(كتاب الهشاشة الخيرية، المؤلف مارثا نوسباوم، المترجم عزالعرب لحكيم بناني، صادر عن مؤسسة ريم وعمر بالتعاون مع دار جداول للنشر 2019)
قد يكون القارئ العربيُّ معنيًا بهذا الكتاب أكثر من أيّة فئةٍ أخرى من القرّاء. ذلك أنّ ممارسة الفلسفة في العالم العربي تظلُّ مرتبطةً ارتباطًا وثيقًا بالإرث اليوناني. ومن سعى إلى فهم المشائية الإسلامية ملزمٌ بالعودة إلى أفلاطون وأرسطو. فقد كان الفلاسفةُ المسلمون ورثةَ اليونان وأصبحوا صلة الوصل بين الفكر القديم والفكر الغربي اللاتيني والحديث. وعليه، فإنَّ إحياء الفكر اليوناني القديم يؤدّي بصورةٍ إيجابيّةٍ إلى إعادة الاعتبارِ إلى مختلف القضايا الأخلاقية والنفسية والسياسية التي ورثها الفلاسفة المسلمون عن اليونان.
المسرح التراجيدي والفلسفة
يسعدنا أن نقدّم إلى القارئ العربي هذه الترجمة لكتاب مارتا نوسبوم (الفيلسوفة الأميركية التي ولدت سنة 1947) الذي نشر أوّل مرّةٍ سنة 1986 وطُبع أكثر من عشر مرّاتٍ بعد ذلك. وتُعتبر هذه الترجمة بالنسبة للقارئ العربي فرصةً سانحةً لاستئناف الحوارٍ الفلسفي بين الموروث الفلسفي الوسيط والصورة الجديدة التي نحتتها نوسبوم عن أفلاطون وأرسطو. وهذا ما قد يندهشُ له القارئُ العربيُّ وهو يطلع على محتويات الكتاب. سيستغرب عندما يكتشف أن نوسبوم قد وضعت الكتابات التراجيدية التي نشرها أخيل وأوريبيديس وسوفوكل والمحاورات الأفلاطونية والمتون الأرسطية جنبًا إلى جنب. كان الفيلسوف المشائي عامّةً يفصل الشعر عن الفلسفة، متأثرًا في ذلك بموقف أفلاطون من الشعراء. غير أنَّ هذا الكتاب يؤكد بدل ذلك على الاستمرارية الفكرية الموجودة بين الأدب والفلسفة وبين الحكي والحجة وبين الأسطورة والعقل وفق تصوُّرٍ أرسطي يعيد الاعتبار إلى التراجيديا دون أن يتخلى عن الحجاج العقلاني في الفلسفة. والهدف الذي توخّته الفيلسوفة هو أن تُبرزَ أنَّ المسرح التراجيدي يُنَزِّلُ الهشاشة الإنسانية منزلةً مركزيةً في الحبكة السردية. ولذلك، فإنَّ نوسبوم تدعونا كذلك إلى التعامل بإيجابية مع هشاشتنا التي ترتبط بأجسادنا الفانية وعواطفنا الجياشة وبحاجتنا إلى الحبّ والصداقة. فالخيريّةُ ليست مفصولةً عن ظروف حياتنا اليومية، وليست كائنًا خالدًا في عالم المثل. كما أنها متعدّدةٌ ولا تقبل القياس اعتمادًا على مقياسٍ واحدٍ. مثلًا، لا يمكننا أن نعتبر اللذةَ مقياس الخير، لأنه من الصعب علينا أن نقوم بحساب اللذات حسابًا رياضيًّا وأن نجعل مختلف اللذات نسبةً رياضيّةً. فاللذات التي أحسُّ بها هي مختلف الأنشطة التي أقوم بها على نحوٍ معيَّنٍ في ظروف الهشاشة وفي ارتباطٍ بشركاءَ لا أتحكّمُ فيهم. فالخيرات لا تقبل المقايسة لدى أرسطو. ولذلك، تعتبر نوسبوم أنّ أرسطو يسعفنا في نحت مفهوم للخير ينبني على مبدأ الإقدار capability، وهو المفهوم الذي بلورته صحبة الفيلسوف وعالم الاقتصاد أمارتيا سين Amartya Sen. وتعتبر بناءً على ذلك أنَّ تنمية القدرات مرتبطة بالفرص السانحة opportunities التي تسمح للمرء والمرأة بأن يُعزِّزا الحريات الأساسية. وقد استطاعت نوسبوم أن تبلوِّر هذا التصوِّر لأنها درست المسرح والأدب الإغريقي القديم قبل أن تنقلب إلى دراسة الفلسفة وتحصل على الدكتوراه سنة 1975. وقد مدّها الجمع بين المسرح التراجيدي والتكوين الفلسفي الرصين في الفلسفة القديمة والمعاصرة بالقدرة على استثمار الأرسطية في اتجاه تكريس حقوق الإنسان والربط بين الأخلاق والقانون وكذلك من أجل التنظير لمبدأ التفتح flourishing أي تفتّح شخصية الإنسان، وهي آفاقٌ فكرية لم تكن حاضرَةً في المشائية الوسيطة.
الأخلاق والقانون
استفادت نوسبوم كثيرًا من انفتاحها على المسرح التراجيدي، لأنه ساعدها على إعادة صياغة القضايا الأخلاقية والقانونية. فقد قامت بقراءة مسرحية سوفوكل أنتيغون قراءةً جديدةً تتجاوز المنظور التقليديَّ الذي يَضَعُ القانون الإلهيَّ أو مبادئَ الأخلاق فوق قانون البشر. يدافع بعض الفلاسفة عن مبدأ «الحق فوق القانون»، أي عن حق أنتيغون في دفن جثمان أخيها ضدًّا على تعليمات الحاكم كريون التي تُعتَبَرُ بمثابة قانون. غير أنَّ المناقشة التي أفردتها نوسبوم للموضوع حملتها على ارتياد بدائل جديدة بخصوص العلاقة بين القانون والأخلاق وبخصوص مفهوم القانون ذاته أو الناموس في خصوصيته اليونانية. وقد ساهم المنظور الجديد للقانون لدى نوسبوم في استثمار الفلسفة السياسية الأرسطية في معالجة القضايا الحقوقية الجديدة على الصعيد العالمي وفي المنتظم الدولي. وهذا ما مكّن نوسبوم سنة 1995 من تقلّد منصب أستاذة القانون والأخلاق بكلية القانون بجامعة شيكاغو. وقد ارتادت نوسبوم سبلًا جديدةً في معالجة علاقة القانون بالأخلاق ولم تعتبر أنَّ القانون ولا الأخلاق كائنات موجودةً في عالم المثل نعترض بها على القوانين الوضعية. هذه المبادئ الموجودة في عالم المُثُل نقطة البداية، أي «مبادئ» بمعناها الحرفي وصحيحة للوهلة الأولى prima facie. ذلك أنَّ الحكمة العمليّةَ ليست معرفةً episteme كما يقول أرسطو وكما تناقش نوسبوم ذلك على نحوٍ مستفيض. وكذلك فإنَّ الحكمة العملية غير محدّدة المعالم وغامضة في طبيعتها. ولذلك، عملت نوسبوم على تجاوز المعرفة episteme الأفلاطونيّةِ واستثمار الأرسطية من أجل مناقشة قضايا الحق والقانون والخير.
الفلسفة والنسبية الثقافية
يمتاز هذا الكتاب الذي نضعه بين يدي القارئ العربي بميزتين بارزتين. من جهة أولى، يساهم الكتاب في إثراء معرفتنا بالفلسفة اليونانية من خلال العودة إلى مصادرها الكبرى لدى أفلاطون وأرسطو. فقد حرصت نوسبوم على تأويل النصوص اليونانية بناءً على الفيلولوجيا القديمة قصد تجاوز عيوب الترجمات المعتمدة. وقد ألقت الفيلسوفة ضوءًا كاشفًا جديدًا على القضايا المطروحة اعتمادًا على خصوصيات اللغة الإغريقية؛ من جهة ثانية، لا يقف الكتاب عند حدود تحقيق النصوص وتتبع الجزئيات اللغوية، ولم يظل الكتاب سجين الفلسفة اليونانية، مكتفيًا بدراسة الموروث الإغريقي اعتمادًا على الموروث الإغريقي نفسه. فالكتاب متخصص في الفلسفة اليونانية، غير أن أدوات التأويل والفهم تنتمي إلى الفكر الفلسفي المعاصر. وعليه، يجمع الكتاب بين متطلبات التخصص الضيق في اللغة والفكر الإغريقيين وبين تكوين رصين في فلسفة الذهن والفعل والفلسفة السياسية والقانون والأخلاق. يضيق مجال الكتاب في إطار مجال التخصص ويتّسع من خلال الانفتاح على مختلف القضايا الأخلاقية والسياسية التي عالجها الفلاسفة داخل المدرسة التحليلية. تعتمد الفيلسوفة مارتا نوسبوم على المعطيات الفيلولوجية من أجل تقديم رؤية غير مسبوقة لتاريخ الفلسفة في مجالي الأخلاق والفلسفة السياسية وتدخل في مساجلات طويلة مع الفلاسفة المعاصرين حول نفس القضايا.
الأرسطية والفلسفة الحديثة
وقد فرضت الفيلسوفة على أقطاب الفكر المعاصر أن يُدخِلوا الأرسطية في اعتبارهم أثناء التنظير للحداثة الأخلاقية والسياسية والقانونية. وهكذا قامت الفيلسوفة على امتداد الفصول باستطرادات مفيدة حاولت من خلالها أن تدافع عن الموروث اليوناني والأرسطي بوجه خاص في مقابل مدارس الكانطية والعقلانيات المجردة في مجالات الأخلاق والسياسة. تنبني هذه الاستطرادات على مبررات وجيهة، وهي أن تُوجّه انتباهَ فلاسفة الأخلاق والسياسة إلى مساهمة الأدب التراجيدي والفلسفة اليونانية في مواجهة الفلسفات السياسية الحديثة (التي تأثرت مثلًا بالكانطية، كما هو الحال مع راولز. وتهدف الفيلسوفة بالمقابل إلى تخليص قراءةِ نصوص أفلاطون وأرسطو من رواسب الكانطية ومن تأثير نظرية العلم التقليدية. تؤمن هذه المبادئ الفلسفية والعلمية بوجود مبادئ قبلية أو مقدمات ضرورية وذاتية وعقلية تساهم في تقويم السلوك وتهذيب الأخلاق الأخلاقي وفي التحكم في الانفعالات النفسية. فإذا ما آمنّا بوجود مقياس علمي يحظى بإجماع العلماء، سنتمكّن آنذاك من تقويم العواطف الجامحة المختلفة أو passions، بعد اختزالها أو ردّها إلى مقياسها النظري سواءً كان رياضيًا أو بيولوجيًا، وسواءً كانت مرتبطةً بالجسد أو بالانفعالات والمشاعر. غير أن الفيلسوفة نوسبوم ما لبثت تواجه التصورات العلمية التي تُرجِعُ العواطفَ إلى مكونات فطرية في الإنسان أو إلى قواسم مشتركة يشترك فيها سائرُ البشر. وقد حرصت عكس ذلك على إبراز المكونات الثقافية التي تطبع ظروف إظهار هذه العواطف وتعبير الناس عنها أو التي تصل العواطف بعضها ببعض(*). وعليه، تحرص نوسبوم في هذا الكتاب وفي كلِّ أعمالها الفلسفية على استثمار المقولات الخاصة بالثقافة الإغريقية بغيةَ القيام بتحديد دقيق للمفاهيم النفسية والأخلاقية وأملًا في التمييز بين المدارس الفلسفية اعتمادًا على خصوصيات اللغة اليونانية والمصطلحات التي اعتمدها الفلاسفة. وهذا هو المبرّر الذي حمل نوسبوم على الامتناع عن اعتماد الترجمات الإنكليزية للمصطلحات المتصلة بالحب والصداقة والناموس وغيرها. وقد تركنا بدورنا تلك المصطلحات على حالها في الترجمة العربية احترامًا للخصوصية التي تُميّزُ اللغة الإغريقية واستعمال المفاهيم الفلسفية في مختلف المدارس الفلسفية. ذلك أنه لا يجوز لنا أن نكتفي بالبحث عن مقابلات إنكليزية أو عربية للمصطلحات اليونانية داخل المعاجم اللغوية، متجاهلين خصوصيات المجال التداولي اليوناني وأسلوب الكتابة لدى الفلاسفة اليونان. وقد قادت النسبية الثقافية نوسبوم إلى إحياء إشكاليات فلسفية أصيلة ظلت غائبةً عن الأنظار أو مهملةً في تاريخ الفلسفة نتيجة ترجمة النصوص الإغريقية ترجمةً سيئةً أو نتيجة التأثر بالمدارس الفلسفية الحديثة والمعاصرة. سيطلع القارئ وستتطلع القارئة بالتفصيل على حنكة نوسبوم في الاستفادة من النسبية الثقافية من أجل تعزيز الحوار بين مختلف الثقافات الفلسفية (بين الثقافة اليونانية والرومانية والعربية والحديثة).
الأدب والمفاهيم الأخلاقية والسيكولوجية والعاطفية
وقد ظهرت النسبية الثقافية في معطى جوهريٍّ هيمن بقوةٍ على هذا الكتاب ويُشكّل جانبًا أصيلًا في مشروع نوسبوم الفلسفي. فقد خصصت الكاتبة الفصول الأولى للأدباء اليونان مثل أخيل وأوريبيديس وسوفوكل من خلال المسرحيات التراجيدية وملاحم الآلهة لدى هوميروس والأساطير اليونانية عامّةً. قد يعتبر البعض أنَّ تعايش الفلسفة مع الأسطورة كان مؤقتًا. فقد استطاعت الفلسفة أن تستقل عن الكتابة الأدبية بعد أن استقلَّ العقلُ عن الأسطورة. غير أنَّ نوسبوم تنطلق في مسعاها إلى الجمع بين الأدب والفلسفة من معطى بديهي وهو أنَّ تبليغ المضامين الثقافية لا يستثمر مفردات مجردة «بل يستثمر طرقًا محسوسةً في وضع الأشياء- على سبيل المثال من خلال العبارات الشعرية الجاهزة المخصوصة التي يعتمدها الناس أثناء التفكير في الحُبِّ . لا نرُدُّ الحبَّ إلى مجرّدِ قبول جملةٍ من القضايا، بل يعني ذلك أنّنا نتبنّى سيناريوهاتٍ كاملةً نحياها من الدّاخل أو يعني أنّنا نتبنّى جملةً من القصص- وتتمتّعُ هذه الحكايات في جوانبها المتعدّدةِ بخصوصيّةٍ ثقافيّةٍ»(*). وعندما نفصل بين المفاهيم النفسية أو الفلسفية وبين حمولتها الثقافية داخل النصوص الأدبية نعتبر هذه المفاهيم آنذاك مفاهيم كونيةً أو عامّةً، متجاهلين كيف أنَّ الثقافاتِ المختلفةَ قد صاغت هذه المفاهيم بطريقتها الخاصة، بدل أن تتعامل معها بسطحيةٍ كما لو كانت مفاهيم تحمل معنى واحدًا في كلّ الثقافات. وقد أفردت نوسبوم حيّزًا كبيرًا في هذا الكتاب لمناقشة ظواهر متعدّدة مثل انفعالات الخوف والألم والغضب والحزن والإثارة الجنسية والرغبة. وتعمقت نوسبوم في فحص هذه المفاهيم على نحو ظهرت معه أعمال أفلاطون وأرسطو في صورٍ فلسفيّةٍ جديدةٍ وغير نمطيّةٍ. تطرقت نوسبوم على سبيل المثال إلى تغير مواقف أفلاطون بخصوص فحص بعض قضايا العواطف والانفعالات وبخصوص موقفه من الشعر والشعراء، حتّى داخل المحاورة الواحدة مثل كتاب الجمهورية. فقد أوصى أفلاطون بطرد الشعراء من المدينة وبالتصدّي للانفعالات النفسية والعواطف التي يُغذّيها الشعراء والفنانون، مثل عاطفة الشفقة. وطالب كتابُ الجمهورية باستئصال الخوف والرهبة والشفقة والحزن من حياة الجنود ليحافظَ على «الغضب» العسكري فقط. تلك المشاعر خطيرة ولا ينبغي للجندي أن يُربّى عليها وأن يُغَذِّيَها(*). لماذا اتّخذ أفلاطون هذا الموقف من الشعر والشعراء؟ هنا نلج إلى الموضوع الرّئيسي في الكتاب. تُبرز نوسبوم كيف أنَّ أفلاطون انتقد الشّعرَ، وأظهرت كيف أنه انتقد الشعر في الكتابين الثاني والثالث من الجمهورية اعتمادًا على مبرّرات ستشكّل عصب الكتاب. ذلك أنَّ الشعر يؤثر سلبيًا على أفكار الإنسان الخيّرِ، ما دام أنَّ الشعر يُغذّي في نفسه التعلُّقَ بالمحبوب أو يُعمِّقُ فيه الشعورَ بالخوف من فقدانه أو بالحزن على ضياعه. فالعواطف الجامحة والانفعالات النفسية تٌفقِدُ الإنسانَ صوابَهُ وتزعزع استقراره وتجعله عبدًا لعواطفه وانفعالاته ولأفكاره بخصوص موضوعات الحب والخوف والحزن. والحال أنّ الإنسان الخيّرَ يتحكّم في نفسه ويضبط أعصابه ويتحرّرُ قدر الإمكان من مظاهر الخضوع لغير قدراته العقلية الذاتية. يعني ذلك أنَّ الإنسان الخيّرَ يتمتّع بالعفاف والزهد في ما لا يملكه ويمتاز بالغنى عن النّاس. تجد هذه السمات الأخلاقية أبهى تعبير عنها في مفهوم الاكتفاء الذاتي الذي نسبته نوسبوم إلى أفلاطون(*). فقد اعتبر أفلاطون أنّ الشعور بالاكتفاء الذاتي هو الخير الذي تسعى الأخلاق إليه. وعمل لتحقيق ذلك على تهذيب الشعور بالخوف والحزن وعلى إصلاح الآراء doxai التي يدعو الشعراءُ إليها. فقد ركّز سقراط انتباهه، كما ترى نوسبوم، على مشاهد الأبطال والآلهة كما تظهر في الشعر الملحمي والتراجيدي، وهي الشخصيّاتُ التي يتماهي الجمهور معها. وهو يذكر بعد ذلك أن هذه الشخصيات تولي أهميةً لأحداث لا تحظى فعليًا بأدنى أهمّيةٍ ويذكُرُ أنّها تغتنم فُرَصَ الإعراب عن مشاعر الحزن والخوف في وقتٍ لا يحسُّ فيه الشخصُ الخيّرُ المكتفيُ بنفسه بحاجةٍ إليها. كان يجب على أخيل مثلًا أن ينتزع من نفسه الشعورَ بالحزن على باتروكلوس. إنّ ذلك الحزن يُظهِرُ البطلَ الأسطوريَّ في موقفِ ضعفٍ وهو يفكِّرُ في هول فقدان المحبوب، في وقتٍ لا يسعى فيه الإنسانُ الخيّرُ فعلِيًّا والغنيُّ عن الآخرين إلى التّفكير في ذلك (أفلاطون، الجمهورية 387-388a). والهدف المتوخّى من الاكتفاء الذاتي هو تحصيل حصانة ذاتيّةٍ ضدَّ الأحداث الطارئة التي تفاجئنا على حين غرّةٍ. فكما أنّ المناعة الكافيةَ تحمي الجسد السّليم من تسلُّلِ الأمراض الخبيثة، كذلك يحمي الاكتفاءُ الذّاتيُّ الإنسانَ الخيّرَ من الحزن على ما فات ومن التطلع إلى ما سيأتي. لقد اعتُبِر الوصولُ إلى الاكتفاءِ الذّاتي علامةً على الكمال الأخلاقي، وهو المذهب الذي ناقشته نوسبوم بعمق واقتدارٍ على مدار فصولٍ طويلة ودافعت بدل ذلك عن تصورٍ فلسفيٍّ بديلٍ ورد لدى أرسطو. فقد اعتبرت نوسبوم أنَّ المساهمة الأصيلة التي اقترحها أرسطو إلى هذه المناقشة هي «أنّه أقرَّ بأنَّ الصورةَ الأدبيّةَ المميّزةَ التي تتخذها المسرحيات التراجيدية تجسِّدُ كيف أنّها تتبنى المعتقدات التي توجد خلف الانفعالات العاطفية. تتضمّنُ الصّورةُ التي تُميِّزُ التّراجيديا حدوثَ انقلابٍ ملفتٍ في الحظوظ وهو الانقلاب الذي يحظى بأهمية تُحَوِّلُهُ إلى مناسبةٍ للشعور بالشفقة والخوفِ»(*). وقد شكَّل المسرح التراجيدي في هذا الكتاب مادّةً دسمةً تبرزُ كيف أنَّ الإنسان غيرُ محصَّنٍ أمام الطوارئِ وكيف أنَّ الحياة مفتوحةٌ على كلِّ الاحتمالات التي قد تجعل المرءَ سعيدًا إذا ما حظي بظروفٍ جيدةً وقد تجعله شقيًّا إذا لم يستطع تلافي الحظِّ العاثرِ. وبما أنَّ الإنسان لا يستطيع أن يُحصّن نفسه ضدَّ الحظِّ خيرِهِ وشرِّهِ، كان المسرح التراجيدي جنسًا أدبيًّا أثيرًا لدى نوسبوم في هذا الكتاب، بما أنّه يبرز من خلال حبكته الرّوائيّةِ، كما ظهرت مع الشعراء التراجيديين، مدى هشاشة الإنسان أمام لعبةِ الحظِّ. قد يشعر الإنسان باليأس والحيرة والتمزق أمام اختيارات صعبةٍ فرضها حظُّهُ العاثرُ. وبذلك يواجه الإنسان إحراجاتٍ أخلاقيةً moral dilemma تجعل أحلى الاختيارات مُرّةً. وقد كانت الحبكة الروائية أبلغ تعبير لدى اليونان عن الإحراج الأخلاقي أو عن الحالات الشائكة أو الصعبة. يتبيّن من هذا الكتاب أن قيمة فلسفة الأخلاق لا تظهر في الحلول التي يقترحها الفلاسفة، بل في القضايا الشائكة التي يثيرُها المسرح التراجيدي. ويظلّ الشاعر التراجيدي على هذا المستوى أكثر تواضعًا من الفيلسوف، ما دامَ أنَّ الأوّلَ يطلعنا على صعوبة البدائل المتاحة بالنّظرِ إلى الواقع التراجيدي الذي يطبع الوجود الإنساني، بينما يروم الفيلسوف تقديم نظرية أخلاقية فوقية وجاهزة وتتعامل باستخفافٍ مع الإحراج الإخلاقي.
الهشاشة والإحراج الأخلاقي
والحال أنَّ الأخلاق لا تحظى بأهميةٍ فعليةٍ إلا إذا التفتت إلى الإحراجات التي قد لا نجد منها مخرجًا، وهي المادة التي شكلت صلب الشعر التراجيدي، كما أصبحت معينًا لا ينضب لدى الفلاسفة. والنّتيجة هي أنَّ الشعر التراجيدي نظر نظرةً إيجابيّةً إلى العالم وإلى أهمية مجريات العالم وإلى قيمة الطوارئ التي لا يجب الاستهانةُ بها. رفض أفلاطون والرواقية هذه النظرة، بينما قبِلَها أرسطو (كما سنرى في الفصل الخاصِّ 2). لا يرتضي أفلاطون للإنسان أن يراه أشبهَ بريشة في مهبِّ الريح ويريد بدل ذلك أن يحميه من عثرات الزمان. أمّا أرسطو فقد كان أكثر نضجًا وواقعيّةً في تعامله مع عوارض الزمان وأكثر اهتمامًا بتأثير الحظّ العاثر على استقرار الإنسان وتوازنه. يتعذَّرُ علينا أن نُقدِّمَ إجابةً قبليةً عن هذه الأسئلة، وهذا ما تؤكده نوسبوم في هذه الدراسة، بما أنها قد رافقت أرسطو وهو يقَلِّبَ مسألة حسن الحظ والحظ العاثر على مختلف وجوهها. طرحت نوسبوم قضايا كثيرةً ذات الصلة من قبيل: إلى أيّ مدى يؤثّرُ الحظُّ العاثرُ على الطبع؟ تذكر نوسبوم في الكتاب في الفصل 11 كيف أنّ أرسطو يُسلّم بأنَّ الحظَّ العاثر قد يَضُرُّ بالسّعادة، وهو لفظ احتفظت نوسبوم برسمه الإغريقي eudaimonia نتيجةَ ظهورِ عوائق تَحُولُ دون تفتُّحِ الطبع أثناء السلوك. غير أنَّ أرسطو يذكر على الأقل في كتاب الأخلاق إلى نيقوماخوس 1 أنه مقتنع بثبات الطبع على حاله. غير أنّ نوسبوم قد توقفت مدّةً طويلةً عند الفصول الخاصة بالصداقة في كتب أرسطو، وأبرزت أنَّ البتَّ في العلاقة بين الحظ والهشاشة واستقرار الطبع وثباته مسألة أكثر تعقيدًا ممّا قد يتبادر إلى ذهننا. وهذا ما يعكف الكتاب على إبرازه بالتفصيل.
قضايا المصطلح والترجمة
حاولنا من جهتنا أن نظلَّ أوفياء للمصطلحات التي اعتمدتها المؤلفة وأن نبحث عن المقابلات العربية المألوفة التي تفي بالغرض، دون اعتماد غريب العربية في المعاجم العربية أو اللغة الفلسفية المشائية. فقد فضلنا استعمال لفظ «الهشاشة» مقابلًا للفظ fragility بدل أن نستعمل مفردات أخرى تحيل إلى ضعف الإنسان. وفضلنا كذلك استعمال لفظ «الحظ» مرادفًا لمصطلح luck الإنكليزي، بدل استعمال مصطلحات قديمة مثل «السعد» أو البخت أو غيرهما. كما استعملنا مفردة «الخيرية» مرادفةً للفظ الإنكليزي goodness، معتبرين أنَّ اللفظ مقبول في الأذن العربية ويفيد الغرض المطلوب ولم نشأ اعتماد مفردات أخرى قد لا تفي بالغرض. ولكننا كنّا نراعي السياق المقامي في ترجمة «good» إلى «خيّر» أو «جيّد»، حتى نحترم شروط التداول العربي. وقد كنا نقارن بين الفينة والأخرى بين الترجمات الفرنسية والإنكليزية والعربية للمصادر اليونانية القديمة. ولكننا كنا نعتمد في المقام الأوّل المصادر التي عادت إليها نوسبوم في ترجمتها الإنكليزية، وهي مصادر كانت نوسبوم مقتنعةً بجودة ترجمتها، على خلاف أغلب الترجمات الأخرى المتوفرة. وعليه، لم نشأ بدورنا اعتماد الترجمات العربية القديمة للنصوص اليونانية، حتى عندما كنّا نشير إلى عناوينها، بما أنّ المؤلفة كانت تًلحُّ على اعتماد بعض الترجمات الجيدة الحديثة التي استفادت من المعرفة الفيلولوجية باللسان اليوناني. وقد عملنا في كلِّ مرّةٍ على إثبات المصطلح الأجنبي إلى جانب اللفظ العربي حينما يفرض السياق المقامي ذلك. وعندما كانت نوسبوم تعتبر أنَّ بعض المصطلحات لا تقبل الترجمة إلى الإنكليزية، بحكم الخصوصية الثقافية اليونانية، فضلنا كذلك أن نبقي المصطلح اليوناني على حاله في النص العربي. وعليه، فإنَّ الحوار الثقافي بين الكونية اللغوية والخصوصية الثقافية حملنا على ترجمة أغلب المصطلحات إلى العربية أو على ترجمتها في الحدود التي تحترم الخصوصية الثقافية اليونانية. وقد سعينا إلى ترجمة بعض النصوص التراجيدية والشعرية التي ترافقها بما يتوافق مع اللسان العربي، بالرغم من صعوبة ترجمة النّصوص الشعرية.
والله ولي التوفيق
عز العرب لحكيم بناني
فاس المغرب
(*) Martha Nussbaum : Therapeutic Arguments and Structures od Desire. In, Feminism and Ancient Philosophy. Edited by Julie K. Ward, Routledge, New York and London, 1996 , p. 206.
(*) المرجع نفسه، ص 213.
(*) Martha Nussbaum : Poetry and the passions : two Stoic views. In: Jacques Brunschwig and Martha C. Nussbaum: Passions and Perceptions. Studies in Hellenistic Philosophy of Mind. Proceedings of the Fifth Symposium Hellenisticum, Cambridge, 1993. p. 100.
(*) المرجع نفسه ص 104.
(*) المرجع نفسه، ص 108.