ترجمة | سعيد بوخليط |
[“أتساءل إذا كان هذا يشبه اجتياحا جرثوميا”. هكذا، تحدث لنا الروائي “لوكليزيو” J.M.G Le Clézio، عشر سنوات قبل الآن. حرارته، اليوم مرتفعة بعد تتوجيه بجائزة نوبل]
1) هل يمكن القول، بأن عملكم التفت كليا نحو البحث عن الانسجام ؟
يصع
ب جدا التّكلم عن ما نكتب. لأننا، أولا نكتب لسبب لا نعرفه. ربما، قد نتوقف حينما نعرفه… . أن تكتب هو حاجة، توجد داخلك. تتوخى الخروج والانبثاق وفق هذه الصيغة. أن تكتب، ليس بالأمر الهين، بل فن يحتاج لكثير من الدُربة؛ أريد القول، يقتضي الأمر بامتياز أكثر من مجرد معرفة بمعجم اللغة الفرنسية وكذا مكونها التركيبي. من الضروري، أن تقرأ مجموعة مؤلفين، تهضمهم، ثم تقوم عندك الرغبة كي تصنع شيئا أفضل منهم.
2) لكي تتأتى لنا القدرة على الكتابة، يجب أن نتمثل ما قرأناه ؟
نعم، نعم. إذا اعتبرتُ بأنني بدأت القراءة منذ سن السابعة من عمري، فمن الضروري أن أقر بكوني قرأت كثيرا. قراءتي الأولى، لم تكن كتب أطفال بحيث اهتممت بكتب “جدية”. مجموعة قواميس مثلا … . تمكنت، من استظهار معجم للغة الإنجليزية، لأنني سعيت للكتابة بهذه اللغة! بما، أن ولادتي لم تسعفني كي أمتلك الإنجليزية فطريا، فقد سعيت نحو طريق مختصر، كي تصبح جزئا مني وأصير مثل حاسوب يهيئ الكلمات حسب الرغبات.
3) بالتأكيد، فشلت الخطة … ؟
(يضحك). لا، فلكي تكتب بلغة ما، لا تحتاج فقط إلى قاموس ومنظومة قواعد. بل يلزمنا، شيء آخر. طبعا، في هاته اللحظة أدركت حاجتنا إلى هذا الشيء الآخر، أقصد الاستيعاب، التحول من مادة إلى أخرى، وتحويل ما تلقيناه ونحن نقرأ. كل هذه الكيمياء، التي تحدث بُغية أن نكتب ما لدينا لكتابته في ذاته، بمعنى تأكيد وجوده. وما يتوفر لنا نحن بالكلمات، يمارسه آخرون بالرياضة، أو فقط بين ثنايا الحياة. ربما، بالدين أيضا. فأن تكتب هو “دين” بشكل من الأشكال بمفهوم باسكال Pascal.
4) هل تعتقدون بأنكم كتبتم كثيرا ؟
(بعد تردد)…، يحصل عندي الانطباع أحيانا بأنني كتبت بغزارة. أتذكر، حديثي ذات يوم مع ميشيل بوتور Michel Butor حينما التقينا عند محطة للأوتوبيس، فقد كنّا نسكن معا مدينة نيس Nice. هكذا، خاطبني : “نكتب بإفراط”، فكرت، بُرهة : “هل الأمر صحيح ؟” أقلقني، ذلك. فقلت : “يجب أن أحرق كل ما كتبت. إنها أشياء غير مجدية. إتلاف بالحرق، ولاشيء غير هذا !”. بعد التأمل، انتهيت فورا إلى دليل يتعذر دحضه : بما أن كل ما صنعته، لا يفيد في شيء، فمن الضروري أن أواصل : ربما، أعثر يوما على هذا المجدي… . ألخص، لأقول بأن الكاتب هو حتما شخص ناقص، ويكتب بالضبط توخيا للاكتمال ؛ يبحث بلا كلل عن الكمال. وضع، نادر أحيانا، لكن يحدث أن كُتّاب يلامسون الاكتمال من الوهلة الأولى، بالتالي يتوقفون عن الكتابـة : أرثر رامبو Arthur Rimbaud والمكسيكي خوان رولفو Juan Rulfo.
5) لا نحقق ذلك أبدا ؟
أحس حاليا، باقترابي مما أتوخى أن أكونه. لكن، ربما مجرد توهم للنضج… . فحينما، نصل إلى مرحلة النضج نحس حتما بنوع من الخمود الفيزيولوجي، والذهني والذاكري. كبح عام، يجبرنا على الاقتناع بما صرنا إليه. الفرق مع زمان المراهقة، يكمن في أن الصيرورة تثير لدينا الانطباع بمضاعفة القدرات إلى حد اللانهائي، وبأننا نتوفر على إمكانية أن نكتب أكثر وأفضل من أي شخص آخر. هكذا، نخلد ونصمد أمام كل شيء. قد، نعيش دو أن ننام أو نستريح.
6) كان لديكم مشروع وأنتم في الأربعين، ينهض على إعادة كتابة كل الأعمال التي أصدرتموها حتى ذاك العهد … ؟
لم أنجز من الفكرة إلا قسما، ثم تخليت عنها سريعا. هذا، يقوم بدون شك على نوع من الشكلية. فمثل، الحيوانات التي تطور تماثلا رائعا على مستوى وظائفها، أعينها، وكذا خاصياتها. فإن، الكائن الإنساني مُلزم بتنمية تنافسه الذهني، وإن افتقد للإمكانية ذاتها بخصوص الجانب الفيزيقي. ربما، هي مسألة إيقاع. قد يعيش الكائن وفق إيقاعات، كما يدعي البعض، سن السابعة من عمره أو الثالثة عشرة. حينما تقضي وقتا معينا، ينبغي الانطلاق ثانية كي يأخذ الإيقاع مسارا جديدا. الذهاب مرة أخرى، لا يعني بالضرورة الكتابة ثانية بشكل معكوس لكل ما سبق لنا إنجازه. بل، إعادة الكرّة ونحن نعثر من جديد على الدوافع التي كانت وراء البداية.
7) بين سنوات 1970 و 1974، توجهتم إلى هنود بنما (Emberas) والوناناس (les waunanas) ؟ هل كنتم تتطلعون عند هؤلاء، نحو الوقوف على شكل آخر من المعرفة ليست فكرية ؟
نعم. كنت قطعا في حاجة إلى صدمة فيزيائية. سعيت إلى وقف، أن أكون مجرد معطى دماغيا محضا. لقد، أدركت حتمية النزوع نحو ذلك. قد تغني، هاتـه اللا-دماغية مضامين كُتبي المستقبلية. سيجد، مبدعون آخرون في تجربتي مسلكا عبثيا بل وزائفا. الكتابات، التي توجه إليها اهتمامي، وأنا في مرحلة المراهقة، كانت تناقش بعمق هذا التاريخ : كيف ننتقل من الدماغي إلى الفيزيائي. أحيل هنا، بالخصوص على عمل مثل : [Two years before the mast] ، لصاحبه “ريشار هنري دانا” (Richard Henry Dana) ثم مُؤلفات كيبلينج (Kipling)، و”ويليام غولدينغ” (William volding)…، وكل تلك النصوص الطليعية.
يعتبر “ستيفنسون” (Stevenson) الروائي النموذجي، لنمط كهذا من التاريخ : كيف يصير الدماغي فيزيائيا ؟ ثم كيف للذهني، أن يتحول إلى أخلاقي ؟ كيف، نكتسب هاته التجربة الباطنية ؟ المجتمع الأوروبي، كما تربيت داخله، سواء بمناطق موريس Maurice أو بروتان Breton مع انزياح خفيف في طبيعة التربية عند الموريسيين، بينما يزداد تباعدا بالنسبة لسكان بروتان Breton. أقول، بأنهم لا يتجهون إلى غاية تكوين الشباب بناء على هذا الخط. على النقيض، يطلبون منه، أن ينسى مطلقا وجود العالم. لكن، في يوم ما، يسقط عليهم العالم من فوق، فيندهشون جدا.
8) أنتم الآن بصدد التحول إلى ما أردتموه لذاتكم ؟ مثل نمر بورخيس الذي وضع كل حياته رهن إشارة أن يصير نمرا. أو، مثل رسام لوحات طبيعية، أدرك عند لحظة موته بأنّه لم يرسم في آخر المطاف إلا صورة له ؟
نعم، تصور جميل جدا. لقد كنت محظوظا، كي أقابل بورخيس مرة واحدة. تحدثنا، بشكل مطول عن العلاقة الموجودة بين الأدب والحياة. كان مضطربا جدا، وهو بصدد البحث عن اسم كاتب لم يعثر عليه. وبعد مجموعة من التدقيقات، استطعت أن أستحضر له اسم : ريدر هاغار (Ridder Haggard). أخبرني، بأنه حينما كان طفلا حدثت لديه ثورة وهو يقرأ نصا، انتهيت أنا بدوري من قراءته منذ فترة في عدد قديم جدا من : Journal des voyages. يحكي، عن تاريخ “شاكا” (Chaca) ملك الزولو (Zoulou). ويقف بالخصوص، على هذا المقطع المدهش، حينما يترك طفل أسود ترعرع في حضن قس بروتستاني، عالمه الأوروبي كفضاء لطفولته، ثم يفر كي يختفي في الغابة. عهود بعد ذلك، وبينما كان القسّ يخلد احتفالا، تنفتح الغابة وتفسح المجال لمرور متوحش، تغطي وجهه ألوان الحرب، يلبس ريشا ويتحدى الجميع برمح. خيم الرعب على الحشد، حيث اعتقد الجميع بأن شيئا مهولا سيقع. اقترب الرجل من القس، ألقى بصدرية على الأرض وقال : “حينما رحلت، بقيت أرتديها، إنها الأثر الوحيد عن الحضارة، أعيدها لك”. ثم، أسرع ثانية إلى أعماق الغابة. كشف لي بورخيس، عن الاهتزاز الذي شعر به وهو يتمثل هذه الحكاية التي تبين بأن الإنسان ينطوي على مصيره. جميل، أن نغيره، إلا أنه سيتجلى دائما، مثلما يتحتم أن يكون : لقد اختار أن الصيرورة نحو ما يجب أن يكونه في نهاية المطاف. ذاك، الذي يسكن بعمق داخله.
8) هل يملك الإنسان مصيره ؟
بالاستناد إلى بورخيس، نعم. وأظن، من جانبي بأننا ملتصقون بشكل واسع جدا، بما نعيشه أثناء السنوات الأولى من الحياة، أقصد القراءات التي راكمناها، والحكايات المروية لنا أو التي التقطناها. هذا ما يصنع مصيرنا الحقيقي. لقد عانينا، باستمرار كي نتخلص من ذلك فيما بعد. إذن، ما تبقى من العمل يقوم ربما على إعادة تشييد لتلك الحقبة، شيئا ما مثل النمر الذي عليه أن يصبح نمرا. نستحسن، رؤيته يتربى مثل حيوان مجتمعي، لكنه سينتهي إلى حقيقته.
9) هل شكلت أصولكم العائلية مادة للكتابة ؟ تساعدكم أم تبحثون على نسيانها ؟
إنها ليست بالضبط الأصول التي تشغلني، بل الكيفية التي تربيت بها. أمي، إنجليزية التجأت إلى مدينة نيس Nice، نظرا لاستحالة بقائها في المنطقة المحتلة، لذلك اختفت داخل منطقة نيس Nice. دون الحديث، عن الفظاعات فقد عشت قليلا بالموازاة تاريخ اليهود أثناء الحرب :
أن تكون إنجليزيا خلال تلك الفترة، ليس بالأمر السهل جدا. أما، والدي فقد كان طبيبا في إفريقيا، لم أعرفه إلا بعد مرور وقت طويل. بالتالي، حينما حاولت القيام بعملية تواصل بين أمي المُتجذرة في منطقة “بيكارد” (Picarde)، وأبي الذي عاد للاستقرار في أوروبا حاملا معه كل تقليد جزر موريس، بدا بالفعل التصادم حقيقي. لم يكن، بوسعي التعود على كوني من هذا الأصل أو ذاك، ولكن أن استوعب جيدا داخل هذا السياق الجنوب فرنسي، بأنني سأخضع من الآن لتربية على منوال فتى من موريس Maurice. قالوا لي، نويل Noël عبارة عن احتفال وثني، لا تجب إقامته. كان من اللازم، أن آكل يوميا الأرز ووريقات القَرْع Courges ونبات الفُطْر Brèdes ثم خضرة تسمى : chaillottes، وعند الاقتضاء شيء من السِلْق Bettes، ثم نغلي كل تلك المواد. فقط، يوم الأحد يمثل استثناء : يجوز لنا وضع مرق البهار الهندي على الأرز ونبات الفُطْر! هكذا، إذن وأنت تقضي كل طفولتك على الإيقاع ذاته، اليوم بعد الآخر، بينما الآخرون يأكلون بفتيك مع بطاطس مقلية، وليس لديك أية قطعة ثلج لأن آباءك لا يتوفرون أبدا على جهاز للتبريد، فالسؤال الذي يؤرقك ينصب على الغرابة وليس الأصول : تحس بأنك قد تحولت داخل فضاء هو بالأحرى ملكك، ثم تعيش مثل جسم غريب.
10) تولد الكتابة وتنشأ من هذا ؟
بالتأكيد، إنها تعويض عن الحرمان. لكنها، ذوق أيضا. فقد، أحببت عند الوهلة الأولى مجموعة كتب، ما إن اقتربت منها. أدين، بأسمي مشاعر طفولتي إلى جدتي التي وضعت تحت تصرفي كتابا عجيبا : le Dictionnaire de la conversation (معجم المحادثة)، تضمن خمسة عشرة جزءا (1858)، بدون أية صورة، نص مطبوع في شكل ثلاثة أعمدة جد متراصة، على الطريقة التي كانت سائدة في تلك الحقبة…، عمل شاق كُتب في قسمه الأعظم بفرنسية تليدة، لكنه بدا لي في الواقع كمادة للحلم ذاته. لقد تطرق لكل المحاور : إنه العالم في كتاب. ولفترة طويلة جدا، استعنت بمحتوياته، في حياتي حتى أميز بين الأشخاص الذين قد يتشابهون معي عن آخرين لا يجمع أي شبه بيني وبينهم. أولئك، الذين أطلعوا على هذا القاموس حفروا مثلي القمم ذاتها، واجتازوا العقبات نفسها.
11) لدينا الانطباع بأنكم متأثرون جدا بالعابر والمُنفلت ؟
سعى المجتمع المعاصر إلى القضاء على الموت والمرض والألم، لكنها لازالت قائمة. يصاب مجتمعنا بالذهول، وهو يجد هذه الحقائق أمامه. يعتقد في قيرورة نفسه، بأن العالم قطعة ثابتة، بحيث لا شيء يتغير داخلها، إلا أنه في العمق يبقى الاحتمال أساس كل شيء. الصيرورة، كيفية تجعلك في تناغم مع هذا اللا-أمان المتواصل.
12) حينما ذهبتم، هل كانت لديكم الرغبة بالانسحاب من حقبتكم، أو سعيتم اتجاه مكان تتبلور فيه إنسانيتكم أكثر ؟
لا أعتقد بأنني هربت من شيء ما. لو كان الأمر كذلك، لأفصحت عن رغبتي في الكشف عن ما سعيت لكي أتخلص منه. أثناء فترة استقراري الطويلة، فكرت دائما في الرحيل. حاليا، تسكنني فقط رغبة ملحة من أجل سماع أصوات أخرى، عملنا على منعها دون أن تصل إلينا. أصوات أفراد، رفضنا الإصغاء إليهم، مادمنا قد احتقرناهم لفترة طويلة، أو لأن عددهم تافه، في حين يتوفرون على أشياء كثيرة يريدون إخبارنا بها.
13) وقفتم مطولا عند الجنون في كتابكم الأول : Le procès verbal. مفهوم، سيتوارد باستمرار لديكم… ؟
![Jerome David Salinger لوكليزيو](https://hekmah.org/wp-content/uploads/2015/06/Jerome-David-Salinger-300x225.jpg)