين السابقتين ذاتيّتان، بمعنى أنّهما عوضًا عن أن يحاولا تبيين على أي نحو يجب أن يتشكّل العالم موضوعيًا لكي يكون الخير الأسمى ممكنًا، فإنّهما يزعمان أنّهما لا يبيّنان سوى كيف يجب علينا أن نستوعب الخير الأسمى كي نكون قادرين ذاتيًا على أمرين اثنين: تمثّله باعتباره ممكنًا، وتأدية واجبنا بتعزيزه. لكنّ كانْت يدّعي أيضًا بأنّ لكلتا الحجّتين أساس موضوعي: أوّلًا من ناحية العجز عن استحالة الإثبات الموضوعي لخلود النفس أو وجود الإله؛ وثانيًا من ناحية أنّ كلتا الحجّتين تنطلقان من واجب تعزيز الخير الأسمى الذي لا يقوم على الطابع الذاتي للعقل البشري، بل على القانون الأخلاقي، وهو أمر يسري موضوعيًا على كلّ الكائنات العاقلة. وبناءً عليه، بينما ليس هنالك واجب يقضي، خصوصًا، بالاعتقاد بالإله أو بالخلود، فإنّه من الواجب بأن يعتقد المرء بهما كليهما إذا أراد أن ينفّذ واجبه بتعزيز الخير الأسمى، آخذًا بالحسبان الطابع الذاتي للعقل البشري.

ولتبيين السبب لنفكّرْ في ما قد يحصل لو لم يكن المرء يعتقد بالإله أو بالخلود وفقًا لما يراه كانْت؛ إذ يبدو أنّه يقول في كتابه (نقد العقل المحض) بأنّ هذا من شأنه أن يترك المرء دون أيّ محفّز يدفعه ليكون أخلاقيًا، بل حتّى إنّ القانون الأخلاقي سيبطل من دون الإله والخلود (A813/B841, A468/B496)؛ لكنّ كانْت رفض هذه الرؤية لاحقًا (8:139). أمّا الرؤية الناضجة لكانْت في هذا المجال فمفادها: إنّ عقل المرء سيخوض نزاعًا ذاتيًا إذا لم يعتقد بالرب والخلود، لأنّ العقل العملي المحض سيمثّل حينها القانون الأخلاقي باعتباره مرجعية، وبالتالي فهو يقدّم محفّزًا كافيًا إلى حدٍّ يقوم فيه بتعيين إرادة المرء؛ لكنّ العقل النظري (أي: التأمّلي) المحض سينقض حينها هذا المحفّز من خلال إعلانه الأخلاق مثالًا أعلى فارغًا، وذلك لأنّه لن يكون قادرًا حينها على تكوين فكرة حول الخير الأسمى باعتباره ممكنًا (5:121, 143, 471–472, 450–453). وبعبارة أخرى، إنّ القانون الأخلاقي سيبقي حينها على نفاذه ويوفّر لكلّ كائن عاقل المحفّز الكافي للتصرّف على أساس الواجب، لكنّ المرء قد يعجز حينها عن التصرّف ككائن عاقل، لأنّ «من شروط امتلاك العقل في الأصل … أن تكون مبادئه وتأكيداته لا يناقض بعضها بعضًا» (5:120). وليس هنالك من طريقة لإدخال العقل التأمّلي والعقل العملي «في علاقة المساواة تلك التي يمكن فيها استخدام العقل عمومًا على نحو غائي» إلّا بالتأكيد على المصادرات بالاستناد إلى أنّ العقل العملي المحض له الصدارة على العقل التأمّلي. ويشرح كانْت هذا الأمر بأنّه يعني: إذا كانت قدرة العقل التأمّلي «لا تمتدّ إلى حدّ الإثبات المؤكّد لقضايا بعينها، على الرغم من أنّها لا تناقضها، فما إن تنتمي هذه القضايا نفسها متلازمةً إلى الاهتمام العملي للعقل المحض حتّى يتوجّب عليه أن يقبل بها […]، لكنّه يفعل ذلك وهو مدرك بأنّ هذه القضايا ليست من تبصّراته، بل هي امتدادات لاستخدامه من منظور آخر، وبالتحديد: من منظور عملي» (5:121). إنّ صدارة العقل العملي عنصر رئيسي في ردّ كانْت على أزمة التنوير، لأنّه يعتقد بأنّ العقل يستحقّ المرجعية السيادية التي لم يأتمنه التنوير عليها إلّا على هذا الأساس.

7. وحدة الطبيعة والحرّية عند كانت

هذا القسم الأخير من المدخل يناقش بإيجاز كيف يحاول كانْت توحيد القسمين النظري والعملي من منظومته الفلسفية في كتابه (نقد ملكة الحكم).

7. 1. الفجوة الهائلة

أعلن كانْت في تمهيد ومقدّمة كتابه (نقد ملكة الحكم) أنّ هدفه من تأليف الكتاب هو «الانتهاء من المشروع النقدي بأكمله [مشروعه هو]» من خلال تجسير “الثغرة” أو “الفجوة” التي تفصل مجال فلسفته النظرية (ناقشها بشكل رئيسي في كتابه [نقد العقل المحض]) عن مجال فلسفته العملية (ناقشها بشكل رئيسي في كتابه [نقد العقل العملي]) (5:170, 176, 195)؛ وعبّر عن ذلك بقوله: «يشرّع الفهم قبليًا للطبيعة، باعتبارها موضوعًا للحواسّ، الحصول على إدراك نظري لها ضمن تجربة ممكنة. والعقل يشرّع الحرّية وسببيتها الخاصّة بها قبليًا، باعتبارها أمرًا خارجًا عن الحواسّ لدى المرء، للحصول على إدراك عملي غير مشروط. وإنّ مجال مفهوم الطبيعة وفقًا للتشريع الأوّل، ومجال مفهوم الحرّية وفقًا للتشريع الثاني، ممنوعان كلّيًا من أيّ تأثير متبادل قد يؤثّر به أحدهما بنفسه على الآخر (كلٌّ بما يتوافق مع قوانينه الأساسية)، وذلك بسبب الفجوة الهائلة التي تفصل ما يتخطّى الحواسّ عن المظاهر» (5:195).

ومن السبل التي نفهم بها المشكلة التي عبّر عنها كانْت في قوله السابق: أن نفكّر في ما قال آخذين بعين الاعتبار أزمة التنوير مرّة أخرى.[27] وأزمة التنوير مفادها أنّ العلم الطبيعي هدّد بهدم المعتقدات الأخلاقية والدينية التقليدية؛ وقد ردّ كانْت بالمحاججة بأنّ هذه المصالح الجوهرية للبشرية هي في الحقيقة ينسجم بعضها مع بعض عندما تكون السيادة للعقل، والصدارة للعقل العملي على العقل التأمّلي. لكنّ الإطار المثالي الترَنسندنتالي الذي طوّر كانْت فيه ردّه هذا يبدو أنّه كان يقبل انسجام هذه المصالح على حساب التضحية برؤية موحّدة للعالم وموقع الإنسان فيه. فإذا كان العلم لا ينطبق إلّا على المظاهر، بينما تشير المعتقدات الأخلاقية والدينية إلى الأشياء في ذاتها أو لـ”ما هو خارج عن الحواسّ”، فكيف يمكننا بعدها أن ندمجهما في مفهوم واحد للعالم يمكّننا من الانتقال من مجال إلى آخر؟ وهنا يطرح كانْت الحلّ بتقديمه لملكة إدراكية قبلية ثالثة، يدعوها: القدرة التأمّلية للحكم، والتي تمنح المرء منظورًا غائيًا للعالم. والحكم التأمّلي يقدّم مفهوم الغائية الذي يجسّر الفجوة بين الطبيعة والحرّية، فيوحّد بذلك الجزأين النظري والعملي لفلسفة كانْت في منظومة واحدة (5:196–197).

ومن المهمّ عند كانْت أن تقوم ملكة ثالثة مستقلة عن الفهم والعقل كليهما بتقديم هذا المنظور الوساطي، لأنّه يعتقد بأنّه ليس لدينا أساس نظري كافٍ لعزو الغائية الموضوعية للطبيعة نفسها، ومع ذلك فإنّ اعتبار الطبيعة غائيةً بالاستناد إلى الأساس الغائي وحده لن يؤدّي سوى إلى تفاقم الانفصال بين طرائقنا العلمية ونظيرتها الأخلاقية في النظر إلى العالم. والأساس النظري لا يسوّغ لنا عزو الغائية الموضوعية للطبيعة، لأنّه ليس من شروط الوعي الذاتي أن يقوم فهم المرء بإنشاء التجربة بالتوافق مع مفهوم الغائية، وهو ليس من مقولات كانْت ولا من مبادئ الفهم المحض التي تقوم عليها القوانين الأساسية للطبيعة. وهذا هو السبب الذي يجعل فلسفة كانْت النظرية لا تجيز لنا سوى عزو العلّية الآلية للطبيعة نفسها؛ وفي هذا المجال المحدود يتعاطف كانْت مع التيّار المهيمن في الفلسفة الحديثة الذي يبعد العلل النهائية عن الطبيعة ويتعامل معها عوضًا عن ذلك باعتبارها ليست سوى مادّة في حالة حركة، وهو أمر يمكن وصفه بالكامل رياضيًا. لكنّ كانْت يرغب أن يوفّق بطريقة ما بين هذه الرؤية الآلية للطبيعة مع مفهوم للفاعلية البشرية يتّصف بأنه غائي بالضرورة؛ وذلك لأنّ كانْت يعتقد، كما مرّ بنا في موضع سابق، بأنّ كلّ فعل بشري له غاية، وأنّ حصيلة كلّ الواجبات الأخلاقية هي تعزيز الخير الأسمى. لكنّ من ضرورات المقاربة الكانْتية الإبقاء على الاستقلال الذاتي لكلّ من الفهم (في الطبيعة) والعقل (في الأخلاق) دون السماح لأيّ منهما بالتعدّي على مجال الآخر، وتحقيق التناغم بينهما، مع ذلك، في منظومة واحدة. ولا يمكن تنسيق إنجاز هذا التناغم إلّا من نقطة مستقلّة، لا نقوم من خلالها بالحكم على الكيفية التي أنشئت بها الطبيعة موضوعيًا (فهذه مهمّة الفهم)، أو الكيفية التي ينبغي أن يكون العالم عليها (فهذه مهمّة العقل)، بل لا نقوم من خلالها إلّا بتنظيم إدراكنا، أو التأمّل فيه، بطريقة تمكّننا من اعتباره موحّدًا كمنظومة؛ ويرى كانْت بأنّ هذه مهمّة الحكم التأمّلي، والذي يقوم على مبدأ قبلي يعتبر الطبيعة غائية، لكن «على أن ينحصر هذا المبدأ بكونه مبدأً تنظيميًا لملكة الإدراك» (5:197).

7. 2. غائية الطبيعة

يناقش كانْت في كتابه (نقد ملكة الحكم) أربع طرائق رئيسية يقودنا بها الحكم التأمّلي إلى اعتبار الطبيعة غائيةً:

  • (1) يقودنا إلى اعتبار أنّ الطبيعة تحكمها منظومة من القوانين التجريبية.
  • (2) يمكّننا من إصدار أحكام جمالية.
  • (3) يقودنا إلى التفكير بالمتعضّيات على أنّها غائية موضوعيًا.
  • (4) يقودنا في نهاية الأمر إلى التفكير بالغاية النهائية للطبيعة ككلّ.[28]

فأوّلًا، إنّ الحكم التأمّلي يتيح لنا اكتشاف القوانين التجريبية للطبيعة بأن يقودنا إلى النظر إلى الطبيعة كما لو كانت نتاجًا للتصميم الذكي (5:179–186). ونحن لا نحتاج للحكم التأمّلي للإحاطة بالقوانين القبلية للطبيعية التي تقوم على مقولاتنا، كأن يكون لكلّ حدث علّة؛ بل يضاف إلى هذه القوانين القبلية أنّ الطبيعة محكومة أيضًا بقوانين تجريبية خاصّة (من قبيل: النار تتسبّب بالدخان) لا يمكننا أن نعلمها دون استشارة التجربة. فلاكتشاف هذه القوانين يجب علينا تشكيل فرضيات وابتكار تجارب مفترضين أنّ الطبيعة محكومة بقوانين تجريبية يمكننا الإحاطة بها (Bxiii–xiv). وإنّ الحكم التأمّلي يصنع هذا الافتراض من خلال مبدئه القاضي باعتبار الطبيعة غائية لفهمنا، وهو أمر يقودنا إلى التعامل مع الطبيعة كما لو كانت قوانينها التجريبية صُمِّمت لنفهمها (5:180–181). وبما أنّ هذا المبدأ لا ينظّم سوى إدراكنا للطبيعة، وليس من المبادئ التي تشكّل الطبيعة نفسها، فإنّ الأمر لا يصل إلى حدّ الافتراض بأنّ الطبيعة هي حقًّا نتاج للتصميم الذكي، وهو أمر يرى كانْت بأنّه ليس هنالك ما يسوّغه من الناحية النظرية؛ وهو لا يصل سوى إلى حدّ مقاربة الطبيعة في ممارسة العلوم كما لو كانت مصمّمة لنفهمها؛ ومن المسوّغ لنا أن نخرج بهذا الاعتقاد لأنّه يمكّننا من اكتشاف القوانين التجريبية للطبيعة؛ لكنّ الاعتقاد بأنّ الطبيعة غائية على هذا النحو هو مبدأ تنظيمي للحكم التأمّلي وحسب، وليس معرفة نظرية أصيلة.

وثانيًا، يعتقد كانْت بأنّ الأحكام الجمالية حول كلّ من الجمال والجلال تتضمّن نوعًا من الغائية، وبأنّ جمال الطبيعة بالخصوص يوحي لنا بأنّ الطبيعة تستقبل غاياتنا. ونحن نحكم على أنّ الموضوعات جميلة، وفقًا للنظرية الجمالية الكانْتية، لا لأنّها تلبّي رغباتنا، فالأحكام الجمالية حيادية، بل لأنّ فهم صورتها يحفّز ما يدعوه كانْت بـ”الأداء الحرّ” المتناغم لفهمنا وتخيّلنا، وهو ما نستمدّ منه لذّة جمالية مميّزة (5:204–207, 217–218, 287). وبناءً عليه، فالجمال ليس خاصّية للموضوعات، بل هو علاقة بين صورتها وبين الطريقة التي تعمل بها ملكاتنا الإدراكية. ومع ذلك فإنّنا نصدر أحكامًا جمالية تزعم بأنّها تتمتّع بمصداقية بين-ذواتية لأنّنا نفترض بأنّ هنالك في الفهم المشترك ما يسمح للبشر جميعًا بأن يتبادلوا الشعور الجمالي (5:237–240, 293–296)؛ والفنّ الجميل يُصنَع بقصد تحفيز هذه اللذّة الجمالية القابلة للتبادل الشامل، وإن كان يعجز عن التأثير إلّا إذا كان يبدو عليه أنّه عمل غير قصدي (5:305–307)؛ لكنّ الجمال الطبيعي ليس قصديًا، فالمناظر الطبيعية لا تعرف كيف تحفّز الأداء الحرّ لملكاتنا الإدراكية، ولا تستهدف منحنا اللذّة الجمالية. إذن، ففي كلتا الحالتين تبدو الموضوعات الجميلة غائية لنا لأنّها تمنحنا اللذّة الجمالية من خلال الأداء الحرّ لملكاتنا، لكنّها في الوقت نفسه لا تبدو غائية، وذلك لأنّها إمّا لا تبدو كذلك، وإمّا لا يبدو أنها تقصد أن تبدو كذلك. ويدعو كانْت هذه العلاقة بين إمكانياتنا الإدراكية وبين الخاصّيات الصورية للموضوعات التي نحكم عليها بأنّها جميلة: “الغائية الذاتية” (5:221). وعلى الرغم من أنّها ذاتية وحسب، فإنّ الغائية التي يبديها الجمال الطبيعي خصوصًا ربّما يمكن تفسيرها على أنّها علامة لترحيب الطبيعة بمصالحنا الأخلاقية (5:300). وعلاوة عليه، يفسّر كانْت تجربة الجلال في الطبيعة بأنّها تتضمّن الغائية؛ لكنّها في هذه الحالة ليست غائية الطبيعة بمقدار ما هي غائيتنا أو “مسعانا” الخاصّ بنا باعتبارنا كائنات أخلاقية، والتي نعيها من خلال تجربتنا للجليل، حيث يقف حجم الطبيعة وقوّتها في تباين واضح أمام القدرة الأعلى للعقل البشري (5:257–260, 267–269).

وثالثًا، يحاجج كانْت بأنّ ملكة التأمّل تمكّننا من اعتبار المتعضّيات الحيّة غائيةً بشكل موضوعي، لكن على أن يكون هذا الاعتبار مبدأ تنظيميًا وحسب يعوّض عجزنا عن فهمها الكامل من الناحية الآلية، وهو أمر يعكس حدود ملكات الإدراك لدى الإنسان ولا يعكس أي غائية جوهرية في الطبيعة. ولا يمكننا أن نفهم المتعضّيات بشكل كامل من الناحية الآلية لأنّها كائنات «ذاتية التنظيم»، تتّحد أجزاؤها «في بنية كلّية بأن تكون علّة وتأثير صورتها بشكل تبادلي» (5:373–374). وأجزاء الساعة اليدوية هي أيضًا غير ممكنة إلّا من خلال علاقتها بالكلّ، لكنّ السبب هو أن الساعة تُصمَّم وتُنتَج من قبل كائن عاقل ما؛ أمّا المتعضّي فهو ينتج ذاته ويؤمّن احتياجاتها، وهو أمر لا يمكننا أن نفسّره إلّا إذا عزونا للمتعضّيات غايات قياسًا بالفنّ البشري (5:374–376). لكنّ كانْت يدّعي بأنّ اعتبار المتعضّيات على هذه الحال ليس سوى مبدأ تنظيمي يعود لملكة التأمّل، وأنّه ليس هنالك ما يسوّغ لنا عزو الغائية الموضوعية للمتعضّيات نفسها، لا لشيء إلّا «لأنه بسبب التركيب الخاصّ لملكاتي الإدراكية لا يمكنني أن أحكم بشأن إمكانية هذه الأشياء وتوليدها إلّا عبر التفكير بعلّةٍ لهذه الأفعال تتوافق مع المقاصد» (5:397–398). ويمكن القول تحديدًا بأنّنا نعجز عن فهم كيف يمكن لبنيةٍ كلّيةٍ أن تكون علّةً لأجزائها لأنّنا نعتمد على الحدس الحسّي في محتوى أفكارنا ولهذا يجب أن نفكّر بـ(الحدس) بعينه أوّلًا قبل أن ندرجه في البنية العامّة (على أنّه مفهوم ما). ولتبيين أنّ هذا الأمر ليس سوى حدّ للعقل البشري الاستدلالي، فلنتخيّل كائنًا ذا فهم حدسي لا يعتمد فكره، بخلافنا، على استقبال المعلومات الحسّية بشكل منفعل، بل يخلق محتوى فكره من خلال التفكير به؛ فمثل هذا الكائن (الإلهي) يتمكّن من فهم كيف يمكن لبنيةٍ كلّيةٍ أن تكون علّةً لأجزائها، لأنّه يتمكّن من إدراك الكلّ فورًا دون التفكير أوّلًا بالجزئيات ثم تركيبها في بنية كلّية (5:401–410). وبناءً عليه، فبما أنّنا نمتلك عقلًا استدلاليًا ولا يمكننا أن نعرف ما قد تبدو عليه الأمور لكائن ذي عقل حدسي، ومع هذا لا يمكننا أن نفكّر بالمتعضّيات إلّا على نحو غائي (وهو ما يستثني الآلية)، فإنّ كانْت ينبري تاليًا إلى القول بأنّه يجب علينا أن لا نفكّر بالآلية والغائية كليهما إلّا على أنّهما مبدآن تنظيميان نحتاج إليهما لتفسير الطبيعة، لا كمبدأين بنائيّين يصفان الكيفية التي أُنشِئت بها الطبيعة من الناحية الذاتية (5:410ff.).

ورابعًا، يختم كانْت كتابه (نقد ملكة الحكم) بملحق مطوّل يحاجج فيه بأنّ ملكة التأمّل تدعم الأخلاق بأن تقود المرء نحو التفكير بالغاية النهائية للطبيعة، والتي لا يمكننا أن نفهمها إلّا على نحو أخلاقي، وأنّه في الجهة المقابلة تقوم الأخلاق بتعزيز مفهوم غائي للطبيعة. وما إن نضمن الأساس النظري لوجوب فهم أجزاء بعينها من الطبيعة (المتعضّيات) على نحو غائي، وإن اقتصر هذا الفهم على المبدأ التنظيمي للحكم التأمّلي، حتّى يجوز لنا، كما فيقول كانْت، أن نتابع فنعتبر الطبيعة بأكملها منظومة غائية (5:380–381). لكن لا يمكننا اعتبار الطبيعة بأكملها منظومة غائية إلّا بتوظيف فكرة (الإله)، من الناحية التنظيمية وحسب في هذه الحالة أيضًا، باعتباره المصمّم الذكيّ لها؛ وهذا يتضمّن أن يُعزى للطبيعة ما يدعوه كانْت بالغائية الخارجية، أي: أن يُعزى للإله غايات في خلقه للطبيعة (5:425). وهنا يبرز السؤال: ما هي، إذن، الغاية النهائية للإله في خلقه للطبيعة؟ يرى كانْت بأنّ هذه الغاية النهائية لا بدّ أن تكون البشر، لكن باعتبارهم كائنات أخلاقية وحسب (5:435, 444–445)؛ لأنّ البشر وحدهم من يستخدم العقل لتحديد الغايات والسعي خلفها، مستخدمين ما تبقّى من الطبيعة كوسيلة لبلوغ غاياتهم (5:426–427). وعلاوةً على ذلك يدّعي كانْت بأنّ السعادة البشرية لا يمكن لها أن تكون الغاية النهائية للطبيعة، لأنّه يعتقد، كما رأينا في ما سبق، بأنّ السعادة ليست قيّمة دون شرط (5:430–431)؛ بل إنّ الحياة البشرية لا تستمدّ قيمتها ممّا نستمتع به على نحو منفعل، بل ممّا نستمتع به على نحو فاعل (5:434)؛ لكنّنا عاجزون عن أن نكون فاعلين ومستقلّين ذاتيًا على نحو تامّ إلّا إذا تصرّفنا بشكل أخلاقي، وهذا يعني ضمنيًا أنّ الإله خلق العالم كي يتمكّن البشر من ممارسة الاستقلال الأخلاقي الذاتي؛ وبما أنّنا نحتاج السعادة أيضًا فإنّ هذا الأمر يمكن القبول به كغاية مشروطة وتالية، ولهذا فإنّ ملكة التأمّل ستقودنا في نهاية المطاف إلى الخير الأسمى (5:436). لكنّ التأمّل في ظروف إمكانية الخير الأسمى تقودنا مرّة أخرى إلى الحجّة الأخلاقية الكانْتية التي يدافع فيها عن الاعتقاد بوجود الإله، وهذا بدوره يعزّز المنظور الغائي للطبيعة الذي بدأت به ملكة التأمّل.

وبناءً عليه، فإنّ كانْت يحاجج بأنّه على الرغم من أنّ الفلسفة النظرية والعملية تنطلقان من نقطتي بدء منفصلتين وغير قابلتين للاختزال (الوعي الذاتي باعتباره المبدأ الأسمى في إدراكنا للطبيعة، والقانون الأخلاقي باعتباره أساس معرفتنا بالحرّية) فإنّ الحكم التأمّلي يوحّدهما في رؤية شاملة غائية واحدة تخصّص قيمة متفوّقة للاستقلال الذاتي للإنسان.


البيبليوگرافيا

المصادر الرئيسية

كتب كانت

  • The standard German edition of Kant’s works is: Königlichen Preußischen (later Deutschen) Akademie der Wissenschaften (ed.), 1900–, Kants gesammelte Schriften, Berlin: Georg Reimer (later Walter De Gruyter).
  • The best English edition of Kant’s works is: P. Guyer and A. Wood (eds.), 1992–, The Cambridge Edition of the Works of Immanuel Kant, Cambridge: Cambridge University Press. Its individual volumes are:
    • Allison, H., and Heath, P. (eds.), 2002, Theoretical Philosophy after 1781, Cambridge: Cambridge University Press.
    • Ameriks, K., and Naragon, S. (eds.), 1997, Lectures on Metaphysics, Cambridge: Cambridge University Press.
    • Förster, E. (ed.), 1993, Opus Postumum, Cambridge: Cambridge University Press.
    • Gregor, M. (ed.), 1996, Practical Philosophy, Cambridge: Cambridge University Press.
    • Guyer, P., and Wood, A. (eds.), 1998, Critique of Pure Reason, Cambridge: Cambridge University Press.
    • Guyer, P. (ed.), 2000, Critique of the Power of Judgment, Cambridge: Cambridge University Press.
    • Guyer, P. (ed.), 2005, Notes and Fragments, Cambridge: Cambridge University Press.
    • Heath, P., and Schneewind, J. (eds.), 1997, Lectures on Ethics, Cambridge: Cambridge University Press.
    • Louden, R., and Wood, A. (eds.), 2013, Lectures on Anthropology, Cambridge: Cambridge University Press.
    • Rauscher, F. (ed.), 2016, Lectures and Drafts on Political Philosophy, Cambridge: Cambridge University Press.
    • Walford, D., and Meerbote, R. (eds.), 1992, Theoretical Philosophy, 1755–1770, Cambridge: Cambridge University Press.
    • Watkins, E. (ed.), 2012, Natural Science, Cambridge: Cambridge University Press.
    • Wood, A., and di Giovanni, G. (eds.), 1996, Religion and Rational Theology, Cambridge: Cambridge University Press.
    • Young, J. (ed.), 1992, Lectures on Logic, Cambridge: Cambridge University Press.
    • Zöller, G., and Louden, R. (eds.), 2007, Anthropology, History, and Education, Cambridge: Cambridge University Press.
    • Zweig, A. (ed.), 1999, Correspondence, Cambridge: Cambridge University Press.

مصادر رئيسية أخرى

  • Jacobi, F., 1787, David Hume on Faith or Idealism and Realism: A Dialogue, in G. di Giovanni (ed.), The Main Philosophical Writings and the Novel Allwill, Montreal: McGill-Queen’s University Press, 1994.
  • Fichte, J., 1792, Attempt at a Critique of All Revelation, in G. Green (ed.), Attempt at a Critique of All Revelation, Cambridge: Cambridge University Press, 1978.
  • Locke, J. 1689, An Essay Concerning Human Understanding, in P. Nidditch (ed.), An Essay Concerning Human Understanding, Oxford: Clarendon Press, 1975.
  • Reinhold, K., 1786–1790, Letters on the Kantian Philosophy, in K. Ameriks (ed.), Letters on the Kantian Philosophy, Cambridge: Cambridge University Press, 2005.
  • Sassen, B., 2000, Kant’s Early Critics: The Empiricist Critique of the Theoretical Philosophy, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Tetens, J., 1777, Philosophische Versuche über die Menschliche Natur und ihre Entwicklung, Hildesheim: Olms, 1979.

Secondary Literature

  • Allais, L., 2015, Manifest Reality: Kant’s Idealism and his Realism, Oxford: Oxford University Press.
  • Allison, H., 1990, Kant’s Theory of Freedom, Cambridge: Cambridge University Press.
  • –––, 1996, Idealism and Freedom, Cambridge: Cambridge University Press.
  • –––, 2001, Kant’s Theory of Taste: A Reading of the Critique of Aesthetic Judgment, Cambridge: Cambridge University Press.
  • –––, 2004, Kant’s Transcendental Idealism: An Interpretation and Defense, New Haven and London: Yale University Press, Revised and Enlarged Edition.
  • –––, 2015, Kant’s Transcendental Deduction: An Analytical-Historical Commentary, Oxford: Oxford University Press.
  • –––, 2020, Kant’s Conception of Freedom: A Developmental and Critical Analysis, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Altman, M. (ed.), 2017, The Palgrave Kant Handbook, London: Palgrave Macmillan.
  • Ameriks, K., 1978, “Kant’s Transcendental Deduction as a Regressive Argument,” Kant-Studien, 69: 273–87; reprinted in Kitcher (ed.) 1998, pp. 85–102; and in Ameriks 2003, pp. 51–66.
  • –––, 1982, “Recent Work on Kant’s Theoretical Philosophy,” American Philosophical Quarterly, 19: 1–24; reprinted in Ameriks 2003, pp. 67–97.
  • –––, 1992, “Kantian Idealism Today,” History of Philosophy Quarterly, 9: 329–342; reprinted in Ameriks 2003, 98–111.
  • –––, 2003, Interpreting Kant’s Critiques, Oxford: Clarendon Press.
  • Aquila, R., 1983, Representational Mind: A Study of Kant’s Theory of Knowledge, Bloomington: Indiana University Press.
  • Beck, L., 1960, A Commentary on Kant’s Critique of Practical Reason, Chicago and London: University of Chicago Press.
  • –––, 1965, “The fact of reason: an essay on justification in ethics,” in Beck (ed.), Studies in the Philosophy of Kant, Indianapolis: Bobbs-Merrill, pp. 200–214; reprinted in Beck 2002, pp. 45–56.
  • –––, 1978, “Did the Sage of Königsberg Have No Dreams?” in Beck, Essays on Kant and Hume, New Haven:Yale University Press; reprinted in Beck 2002, pp. 85–101; and in Kitcher (ed.) 1998, pp. 103–116.
  • –––, 2002, Selected Essays on Kant (Series: North American Kant Society Studies in Philosophy), H. Robinson (ed.), Rochester: University of Rochester Press.
  • Beiser, F., 1987, The Fate of Reason: German Philosophy from Kant to Fichte, Cambridge and London: Harvard University Press.
  • –––, 1992, “Kant’s Intellectual Development 1746–1781,” in Guyer (ed.) 1992, pp. 26–61.
  • –––, 2000, “The Enlightenment and Idealism,” in The Cambridge Companion to German Idealism, K. Ameriks (ed.), Cambridge: Cambridge University Press, pp. 18–36.
  • –––, 2002, German Idealism: The Struggle Against Subjectivism, 1781–1801, Cambridge and London: Harvard University Press.
  • Bennett, J., 1966, Kant’s Analytic, Cambridge: Cambridge University Press.
  • –––, 1974, Kant’s Dialectic, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Bird, G., 1962, Kant’s Theory of Knowledge: An Outline of One Central Argument in the Critique of Pure Reason, London: Routledge & Kegan Paul.
  • –––, 2006, The Revolutionary Kant: A Commentary on the Critique of Pure Reason, Chicago and La Salle: Open Court.
  • Engstrom, S. 1992, “The Concept of the Highest Good in Kant’s Moral Theory,” Philosophy and Phenomenological Research, 52(4): 747–780.
  • Förster, E. (ed.), 1989, Kant’s Transcendental Deductions, Stanford: Stanford University Press.
  • Friedman, M., 2013, Kant’s Construction of Nature, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Gardner, S., 1999, Kant and the Critique of Pure Reason, London and New York: Routledge.
  • Grier, M. 2001, Kant’s Doctrine of Transcendental Illusion, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Ginsborg, H., 1990, The Role of Taste in Kant’s Theory of Cognition, New York: Garland.
  • –––, 1997, “Kant on Aesthetic and Biological Purposiveness,” in B. Herman, C. Korsgaard, and T. Hill (eds.), Reclaiming the History of Ethics: Essays in Honor of John Rawls, Cambridge: Harvard University Press, pp. 329–360.
  • –––, 2001, “Kant on Understanding Organisms as Natural Purposes,” in E. Watkins (ed.), Kant and the Sciences, Oxford: Oxford University Press.
  • –––, 2006, “Thinking the Particular as Contained in the Universal,” in Kukla (ed.) 2006, pp. 35–60.
  • Guyer, P., 1987, Kant and the Claims of Knowledge, Cambridge: Cambridge University Press.
  • –––, 1992, “The transcendental deduction of the categories,” in Guyer (ed.) 1992, pp. 123–160.
  • –––, 1993, Kant and the Experience of Freedom, Cambridge: Cambridge University Press.
  • –––, 1997, Kant and the Claims of Taste, Cambridge: Cambridge University Press, 2nd edition.
  • –––, 2000, Kant on Freedom, Law, and Happiness, Cambridge: Cambridge University Press.
  • –––, 2005, Kant’s System of Nature and Freedom, Oxford: Clarendon Press.
  • –––, 2006, Kant, London and New York: Routledge.
  • ––– (ed.), 1992, The Cambridge Companion to Kant, Cambridge: Cambridge University Press.
  • ––– (ed.), 2006, The Cambridge Companion to Kant and Modern Philosophy, Cambridge: Cambridge University Press.
  • ––– (ed.), 2010, The Cambridge Companion to Kant’s Critique of Pure Reason, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Henrich, D., 1969, “The Proof-Structure of Kant’s Transcendental Deduction,” Review of Metaphysics, 22: 640–59.
  • –––, 1976, Identität und Objektivität: Eine Untersuchung über Kants transzendentale Deduktion, Heidelberg: Carl Winter Universitätsverlag.
  • –––, 1992, Aesthetic Judgment and the Moral Image of the World: Studies in Kant, Stanford: Stanford University Press.
  • –––, 1994, The Unity of Reason: Essays on Kant’s Philosophy, R. Velkley (ed.), Cambridge and London: Harvard University Press.
  • Hill, T., 1992, Dignity and Practical Reason in Kant’s Moral Theory, Ithaca: Cornell University Press.
  • Höffe, O., 1994, Immanuel Kant, Albany: State University of New York Press.
  • Jankowiak, T., 2017, “Kantian Phenomenalism Without Berkeleyan Idealism,” Kantian Review, 22(2): 205–231.
  • Kanterian, E., 2018, Kant, God, and Metaphysics, London and New York: Routledge.
  • Kemp Smith, N., 1923, Commentary to Kant’s Critique of Pure Reason, New York: Humanities Press, 2nd edition (1992 reprint).
  • Kitcher, P. (ed.), 1998, Kant’s Critique of Pure Reason: Critical Essays, Lanham, Maryland: Rowman & Littlefield.
  • –––, 2011, Kant’s Thinker, Oxford: Oxford University Press.
  • Kleingeld, P., 1995, “What do the Virtuous Hope for? Re-reading Kant’s Doctrine of the Highest Good,” in H. Robinson (ed.), Proceedings of the Eight International Kant Congress, Milwaukee: Marquette University Press, 1:91–112.
  • Korsgaard, C., 1996, Creating The Kingdom of Ends, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Kuehn, M., 2001, Kant: A Biography, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Kukla, R. (ed.), 2006, Aesthetics and Cognition in Kant’s Critical Philosophy, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Langton, R., 1998, Kantian Humility: Our Ignorance of Things in Themselves, Oxford: Clarendon Press.
  • Laywine, A., 1993, Kant’s Early Metaphysics and the Origins of the Critical Philosophy (NAKS Studies in Philosophy: 3), Atascadero, CA: Ridgeview.
  • Longuenesse, B., 1998. Kant and the Capacity to Judge: Sensibility and Discursivity in the Transcendental Analytic of the Critique of Pure Reason, Princeton: Princeton University Press.
  • –––, 2005, Kant on the Human Standpoint, Cambridge: Cambridge University Press.
  • –––, 2006, “Kant on a priori concepts: The metaphysical deduction of the categories,” in Guyer (ed.) 2006, pp. 129–168; also in Longuenesse 2005, pp. 81–116.
  • McFarland, J., 1970, Kant’s Concept of Teleology, Edinburgh: University of Edinburgh Press.
  • Neiman, S., 1994, The Unity of Reason: Rereading Kant, Oxford: Oxford University Press.
  • O’Neill, Onora, 1989, Constructions of Reason, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Paton, H., 1936, Kant’s Metaphysic of Experience, London: Allen & Unwin.
  • –––, 1947, The Categorical Imperative, Philadelphia: University of Pennsylvania Press (1971 reprint).
  • Prauss, G., 1974, Kant und das Problem der Dinge an sich, Bonn: Bouvier.
  • Rawls, J., 2000, Lectures on the History of Moral Philosophy, B. Herman (ed.), Cambridge and New York: Harvard University Press.
  • Reath, A., 1988, “Two Conceptions of the Highest Good in Kant,” Journal of the History of Philosophy, 26: 593–619.
  • Robinson, H., 1994, “Two Perspectives on Kant’s Appearances and Things in Themselves,” Journal of the History of Philosophy, 32: 411–441.
  • Rohlf, M., 2008, “The Transition From Nature to Freedom in Kant’s Third Critique,” Kant-Studien, 99(3): 339–360.
  • –––, 2010, “The Ideas of Pure Reason,” in Guyer (ed.) 2010, pp. 190–209.
  • Schönfeld, M., 2000, The Philosophy of the Young Kant: The Precritical Project, Oxford: Oxford University Press.
  • Silber, J., 1959, “Kant’s Conception of the Highest Good as Immanent and Transcendent,” The Philosophical Review, 68: 469–492.
  • Strawson, P., 1966, The Bounds of Sense: An Essay on Kant’s Critique of Pure Reason, London and New York: Routledge.
  • Sullivan, R., 1989, Immanuel Kant’s Moral Theory, Cambridge: Cambridge University Press.
  • –––, 1994, An Introduction to Kant’s Ethics, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Van Cleve, J., 1999, Problems From Kant, New York and Oxford: Oxford University Press.
  • Walford, D. and Meerbote, R., 1992, “General Introduction” and “Introductions to the translations,” in Immanuel Kant: Theoretical Philosophy, 1755–1770, Cambridge: Cambridge University Press, pp. xxxv–lxxiv.
  • Willaschek, M., 2018, Kant on the Sources of Metaphysics: The Dialectic of Pure Reason, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Wood, A., 1970, Kant’s Moral Religion, Ithaca: Cornell University Press.
  • –––, 1984, “Kant’s Compatibilism,” in Wood (ed.), Self and Nature in Kant’s Philosophy, Ithaca and London: Cornell University Press, pp. 73–101; reprinted in Kitcher (ed.) 1998, pp. 239–263.
  • –––, 1999, Kant’s Ethical Thought, Cambridge: Cambridge University Press.
  • –––, 2005, Kant, Oxford: Blackwell.
  • Zuckert, R., 2007, Kant on Beauty and Biology: An Interpretation of the Critique of Judgment, Cambridge: Cambridge University Press.

أدوات أكاديمية

How to cite this entry.

Preview the PDF version of this entry at the Friends of the SEP Society.

Look up topics and thinkers related to this entry at the Internet Philosophy Ontology Project (InPhO).

Enhanced bibliography for this entry at PhilPapers, with links to its database.

مصادر أخرى على الإنترنت


[1]أفضل سيرة لكانْت، والتي أخذنا منها هذه المعلومات، هي التي كتبها مانفريد كون (Kuehn 2001).

[2]راجع (Kuehn 2001, 38, 44. See also 54).

[3]حول التطوّر الفكري لكانْت وفكره الماقبل-نقدي، راجع (Walford and Meerbote 1992, Beiser 1992, Laywine 1993, Schönfeld 2000, Kanterian 2018, Allison 2020)، والمدخل المعنون (التطوّر الفلسفي لإيمانويل كانْت) في هذه الموسوعة.

[4]الإشارات المرجعية في هذا المدخل تحيل إلى الجزء والصفحة من طبعة (الأكاديمية) من مؤلّفات كانْت (راجع البيبليوگرافيا)، باستثناء كتابه (نقد العقل المحض)، فالإشارات المرجعية الخاصّة به تحيل إلى الطبعة (الأولى A، والثانية B) ورقم الصفحة. وكلّ الاقتباسات الواردة عن كانْت تتبع، مع بعض التعديلات الطفيفة، الترجمة الإنگليزية لمؤلّفاته كما وردت في (طبعة كَيمبريج لمؤلّفات إيمانويل كانْت) (راجع: البيبليوگرافيا).

[5]راجع (Gardner 1999, chapters 1-2; and Beiser 2000).

[6]راجع (Bird 2006, 31).

[7]يعيد كانْت تسميتها في (المناقشات التمهيدية) بـ”المثالية النقدية” لكنّ هذا الاسم لم يستمرّ.

[8]راجع أيضًا (A369)، لكنّ هذا الاقتباس لم يرد إلّا في الطبعة الأولى. ولمناقشة أوفى يمكن الرجوع إلى المدخل المعنون (إيمانويل كانْت.. رؤاه في المكان والزمان) في هذه الموسوعة.

[9]المراجعة الأصلية التي كتبها گارڤه اختصرها فيدير في (يناير 1782) اختصارًا شديدًا وتشدّد في تنقيحها ونشرها دون ذكر اسم كاتبها؛ وقد ردّ عليها كانْت بشكل مباشر في (المناقشات التمهيدية؛ 4:372ff). ويمكنك أن تجد المراجعة الأصلية التي كتبها گارڤه مع النسخة التي حرّرها فيدير مترجمتين ومناقشتين في (Sassen 2000).

[10]من المناصرين حديثًا لتفسير (الموضوعين): (Strawson 1966Strawson 1966, Aquila 1983, Guyer 1987, Van Cleve 1999, and Jankowiak 2017).

[11]من الأصوات التي ظهرت مؤخّرًا في تأييد تفسير (الجانبين): (Bird 1962, Bird 2006, Prauss 1974, Langton 1998, Allison 2004, and Allais 2015).

[12]على سبيل المثال: (Bxviii–xix, A38–39/B55–56, A42/B59, A247/B303, A490–491/B518–519)، ومقاطع حول مفهوم الحدود الإشكالي للنومينونات في الفصل المخصّص للظاهرة والنومينونات، وفي نهاية مناقشته للالتباس.

[13]للاطّلاع على أمثلة ومناقشة يمكن الرجوع إلى (Robinson 1994 and Ameriks 1992). راجع أيضًا: ردود أليسون في (Allison 1996, chapter 1).

[14]راجع على سبيل المثال: (Henrich 1969; Henrich 1976; Ameriks 1978; Guyer 1987, part II; Guyer 1992; Kitcher 2011; Longuenesse 1998; Longuenesse 2005, part I; Allison 2004, chapter 7; Bird 2006, chapters 13–16; and Allison 2015). وراجع أيضًا المداخل التالية في هذه الموسوعة: (إيمانويل كانْت.. نظرية الحكم)، (إيمانويل كانْت.. الحجج الترَنسندنتالية)، (إيمانويل كانْت.. رؤيته حول الذهن ووعي الذات).

[15]راجع أيضًا (A116) و(Guyer 1987, 132–139).

[16]هذان حكمان أيضًا في الحقيقة، ويدعوهما كانْت في (مناقشات تمهيدية لأيّة ميتافيزيقا مستقبلية يمكن طرحها كعلم) بأحكام الإدراك الحسّي (4:298–299)؛ لكنّهما حكمان بشأن أحوال ذاتية تخصّ المرء وليست بشأن موضوعات مميّزة عنه. وهي تتمتّع بقيمة للصدق باعتبارها أحكامًا: فقول المرء بأنّه (يشعر بالحنين عند رؤية المنزل) هو إمّا صادق وإمّا كاذب. لكنّ المغزى الذي يريده كانْت هو أنّ المرء لا يستطيع إصدار أحكام مماثلة حول ذاته هو إلّا إذا أصدر أحكامًا حول موضوعات متميّزة عنه. فالأحكام الذاتية المجرّدة للإدراك الحسّي تتطفّل على أحكام التجربة المنتجة موضوعيًا، لأنّ الوعي الذاتي يتطلّب من المرء أن يضع نفسه في عالم موضوعي وإرجاع أحد تمثّلاته على الأقلّ إلى موضوعات متميّزة عنه. راجع (Beck 1978).

[17]راجع (A66–83/B91–116)، و(B159)، و(Longuenesse 2006).

[18]يدعو كانْت المكان، خصوصًا، بأنّه من صنع الخيال كي يؤكّد على رؤيته القائلة بأنّ الإنسان ليس واعيًا، على نحو ما، بكلّية المكان، والذي يصفه أيضًا بأنّه «لامتناهٍ جُعِل له مقدار» (292/B348–349, A25/B39). بل إنّ المرء لا يعي المكان إلّا إلى الحدّ الذي يمثّل الموضوعات فيه، لكنّه يتوجّب عليه أن يمثّل الموضوعات في مكان واحد ولا يمكنه أن يمثّل أيّ حدود للمكان. راجع (Longuenesse 2005, chapter 3).

[19]راجع (Kemp Smith 1923, 2)، والمدخل المعنون (إيمانويل كانْت.. تفسيره للعقل) في هذه الموسوعة.

[20]راجع (Grier 2001, Rohlf 2010, Willaschek 2018)، والمدخل المعنون (إيمانويل كانْت.. نقد الميتافيزيقا) في هذه الموسوعة.

[21]راجع (Wood 1984, Allison 1990, and Allison 2020). إنّ مناقشات كانْت المهمّة للحرّية لا تقتصر على ما أوردناه من نصوص مقتبسة من كتابه (نقد العقل العملي)، بل تشمل أيضًا النقيضة الثالثة وحلّها في (نقد العقل المحض)، والقسم الثالث من (تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق).

[22]للاستزادة في مناقشة الفلسفة العملية لدى كانْت، راجع المداخل التالية في هذه الموسوعة: (الفلسفة الأخلاقية لدى إيمانويل كانْت)، (السلوك الأخلاقي لدى إيمانويل كانْت وديڤيد هيوم)، (الفلسفة الاجتماعية والسياسية لدى إيمانويل كانْت).

[23]راجع (Rohlf 2010).

[24]راجع (Beck 1960, 244–45; and Wood 1970, 95–96).

[25]راجع (Silber 1959; Wood 1970, 94–95; Reath 1988; and Engstrom 1992, 776–777).

[26]راجع (Wood 1970, chapter 4; Guyer 2000, chapter 10)، والمدخل المعنون (الجماليات والغائية عند إيمانويل كانْت) في هذه الموسوعة.

[27]يطوّر رولف (Rohlf 2008) طريقة أخرى لفهم هذه المشكلة بالتشديد على أهمّيتها الأخلاقية عند كانْت.

[28]راجع (Ginsborg 1990, Guyer 1997; Allison 2001; Zuckert 2007)، والمدخل المعنون (الجماليات والغائية عند إيمانويل كانْت) في هذه الموسوعة.