مجلة حكمة

لم تكن الأفكار كافيةً: لوك، وسبينوزا، وفولتير – مارك كوياما / ترجمة: عمرو بسيوني

لوك، وسبينوزا، وفولتير؛ جميعهم كانوا رائعين، ولكنّ الحرية الدينية في أوروبا كانت مدفوعة بالقدرة السياسية لا الفلسفة([1])


 أصبحت الحريةُ الدينية قيمةً رمزية في الغرب. فقد ترسّخت في الدساتير، ويؤيدها السياسيون والمفكرون من مختلف الأطياف السياسية، وهي بالنسبة لكثيرين قيمةٌ مطلقة، وأمرٌ لا يرقى إليه الشك. ولكن كيف ظهرت الحرية الدينية، ولماذا؛ فهذا الذي لا يزال يُساء فهمُه على نطاق واسع.

وفقًا للسردية التقليدية؛ فقد نشأت حرية الدين في الغرب في أعقاب الحروب المدمرة التي استعرت بسبب الدين. وقد حفزتها حججٌ قوية من المفكرين أمثال جون لوك، وباروخ سبينوزا، وبيير بايل، وفولتير. لقد استجاب هؤلاء الفلاسفة والمنظّرون السياسيون لوحشية الحروب الدينية بدعم المفاهيم الراديكالية للتسامح والحرية الدينية. ثم أصبحت، مثلها مثل اللليبرالية؛ جزءًا لا يتجزّأ من المؤسسات السياسية في الغرب، في أعقاب الثورتين الأمريكية والفرنسية.

هذه هي، في هيئتها العامة؛ الروايةُ المقبولة من قِبل معظم الفلاسفة السياسيين وعلماء الاجتماع. ولكنَّ الأدلة لا تدعم هذا التركيزَ على قوَّة الأفكار في تشكيل هذا الصعود للحرية الدينية، والتقليل من شأن الدور الحاسم الذي تقوم به المؤسسات.

لقد كانت أفكار الفلاسفة مهمةً حقًّا. ففي كتابه: القاموس التاريخي للنقد (1697)؛ أشار بايل إلى أنه إذا ادَّعيْنا أن دينًا واحدًا هو الإيمان الحقيقي الوحيد؛ فإن هذا يعني ضِمنًا الحقَّ في اضطهاد جميع الآخرين، وجميع الأديان الأخرى تمتلك الحقَّ نفسَه في تقديم مثل هذا الادعاء. وبإظهار الميْل المتأصّل في المجتمع تجاه مِثل هذه المزاعم الدينية حول الحقيقة؛ جادل بايل أيضًا أن الناس إذا لم يكونوا مُخطئين بحسب دينهم؛ فإنهم نادرًا ما يشعرون أنهم مذنِبون بسبب جرائمهم، في محاولاتهم المخلصة للامتثال لأوامر دينهم.

وجادل لوك أن الإيمان الحقيقي لا يمكن أن يكون بالإجبار. وأتبع ذلك بأن تقييد حقوق الأقليات الدينية ينبغي ألا يحدث إلا لأسباب تتعلق بالدولة، أي ليس لأسباب تتعلق بالإيمان أو الخلاص. واتخذ فولتير مسارًا لا يقلُّ فعاليةً، بتوثيق حالات الاضطهاد الديني، والسخرية منها بلا هوادة. ومرارًا وتكرارًا جعل فولتير المتحمسين والممارسين لفَرْضِ العقائد الدينية؛ يَبْدُون سخيفين. هذه أفكارٌ مقنعة ومترابطة منطقيًّا، وتستحق مواصلة الدراسة والقراءة.

إلا أنَّ التركيز على هذه الأفكار لا يفسِّرُ تمامًا كيف جاءت الحرية الدينية إلى الغرب. فلا تعني الأهمية الفكرية لبايل ولوك وفولتير أن أفكارهم كانت محورية فيما يتعلق بالحرية الدينية عندما تطوّرت وأصبحت واقعًا في الحياة السياسية والاجتماعية.

لقد أكملتُ مؤخرًا مع زميلي بجامعة جورج ماسون، الخبير الاقتصادي نويل جونسون؛ كتاب: الاضطهاد والتسامح (2018)، الذي نبيّن فيه أن الأفكار لم تكن كافيةً لتحقيق الحرية الدينية. والأهم من ذلك أن التغييرات السياسية والمؤسسية – وعلى وجه التحديد نمو وتعزيز قدرة الدولة على خلْق وتطبيق القواعد – قد جعلت الحريةَ الدينية في الغرب ممكِنةً وجذَّابة. لم تكن أفكار بايل أو سبينوزا أو لوك لِتَقودَ صعودَ سلطة الدولة، بل كانت الحاجة إلى جمع الموارد للحُكم والحرب. فبالنسبة لحالة التصاعد المالي العسكري؛ فقد أصبح التوحُّد الديني والاضطهاد، ببساطة؛ مُكلِّفيْن للغاية وغير فعَّالَيْن.

تميّزت أوروبا في العصور الوسطى بحدودٍ سياسية متداخلة ومتعددة. لم تكن هذه “دولًا” بالمعنى الحديث. كان المنتظَر من الحكَّام فحسب هو إنفاذ “قوانين الأرض” القائمة، وليس تمرير قوانين جديدة. ففي العادة، لم ترتفع الضرائب – في الأوقات العادية، وكان الحكَّام يعيشون من عائدات أراضيهم الخاصة. والجيوش لم تكن دائمة، بل تُجمع بطريقة مؤقتة حسب الحاجة. وقد يكون للمناطق والمدن المختلفة داخل المملكة التعريفاتُ الجمركية واللوائح والأوزان والمقاييس الخاصة بهم. كان هناك القليل في طريق البيروقراطية.

تباينت القوانين ُعلى المستوى المحلّي، واعتمد تطبيقُها في العادة على هُوية الفرد. وكثيرًا ما كان يُعْفَى النبلاءُ من دفع الضرائب. وكان للفلاحين حقوقٌ وواجبات مختلفة عن سكّان المدن. والنقابات تسيطر على الدخول في التجارة.

وتُعرَف القواعد والقوانين المختلفة لمختلف الأشخاص على أنها قواعدُ هويةٍ، وكان هذا هو الطبيعي. واعتمدت سياساتُ العصور الوسطى على قواعد الهوية لأنها شكل من أشكال الحكم منخفض التكلفة. فقد افتقرت السياسياتُ في العصور الوسطى إلى القوة اللازمة لتطبيق القواعد العامة، فلذلك فقد كان من المنطقي أيضًا الاعتماد على قواعد الهوية.

وعلى مستوى أعمق؛ فإن قواعد الهوية توفّر الغِراء الذي يلصق النظام السياسي معًا. فمن خلال معاملة الأفراد بشكل مختلفٍ وفقًا لوضعهم القانوني أو دينهم؛ فإن قواعد الهوية تحدُّ من المنافسة الاقتصادية بين المجموعات، وتولّد عوائد اقتصادية يمكن أن تمتصها النخبة السياسية. وتلك العوائد استُخدِمت بدورها للحفاظ على النظام السياسي التمييزي.

وكان كثيرٌ من هذه القوانين التمييزية تقوم على الدين. وأحد الأمثلة على ذلك: ربا اليهود. فإن قانون الكنيسة كان يحظر على المسيحيين إقراض المال بفائدة. لكنَّ اليهود لم يكونوا يخضعون للقانون الكنسي. وبتطبيق هذا الحظر؛ فقد كان يمكن للحكّام فرض ضريبة على الأرباح الاحتكارية التي يحصل عليها المقرضون اليهود. وفي المقابل؛ فقد قدَّموا لليهود الحمايةَ من العنف، والحقَّ في إدارة شؤونهم الخاصة.

كما قدَّم الدينُ مصدرًا فعّالًا للشرعية السياسية. فالدول الحديثة تحصل على الشرعية من خلال المؤسسات الديمقراطية أو من خلال توفير المنافع العامة والنمو الاقتصادي، في حين تميل الدول قبل الحديثة إلى الاعتماد أكثر على الدين.

في مقابل منح الحكّام الشرعية السياسية؛ كان يمكن للسلطات الدينية أن تطلب من الحكّام العلمانيين تطبيق الاستقامة الدينية

كان من المنطقي لدول العصور الوسطى أن تعتمد على المؤسسات الدينية في القيام بمهماتها الإدارية. فالمؤسسات الدينية، مثل الكنائس والأديرة في أوروبا، والأوقاف والمساجد في العالم الإسلامي؛ وفّرت التعليم، وإعانة الفقراء، وغيرها من المنافع العامة. وبالمقارنة مع المنظّمات غير الدينية؛ فقد كانت أفضل في استبعاد الأشخاص غير الرسميين، وجذب التبرعات من الأعضاء.

كانت الشراكة بين الكنيسة والدولة المتقدّمة؛ شراكةً ذات عواقب مهمة على الحرية الدينية في عالم ما قبل الحداثة. ففي مقابل منح الحكّام الشرعية السياسية؛ كان يمكن للسلطات الدينية أن تطلب من الحكّام العلمانيين تطبيق الاستقامة الدينية. واستلزمت الصفقةُ أيضًا أن يعتقد الحكّام أن المنافسة الدينية من شأنها أن تولّد عدم الاستقرار السياسي.

فالاستقامة [المطابَقة] الدينية، ومِن ثَمَّ اضطهاد المعارضة الدينية؛ كانت بمثابة المحافظة على النظام السياسي. وفي مثل هذا العالَم؛ لا يمكن تصوُّرُ الحرية الدينية.

إنَّ طبيعة هذه الصفقة السياسية واضحةٌ في تطوُّر آراء مارتن لوثر عن الحرية الدينية. فعندما فُصِل لأول مرة من روما؛ دعا لوثر للحرية الدينية. وفي أعماله المبكرة، مثل: رسالة مفتوحة إلى النبلاء المسيحيين (1520)؛ اعترف بحقّ أي مؤمن في قراره الخاص، وجادل ضد الإجبار على المعتقد الديني. إلّا أن موقف لوثر تغيَّر. وكانت حرب الفلاحين (1524- 25) هي السبب المباشر لهذا التغيُّر. فقد عارض الحريةَ الدينية للأنابابتيست، ثمَّ أدان أتباع زميله الإصلاحي هولدريتش زوينجلي في سويسرا. وتشير معارك لوثر الداخلية ضد الحرية الدينية ومعاركه ضد معاصريه؛ إلى أن القوة الضخمة في العمل يبدو أنها تستلزم الإكراه الديني. فقد خلُص إلى أن الإيمان بالاستقامة [المطابقة] الدينية – أي اللوثرية – يجب أن تكون مطلوبة.

هناك أيضًا قضية جون كالفن ومايكل سيرفيتوس. كان سيرفيتوس مفكرًا حرًّا، مشهورًا في تاريخ الطب باكتشافه وظيفة الدورة الدموية الرئوية. وقد نفى الثالوث أيضًا، الأمر الذي جعله عدوًّا للكاثوليك والبروتستانت كليهما. تواطأ كالفن مع المحققين الكاثوليك من فيينا لإدانة سيرفيتوس بالهرطقة. وعندما وجد سيرفيتوس نفسَه في جنيف؛ دفع كالفن في اتجاه محاكمته. أُحرِق سيرفيتوس حيًّا وسط تصفيق بروتستانت أوروبا.

انتقد اللاهوتي الفرنسي سباستيان كاستيليو؛ كالفن، بسبب القتل القضائي لسيرفيتوس، وبذلك فقد خلق حالةً فكريَّةً قوية للتسامح الديني. لقد كانت حجة كاستيليو للتسامح الديني سابقةً على لوك وبايل بقرن ونصف. ولكنَّ كتاباته لم يكن لها تأثير حقيقي، ولا يكرَّم كاستيليو كبطل للحرية الدينية، رغم أنه كان كذلك.

وعلى كل حال، فلم تكن الحرية الدينية ممكنة في الجزء الأول من القرن السادس عشر. لم يكن هذا ببساطة بسبب الدوغمائية. لم يكن الناس في القرن الثامن عشر أكثر ذكاء أو أكثر قدرة على التفكير من خلال الحجج لصالح التسامح عن الناس في القرن السادس عشر. ما تغيَّر هو أنَّ الدين لعب دورًا أكبر في الحفاظ على النظام السياسي في القرن السادس عشر.

فما الذي تغيَّر إذن؟ لماذا جاءت الحرية الدينية إلى الغرب؟ لماذا أصبح لوك وفولتير أبطال الحرية الدينية، وليس كاستيليو؟ الجواب يكمن في التغيرات المؤسسية الأساسية التي حدثت في الدول الغربية بين 1500- 1800.

كان التغير الأول هو التحول في نطاق الدول الأوروبية. في أواخر العصور الوسطى؛ بدأ الحكّام في القرون الوسطى في بناء القدرات الإدارية وزيادة الضرائب بصورة أكثر انتظامًا. ورغم ذلك فإن التطورات الأكثر دراماتيكية قد حدثت بعد 1500، نتيجة للتطورات في التقنية العسكرية التي وصفها المؤرخون بالثورة العسكرية. لقد أجبر سباقُ التسلُّح على نطاق القارة، الذي نجم عن اختراع البارود؛ أجبر الحكَّامَ على الاستثمار في زيادة القدرة المالية والإدارية.

ومن أجل الدفع في سبيل جيوش أكبر حجمًا؛ يجب فرض ضرائب جديدة، وإنشاء نظام دائم للاقتراض الحكومي. وعلاوة على ذلك؛ حدث تحوُّلٌ عن النظم الضريبية المخصصة والإقطاعية واللامركزية؛ والتحرك نحو توحيد المعايير والمركزية. وبدلًا من الاعتماد على ضرائب الفلاحين، التي تقوم الكنيسة أو شركات تجارية برفعها نيابة عنهم؛ فقد استثمر الحكام في البيروقراطيات الواسعة للقيام بذلك مباشرة. كانت هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكنهم معها أن يدفعوا ثمن الجيوش المتزايدة.

يقدّم حجمُ الجيوش الأوروبية إدراكًا بحجم التحوُّل. فالجيوش التي تحاربت في حرب المائة عام بين إنجلترا وفرنسا معدودة عمومًا بالآلاف. وعندما جمع الفرنسيون قوة تجاوزت بصورة ملحوظة حاجز العشرة آلاف جنديًّا في معركة أجينكورت عام 1415؛ كان ذلك حدثًا غير عادي، ومع ذلك فقد هُزم من قِبَل قوَّة إنجليزية أقل منها بكثير.

وبحلول بداية القرن الثامن عشر؛ قاد القادة الإنجليز والفرنسيون جيوشًا تصل إلى مئة ألف. وفي عهد لويس الرابع عشر؛ كان الحجم الإجمالي للجيش الفرنسي في الميدان أربعمئة ألف.

دَفْعُ ثمنِ هذه الجيوش الضخمة – وعلى حد سواء دفع تكلفة سلاح الأساطيل البحرية التي أنشئت في وقت مبكر من الدول الحديثة -؛ تطلَّب زيادةً كبيرة في الإيرادات الضريبية. فبين الثورة المجيدة في 1688، واختتام الحروب النابليونية عام 1815؛ زادت الإيرادات الضريبية التي جنتها المملكة البريطانية بمعدل 15 مرة. ومع نمو إجمالي للناتج المحلي بنحو ثلاث مرّات؛ فإن هذا يمثل تضاعفًا خماسيًّا للحكم النسبي للدولة. كما نجحت دولٌ أوروبية أخرى في زيادة حجم إيرادات الضرائب التي جمعتها زيادةً كبيرة (على الرغم من أن البعض، مثل فرنسا؛ لم يتمكن من تحقيق ذلك بالمعدل المطلوب لمواكبة ارتفاع النفقات).

والتحولاتُ المؤسسية الدرامية التي تحدث مع هذه التغيّرات؛ هي ما يعرف باسم: صعود الدولة المالية – العسكرية، التي أدّى ظهورها إلى نشوب حروب مكلفة واسعة النطاق. إن القدرة العسكرية والإدارية الهائلة للدول الحديثة في وقت مبكر تعني أيضًا أن لديها القدرة على اصطياد الهراطقة بصورة أكثر فعالية من أسلافهم في القرون الوسطى. فحكَّام مثل هايسبورغ الثاني في هولندا، وماري الأول في إنجلترا؛ أحرقوا مئات الأشخاص من أجل معتقداتهم الدينية.

بالنسبة للدول ذات البيروقراطيات وجامعي الضرائب الموظفين؛ فإن معاملة الجميع على قدم المساواة، ببساطة؛ كانت أقلَّ تكلفةً.

وعلى أي حال؛ فإن تأثير هذه التغيرات على المدى الطويل قد قوَّض الدين كأداة للشرعية السياسية، وعمل على استبدال قوانين أكثر عمومية بالاعتماد القديم على قواعد الهوية. فالدولة الحديثة الجديدة التي ظهرت في أوروبا بعد 1600 قد أخضعت جميعَ مصادر السلطة البديلة – النبلاء، والكنيسة – لسلطة واحدة ذات سيادة. وأصبحت شرعيةُ الدين أقلَّ أهمية كمصدر للشرعية السياسية. ولمَّا كانت الدولُ تعتمد على السلطة الدينية بدرجة أقل؛ فقد أصبحت أقلَّ ميلًا إلى الاهتمام بتطبيق الاستقامة الدينية.

يوضّح الكاردينال ريشيليو هذه التطورات. دمَّر ريشيليو السلطةَ المستقلة للنبلاء في فرنسا. لقد وسَّع جدًّا من سلطة النظام الملكي. وعلى الرغم من ذلك فقد رفع الكاردينال مصالح فرنسا على مصالح الإيمان الكاثوليكي. جزءٌ مهم من هذا الإنجاز ينطوي على تدمير القوة العسكرية المستقلة للهوغينوت، أو البروتستانت الفرنسي. وكما سحق ريشيليو “الدولة داخل الدولة” للهوغينوت؛ فإنه قد ضمن أيضًا حقَّهم في العبادة وفق الاعتقاد البروتستانتي. أصبح الدين نشاطًا خاصًّا، بدلًا من أن يكون مصدرًا بديلًا للسلطة السياسية. بكل بساطة؛ جاءت حريةٌ دينيةٌ أكبرُ كثمنٍ للسلطة السياسية للدين.

أدّت عملية المركزة والبيروقراطية إلى نتائج مهمة أخرى. فقد كانت تعني وجوبَ التخلي عن قواعد الهوية. وفي مكانها؛ وضعت الدولةُ قواعد أكثر عمومية. فقدت النقابات امتيازاتها الاحتكارية. وأصبحت النظمُ القانونية موحَّدةً بصورة متزايدة، والضرائب أكثر تنظيمًا. فبالنسبة للدول ذات البيروقراطيات وجامعي الضرائب الموظفين؛ فإن معاملة الجميع على قدم المساواة، ببساطة؛ كانت أقلَّ تكلفةً. وأصبحت القواعد التمييزية ضد الكاثوليك والبروتستانت واليهود زائدة عن الحاجة مع مرور الوقت، أو جرى التخلص منها في نهاية المطاف. وعلى الرغم من أن عملية التسوية كانت تدريجية ومتقطعة؛ فقد أثبتت عملية التسوية هذه أنها صلبة، وعلى المدى الطويل: لا رجعة فيها.

وقد حاولت بعض الدول فرضَ الاستقامة الدينية بالقوة. فوضعت سلالة هايسبورغ في أسبانيا محاكم التفتيش وطردت سكّانها اليهود والمسلمين. وطرد لويس الرابع عشر الهوغينوتس من فرنسا. ولكن هذه المحاولات للعودة إلى القرون الوسطى عبر التوحيد الديني أدت إلى أخطاء باهظة، وساعدت على إضعاف الأنظمة والحكومات التي قامت بها.

إن قيام دول “علمانية” قوية نسبيًّا لم تعد معه الحاجة إلى شرعية دينية؛ حوَّل التوازن السياسي لصالح الحرية الدينية وتفكيك النظام القديم لقواعد الهوية. وبمجرد حدوث هذا التغيّر المؤسسي؛ تحوَّل الرأي النخبوي لصالح الحرية الدينية.

وتقدّم حالةُ اليهود مثالًا مهمًّا على كيفية حدوث الحرية الدينية تاريخيًّا. ففي عام 1782؛ أصدر الإمبراطور هايسبورغ جوزيف الثاني واحدًا من أول مراسيم التسامح مع اليهود في قارة أوروبا. وقد منح القانونُ حقوقًا مدنية معينة لليهود بشرط إدماجهم مع بقية السكان كمواطنين فاعلين. لم يصل ذلك إلى حد تقديم المساواة الكاملة لليهود، ولكنه شكّل تغييرًا جذريًّا في الطريقة التي تعومل بها مع اليهود. وقد جاء الدافعُ نحو التحرير بصورة أقل من خلال الالتزام بمبدأ المساواة الدينية، وبصورة أكثر من خلال الاعتراف بأن الإبقاء على النظام القديم بالاعتماد على قواعد الهوية قد فرض تكاليفَ اقتصادية وسياسية كبيرة. فقد اقتنع جوزيف الثاني بكتابات كريستيان فيلهلم فون دوهم، الذي كان يجادل بأن الأنظمة القائمة تقيِّد الحياة اليهودية، مما يجعل الشعب اليهودي غير منتج كمواطنين وعمّال. وقال إن تحرير اليهود من القوانين التمييزية من شأنه أن يعزّزَ الاقتصاد.

كانت إصلاحات جوزيف مثيرة للجدل. لكن فرنسا الثورية تبنَّت سياساتٍ مماثلة، وسرعان ما صدَّرت ذلك إلى الكثير من دول أوروبا الأخرى. وكانت نتائج هذا التحول مثيرة. لقد جرى استبعاد اليهود من معظم الصناعات والمهن، ومُنِعوا من الجامعات، ومن القانون، ومن عضوية النقابات. ونتيجة لذلك فقد اقتصر اليهود إلى حدٍّ كبير على الحِرَف، مثل الربا، وبيع التجوُّل. وكان غالبية اليهود في أوروبا يعيشون في غيتوهات، وكانوا فقراء ومعدمين. بعد التحرر؛ تغيَّر هذا كله في غضون جيل. دخل اليهودُ التعليمَ العالي والصناعة والتجارة على نطاق واسع.

كما أدّت هذه الزيادة في الحرية الدينية إلى تغيير الحياة الثقافية والفكرية لأوروبا. فبين العصور الوسطى والعصر الحديث؛ كانت الثقافة الفكرية اليهودية، في نواحٍ كثيرة؛ مهملةً في أوروبا المسيحية – على الرغم من عبقريات استثنائية مثل سبينوزا أو موسى بن ميمون. وقد أدّى تحريرُ الجالية اليهودية في أوروبا إلى ازدهار هائل في الإنجاز الفكري والفني لليهود، مما أدى إلى إثراء المجتمع الأوروبي.

بدأت الحرية الدينية تبدو بصورة أقل: وصفةً للاضطراب الاجتماعي والحرب الأهلية، وبصورة أكثر: اقتراحًا مربحًا للجانبين.

استكملت التغييراتُ الاقتصادية صعودَ الحرية الدينية، وأبرزها بداية النمو الاقتصادي الحديث. وكما في المثال اليهودي؛ فإن حريةً أكبر تسمح للأقليات الدينية بالازدهار. جلب البروتستانت الفرنسيون الذين طردهم لويس الرابع عشر مهاراتٍ متقدمةً وخبرات صناعية إلى إنجلترا وهولندا وبروسيا. وفي الثورة الصناعية البريطانية؛ كان الكويكرز وغيرهم من المعارضين الدينيين مُمَثَّلين تمثيلًا زائدًا بين رجال الأعمال والمقاولين والمبتكرين.

وكانت العواقب غير المباشرة للانتقال من قواعد الهوية إلى قواعد عامة؛ أكثرَ أهمية. فقد حدَّت قواعدُ الهوية من نطاق التجارة وتقسيم العمل. وبما أن قواعد الهوية قد أزيلت – حيث فقدت النقابات السلطة، وفقدت المدن ومجالس اللوردات قدرتَهم على فرض رسوم داخلية على التجارة-؛ فقد توسّعت التجارةُ والأعمال.

وأدّى نموُ التجارة بدوره إلى تعزيز الاتجاه نحو الليبرالية. فالتجارة، كما جادل مفكِّرو التنوير كمونتسيكيو؛ تشجِّع الأفراد على رؤية العالم من خلال عدسة إيجابية محصِّلَتُها من التفاعل المتبادل للمنفعة، بدلًا من عدسة صفرية محصِّلَتُها من الصراع. فبدأت الحرية الدينية تبدو بصورة أقل: وصفةً للاضطراب الاجتماعي والحرب الأهلية، وبصورة أكثر: اقتراحًا مربحًا للجانبين.

ما انعكاسات حُجَّتِنا على العالَم الحديث؟ الأكثرُ أهميةً ربما هو الحاجة إلى الاعتراف بأن الأفكار الليبرالية ليست بالضرورة مسئولة عن ظهور مجتمعات ليبرالية. فبدلًا من ذلك؛ أدّى صعود نوعٍ جديد من التنظيم السياسي، والدولة الحديثة، لأسباب خاصة؛ إلى حكّام ينفذون قواعد عامة للسلوك – قواعد تتنافى مع التمييز الديني.

ينظر البروتستانت غالبًا إلى حركة الإصلاح باعتبارها تفسّر أصول الحرية الدينية. لكن مثال كالفن وكاستيليو يشير إلى أن البروتستانتية نفسها لم تكن علامة في الطريق إلى الحرية الدينية. الأساطير الوطنية الأمريكية غالبًا ما تعزو أصولَ الحرية الدينية إلى البوريتانيين الذين فرُّوا من الاضطهاد في إنجلترا واستقروا في نيوإنجلاند. لكن البوريتانيين كانوا يعتقدون في الحرية الدينية للبوريتانيين فقط، فقد كانوا أكثرَ صرامةً في تطبيق الاستقامة الدينية من العديد من الدول الأوروبية. لم يتَّبِع التبنّي الفعليُّ لأية ممارسة ذات معنى للحرية الدينية حُجَجَ الفلاسفة، ولا كان نابعًا من طبيعة الإيمان البروتستانتي، ولكن كان نابعًا من الاستحالة السياسية لتحقيق التوافق الديني بعد عام 1600، مع إفشاء البروتستانتية لمزيد ومزيد من الطائفية.

وأخيرًا؛ فإن تاريخ كيف جاءت الحرية الدينية؛ هو تذكيرٌ بأن الالتزام بالقيم الليبرالية وحدها لا يكفي للازدهار الليبرالي. فإنه يتطلب أساسًا سياسيًّا واقتصاديًّا مناسبًا. وكما تشير تجربة ألمانيا في الثلاثينيات؛ فإنه يمكن للاضطهاد الديني أن يعيد الظهورَ بسرعة. فلا يمكننا الاعتمادُ على الأفكار الليبرالية وحدها كي تكون فعّالةً. وإذا كنَّا نقدّر الحريةَ الدينية والإنجازاتِ الأخرى لليبرالية؛ فإنه يجب علينا أن نتطلع إلى حيويةِ أُسُسِها المؤسسية.

 

 

 


([1]) المصدر

([2]) أستاذ الاقتصاد المشارك في جامعة جورج ماسون، وكبير باحثين في مركز ميركاتوس. وهو المؤلف المشارك، مع نويل جونسون، لكتاب: الاضطهاد والتسامح: الطريق الطويل إلى الحرية الدينية. (يصدر قريبًا، 2018).