هل نشر مبرلوبنتي ، الفيلسوف، رواية باسم مستعار في عشرينيات القرن الماضي ؟ إنّ خلو أرشيفه من أيّ اثر يدلّ على ذلك لا ينفي وجودَ قرائنَ أخرى تدفعُ إلى الاعتقاد في أنه كتب علا رواية.
ففي سنة 1946 ، خلال جلسة في الجمعية الفرنسية للفلسفة دُعي إليها ميرلبونتي للدفاع عن المحاورِ الكبرى لفلسفته ، وجه إليه إيميل برييه نقدا شديدا قائلا: ” إنّي أرى أنّ الرّواية أقدر من الفلسفة على التعبير عن أفكارِك . “
وكان إيميل برييه، أستاذُ كرسي تاريخِ الفلسفة في جامعة السوربون والأكاديميُّ المعروف، غير راض عن انتشار التحمس لفنومنولوجيا الإدراك ( دار غاليمار، 1945) ، مدوّنة ميرلوبونتي الكبرى التي أعادت وضعَ التجربة الحسيّة في مركز الاهتمام على حساب العقلانياتِ الكلاسيكية التي فقدت اشعاعَها على وقع النتائجِ التي أفرزتها الحربان العالميتان.
ويظهر بوضوحٍ أنّ برهاير كان غير راض [أيضا ]عن هذا الأسلوبِ الفلسفيّ الجديد ، الذي يعتمد في الوقت ذاته على فنومنولوجيا هوسرل ، وعلى التجربة الإكلينيكية لأخصائيي علم النفس المرضيِّ ، وعلى وصفِ الأدباء المتقن والدقيق. ويُلخّصُ اعتراضُه في قوله لـ ميرلوبنتي : ” إن فلسفتك تقودُ إلى الرواية. “
لقد أصاب هذا الهجومُ هدفه. لذلك اضطر ميرلوبونتي إلى توضيحِ ما يحولُ دونَ ذوبانِ فلسفته في الأدبِ.
وبعد سنوات قليلة، وخلال مقابلة إذاعية مع جورج تشاربونييه ، يعترفُ [ ميرلوبنتي ] بأنه ” صُدم ” حين اكتشف ” تمازجا حقيقيّا بين الفلسفة والأدبِ” عند زميلته وصديقته المقربة في دار المعلمين العليا سيمون دي بوفوار.
فخلافا لسيمون دي بوفوار ، يحتفظ ميرلوبونتي بمسافة غير قابلة للاختزالِ بين الرّواية والميتافيزيقيا. وعلى خلاف سارتر وكامو ، لم يكتبْ رواية فلسفية.
قارئ بروست وستندال وفالري:
على أية حال ، تلك هي الفكرةُ التي وقع تعويدنا عليها. ومثلما هو الأمرُ عند إيمانويل ليفيناس ، الفينومولوجيِّ الفرنسيِّ الآخر من جيل التأسيس ، فإنّ الأدبَ موجودٌ في كلّ مكان.
لقد قرأ [ ميرلوبنتي ] بروست وستندال وفاليري بتمعّن ( انظر دروسه عام 1953 في كولاج دي فرانس التي طُبعت حديثًا تحت عنوان: بحوثٌ في التوظيف الأدبيِّ للغة ، منشورات ميتيبراس 1013)
وتحاور مع كلود سيمون لينشئَ لاحقا فكرة فلسفة جديدةٍ تستلهمُ بعضَ انجازات الرّواية المعاصرة، ولكن دون أنْ تتجاوز الحدودَ التي تفصلها عن الممارسة الأدبية في معناها الدقيق.
في حالة ليفيناس الذي غالبا ما يُوسم بأنه أقحم في الفلسفة أسلوبًا مغرقا في المجاز (بل في المبالغة ) ، كشفت مسودّتان روائيتان عُثر عليهما مؤخرًا عن جانب كبير لا يطاله الشكُّ من شخصيته.
فهل نحن الآنَ أمام ضرورة القيام بالعمل نفسِه بالنسبة إلى ميرلوبونتي بناءً على أنّ معطياتٍ وقع تجميعُها حديثا تشير في مجملها إلى أنّ الكِتاب الأول لميرلوبونتي لم يكن ” بنية السّلوك ” (1942)، وإنما كان الرّواية التي نشرها باسم مستعارٍ في سنّ العشرين.
أوليس الحديث:
أصدرت دار قراسييه بداية السنة الأدبية عام 1928 رواية ” شمال”Nord ، وهي قصّة عن القطب الشّمالي ، كتبها شخصٌ يدعى جاك هيلر. فمن هو [جاك هيلر] يا ترى ؟
إنّ نقادَ الأدب في ذلك الوقتِ، الذين رحّب ، أغلبُهم ، بالعمل وتعاطفوا معه قالوا إنّهم لم يسمعوا أبدًا عن هذا الكاتِب.
هي إذًا رواية أولى ، وهي الأخيرة طالما أنّ الصفحات الداخلية لـشمال تعلن عن كتبٍ في طور الإعداد ( “علامة الصباح الجميل” و “سحر الثلج” ) ، لم تر النورَ قطّ .
سيتابع قرّاء ” شمال” مغامراتِ البطل ميشال الذي يجسّد صورة لأوليس الحديثِ إذْ يخرجُ طلبا للمغامرة في العالم الجديدِ، مبحرا على متن سفينةٍ إلى لوهافر حيثُ سيعمل في شركة الفروِ الكنديّة ، ويتعرّف على شعبِ الإسكيمو ويتزوّجُ من إحدى نسائِهم ثم يصبحُ متواطئا مع ممارسات المستعمر قبل أنْ يترك كلّ شيءٍ ويعودَ إلى فرنسا.
ويوضّح المؤلف في التمهيدِ أنه كتب الرّواية ” بعد أنْ أمضى أربعَ سنوات على السّاحل الشمالي الغربيِّ لخليج هدسون ،” ويؤكّد أن للأخوين ريفيون ولفريدريك روكات فضلا كبيرًا على الكِتابِ.
لقد أنتج الأخوان ريفيون، مؤسّسا معرض تجارة الفراء الشّهير ريفيون في كندا، الفيلمَ الوثائقيَّ نانوك ليسكيما Nanouk l’Eskima (1922) الذي قدّم أسلوبَ حياة الإسكيمو إلى الجمهور. أما الصديق الثالث[روكات]، الذي يشبه جاك لندن فرنسيًّا، فقد أبهرَ جيلا كاملا بقصصِه عن القطب الشماليِّ.
ولكن على خلاف روايات هذا الأخيرِ، فإنّ من يُعدّ للسفر عند جاك هيلر هما بودلير وموراس ( وهما كاتبان مفضلان عند ميرلوبونتي )، في حين أنّ اثنين من الفلاسفة، هما لوكراس وسيناك يتكفلان بتحذير القارئ لتذكيره بأنّ الغربة الحقيقية لا تحصلُ عند السّفر بعيدا ، ولكن عندما نعايشُ أكثر الأشياءِ ألفةً .
“أمل الأدب الفرنسي“:
ووفقا لما جاءَ في يوميات سيمون دي بوفوار بتاريخ 8 أكتوبر 1928 فإن مرليبونتي التقى بها في إحدى مكتبات باريس، وفي ” حركة لطيفة و ابتسامة خجولة ونظرة اعتذار جميلة لا دلال فيها ، سلمها نسخة من رواية شمال ” .
وبعد أيام، تمّ تبادلُ حديثٍ آخر حول الرّواية، وكان هذه المرة في حضورِ إليزابيث لاكوان التي تكنّى “زازا” ( اسم الشخصية الرّئيسية في مذكرات ابنة رصينة ).
إنّ زازا التي ستجبرها ، بعد فترة وجيزة ، والدتها على الإقامة لأشهرٍ في برلين لتبعدَها عن تأثير ميرلوبتي، تقول في رسالة موجهة يوم 16 نوفمبر إلى دي بوفوار إنها نُصحت بقراءة رواية شمال من قبلِ زوجة ديبلوماسيٍّ فرنسيٍّ.
ولقد أهدت هي نفسُها هذا الكتابَ إلى طالبة ألمانية ، مشيرةً إلى أنه : ” على درجة كبيرة من الأهمية، وأنّ الكاتبَ شابٌ موهوبٌ، يمثل أملَ الأدبِ الفرنسي “. مضيفة ” : بلّغي ميرلوبونتي ، بعد تهنئته بالسمعة العالمية التي حازها عن كتابه، هذين الخبرين، قولي له: إنني أرى أنّه من حقي أنْ يعترفَ بجهدي في الدعاية له ، وإنه، أيضًا، كان مخطأ حين رفض السّفر.”
عين الاثنولوجي :
يبدو أنّ رسالة زازا لا تتركُ مجالا للشك فيما يتعلق بهوية جاك هيلر.
وفي ملاحظة تؤكد سيمون دي بوفوار الأمرَ نفسَه إذْ تكتبُ : “قرأت رواية شمال. فيها يعترضنا م. ب أحيانا. وهذا أمرٌ ممتع ” .
ولكنْ إذا كان الأمرُ كذلك، وإذا كانت الرّواية بقلم من سيصبحُ لاحقا فيلسوفا، فإنّ ميرلوبونتي أخفى هذا السر منذ البداية، فهو لم يحتفظ بأية مخطوطة في سجلاته. إضافة إلى أنّ رئيس التحرير – غراسييه – يؤكد أنه لم يتلق أية مراسلاتٍ تعود إلى فترة ما قبل الحرب تلك. أما ماريان، ابنة ميرلوبونتي ، فهي تعترفُ بأنها لم تسمعْ قط بمثل هذا المشروع.
لماذا إذًا هذه الرواية عن القطب الشمالي، والتي هي عبارةٌ عن عملٍ صيغ للاحتفالِ بوفاة لوي فريديريك روكيت ، الذي توفيّ عام 1926؟ ألاَ تكون ببساطة مشروعًا عفويّا أنجزه خريجُ مدرسة المعلمين العليا الذي كان جيلُه يعجّ بالرّوائيين (ففي الفترة نفسها كان بول نيزان يشتغل على عدن العربية و كلاب الحراسة ) ؟
في كلّ الحالات، لقد مرّ بطلُ رواية شمال ميشيل بأماكن مألوفة: وباعتباره قد نشأ في أحياءَ بوردو مثل عائلة ميرلوبونتي ، فإنه يذكر الرّحلة إلى لوهافر حيث كان ميرلوبونتي قد قضّى جزءا من فترة دراسته.
لماذا استعارةُ اسم هيلر ؟ إنَّ في الأمر لغزًا ( ولكنَّ تفسيرَ الاسم في الحقيقة أسهلُ بكثير، فجاك هو أحدُ أسماء ميرلوبونتي الأصلية ) أمّا نظرة عالمِ الإثنولوجيا ، التي سيجعلُ منها لاحقاً عنوان الموقف الفلسفيِّ ، فإنها تعُودُ إلى أسبابٍ عائلية: فالجد مازيباميرلو المكنّى بونتي، والذي هو طبيبٌ في كاليدونيا الجديدة ، كان قد أسّس مجموعة الكاناك في متحف الإنسانِ.
هل ميرلوبونتي هو مؤلفُ كتاب ” شمال“؟ ، إذا كان الأمر كذلك ، فلمَ تمّ طمسُ كلِّ أثر لذلك؟
ثمة شيءٌ واحدٌ يبدو على أيّة حالٍ من تحصيلِ الحاصل ألاَ وهو أنه لم يسع لمواصلة [هذه] التجربة.
في عام 1982، روى كلود سيمون أمام جمهورٍ من الكتاب النيويوركيين بعضًا من محادثة كان قد أجراها مع ميرلوبونتي بداية 1961، [مفادها أنه] عندما أسرّ لـ ميرلوبنتي بأنّه [ أيْ سيمون] غيرَ متيقن من كونه فيلسوفا، أجابه ميرلوبنتي بأنّ عليه أنْ يعتبر نفسَه محظوظا، [قائلا له ]” إذا كنت فيلسوفًا ، فإنك لنْ تكون قادرًا على كتابة رواياتك . “