أحد أكثر الكتب لفتًا للنظر في مجموعة كتب مالكوم إكس -الموجودة في مركز سكوبمرغ في حيّ هارلم- هو الترجمة الإنجليزية لكتاب جان بول سارتر “أورفيوس الأسود”، الذي يحمل بين دفّتيه تأملات الفيلسوف الفرنسي العميقة حول الزنوجة. نسخة مالكوم إكس مُعلّمة بدقة شديدة، حيث وُضِعت دوائر حول الأخطاء المطبعيّة وخطوط تحت جمل. تذكرة قطار أنفاق باريسي محشورة بين الصفحات كشريطة لحفظ مكان الصفحة.
لقائد الحقوق المدنية علاقة طريفة مع فرنسا؛ فلقد كان مجذوبًا نحو ثقافتها، لكنّه مَقت ممارساتها الاستعمارية. كانت أمه غريناديّة [من دولة غرينادا] المولّد مُتقنة للفرنسية، وعلّمت أولادها اللغة. أشار أكثر من باحث فرنسي إلى أن شعار مالكوم إكس السياسي “بأي وسيلة ضرورية” مأخوذ من مسرحية سارتر “الأيدي القذرة”. ونِكايةً في الاستخبارات الأمريكيّة، فُتن الفرنسيون بمالكوم إكس كذلك. حتى إن جـ.إدغار هوفر ذات مرّة تواصل مع السلطات الفرنسية لكي يحذرهم من أن مُخرجَ الأفلام بيار دومنيك غايسو كان على اتصال مؤخرًا بمالكوم إكس، زعيم لـ”منظمة مُتعصبة” و”ضد البِيض”. عندما مُنع مالكوم من دخول باريس في التاسع من فبراير عام 1965، وذكر موظفو الحدود أن القنصلية الأمريكية وراء هذا القرار، استفزّهم قائلًا : “لم أعلم أن فرنسا تابعٌ للولايات المتحدة.”
طَرد مالكوم إكس من فرنسا لم يكن أمرًا معتادًا، لطالما فاخرت فرنسا بنفسها بتأمين اللجوء للفنانين والمتطرفين (الراديكاليين) الأفرو-أمريكيين، ولو من أجل أن تُظهر الدولة بأنها لا تكترث بلون الجلد، وحصينة ضد أمراض أمريكا العنصرية. في عام 1978، عندما رَفضت الحكومة الفرنسية تسليم أربعة من جماعةِ الفهودِ السودِ المطلوبين في الولايات المتحدة بتهمة الاختطاف، اشتهر [هؤلاء] المناضلون بين المثقفين الفرنسيين. وبالطبع، كان لفرنسا علاقة حب قديمة تمتد لقرن مع الثقافة الأفرو-أمريكية. تمتّع المعجبون الفرنسيون بالجاز في عشرينيات القرن العشرين، حينما لم يكن يحظى بالقبول بعد في أمريكا، ولاقى الهيب-هوب ترحيبًا في فرنسا بعد ما يقارب الستين عامًا.
لكن في الفترة الأخيرة أصبحت علاقة فرنسا بالثقافة الأفرو-أمريكية علاقةً مضطربة بعدما وظّفت أقلّيات شبابية من ضواحي البلد خطابَ قوة السود(1)، والهيب-هوب، ومالكوم إكس للسخرية من أفكار كعدم التمييز والعلمانية (اللائكية). ادّعى بعض المعلّقين الأمريكيين بعد الحادي عشر من سبتمبر أن “السيرة الذاتية لمالكوم إكس” كان نصًا مولّدًا للتطرف، ويعلّم “خلق الضحية (victimization)”، وقاد أمريكيين شبابًا مثل جون والكر ليندا إلى الانخراط في العمليات الجهادية. وعلى نحو مماثل، تتساءل السلطات الفرنسية فيما لو كان الخليط الخطير من الإسلام ونضاليّة السود -المُجسّد في مالكوم إكس والمُختمر في السجون الفرنسية- هو الذي قاد شريف كواشي، قاتل تشارلي هيبدو، إلى العنف. بعد خمسين عامًا من وفاته، يُزعج مالكوم إكس مُجددًا مياه عبر-الأطلسي.
الشغف بمالكوم إكس مؤشر جيو-سياسي إلى حد ما. ينزع الاهتمام بمالكوم إكس إلى الظهور في هوامش المجتمعات، في المناطق الحضرية التي لا يُمكن لمؤسسات وخدمات الدولة أن تصلها تمامًا، والمأهولة بأقليات ذات بشرة أكثر سوادًا تطوّر وعيًا عرقيًا. في منتصف الستينيات، ظهرت حركة سود في إنجلترا، مستلهمة زيارة مالكوم إكس في عام 1965. بعد فترة قصيرة، وُلدت حركات سود أخرى : حزب الفهد الأسود الإسرائيلي، الذي أسسه يهود أفريقيا الشمالية في عام 1971، وحزب الفهد البولينيزي في نيوزيلندا، وحزب الفهد الداليتي (المنبوذ) الذي تأسس في عام 1972 ليعزز من قوّة الهنود “المنبوذين”.
الاهتمام بمالكوم إكس اليوم على أشدّه بين السود والمسلمين في أوروبا الغربية. شهد العقد الماضي بروز عدّة جماعات ذات أصل أوروبي تكرّم مالكوم وتنسج على منوال حركة قوة السود : رابطة العرب الأوروبيين البلجيكية، والسكان الأصليون لجمهورية فرنسا، وبانترانا السويد، والفهود السود اليونانيون.
بالنسبة للمسلمين الأوروبيين -العالقين بين دول المراقبة وحركات يمينية متطرفة- مالكوم إكس جذّاب ببساطة للكيفية التي تعامل بها مع ضغط الدولة والعداء المُنظم، حتى سما عليهما. لو لم تُرِده أمريكا، لما بقي داخل حدودها. مسيرة مالكوم الرائعة من شوارعجي إلى الساحة العالمية -متعاليًا فوق وكل الدول، متحررًا من أغلال الوطنية وولاء القومية، لا يخاف إلّا الله- جذّابة للشباب الصغار الذين يعيشون في الأحياء الفقيرة. وبالنسبة للمسلمين الشباب الذين يحاولون فهم الضغط العالمي على المسلمين، يُعتبر وَصل مالكوم إكس للمحلّي بالعالمي، وللصراع ضد العنصرية بمواجهة الإمبريالية، له جاذبية خاصّة.
يُلاحظ صنّاع القرار في أوروبا وأمريكا التوازيات والروابط بين النضاليّة العرقيّة في الستينيّات في أمريكا والنضاليّة الإسلامي اليوم. السياسيون الأوروبيون قلقون من أن الشباب المسلم سيربط نفسه بحركة ذات قاعدة عريضة مثل الإخوان المسلمين بدلًا من الدولة التي يعيشون فيها. يخافون من أن مثال مالكوم إكس سوف يقوّض جهود “نزع العبر-حدودية” من الشباب المسلم. ففي نهاية المطاف، لقد أظهر مالكوم إكس أن سيادة الدولة ليست شيئًا لا يُمكن انتهاكه : لقد وَصل الصراع الأفرو-أمريكي بحركات التحرير خارج البلاد، وعارض ادعاء وزارة الخارجية حول التقدّم العرقي، وحاول أن يجلب أمريكا إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لانتهاكات حقوق الإنسان. تحاول الحكومات اليوم أن تدفع بفهم مُلطّف لسردية مالكوم إكس كجزء من جهودها في محاربة التطرّف. تحاول التركيز على مرحلته الـ”كونيّة”، بعدما حجّ إلى مكة وتوقف عن الحديث حول تنظيم أندية مسلّحة دفاعًا عن النفس.
احتفت الدبلوماسية الأمريكية بمالكوم إكس في السنوات الأخيرة. خلال شهر التاريخ الأسود وفي يوم ميلاد مالكوم إكس، تمتلك السفارات الأمريكية خططًا لتكريم أوباما ومالكوم بعد-الحج معًا، تحتفل بصعود نجميهما إلى الشهرة العالمية وبعلاقتهما بالإسلام، مؤكدةً على أن مالكوك إكس “رمز لأمريكا مفتوحة ومفعمة بالحياة” هو من جعل أوباما مُمكنًا. المبادرات الدبلوماسية هذه من سخرية القدر، ولو فقط من أجل أن حكومة الولايات المتحدة قبل خمسين عامًا قد ضايقت وطاردت مالكوم في كلّ خطوة. اليوم، يستخدمون اسمه -واحتجاجات السود بشكل عام- لكسب الحشود العدائية. ( في مايو 2013، وبعد مناسبة تحتفل بعيد ميلاد مالكوم -حيث عرض الموظفون في السفارة في صنعاء بوسترات كُتب عليها “عيد ميلاد سعيد مالكوم إكس، من وقف بشجاعة ضد الظلم والكراهية- كتب أحد اليمنيين على صفحة السفارة في الفيسبوك : ‘أتمنى لو كان السفير الأمريكي بشجاعة هذا الرجل الذي وقف ببسالة ضد الاضطهاد ‘”) .مفارقة أخرى وهي بينما توظّف سفارات الحكومة الأمريكية الرأس مال الأخلاقي لحركة الحقوق المدنية، يُنعش القانون الداخلي أساليب حفظ النظام والمراقبة التي اُستعملت ضد الحقوقيين السود قبل نصف قرن. على سبيل المثال، [وضع] برنامج شرطة نيويورك لمراقبة المسلمين الأمريكيين على غرار برنامج الإف بي أي لمخبر الحي الفقير، الذي وُضع في الستينيّات لمراقبة أحياء السود.
حاجج خبراء محاربة الإرهاب في السنوات الأخيرة على أن الموسيقى طريقة جيّدة لتمييز المسلم المعتدل من المتطرّف. يحذر السياسيون الفرنسيون من الأناشيد الجهادية، لكن لا يريدون أيضًا أن يبتعد الشباب بالكليّة عن الموسيقى. نشرت وزارة الداخلية الفرنسية بوسترًا الشهر الماضي، ساردةً مؤشرات دالة على أن صديقًا أو عضوًا من أعضاء العائلة قد أصبح مُتطرفًا، مُدعيةً أن أحد العلامات الموحية للتطرف هي إذا توقف الشخص عن سماع الموسيقى. يتجادل الخبراء اليوم على أن الهيب-هوب المُعتدل والفهم المُعتدل لمالكوم إكس سيساعد على الوصول إلى الشباب المسلم الذي يقف على حافة التطرف، خصوصًا أن المتشددين السابقين قد ادعوا أنهم وُضعوا على طريق التطرف من خلال راب العصابات ومالكوم إكس.
فكرة أن كره الموسيقى، وتقدير مالكوم إكس، والانجذاب نحو التطرف تجتمع سوية هي -بالطبع- فكرة اختزالية إلى حد فظيع. في شبابه، عُرف مالكوم إكس بشغفه بالموسيقى. في سيرته الذاتية، يُفاخر بأنه -عندما كان ملمع أحذية في قاعة رقص روزلاند في بوستن- لمّع أحذية دوك ألينغتون، وكونت باسي، وليونيل هامبتون، وعظماء آخرين. أثناء مرحلة أحمر ديترويت(2)، رقص وعزف مالكوم إكس على الدرامز في حانات الجاز باسم فنّي هو جاك كارلتون. لكن عندما انضم إلى أمة الإسلام، بدأت تتغير رؤاه. في عام 1950، عندما كان في السجن، كتب مالكوم رسالةً إلى أخٍ مسلم، يصف حبه للجاز و”تأثيراتها المُريحة”. كتب : “صديقتي المُفضلة كانت ديانا واشنطن (يقصد المغنيّة ديانا واشنطن). “لا زالت هي الأفضل”. لكن الموسيقى تذكره أيضًا بـ”ماضيه الآثم” وأقسم على أن يتمتع فقط بالجاز الذي يؤديه فنانون مسلمون.
لبقية حياته، سيحاول مالكوم إكس أن يوازن بين حبه للموسيقى وبين التزاماته السياسية والدينية. في خطبة عام 1964، فهم أهمية الموسيقى بالنسبة لتحرير السود، مُفصحًا أن الموسيقى كانت “المساحة الوحيدة في المشهد الأمريكي حيث كان الرجل الأسود حرًا لكي يُبدع. ولقد أتقن ذلك.” تُبهج أوراق مالكوم إكس الخاصة من يقرأها جزئيًا لأنها منضوحة بإحالات إلى الموسيقى والأدب، تحتوي على إشارات إلى تيثلونيوس مونك و”فرقته الموسيقية المسلمة” والمغنية داكوتا ستاتون، وقصاصة صحفية لجولة موسيقية حكومية لديوك إلينغتون في سوريا وإيران. وأثناء سفره حول أفريقيا، غَمر مالكوم نفسه في الحياة الموسيقية للدول المُستقلّة حديثًا، زائرًا أندية اجتماعية ومراكز رقص، وشَد أزره أنهم يحاولون استعادة أنماط موسيقية أصيلة كجزء من تحررهم من الاستعمار. في نادي غانا الصحفي، شارك بهز رأسه خلال موسيقى الهايلايف (highlife)، و-حسب رواية مايا أنجيلو- نقر بأصابعه على حجره، لكنه رفض الرقص. في القاهرة، جلس مع هواة جاز أفرو-أمريكيين يحاولون خلق نوع موسيقي أفرو-آسيوي “تقدمي” لمناهضة ما تذيعه الحكومة. موسيقى التحرير حلال.
مع تأمّل المسؤولين الأوروبيين حول كيفية نزع التطرف من مالكوم، ومع صب السفارات الأمريكية جامّ جهدها هذا الشهر في إحياء ذكرى مالكوم “المعتدل (المُلطفّ)”، من المهم أن نتذكر تعقيدات الرجل، ومقدار كرهه للبروبوغندا. أنا لست عنصريًا، كتب ذات مرة في مذكراته : أنا مُتطرف. كتب، أنا “ضد الظلم بتطرّف.”
هوامش:
(1) يشير اسم قوة السود (Black Power) إلى حركات وتوجهات مختلفة يجمعها هدف تحقيق مصير الأشخاص الذين واللاتي تعود أصلوهمـ/ن إلى أفريقيا. وبرزت هذه العبارة في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين في أمريكا عندما طالب السود بحقوقهمــ/ن السياسية. (المترجم)
(2) سُمي مالكوم في مراهقته بـ”أحمر ديترويت” نسبة إلى حُمرة شعره. يقول في سيرته : “لا أذكر بالضبط متى أطلق علي لقبي الجديد ولكنني أذكر أنني كنت أقول لمن يسألني من أين أنا : “ميشيغن” فيقولون : “من أين من ميشيغن” فأقول : “دترويت”. لمجرد أنهم لم يعرفوا لانسيغ فأصبحت لذلك أُعرف بـ”أحمر دترويت” فالتصق بي ذلك اللقب.” انظر أليكس هاليي، مالكوم إكس : سيرة ذاتية، ترجمة ليلى أبو زيد، ص76-77 (بيروت : بيسان للنشر والتوزيع والإعلام، 1996). (المترجم)