مجلة حكمة
إرهاب الغموض ميشال فوكو

“إرهاب الغموض” في فكر ميشال فوكو – آسيا بلمحنوف


  كان ميلاد الفكر الفوكويّ في ستينيات القرن الماضي حدثًا عظيمًا في تاريخ الأفكار، حيث مثلت أفكار الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو Michel Foucault محطة مهمة وفاصلة في تاريخ الفلسفة الغربية المعاصرة، وتكمن أهمية فوكو في كونه نقطة مركزية تلتقي فيها أبرز التوجهات المعرفية والفلسفية في تاريخ الفكر الإنساني، دون إمكانية اختزاله في أي منها، ورغم أن فوكو وظّف مصطلحات الماركسية على غرار الاقتصاد السياسي، رأس المال، سلطة العمل، المقاومة، ونحوها، وقدّم بطلبٍ من لويس ألتوسير Louis Althusser دروسًا لطلاب المدرسة القومية للإدارة التابعة للكونفدرالية العامة للعمال CGT، ورغم إقراره الصريح أيضا بأنَّ كتابه “تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي” ماركسي، إلاَّ أن علاقته بالماركسية لا تبدو قوية جدًّا بل تظهر مُفككة وعدائية خاصة من طرف الماركسيين الذين كانوا أعداء لفوكو حتى عندما كان بينهم، ولقد كان توغل فوكو في الامتزاج الذي حصل بين الجامعة والحزب الشيوعي كفيلا بأن يُظهر له في نهاية المطاف زيف الانتماء للخطاب الماركسي وذلك عندما اكتشف الوهم الخادع بالصراع بين الجامعة التي كانت تمثل جهازا من أجهزة الدولة وبين الحزب الشيوعي الذي كان يراقبُ جهاز الدولة هذا مُتماهيًا معه، وهكذا وصل إلى تماثل هذين الجهازين إذ إنهما يختصان في نظره بالتراتبية نفسها، وبالضغوطات نفسها، وبالأرثدوكسية نفسها، أما عن أسباب انتمائه للماركسية عندما كان طالبًا جامعيًا فقد برّر فوكو  في إحدى حواراته هذا الانتماء بتلك التسهيلات التي كان يحظى بها المدافعون عن الماركسية في الجامعة، وفي هذا الصدد يقول: « كم كانت الأمور سهلة لِيحصل المرء على شهادة التبريز  في الفلسفة عندما يتعلق الأمر بماركس!»([i])، لهذا لم يأخذ وقتا طويلا ليتخلّى عن ماركسيته مباشرة عندما غادر فرنسا إلى السويد ثم بولونيا، وعلى عكس ما قاله جون بول سارتر Jean-Paul Sartre في لقائه مع مجلة “لارك” أن فوكو مفكرٌ معادي للماركسية إلاَّ أن الأخير أكد أن تخليه عن الخطاب الماركسي لم يجعله يتخذ موقفًا عدائيا أو سلبيًا تجاه ماركس، بل كان يقول: « إذا كان لدى ماركس أشياء صحيحة فيمكن لنا استعمالها بوصفها أدوات دون أن يُفرض علينا ذِكرها»([ii]).

  يُلصق قُراء فوكو ومُحِبيه الكثير من الألقاب به، فهو تارة مؤرخ ضد التاريخ، وهو البنيوي الذي تنكّر لبنيويته تارة أخرى، حيث وصفه جان بياجيه  Jean Piagetفي كتابه “البنيوية” بالبنيويّ المزيف، فبعد أن كان مُعجبًا بفكرة النسق التي تُعدُّ فكرة بنيوية وبعد أن اعتبر البنيوية _التي كانت الملهم الأول أثناء كتاباته الأولى_ وعي المعرفة الحديث المستيقظ والقلق توقف عن ترديد شعاراتها لأنها كانت عاجزة كل العجز عن تلبية رغباته المنهجية في التفكيك، ورغم رَفضِ فوكو أن يُوصف بالبنيوي إلاَّ أن أعماله الأولى يمكن فهمها ضمن التصور البنيوي الذي كان مُستحوذا على الساحة الفكرية في ستينيات القرن الماضي، إضافة إلى البنيوي أُلصقت بفوكو أسماء أخرى منها السيميائي، والما بعد حداثي، والفيلسوف الغامض والمحلل النفساني، لكن رغم كل محاولات التصنيف مازالت كتاباته عصية على الفهم فضلاً على التصنيف والتحديد ضمن اتجاه محدد، خاصة وأنَّ فوكو كان يرفض الإجابة عن السؤال الذي يُطلب منه فيه التعريف بنفسه مُبررًا عدم إجابته بقوله: « أما فيما يتعلق بجميع أسئلة التصنيف أو البرنامج التي تُطرح علي من قبيل: هل أنت ماركسي؟ ماذا عساك تفعل لو كانت السلطة بيدك؟، من هم حلفاؤك وما هي انتماءاتك؟، فإنها أسئلة ثانوية، حقا»([iii])، ورغم أنّه كان كثير الحركة في التاريخ حيث قدّم سردًا مُطولاً عن تاريخ الجنون منذ العصر الكلاسيكي، وكشف عن آليات العقاب، والطريقة التي ظهرت بها العيادات والسجون، و أبدع عند حديثه عن سسيولوجيا الإجرام، وجنسانية القرنين السابع عشر والثامن عشر، وتسلط البورجوازية على جسد الإنسان، إلاَّ أنه يُصرّ على أنّه ليس مؤرخًا، بل إن البعض من الذين يسكنون الطرف النقيض من أفكاره يجعلون منه مُؤرخا ضد التاريخ لأنَّه أرخ لكنه لم يسكن فيما أرّخ له، بل عرّاه وفضحه وكشف عن الطابوهات التي كانت تسكنه،  وليس لدينا شك أن فوكو لم يكن مجرد مؤرخٍ فحسب، بل إنه زيادة على ذلك كان مُفككًا حذقًا نتج عن منهجه التفكيكي عمل أركيولوجي دقيق شمل كلَّ شظايا الحفريات التي قام بها، حتى أنَّه يجعل من قارئه أركيولوجيًا أيضًا ويورطه في عملية التفكيك لكل حفيرة يقوم بها،  وردًا على سؤال طرحه عليه الكاتب روجيه_بول دورا مفاده: هل ينبغي أن نسميك فيلسوفا؟، رفض فوكو هذه التسمية قائلاً: «كلا، لا أريد هذه التسمية كذلك، فليس ما أفعله فلسفة أبدًّا، كما أنَّه ليس علما يمكن أن نطالبه بالمُسوغات والبراهين التي يحق لنا أن نطالب بها كل عِلمٍ» ([iv])، أما عن كونه محللا نفسانيا فلا شك أنَّ فوكو اشتغل في هذا الحقل كثيرا ويبدو أنَّه كان ميدانه المفضل إلى جانب تفسيراته لعمل السلطة وعلاقات القوى المتعددة، فقد بدا منذ كتابه Les Mots et les choses “الكلمات والأشياء” على علاقة جيّدة بالتحليل النفسي حين قال: « يحتل التحليل النفسي والإثنولوجيا مركزًا مرموقًا في معرفتنا»([v])، و في “الكوليج دو فرانس” قدّم فوكو دروسًا ورؤى جديدة حول التحليل النفسي طُبعت لاحقًا في  كتاب تحت عنوان L’herméneutique du Sujet والذي تُرجم إلى العربية فيما بعد بعنوان: “تأويل الذات“، في هذه الدروس شرح فوكو تصور الرواقيين للإنسان بوصفه كائنا اجتماعيا، كما تطرّق إلى العودة الأفلاطونية وعلاقتها بالنفس، وعن الاهتمام بالنفس عند الأبيقوريين والكلبيين في المرحلتين اليونانية والرومانية، وغيرها من المواضيع المرتبطة بالتحليل النفسي، ولعل الاهتمام بوضع مفهوم دقيق للذات وتحديدًا الذات الغربية في طريقة تشكلها عبر تاريخها الفلسفي والثقافي والاجتماعي المُشبع بكل أشكال الهيمنة والإخضاع كان الشغل الشاغل لفوكو في هذه الدروس، وفي هذه الدروس بالذات يبرز لنا فوكو الفيلسوف _رغم رفضه لهذه التسمية_، وذلك حين عالج موضوعًا فلسفيًا بطريقة فلسفية محضة، من خلال قراءته ومناقشته لمجموعة من النصوص الفلسفية القديمة التي تعود لفلاسفة من الحقبتين اليونانية والرومانية من أمثال أفلاطون Platon  وأبيقور épicure وسينياك Sénèque وغيرهم من الفلاسفة.

   وبينما كان أنصار ونُقاد فوكو ولا زالوا إلى اليوم يُلصقون به ألقابًا كثيرة ومختلفة، إلاَّ أنَّه لم يُقر بواحدة منها ففي إحدى حواراته قدّم نفسه كالآتي: « إنني صانع أسهم نارية، أصنع شيئا صالحًا  في النهاية لِضرب حصارٍ، لشنّ حرب، للقيام بعمل تخريبي، لكنني أدافع عن إمكانية العبور، عن إمكانية التقدم، عن إمكانية إسقاط الجدران» ([vi])، تأخذنا لغة التقديم هذه إلى الاعتقاد مرة أخرى على فكرة “فوكو الفيلسوف” التي نؤمن بها بقوة، والتي أثبتتها دروس الكوليج الفرنسي بشكل واضح كما ذكرنا سابقًا، لكن ما الذي يقصده فوكو بقوله “إنني صانع أسهم نارية”، لماذا استعان بالكناية بدل التصريح؟ هل هي  رغبة الغموض؟ أم شيء آخر لا يعرفه إلاَّ فوكو؟، أم أنها مجرد لغة فوكوية لطالما فضلت الانزيحات والانعطافات وكسرت أفق التوقعات، لكن تفكيك العبارة مجازيًا سيوصلنا إلى اعتبار أن الصناعة تُشير إلى الابتكار والخلق أما الأسهم النارية فإنها ترمز إلى كل ما كان يقوم به فوكو من نقد للسلطة خاصة الممارسة على الجسد بكل أشكالها المباشرة وغير المباشرة، كما ترمز إلى تلك الهوامش المسكوت عنها في التاريخ والتي جعل منها فوكو موضوعات له، إنها تشير إلى المنهج الأركيولوجي الذي حفر به فوكو كل طبقات التاريخ الثقافي والفلسفي والنفسي والقمعي للمجتمعات الأوروبية، والهدف من كل هذا حسب فوكو هو شن حصارٍ على تلك القيود وتقييدها لِتكف عن التطاول في قمعها الممارس إزاء الأجساد، ومن ثمة كسر كل جدران القمع والإخضاع والتدجين والتنميط والعبور نحو اللامفكر فيه، وهكذا بقي فوكو _حتى بعد وفاته_ منذ ستينيات القرن الماضي وإلى غاية القرن الواحد والعشرين مجهول اللقب مُستعصي التصنيف يصنع جدلاً مُستمرًا في كل ما يقوله ويُقدّمه، وحتى وهو يقرُّ بتسمية واحدة غريبة _صانع أسهم نارية_ لم تشتهر عنه مُطلقًا على الأرجح لأنها لم تلق فهمًا دقيقًا يُشبه ذلك الذي قصده ميشال فوكو، وللإشارة لم يكن لدى فوكو اعتراض إذا وُصف “بالنِيتشوي” فقد كان مولعًا بفكر فريديرك نيتشه Friedrich Nietzsche، وانطلاقا من جينالوجيا الأخلاق عند نيتشه كتب فوكو جينالوجيا المعرفة، وهذا الارتباط بين المُفكِرَين يجعلنا نطرح سؤال آخر: هل فوكو ما بعد حداثي على اعتبار أنَّه حاضن معرفي للكثير من فلاسفة ما بعد الحداثة وعلى رأسهم نيتشه؟ .

    ينقلُ لنا جون سيرل Johne Searle   في إحدى مقالاته النقدية لجاك دريدا Jaques Derrida كلامًا مهمًا نقله عن ميشال فوكو في محادثة جمعتهما، وقد تضمن الكلام وصفا فوكويا لأسلوب دريدا في الكتابة، وطريقته الغريبة في استخدام اللغة، نقل سيرل أن فوكو قد أخبره أن دريدا يستخدم “إرهاب الغموض” Terroriste obscurantisme أثناء كتابة نصوصه وحتى في مقابلاته المتلفزة، لهذا فإنَّ كل المحاولات لانتقاد فلسفته التي تقبع خلف ذلك الغموض ستؤول في نهاية المطاف إلى الفشل، لأنَّ هذا النوع من الغموض في طرح الأفكار وتقديمها يُؤسس لآفاق غير مُتوقعة وغير اعتيادية وغير مُستقرة ولهذا غالبًا ما تكون أفكار من هذا النوع غير محبذة من طرف الكثيرين، وهذا الغموض هو نفسه الذي يُخول لدريدا أن يقول ما يشاء وأن يتجاوز كل الانتقادات الموجهة إليه بعبارة واحدة: Tu ne pas compris “أنت لم تفهمْ”، إنها عبارة كفيلة بأن تجعل من دريدا أو غيره ممن يعتمد “إرهاب الغموض” في الكتابة فيلسوفًا عميقًا وعصيًّا على الفهم، إنه الفيلسوف الذي لم يستطع أحد فهم نظرته للعالم وللأشياء من حوله، لهذا سيبقى مُحترمًا جدًّا بفضل غموضه، تلك العبارة هي أيضا كفيلة بأن تُشعر الآخرين مهما كان مستواهم المعرفي والفلسفي أنهم عاجزين كليًا عن فهم ما يتحدث عنه هذا الفيلسوف العميق، وبالتالي لا مجال لمناقشته أو انتقاده.

   إن مصطلح “إرهاب الغموض” الذي استخدمه فوكو لوصف أسلوب دريدا إن صدق سيرل في زعمه، ينطبق بالنسبة  لبعض المطلعين على كتابات فوكو على أسلوب فوكو نفسه المُغرق _حسبهم_ في غموضه وانزيحاته التي تُعرقل القارئ عن القبض عن المعنى المكتنز في مصطلحاته، لكن فوكو نفسه لم يُنكر أن بعض ما يكتبه غامض في نظر كثير من قرائه وطلبته، ولا يمثل هذا حرجا بالنسبة له، لأن هذا الغموض في الكتابة مُبرَّرٌ على الأقل في فرنسا، إذ لم يكن الجوّ الفرنسي آنذاك يُبدي احترامًا كبيرا للأساليب البسيطة والواضحة في الكتابة، بل كان الجمهور والطلبة يبحثون عن أفكار جديدة وعميقة وحتى غريبة، لهذا كان على الكاتب أن يكون غامضًا على الأقل بنسبة عشرة بالمئة، وإلاَّ فإنَّ الناس سيعتقدون أنَّه ليس عميقًا أو أنَّه مفكرٌ سطحي، وعليه كان الغموض العالم الأمثل للمفكرين والوسيلة الأفضل للحفاظ على سمعتهم العلمية، وحماية مواقعهم من الاستيلاء، ثم إن الثورة التي شنّها فوكو على البديهيات واليقينيات التي كانت تحكم المجتمعات الغربية التي تملك إرثًا أخلاقيًا وميتافيزيقًا غزيرًا ومُؤثرًا، كانت تقتضي منه أن يتحدث بلغة عالية المستوى، ومُختلفة في طريقة بنائها وتعبيرها عن الأشياء، لغة مُحرجة ومُككة لكل الثوابت التي تتبناها المجتمعات الغربية، وكأنه أراد أن يؤسس من خلال ذلك الغموض اللغوي إلى خطاب فلسفي جديد ومختلف وخاصٍ به، جديدٌ في تأويله ومختلف في إجراءاته ومفاهيمه، كان يريد من ذلك الغموض أن يكون مُثقفًا بلغة أخرى، مُثقفًا  يطرق اللامفكر فيه بكل جرأة ويجعل من الهامش مركزًا، أو كما كان يقول في إحدى مقابلاته: « أحلم بالمثقف هدّام القناعات والبديهيات، أحلم بالمثقف الذي يستكشف في عطالة الحاضر وإكراهاته نقاط الضعف والشقوق وخطوط القوة، أحلم بالمثقف الذي يتحرك باستمرار، دون توقف، غير عارف أين سيصبح غدا، ولا بماذا سيفكر غدا، لأنه شديد الالتصاق بالحاضر»([vii])

   ختامًا نشير إلى أن فوكو كان يمقت وبشدة عمليات التصنيف والتقييم ويرى فيه أمرا فظيعًا، وبهذا أيضًا يمكن أن نبرر “إرهاب الغموض” الذي كان يتجلى في كل ما يكتبه، ويطرحه من أفكار، كأنه كان هاربًا من سلطة التصنيف تلك التي تزج به داخل علاقات القوة، وقد أَعلنها فوكو صراحة في حفريات المعرفة حيث قال: أنا لست هنا لِتراقبوني، لكن أنا هنا حيث أراكم ضاحكًا.


المراجع:[1]

  1. ميشيل فوكو، جاك دريدا، بلانشو: حوارات ونصوص، تر: محمد ميلاد، دار الحوار، اللاذقية، سورية، ط1، 2006، ص41.
  2. نفسه: ص43.
  3. ميشال فوكو: همّ الحقيقة، تر:مجموعة من الباحثين، منشورات الاختلاف، الجزائر، ط2، 2006، ص61.
  4. نفسه: ص18.
  5. ميشال فوكو: الكلمات والأشياء، تر: مجموعة من الباحثين، مركز الإنماء القومي، بيروت، لبنان، (د.ط)، (د.ت)، ص304.
  6. ميشال فوكو، جاك دريدا: حوارات ونصوص، (مرجع سابق)، ص18.
  7. ميشيل فوكو: منهجية الخرق الأركيولوجية، مجلة الكرمل، مجلة فصلية ثقافية، فلسطين، ع12، 1984، ص15.