مجلة حكمة
ألفريد فرج المسرح

التراث في مسرح ألفريد فرج – لقمان محمود


التراث الشعبي العربي عند ألفريد فرج هو المادة الخام الأساسية التي بنى عليها معظم نتاجه المسرحي، ومحطاته الكبرى كانت عند حكايات ألف ليلة وليلة، ومنها استمد عددا من أعماله المسرحية الهامة. والسؤال هل يمكن أن يكون المسرح تعليميا، وأن يكون هدفه الأوحد تغيير العالم؟ ليس السؤال مطروحا على فناني المسرح وحدهم بطبيعة الحال، لكن المسرح هو الفن الأكثر قدرة على صياغة الأسئلة وطرحها، وتقديم إجابات لها، كل حسب موقعه، وحسب ما يتوفر له من معطيات، وهو كذلك فن جماعي مركب، لا بد له من جماعة متآلفة من فنانين، وفنيين حتى يكتسب حياته فوق الخشبة، والحديث عن مسرح “ألفريد فرج” له جوانب متعددة، وقبل الشروع فيها لا بد من الحديث عن الواقع الذي نشأ له هذا المسرح.

لقد كانت ثورة تموز عام 1952، التي حاولت أن تعيد صياغة أسس الواقع المصري سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا، مناخا ممتازا لظهور مسرح ناهض في كل مكان تنوعت أشكاله، وأهدافه، فانقسم الإنتاج المسرحي المصري في تلك الفترة أقساما ثلاثة:

القسم الأول: قدم المسرحية الاجتماعية النقدية، وأعلامها نعمان عاشور، سعد الدين وهبة، لطفي الخولي وألفريد فرج، حيث تحولت المسرحية على أيدي هؤلاء إلى كوميديا انتقادية ذات مضمون سياسي واضح.

القسم الثاني: قدم المسرحية التراثية التي تفيد من مأثورات الشعب في الصيغة والمضمون المسرحيين، وأهم كتابها: ألفريد فرج، نجيب سرور، شوقي عبد الحكيم، محمود دياب.

أما القسم الثالث: فقد قدم مسرحيات سياسية إما معاصرة أو من تاريخ الأمة العربية، فكان عبد الرحمن الشرقاوي، وصلاح عبد الصبور، وألفريد فرج أهم أعلامه.

وهنا نلاحظ أن المسرحي ألفريد فرج تناول في كتاباته المسرحية الأقسام الثلاثة للمسرحية، ولا عجب في ذلك فهو ابن الصعيد المصري، نزحت عائلته إلى الإسكندرية، فدرس الأدب الإنجليزي في جامعتها، وحمله طموحه إلى القاهرة، ليختلط بمثقفيها، حيث عمل حينها بالنقد والصحافة، فانشغل بالشعر والمسرح، ودأب على الدرس بأناة وهدوء التراجيديات الهامة في عصورها المختلفة، كما وجد نبعا متدفقا في ألف ليلة وليلة، والسير والملاحم، لذلك لا يمكن النظر إلى مسرح ألفريد فرج بمعزل عن حركة التقدم في مصر، بدءا بثورة تموز وما أحدثته من متغيرات على الصعيدين المحلي والعالمي على السواء.

فمع وعي فرج الدرامي تخلق قبل حدوث هذا الفعل الاجتماعي، غير أن مظاهر هذا الوعي قد واكبت التغيير الاجتماعي الذي أحدثته الثورة، لذا نجد أن مسرح فرج يقع في قلب حركة التقدم، وهو واحد من الذين تجلى إبداعهم في حرب بور سعيد عام 1956، وصاغوا من الاحتلال سلاحا ذا وقوة في مقاومته، وأرهصوا بإفلاس الاحتلال، مؤكدين بأن القوة الشعبية قادرة على مقاومته، ودحره، فأخرج أولى مسرحياته “صوت مصر” عام 1956، غير أن أعماله في هذه الفترة، كانت تحضع لمعايير فن المقاومة واستنهاض الهمم ضد المستعمر، أكثر من خضوعها لمعايير الشكل والمضمون، فأتت أعماله أقرب إلى التحريض المباشر دون الوعي، والكشف في الإطار الفني الخلاق، واتسمت هذه المرحلة بالنزوع التلقائي لتحقيق فعل المقاومة، وحفر الإرادة الشعبية لمواجهة التسلط الاستعماري.

أما أهم ما تميز به مسرح فرج، فهو بحثه الدؤوب لتحقيق فكرة العدالة، وقد تنوعت أشكال التعبير عن هذه الفكرة، فهناك المستوى التاريخي الذي تمثله مسرحيتا “سقوط فرعون” عام 1957، و”سليمان الحلبي” عام 1965.

ففي الأولى يعالج قضية السلام، فالفرغون أخناتون الذي عرف في تاريخ مصر القديمة بالدعوة إلى التوحيد، وإلى المثالية الأخلاقية، يعتنق في المسرحية، سياسة السلام المطلق، ويدعو إلى هذه السياسة، ويرفض أن يلجأ إلى الحرب، لأي سبب كان، بينما كهنة آمون الرجعيون يرفضون هذه السياسة، ويدعون إلى الحرب، للمحافظة على المستعمرات المصرية في آسيا وإفريقيا. وأرسل الكهنة واحدا منهم إلى قائد الجيش أخناتون ليغريه بالخروج على سياسة فرعون، وتسيير الجيش لقمع المستعمرات، وينجح الكاهن اللبق، الداهية، في مهمته، فيغري القائد بهذه السياسة، بل يغري أيضا زوجة فرعون نفرتيتي بالسياسة نفسها، ويشعر فرعون بهذه المؤامرة، فيأمر بوضع قائده وزوجته في السجن. ولكن القائد لا يلبث أن يهرب من السجن ليقود جيشه إلى الحرب، ويدرك أخناتون بأن سياسة السلام المطلق التي يدعو إليها لا سبيل إلى تحقيقها، بل ينتهي الأمر إلى الاعتقاد بأن هذه السياسة لا يستطيع أن يعتنقها ويبشر بها إلا نبي. أما الملوك فلا سبيل إلى اعتناقهم مثل هذه السياسية غير العملية. فما كان من أخناتون إلا أن تنازل عن الملك لابنه الأكبر، مفضلا أن يتفرغ لنشر رسالة السلام في الأراضي، كنبي متجول، وما أشبهه بالسيد المسيح نبي المحبة والسلام. لقد أحدث سقوط فرعون دويا في الحياة الأدبية والفكرية، وحمل المقومات الأساسية لمسرح فرج: الابتعاد من أجل الاقتراب، مفارقة الواقع وتجريده مما هو عابر ومباشر، من أجل العودة إليه على نحو أصفى وأكثر تركيزا، وطرح قضاياه الأساسية من وراء قناع عصر آخر، ثم ما أجمع المثقفون والمختلفون جميعا، هو تلك اللغة الخاصة التي ميزت العمل، اللغة من حيث هي مؤثر مسرحي، وليست بلاغة لفظية خارجة، والدأب على رسم ملامح الشخصية الواحدة الرئيسية من خلال المشاهد الصغيرة المتتابعة، والولع بالجدل وتقليب الفكرة على كل وجوهها المحتملة. وترسخت فكرة العجالة في ذهن فرج بعد اعتقاله ربيع 1958، إلى ربيع 1959، حيث تولى في السجن مسؤولية مكتب الأدباء والفنانين المستقلين.

أما مسرحية “سليمان الحلبي” فقد قدمت أطروحة لفكرة العدالة أكثر دقة وشمولا، فالحلبي يدرك بوعيه الحاد أنه طرف في صراع سياسي كبير، وعليه أن يحدد فيه موقفا واضحا، كما أن عليه أن يحسم في فعل خلاق، يجيب على جملة التساؤلات التي أقضت مضجعه، فهو حين يقتل “كليبر”، فإنه يجيب أولا على سؤال كليبر حول إمكانية انتصار الضعيف على الأقوى، فضلا عن إجابته الحاسمة حول ما إذا كان من العدل تعيين حداية الأعرج المجرم جابيا للمال.

بهذا الفعل السياسي الخلاق المبدع، يعم نشاط سياسي المجتمع برمته، فيتحقق الفعل ورد الفعل، اي بطش الحملة الفرنسية، مقاومة هذا البطش، أو ما يمكن أن نسميه بالجدل الاجتماعي. إن جملة التراكمات الكمية في المعرفة عند سليمان الحلبي قد تحولت تحولا كيفيا، ففي خلال تجواله الخطر في أزقة القاهرة، وأروقة الأزهر الشريف، تعرف كثيرا على أنماط ونماذج عديدة من حياة المصريين أيام الحملة الفرنسية. وكان طبيعيا أن تتحول جملة هذه المعارف إلى فعل يستنهض به سليمان الحلبي حركة التاريخ. إن الحلبي لا تؤرقه فكرة العدالة، إلا من خلال واقع مادي ملموس، بعكس أخناتون، الذي ظل يسبح في عوامل ميتافيزيقية، غير أن مكمن الثراء الإنساني في شخصية الحلبي أنه يقتل قتلا نزيها وعادلا ويتبين لنا ذلك، حين يسأله الكورس: لماذا لم يقتل باشا حلب؟ فيجيبهم: إنه لا يقوى على القتل انتقاما!.. ويسألونه ثانية عن تسميته لقتل كليبر، فيجيبهم قائلا “العدل”، وهنا يكون التحول إلى الكيف قد بدأ، حتى ينفذ الحلبي فعله المبدع. إن فكرة العدالة في مسرحيتي فرج “سقوط فرعون” و”سليمان الحلبي” فضلا عن مسرحية “حلاق بغداد” هي فكرة ممكنة، حتى بالرغم من سقوط أخناتون، وجملة المصاعب الكبرى التي واجهها الحلبي، وكذلك الحلاق، فأبو الفضول، حلاق بغداد، ابن الثورة المصرية “1952” الذي يساوره الشك أحيانا، في أنه مخطئ لحشر نفسه فيما لا يعنيه مباشرة، من شؤون مواطنيه، وخاصة المستضعفين المستذلين منهم، حتى ليخيل إليه أنه فضولي يلقى ما يستحق من جزاء، ومع ذلك لا يدع سبيلا لهذا الشك والبلبلة على إرادته وضميره الاجتماعي الأخلاقي. فبالرغم من أن حلاق بغداد قد أفصح أكثر من مرة، عن هذه الشكوك بلسانه، فإننا لم نره يتردد لحظة واحدة في مواصلة العمل لانتصار حق يوسف وياسمينة في الحب والحياة، دون يأس أو محاولة للانتحار. ثم مغامرته الأولى لإنصاف الأرملة البائسة الجميلة من الغربان، التي تنقض عليها بعد وفاة زوجها، وتحرمها مما خلفه لها من مال، مستخدمين لذلك جاه المنصب، أو سطوة المال، فتهزأ بالفضول نخوة النفس، وكرامة الخلق، لينهض بعبء الدفاع عن هذه المرأة، في تلقائية تكاد تشبه المصادفة البحتة، وكأن هذا الثائر العظيم على الظلم، والاستقلال، والفساد الاجتماعي لا يعي ما يفعل، بل يلهو بروح خفيفة، مرحة، متفائلة، لا تنضح فيها روح الشك، أو البلبلة التي تجري أحيانا على لسانه، ولكنها لا تنفذ قط إلى ضميره وإرادته، وهذه هي قمة الفن الإنساني الرفيع، ذلك لأنه يقتحم على الدوام خطوط دفاع البشر عن أنفسهم، يكشف لهم عن خطأ انعزالهم، وانطوائهم، وهو حين يمارس هذا الاقتحام، يكشف عن خطأ ما قد حدث لهؤلاء البشر، ولا يملك إلا أن يساعدهم. العدل في مسرحية الحلاق هو المنديل، فمنديل الأمان هنا هو جواز مرور إلى الصدق والشهادة الحقة. فمسرحية حلاق بغداد،كأنها قطعة أرابيسك مؤلفة من لوحتين متعاكستين، فحلاق بغداد فضولي يريد اختراق الأسرار من جهة، ومن جهة ثانية لا يريد اختراق الأسرار، ولكن أصحاب الأسرار يريدون اجتنابه لمعرفة أسرارهم، وينهي الحالتين بخاتمة واحدة.

هذا ما كان من أمر العدل الممكن، أما العدل المستحيل فتمثله مسرحية “الزير سالم” عام 1967، فالزير لا يقر بغير استعادة أخيه حيا مطلبا صحيحا، فهو يقول: “أريد كُليبا حيا”! أي أنه يريد القتيل حيا، وقد جعله يفلسف هذا المطلب العجيب، بأن التحقيق اكتشاف منطق سلوك الشخصية من أجل تحقيق العدالة، ذلك هو القانون الصحيح، في رأيه، فكُليب قد مات غيلة وغدرا، وهو في سبيل تحقيق مطلبه، يضرب بسيفه في المستحيل، وحين يشق سيفه الممكن، يرفض قائلا: “العدل الكامل هو ما أريد”، وهو يفلسف مطلبه قائلا: “أعدل أن أبيع ملك كريم بدم قاتل الملك الكريم”. وهو في سبيل تحقيق هذا المطلب العادل، يطلب أن يرتد الزمن، فكلما أغرق في الدم أوغل أيضا في استحالة تحقيق مطلبه. “وما يصنعه البشر يتدفق دائما، في وجهه وحده، وما أعظم الظلم الواقع من جراء ذلك”.

تكمن بطولة الزير سالم في محاولته الصادقة لتحقيق العجالة كاملة، لكنه حين يدرك عداء الزمن له، يعي استحالة تحقيق مطلبه هذا، فيقبل بالتنازل التكتيكي، أي قبول موت كُليب في مقابل اعتلاء هجرس العرش، ما دام الهدف الاستراتيجي عصيا على التحقيق، فلا مفر إذا من قبول الحل الوسط. إن العدالة التي تحققت كاملة بهزيمة أخناتون، والدعوة لتحقيق فكرة السلام المسلح، التي استطاع الحلبي أن يحققها بقتله كليبر، وحققها أبو الفضول بالأمن الاجتماعي، هذه العدالة تعجز عن التحقيق في اكتمالها “الميتافيزيقي” في الزير سالم، فهو على هذا المستوى يصل إلى تحقيق نصفها الممكن، لكنه على المستوى الواقعي يحققها كاملة غير منقوصة.

أما فكرة الصراع الطبقي فتتجلى في مسرحية “على جناح التبريزي وتابعه قفة” عام 1969، ولكنها تزداد وضوحا، معلنة عن نفسها في مسرحية “زواج على ورقة طلاق” عام 1973، ففي التبريزي يتحرك المجتمع حركته الاقتصادية، بناء على حكم عذب بقدوم قافلة تحمل خلاص الإنسان. فبين الحاكم الفني وطبقته، والشعب الفقير، يتحرك التبريزي، بحنكة بالغة، فيأخذ من الحاكم، بإدعاء أن قافلته سوف تأتي حتما، ويدفع عجلة الإنتاج الاقتصادي عن طريق إثارة الحلم بتحقيق العدل في توزيع الثروة، ويعيش الملك على وهم القافلة، ويتحرك الجموع إلى الإنتاج بالحلم، غير أن التبريزي يشكل طرفا في صراعه مع قفة، فالتبريزي يحلم، ويتجاوز الواقع، متحركا به إلى آفاق الحلم، أما قفة فإنه لا يقبل أن يتجاوز مواطئ قدميه. إنه صراع بين الحلم والواقع، طرفاه يكملان بعضهما، حتى يؤمن قفة بالحلم، ويشترك مع التبريزي في نشر المهن والحرف، وجملة الصناعات، ويتحرك المجتمع متدفقا إلى المزيد من العمل والثراء، تم هذا بناء على التلاقي الخلاق بين الحلم والواقع، وتجسيدهما التبريزي وقفة.

في “زواج على ورقة طلاق” يعتمد المؤلف إغفال كل المحسنات الدرامية والفنية، وصولا إلى النتائج الفكرية، بشكل واضح ومباشر، فنحن هنا إزاء نموذجين من طبقتين اجتماعيتين مختلفتين، النموذج الأول يمثله مراد البورجوازي الطموح لتجاوز موقفه الطبقي ومحاولة الاشتراك في الصراع الاجتماعي الدائر، وفي محاولته لإتمام انسلاخه عن طبقته وتجاوزها، يصطدم بجملة القيم الاجتماعية الراسخة، التي عليه التقيد بها، ممثلة في التقاليد التي تفرضها عليه أمه. وفضلا عن الصراع الأساسي القائم بين مراد، كممثل للطبقة البورجوازية، وزينب الكادحة، فإن هناك صراعا ثانويا يمثل حدة الصراع الأول نفسها، إنه الصراغ داخل مراد بين أمه وزينب، فأمه تمثل له الوضعية الاجتماعية المحترمة، وزينب تمثل له حلمه المجهض. والنموذج الثاني تمثله زينب التي أنقذت مراد ذات يوم من قبضة البوليس، فهي برغم جهاله، إلا أنها لا تستطيع أن تتآلف معه، وتحاول جاهدة أن تضمه إلى طبقتها، غير أن الإخفاق في التلاقي الطبقي بين مراد وزينب هو إخفاق علمي في الأساس، أو استحالة علمية وتاريخية، والصراع في المسرحية جوهر أساسي لفكرة التناقض الطبقي. هذا الوعي دفع زينب في النهاية، كي تعلن أن زواجها كان خطة فوق ورقة الطلاق.

هذا ما كان من أمر مسرح فرج، حيث استطاع أن يوظف المسرح اجتماعيا، وساعده على ذلك موضوعاته التي نهلها من المأثور الشعبي، واطلاعه على المسرحيات الإنجليزية والروسية. ثم كانت هزيمة (1967) حيث اتخذ مسرحه بشكل خاص والمسرح العربي بشكل عام مظهرين مترابطين، الأول، هو إزدهار المسرح التجاري، والثاني: هو ما يمكن أن ندعوه “مسرحيات السلطة”، وبقيت أعماله في هذه الفترة قليلة تبرق كنجوم متباعدة في ليل الهزيمة، فأخرج مسرحية “النار والزيتون” عام 1970. استطاع أن يجعل من معانيها ضرورة استمرار الثورة الاجتماعية والسياسية لتحقيق الانتصار، وضرورة تحطيم هذا التحالف الزائف، وضرورة الخلاص من الاستعمار، وتحرير الأرض لتحقيق الحياة والقدرة على النماء. فقد رسم فرج أبعاد العمل الفدائي الفلسطيني في “النار والزيتون”، كما كانت نموذجا لاستخدام شكل آخر من أكثر الأشكال المسرحية حداثة وطواعية للتعبير عن قضايا العصر، الشكل التسجيلي الذي يستعين بكل وسائل العرض، الدراما، والغناء، الرقص، المسرح السحري واللافتات والأقنعة، وجمع مادته من كل المصادر: المعلومات الموثقة والإحصاءات والشهادات الواقعية، وأقوال قادة المؤسسة العسكرية، ومن ساندوا قيام إسرائيل.

بعد مجمل الأحداث السياسية والاجتماعية التي عاشها بدءا من هزيمة حزيران مرورا بحرب تشرين، وتعاظم الأحداث السياسية والاجتماعية من خلال فتح الحوار والنقاش حول عملية السلام، مجمل هذه الأحداث هي التي دفعت ألفريد فرج في العودة إلى الف ليلة وليلة، تلك الأرض التي يعرفها حق المعرفة ويجوس خلالها مغمض العينين كمن يمشي في بيته، فأخرج مسرحيته الأخيرة “الطيب والشرير والجميلة” عام 1994، فالتقط حكاية أبي قير وأبي صير، وجعل السمات الأساسية في شخصيتي بطليه. “بصير” حلاق طيب مسرف في طيبته حتى تكاد تصبح بلاهة أو اندفاعا أحمق إلى فعل الخير، ينقلب عليه دائما بأوخم العواقب لكنه ينجو في اللحظات الأخيرة. و”بقير” صباغ شرير، لص، محتال، أكول، نهم، يسرف في الشر حتى يكاد يطلبه لذاته، وحتى ينقلب شيطانية أو إبليية، بمعنى أنه لا يرتكب الشركي ينقذ نفسه أو يكسب شيئا، لكنه مندفع إليه كأنه موكل بإيذاء الآخرين. يعود من خلال مسرحيته هذه للتأكيد على فكرة الصراع بين الخير والشر، ومن ورائهما واقع قاس وفاسد، وظالم يحيط بالأخيار والأشرار على السواء، هذا الواقع يسود هنا، وفي كل مكان، يدفع الأشرار إلى الإيغال في الشر، ويضعف منطق الأخيار، فاستطاع أن يتواصل معنا مؤكدا مقولته “العدل هو العدل”. فيحدثنا عن زماننا الموغل في الشر، من وراء قناع خيالي عذب شفاف ومبهج. أما البطل في مسرحيات ألفريد فرج، فأكثر وعيا بالمكونات الاجتماعية المطروحة، ولم يعد يصارع أقدارا غيبية، بل أصبح فكر سياسي واضح ومحدد، ويدخل في صراعه ضد المجتمع بكل قيمه المتخلفة، أو ضد السلطة، طالما البطل يمثل أحلام الخلاص الاجتماعي.

مما تقدم يتبين أن مسرح فرج هو مسرح “الحدوثة”، بكل مكوناتها الشكلية، من حيث وجود بداية أي تمهيد، ووسط أي العقدة، ونهاية أي الحل الذي ينشأ من تفاعل جملة هذه المكونات في ذاتها، أو في صراع مع مكونات الموضوع الخارجي، هذا المسرح الذي تحكمه الحدوثة، بطبيعتها، لا بد أن يكون قوامه الأساسي وجود البطل. فكل أبطال مسرحياته يبحثون عن العدل، الإنسان عنده طموح وقلق، لأنه لا يستطيع تحقيق المطلق، بينما يفهم المطلق، يعرفه، ولا يستطيع تحقيقه، فالكون بطبيعته لا يعطي المطلق، تحت أي ظرف من الظروف. فالعدل لا يشترى لأنه حق مشروع. لقد اكتشف أخناتون في سقوط فرعون “أنه لا يستطيع أن يحقق السلام إلا بسفك الدماء” وقد رفضت هذه المعادلة، فسقط، إنه يبحث عن العدل المطلق. هذه المسألة ضمن همومنا، إننا شعب دفع الكثير، ونريد مكانا تحت الشمس، ومع هذا ندفع ثمنا باهضا لهذا المكان؟.. ندفع ثمنا باهضا في بحثنا عن العدالة، هنا تتحد أعمق مآسي العالم، وتتخذ نقطة اختلال الكون. فألفريد فرج من أكثر كتاب المسرح العربي قدرة على التكتيك والتحكم فيه، فحسه في اللغة رائع ويوصله بشكل جميل. وهو أول من اتجه إلى التراث العربي اتجاها مقبولا. وقدم بذلك خدمة لكل الذين كتبوا بعده.

مجلة الجابري – العدد الخامس عشر


 المصادر والمراجع:

1 – سمير الحكيم: محاورات معاصرة في المسرح العربي -دمشق- منشورات المطبعة الحديثة، عام 1979.

2 – المسرح العربي بين النقل والتأصيل -كتاب العربي- العدد 18، عام 1988.

3 – فاروق عبد القادر: ازدهار وسقوط المسرح المصري، دمشق – منشورات وزارة الثقافة 1983.

4 – د.محمد مندور: في المسرح المصري المعاصر، القاهرة.

5 – د.علي الراعي: المسرح في الوطن العربي – الكويت، عالم المعرفة، العدد 25، عام 1980.

6 – مجلة المسرح والسينما، المؤسسة المصرية للتأليف والنشر، عام 1968.

7 – بيتر بروك: ترجمة فاروق عبد القادر، النقطة المتحولة: أربعون عاما في استكشاف المسرح، الكويت، عالم المعرفة، العدد 154، عام 1991.

8 – صحيفة السفير اللبنانية، فاروق عبد القادر: صياغة محكمة تومئ ولا تقول، ص14، تاريخ 13/8/1994.

9 – صحيفة الثورة السورية – سعاد زاهر: المأثور الشعبي والتجريب في المسرح، العدد 9526، تاريخ 1994.

10 – ألفريد فرج: دليل المتفرج الذكي إلى المسرح – الهيئة المصرية العامة للكتاب 1989.

11 – مسرحيات ألفريد فرج:

أ ـ الزير سالم – عام 1967

ب ـ جواز على ورقة طلاق – عام 1973

ج ـ حلاق بغداد – عام 1964.

د ـ سقوط فرعون – عام 1957

هـ ـ سليمان الحلبي – عام 1965

و ـ على جناح التبريزي – عام 1969

ز ـ النار والزيتون – عام 1970

م ـ الطيب والشرير والجميلة – عام 1994.