مجلة حكمة
لأجل أوروبا

هابرماس: لأجل أوروبا

الكاتبيورغن هابرماس
ترجمة وتقديمعبد الحميد محمد

الفلاسفة يُخطئون

يبدو هابرماس في هذا المقال وقد تراجع عن مطلبه بضرورة أن تتفاوض أوروبا مع بوتين وروسيا باعتبارها قوّة نوويّة، فبات مؤيّدا لعمليّة إعادة تسليح ألمانيا القوّة الاقتصاديّة والسكّانية الأكبر بأوروبا وإن وضع شرطا يتمثّل في أن يكون ذلك ضمن عملية تكامل أوروبي شاملة ومشتركة ولا تتفرّد ألمانيا بالقرار، بل بعد تصويت كلّ أعضاء الاتّحاد الأوروبي وشرط نيل أغلبية الأصوات، فهابرماس قلق من “أوروبا ألمانيّة”.

بسبب تراجع هابرماس هذا ظهرت مقالاتٌ عدّة ومنها مقال بصحيفة سويسريّة ذهب للقول بأنّ الفيلسوف أيضا يُخطئ، أي هابرماس أيضا يُخطئ ([1]).

بل إنّ هنالك من ذهب لما هو أبعد من ذلك، ليجد أن استنتاجات البروفسور هابرماس وخاصّة تلك التي تتعلّق بأوكرانيا وضرورة التفاوض مع بوتين ليست مفيدة بما يكفي ([2]).

من الملاحظُ أن أغلب الصحفيّين الذين كتبوا وما زالوا يكتبون عن هابرماس وعن أخطائه المفترضة يهمسون كلّهم بالشيخوخة التي بلغها، وبالتالي يوحون بعطالة التفكير لديه، فهابرماس قد بلغ ربيعه الـ 96.

منذ بروز هابرماس كمفكّر وفيلسوف يشتغل بالشأن العام وانتقاده لا يأتي من المحسوبين على اليمين فقط، بل ومن المحسوبين على اليسار أيضا، ورغم كلّ ذلك ما زال هابرماس عنوانا فكريّا ثابتا بألمانيا والعالم.

كان هابرماس قد اتّهم الصحافة بأنّها تنوّم الجمهور بدلا من مدّه بما يفيده من المعلومات، بل وصف الصحفيّين بأنّهم “يُكيّفون أنفسهم مع السياسة كثيرا“، وأزمة ديون اليونان وإفلاسها ومن ثمّ الحرب الأوكرانيّة قد أثبتتا صوابيّة هابرماس الذي يتّخذ موقفا سياسيّا مختلفا على الدوام عن جميع المثقّفين الألمان.

في عام 1968 أرسل الكاتب السويسري الراحل ماكس فريش Max Frisch رسالة خطّية لهابرماس، ليُشاركه بعض آرائه في المظاهرات الطلّابيّة بجامعة بون وجامعات ألمانيا الاتّحادية، ليُخبره بانّ ما يُرعبه في تلك المظاهرات هو أنّ تمرّد الجيل الجديد يترافق بهجمة وجوديّة على دور الكاتب.

بالطبع كان هابرماس أحد المشاركين في تلك المظاهرات قبل أن يفترق عنها تماما ويأخذ منها حتّى موقفا عنيفا رافضا لها ولأهدافها، خاصة بعد لجوئها للعنف ضد الشرطة الألمانيّة. ماكس فريش كان حينها في ربيعه الـ 57 وذكر في رسالته لهابرماس ما يؤكّد وعلى لسان بعض السويسريين أن الحركة الطلّابية تلك كانت مشبوهة، ولكنّ فريش أنهى رسالته بالقول إنّها “حركة شبابية لا يفهم لغتها“.

غير إنّ الأمر أبعد من مسألة الشيخوخة والعمر الذي بلغه هابرماس، فقد عمد أحد زملاء هابرماس في معهد فرانكفورت للبحوث الاجتماعية وهو كارل ماركوس ميشيل Karl Markus Michel الذي كان حينها كما هابرماس في الثانية والخمسين من العمر، عمد إلى نشر مراجعة ساخرة لاذعٍة جدّا عام 1982 عن نظرية الفعل التواصلي لهابرماس في مجلّة دير شبيغل Der Spiegel تحت عنوان “الآن تحدّثوا بلطف (جيّدا!)، حول نظرية الفعل التواصلي لهابرماس “([3]). قال ميشيل بتهكّم إنّ الكتاب وصفة تعلّم جماعية للأكاديميّين الألمان وأنّه كُتب بهذا السمك الكبير بنيّة ماكرة لإزعاج هؤلاء الأكاديميّين الألمان بشكل دائم رغم أنّهم لا يتحمّلون ولا يُطيقون مؤلّفه واتّهم هابرماس بسخرية أيضا بأنّ الكتاب الذي انتظره القرّاء والناشر على أحرّ من الجمر قد حطّ من شأن القرّاء وجعلهم متدرّبين يتسكّعون ليعرفوا كيف يقومون بالمشاركة والتواصل.

اتّهم ميشيل هابرماس بازدراء العقلانيّة الغربية ورجمها بكلّ ما هو مخزٍ ومشوّه، ولذلك فهو يدّعي أنّه يحاول إنقاذها وإضفاء الشرعية عليها، تماما كما هي حاله مع النظرية المركزية الأوروبية Theoretischer Eurozentrismus التي يراها قد باتت قديمة الطراز وأوجد نظرية تطوّر خاصّة به وفق ادّعاء ميشيل الذي حارب هابرماس مع غيره لدرجة الحقد الأعمى، لكن الزمن أثبت أن نظرية هابرماس باتت أهمّ نظرية فكرية ألمانيّة، بينما هابرماس نفسه هو أحد أكثر المفكّرين تأثيرا في الوقت الحاضر.

كتبت الشاعرة الألمانيّة الراحلة هيلدا دومين Hilde Domin التي لاحقها النازيّون طويلا، بعد مقال دير شبيغل إلى هابرماس بتاريخ 27 آذار مارس 1982 لتعبّر عن إعجابها به وعن غضبها من “المقال الخبيث”:

يجب على الإنسان أن يصنع أعداء لنفسه، يجب أن يكون قادرا على مواجهة نفسه“.

أي أنّ كلّ البشر بحاجة للدخول في حالة تحدٍّ وصراع ومقاومة، ليتفحّصوا ويمتحنوا أنفسهم ويتعرّفوا عليها، وصنع “الأعداء” جزء من هذا التحدّي وهو ضروري ليتمكّن من التعرّف على داخله وخارجه في آن.

شكر هابرماس دومين على تعاطفها وبشكل خاص على قصيدة لها وصفها بـ “القصيدة الجميلة والمؤثّرة” وهي قصيدة “التقدّم في السنّ” التي كتبتها دومين بالأساس في تفاعلها مع رواية “نمط طفولة” للكاتبة الألمانية كريستا فولف Christa Wolf:

يمكن للضوء أن يأتي كلّ يوم. يمكنه أن يعبر“.

وكتبت دومين إلى هابرماس:

أنت تنظر من حولك وتنظر: وفي اللحظة المناسبة أنت هنا“.

آه أوروبا

هي تنهيدة هابرماس المتشائمة عن أوروبا “القارّة العجوز” مثله، وطلب في عام 2007 في لقائه الطويل مع وزير خارجية ألمانيا آنذاك ورئيسها الحالي فرانك-فالتر شتاينماير Frank-Walter Steinmeier أن يتمّ كتابة دستور أوروبي، ليخبره شتاينماير برفض الهولنديين والفرنسيين القاطع لجمع أكثر من ثلاثين دولة تحت سقفٍ واحد مع أنّ الدستور جاهز في الأدراج.

لم ترضي معاهدة لشبونة 2007 لإصلاح الاتّحاد الأوروبي التي أتت بديلا لمعاهدة ماستريخت 1993، لم ترضي طموح هابرماس بل إنّه رأى أنّ المعاهدة تسدّ الطريق على التكامل الأوروبي، وفي نقاشاته مع شتاينماير كانت كلمته المفضّلة هي كلمة التفويض Devolution، وهي عملية تفويض قانوني للسلطات من الحكومة المركزية لدولة ذات سيادة للحكم على المستوى الإقليمي والمحلّي، أي هي نظام بديل عن الفيدرالية وتختلف عنها بأنّها مؤقّتة وقابلة للعكس وتُبقي على الدولة واحدة موحّدة، وهنا يحلو لي السؤال من خارج السياق عمّا إذا كان التفويض سيكون قادرا على إفادة السوريين مثلما يراها هابرماس مفيدة وحلّا نموذجيّا لاتّحاد أوروبي أكثر سعة ووحدة وانسجاما وتشابكا.

هابرماس به خوفٌ من أن تقرّر الطبقة السياسيّة الأوروبية مصير المواطنين في أوروبا من خلف الأبواب المغلقة.

تُشعرك سياسة الاتّحاد الأوروبي وتفاعله البطيء مع الأحداث السياسية والاقتصاديّة اليوميّة بالملل، كما هي حالها الآن مع رسوم دونالد ترامب الجمركيّة المشبوهة، وهذا ما دفع هابرماس لوصف سياساته بـ “سياسة عدم الحسم”.

لكنّ هابرماس مشغول على الدوام بالقارة الأوروبية وبالنزاعات من حولها وبمصيرها، فالمثقّف وفق منظوره يجب أن يكون قادرا على التعبير عن قدرته دوما وعليه امتلاك “حدس طليعيّ avantgardistische Spürsinn” يُمكّنه من معرفة الأفكار واجتراح المفاهيم الجديدة ذات الصلة بالأحداث اليوميّة التي لم يتعرّف عليها الجمهور الأوسع بعد. يقول هابرماس عن صفات المثقّف:

يجب أن يكون قادرا على أن يحتدّ في النقاش في ذات اللحظة التي يُصبح فيها الوضع حرجا، في وقت لا يزال فيه الآخرون يمارسون أعمالهم كالمعتاد“.

وكأنّ هابرماس لم يتوقّع يوما أن تُحكم أمريكا من رجلٍ غريب الأطوار يمارس السياسة بارتجاليّة فجّة كما هي حال ترامب، فكان يصرّ على أن تكون أمريكا باعتبارها “قوّة عظمى” دوما طرفا في أيّ عمليّة إصلاح وحتّى في وضع السياسات الداخلية لهذا العالم.

الأبطال والبطولة في المجتمعات الأوروبيّة

لا تكفُّ جملة برتولد بريشت Bertold Brecht عن تذكيرنا بما فيها من جمال أبدي، وهابرماس كأنّما تحضره هذه الجملة وهو يكتب مقاله.

قال بريشت:

تعيسةٌ تلك البلاد التي ليس لديها أبطال… لا، بل تعيسة تلك البلاد التي تحتاج أبطالا“.

والحديث عن العودة لفرض التجنيد الإجباريّ في ألمانيا يراه هابرماس أشبه بالعودة لزمن البطولة وفراقٍ مع زمن ما بعد البطولة postheroische Jugend.

دفعت التطوّرات والتحوّلات السياسية والاقتصادية والثقافية والنفسية لإلغاء تدريجي للبطولة والأبطال بأوروبا والغرب. كان الأبطال هم من يتفوّهون بالحقيقة في عالم من الكذب.

والعودة في ألمانيا للتجنيد الإجباري تبدو مسبّباتها ودوافعها نابعة من الخوف والضعف أمام خطر روسيٍّ محتمل، فالخوف يسبق الوعود والآمال بمجتمع يكون أكثر رفاهية.

 المعضلة الكبرى هنا هي أنّ المجتمعات المدنيّة الديمقراطية تنأى بنفسها عادة عن القيم البطوليّة، وهابرماس هاجسه الأكبر هو الخوف على القيم الديمقراطيّة في ألمانيا وأوروبا وضرورة الحفاظ عليها.

الصحفية الإيطاليّة الراحلة فرانكا ماغناني Franca Magnani التي عاشت في المنفى هربا من الفاشيّين وموسوليني بإيطاليا، تقول انسجاما مع القيم المدنية البعيدة عن النزعة العسكريّة:

كلّما زاد عدد المواطنين في بلد يتمتّع بشجاعة مدنيّة، كلّما قلّ احتياجهم للأبطال“.

فالبطل ذاته يشكّل خطرا على المجتمع المدني الديمقراطي لأنّه يتناقض وقيم هذا المجتمع ولا سيما فكرة العدالة والمساواة وكذلك فكرة نبذ العنف، فالاقتصاد الرأسمالي يختفي فيه الأشرار والأبطال معا.

والعودة لفكرة البطل قد تتوافق مع سلوكيّات ترامب وذكوريّته وشعاره الشهير “لنجعل أمريكا عظيمة”.

كان المستشار الألماني الأسبق هلموت شميت Helmut Schmidt دائما ما يردّد:

البطل الحقيقي هو مجرّد سكّير أو أحمق“.


الترجمة الكاملة للمقال

لأجل أوروبا

عن دونالد ترامب والتحوّلات الجيوسياسيّة والاحتيال على قارّتنا، وفي الوقت ذاته تحذير من الخطاب العدائي ونداء من أجل الصداقة مع جيراننا.

لطالما توافق السياسيّون الوطنيّون من ذوي الشأن في الغرب ولا سيما مجموعة الدول السبع في فهمهم المشترك في الانتماء للغرب بقيادة الولايات المتّحدة الأمريكيّة وليس كما لو تطابقت وجهات نظرهم السياسيّة وحسب. لقد تداعت هذه القوّة السياسيّة مع تنصيب دونالد ترامب وتغيير النظام في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، على الرغم من أنّ مصير الناتو لا يزال مفتوحا على السؤال شكليا.

وفق المنظور الأوروبي، فإنّ هذا التحوّل العميق ستكون له عواقب بعيدة المدى، سواء بما يتعلّق بمجرى الحرب في أوكرانيا ونهاية محتملة لها أو بمدى استعداد الإتّحاد الأوروبي وقدرته على إيجاد ردٍّ شاف للوضع الجديد، وإلّا فإنّه سيدخل في دوّامة القوّة العظمى الآيلة للانحدار. تنبثق العلاقة المُحزنة بين هاتين المسألتين المحبطتين من منظور قصر النظر غير المفهوم في السياسة الأوروبيّة. من الصعب أن نفهم عدم تكهّن كبار السياسيّين في أوروبا وبالأخصّ في الجمهوريّة الاتّحاديّة (ألمانيا) أو أقلّها: لماذا تعاموا وغضّوا الطرف عن اهتزاز النظام الديمقراطي في الولايات المتّحدة الذي كان يختمر منذ فترة طويلة.

بعد تمنّع الحكومة الأمريكيّة عن القيام بأيّة محاولة استباقيّة للهجوم الروسي المهدّد بالاجتياح عبر المفاوضات، باتت المساعدة غير العسكريّة ضروريّة بالتأكيد للحفاظ على وجود الدولة الأوكرانيّة، لكن كان من غير المفهوم كيف سلّم الأوروبيّون أنفسهم، وبناء على افتراض تحالفٍ خادع مع الولايات المتّحدة، لأيدي الحكومة الأوكرانيّة، أي دون هدف ورؤية تخصّهم ودون توجيهٍ خاص للدعم غير المشروط للمجهود الحربي الأوكراني.

لقد كان خطأ سياسيّا لا يُغتفر أن تتلحّف جمهوريّة ألمانيا الاتّحادية على وجه الخصوص بثقتها الراسخة التي لا تتزعزع بـ “وحدة الغرب” وتتهرّب باستمرار من التحدّي الواضح منذ فترة طويلة والمتمثّل في تعزيز قدرة الاتّحاد الأوروبي على العمل دوليّا، وهذا هو السبب في أنّ المنظور المحدود الذي تمّت به مناقشة تسليح الجيش الألماني عبر جهد غير معتاد لدينا في أجواء مشحونة ضدّ روسيا كان محبطا اليوم. هذا يؤجّج التحيّزات القديمة المسبقة لأنّ إعادة التسليح المخطّط له على المدى الطويل، لا يمكن له أن يكون مرتبطا بشكل مباشر بالمصير الخطير المُقلق بشكل خاص لأوكرانيا في الوقت الحالي ولا حتّى بخطر روسي محتمل أو مختلق مبالغ به لدول الناتو. إنّ التوجّه العام لهذا التسلّح إنّما هو بالأحرى تأكيد الذات الوجوديّة للاتّحاد الأوروبي الذي قد لا تكون الولايات المتّحدة قادرة على حمايته في وضع جيوسياسي أكثر صعوبة ولم يعد ممكنا التنبّؤ به.

ربّما كانت الصدمة الأقوى التي أدّت حتى في بلدانٍ مثل ألمانيا وجارتنا بولونيا إلى انهيار آخر الأوهام حول استقرار القوّة القياديّة للولايات المتّحدة الأمريكيّة ذلك الظهور الغريب والخطاب المربك لدونالد ترامب المعاد انتخابه أثناء تولّيه لمنصبه. في وقت كانت فيه ميشيل أوباما على الأقلّ من الذكاء بما يكفي لتجنيب نفسها ضوضاء ذلك المشهد والحدث المرعب، كان لا بدّ للرؤساء السابقين الحاضرين من تحمّل الإهانة هامدين بلا حراك. ترك استحضار التعويذة الخياليّة الرائعة لعصر ذهبيّ آتٍ والسلوك النرجسيّ للمتحدّث لدى المشاهد التلفزيونيّ غير المستعدّ والذي سبق له وأن اعتاد على طقوس التنصيب السابقة، ترك لديه انطباعا وكأنّه عرضٌ سريري لحالة مرضيّة نفسيّة. لكنّ التصفيق والهتاف المدوّي في الصالة والاستحسان المنتظر من إيلون ماسك وبقيّة الكبار من وادي السليكون Silicon Valley لم يترك مجالا للشكّ في تصميم الزمرة الداخليّة المحيطة بترامب على القيام بإعادة هيكلة مؤسّسات الدولة وفقا لخارطة الطريق المعروفة منذ زمن طويل لمؤسّسة التراث Heritage Foundation ([4]). كما هي الحال دوما بالطبع، فإنّ الأهداف السياسيّة شيء وتحقيقها شيءٌ آخر. الأمثلة الأوروبية كالمجر في عهد أوربان Orbáns أو نظام كاتشينسكي Kaczyński-Regime ([5]) الذي تمّت الإطاحة به في بولندا تشبه خطط ترامب فقط في سيطرة الدولة على النظام القانوني.

ركّزت القرارات الأولى للرئيس الجديد بشكل رئيسي على طرد المهاجرين غير الشرعيين الذين يعيش كثيرون منهم في البلاد منذ عقود، وتلا ذلك على الفور استبعاد قانوني إشكالي لبرامج المساعدة المهمّة دوليّا. ليس من قبيل الصدفة أنّ هذه التدخّلات الأولى غير القانونيّة لحدّ كبير في الجهاز الإداري الفيدرالي كانت تحت إدارة إيلون ماسك الذي عُيّن مفوّضا للتطهير والذي بالفعل بعد استحواذه على تويتر قام بتطهير هذه المؤسّسة بأسلوب شخصيّ مماثل. تُشير هذه الإجراءات الأوّلية إلى الهدف السياسي الأوسع المتمثّل في تفكيك جذري للإدارة الحكومية وتشير لسياسةٍ اقتصاديّة متحرّرة. لكنّ هذا التوصيف مختزل لأنّ “تخسيس Verschlankung” ([6]) الدولة من المفترض أن يتمّ جنبا إلى جنب مع الانتقال والتحوّل إلى تقنية تكنوقراطيّة موجّهة وخاضعة للرقابة رقميّا على المدى الطويل. ولطالما حلم وادي السليكون طويلا بهذا النوع من “إلغاء السياسة Abschaffung der Politik”([7]). يُفترضُ أنّ تنتقل السياسة إلى نمط إدارة الشركات التي تسيطر عليها التقنيّات الجديدة. لا يزال من غير الواضح تماما كيف يمكن التوفيق بين هذه الأفكار المثيرة وأسلوب عمل ترامب، وهي سياسة تعسّفية ارتجاليّة مباغتة خالية من أيّة معايير مناسبة. ليس فقط أسلوب صانع الصفقات الذي يصعب التنبّؤ به ويتصرّف من أجل المصلحة الوطنية قصيرة الأجل هو ما يثير الإزعاج والتشويش، كما هي الحال مع خيال الوسيط الداعر الفاحش في إعادة بناء قطّاع غزّة الفارغ، بل إنّ اللاعقلانيّة المتعمّدة ربّما لهذا الشخص الذي لا يمكن التنبّؤ بها من الوارد أن تصطدم مع الخطط طويلة الأجل لنائب الرئيس أو أصدقائه من التكنوقراط الجدد.

وقبل كلّ شيء، فإنّ من الصعب التنبّؤ بالتطبيق السياسي لتغيير النظام المخطّط له والبدء به والذي يُفترضُ أن يؤدّي إلى حكم تكنوقراطي سلطوي رسمي جديد مع الحفاظ على دستورٍ أجوف فعليّا، وبما أنّ المشكلات التي تحتاج لتنظيم سياسي تزداد تعقيدا على الدوام بالفعل، فإنّ هكذا نظام من شأنه أن يلبّي الحاجة المتزايدة لنظام ذاتي مستقل للإدارة لسكّانٍّ غير مسيّسين وغير مثقلين بقراراتٍ سياسيّة ذات تأثير كبير عليهم.

تأخذ العلوم السياسيّة هذا الاتّجاه في اعتباراتها منذ مدّة طويلة عبر الاصطلاحات حينما تتحدّث باستخفاف عن الديمقراطيّاتٍ “التنظيميّة” ([8]). في هذه الحالات يكفي إجراء مجرّد انتخابات ديمقراطيّة شكليّة صوريّة بغضّ النظر تماما عن درجة المشاركة الفعليّة للناخبين المستنيرين في عمليّة تشكيل الرأي. لن يكون هنالك أيّ تشابه لهذا النوع الجديد من الحكم الاستبدادي مع الفاشيّة المعروفة تاريخيّا. لا يرى المرء في الولايات المتّحدة الأمريكية طوابير سير بالزيّ الرسمي بل حياة طبيعيّة، ربّما فقط مع ثلّةٍ من جحافل الشغب من نوع أولئك المتّهمين بالخيانة العظمى المعفى عنهم والذين اقتحموا مبنى الكابيتول قبل أربع سنوات بتشجيع من رئيسهم. لا يزال الناس منقسمين سياسيّا بنسبٍ متساوية تقريبا وفق معايير اجتماعيّة وثقافية واضحة بشكل معقول. لا تزال الإجراءات القضائيّة المتعلّقة بانتهاكات الحكومة الصارخة للدستور في الهيئات الدنيا قانونيّا، ولا تزال الصحافة في الواقع متكيّفة جزئيّا وإن كانت ليست متجانسة تماما، وكذلك فإنّ المقاومة الأولى تتنامى في الجامعات وفي قطّاعات ثقافية أخرى، ولكن ليس هنالك شكّ في أنّ هذه الحكومة تتعامل مع الأمر بسرعة.

كانت هذه التحوّلات متوقّعة منذ فترة طويلة، ففي بداية تسعينيّات القرن العشرين كانت الولايات المتّحدة الأمريكية مع برنامج جورج بوش الأب George H. W. Bush لا تزال وبدون منازع في الذروة كقوّة عظمى: بلا ريب كان بإمكان الغرب الآن أن يدعم حقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم. عزّزت نهاية الحرب الباردة الآمال في انبثاق مجتمع عالمي مسالم مستدام. في ذلك الوقت كانت قد ظهرت أنظمة ديمقراطيّة جديدة في العديد من مناطق العالم، وحينها كان التدخّل الإنساني مسألة رئيسيّة حتّى وإن لم تدم المحاولات الناجحة بشكل دائم لاحقا. في عام 1988 تمّ اعتماد نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائيّة الدوليّة، وأثارت حرب كوسوفو نقاشاتٍ أدّت بعد ذلك إلى الاعتراف بـ “مسؤولية الحماية”، لكنّ هذا المنظور المثالي تغيّر في بداية القرن الجديد مع تنصيب جورج دبليو بوش George W. Bush الذي وصل للحكم بحكمٍ مشكوك فيه من المحكمة العليا ضد آل جور Al Gore. ومع هجوم 11 سبتمبر الإرهابي وما تلاها من “الحرب على الإرهاب” مع القيود المثيرة للجدل على الحقوق الأساسيّة للإنسان وتشديد المراقبة في كلّ البلاد، تغيّر المناخ السياسي في البلاد بشكل جذري، ثمّ شكّلت الأجواء المشحونة بعدها خلفيّة للتحوّل العدواني ضد “الدول المارقة Schurkenstaaten” وغزو العراق في انتهاك للقانون الدولي والسماح بممارسات التعذيب وتأسيس غوانتانامو Guantanamo ومحاولة التعبئة العدوانيّة للغرب عموما.

بعدما تمّت إعادة انتخاب بوش على الرغم من كلّ شيء، عُرفت هذه الفترة الأولى من الحكم بالعلامة الفارقة وهو ما تأكّد لاحقا. منذ ذلك الحين كانت هنالك أصوات تتحدّث عن انحدار القوّة العظمى. لم يجلب انتخاب باراك أوباما Barack Obama كأوّل رئيسٍ أسودٍ يُحتفى به على الصعيدين الوطني والدولي ذلك التحوّل المأمول. خلال فترة حكمه أيضا سادت ممارسات مثيرة للجدل وفق القانون الدولي عبر الطائرات بدون طيّار الموجّهة عن بعد لقتل أيّ شخص يُنظر إليه كـ “عدوّ” في أيّ مكان، وأخيرا كان على انتصار شخصٍ متقلّب غير متوازن كدونالد ترامب عام 2016 الذي أثار احتجاجاتٍ حينها أن يوجّه الأنظار إلى الانشطار السياسي الثقافي للناخبين والذي كان من الواضح أنّ أساسه يعود لأسباب اجتماعية اقتصاديّة أعمق.

على أبعد تقدير كان يُفترض بهذه الانتخابات أن تُلفت نظر الأوروبيين إلى اهتزاز المؤسّسات السياسيّة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، ذلك أنّه ومع نهاية تسعينيّات القرن العشرين كان قد بدأ اختراق الحزب الجمهوري بالتصويت الشعبي المباشر plebiszitäre ([9]) وهو ما أدّى إلى انهيار في نظام الحزبين المستقرّ، واليوم نرى أنّ مثل هذه المؤسّسات التي تنهار على المدى الطويل لا يمكن إصلاحها خلال دورة انتخابية واحدة حتّى لو تمّ إقصاء نظام ترامب مرّة أخرى. كما إنّ تسييس المحكمة العليا لا يقلّ إثارة للقلق والتي على سبيل المثال برّأت ترامب مباشرة قبل إعادة انتخابه في قضيّة اقترفها أثناء ولايته الأولى في الحكم وتحت حجّة أنّه لا تجوز مقاضاة الرؤساء السابقين على جريمة ارتُكبت خلال فترة ولايتهم حتّى ولو بأثر رجعي، وهذا الحكم يفتح الباب أمام سياسة ترامب المتقلّبة القائمة على ليّ الذراع في بقيّة فترة ولايته الحاليّة.

سيتمكّن المؤرّخون من إصدار حكمهم عن التقييمات المتزاحمة لأسباب وخلفية الغزو الروسي على أوكرانيا وإمكانيّة تجنّبه فقط بعد مضيّ فاصل زمنيٍّ كافٍ عليها. وأيّا كانت النتيجة المستخلصة، فإنّ الحالة السياسيّة بعد 23 شباط 2022 كانت واضحة بدون لبس: مع مساعدة الولايات المتّحدة الأمريكيّة كان على أوروبا أن تهبّ لمساعدة أوكرانيا التي تتعرّض للهجوم لضمان وجودها كدولة بالسرعة الكافية. ولكن بدلا من صيحات الحرب التي تلوّح بالأعلام والسعي بصوت عالٍ لنصرٍ على قوّة نوويّة كروسيا كان من الممكن آنذاك التفكير بشكل واقعيٍّ حصيف في مخاطر حرب طويلة الأمد. لقد غابت النظرة النقدية المدركة لمخاطر القطع مع النظام الاقتصادي العالمي الحالي ومجتمع عالمي كان متوازنا حتى ذلك الحين إلى حدّ ما، وحتّى من أجل مصلحتهم الخاصّة كان ينبغي عليهم السعي الحثيث للتفاوض بأسرع وقت ممكن مع روسيا هذه القوّة الإمبرياليّة التي تتراجع منذ فترة طويلة حول ترتيبٍ مقبول لأوكرانيا ولكن هذه المرّة بتنسيقٍ مضمون مع الغرب. كان يُفترضُ ومنذ اليوم الأوّل من الغزو الروسي وبنظرة واقعيّة إلى موعد الانتخابات الرئاسية القادمة أن تُقنع الأوروبيين بهشاشة تحالف الناتو المهزوز بالفعل منذ مدّة طويلة.

بالنسبة لمعاصر مستنير لحدٍّ كافٍ من جيلي كان كبرياء النصر والحماس والرضا عن الذات   selbstzufriedene Triumph ([10]) بوحدة الغرب وإعادة إحياء فعاليّة الناتو وقدرته على التصرّف والتي قُيل إنّها ماتت أمرا مروّعا غامضا، وكان مُزعجا بالقدر ذاته غياب الحساسيّة العامّة تجاه اندلاع العنف العسكري بأوروبا. لقد بدا وكأنّ كلّ إحساسٍ بالقوّة الرّادعة للحروب وحقيقة أن من السهل اندلاع الحروب ولكن يصعبُ إخمادها قد اختفى، والأهمّ من ذلك هو هذا الرعب اليوم من تودّد ترامب المجرّد من المبادئ لبوتين الذي يمزّق ويقسّم الغرب ويدعو للتشكيك في الحق الأساسي المعياري لجوهر الدفاع عن أوكرانيا ومساندتها. في الواقع، فإنّ بإمكان الحلفاء المخدوعين تبرير مهمّتهم كما حالهم سابقا وبحججٍ وجيهة في القانون الدولي ولكنّهم يرون الآن وبخنوعٍ أنّ نجاحهم يعتمد على سياسة القوّة لترامب ليس إلا. وقد ظهر ذلك قبل أيّام قليلة على الجبهة في كورسك Kursk، حيث قطعت الولايات المتّحدة الأمريكية دعمها اللوجستي، وهكذا اضطرّت إنكلترا وفرنسا للامتناع وعلى مضض عن التصويت في مجلس الأمن الدولي بشأن قرار يخصّ أوكرانيا أقرّته الولايات المتّحدة الأمريكية بشكل مشترك مع روسيا والصين. وفي الوقت الذي تؤكّد فيه فرنسا على ضرورة أن يتمكّن الاتّحاد الأوروبي من القدرة على الاستقلاليّة في سياسته الأمنية، عبر توسيع مظلّتها النووية على جميع الدول الأعضاء، يُعيد رئيس الوزراء البريطاني ستارمر Starmer التعهّد المتواضع الخجول بمساعدة أوكرانيا عبر تحالف من 30 دولة داعمة تقريبا. والشيء بالشيء يُذكر، حيث لا أحد في “تحالف الراغبين Koalition der Willigen” هذا يُزعجه تبنّي الاسم الذي اصطفاه جورج دبليو بوش لحربه ضدّ القانون الدولي، ومن المحبط أنّ الاتّحاد الأوروبي لا يلعب أيّ دور في المفاوضات بشأن وقف إطلاق النار المحتمل وليس له أيّ ثقلٍ سياسي، ومن يتفاوضون مع أوكرانيا وعليها هم الولايات المتّحدة الأمريكية وروسيا وربّما فرنسا وإنكلترا.

وهنا فإنّ التغيّر الكامل والمفاجئ في موقف الولايات المتّحدة الأمريكية نحو روسيا مهما كانت نتائجه، فهو ليس إلّا تحوّل مفاجئ في تطوّر جيوسياسي بدأ منذ فترة طويلة بلغ ذروته في سياق الصراع الأوكراني. وبغض النظر عن النجاح، فإنّ ترامب بتوجّهه هذا نحو بوتين يُقرُّ بأنّ الولايات المتّحدة الأمريكية وعلى الرغم من هيمنتها الاقتصاديّة قد فقدت السيطرة العالميّة كقوّة عظمى أو على الأقلّ قد تخلّت عن مطالبها السياسيّة بالهيمنة Hegemon ([11]). لم تؤدّي الحرب الأوكرانيّة إلا إلى تسريع التحوّلات الجيوسياسيّة في موازين القوى الصعود الواضح الذي لا لبس فيه للصين والنجاحات الطويلة الأجل لمشروع طريق الحرير Seidenstraßenprojekt الطموح من حكومة صينيّة ذكيّة استراتيجيّا ثمّ المطالب الطموحة للهند المنافسة وأخيرا المطالب السياسية العالميّة المتزايدة للقوى المتوسّطة مثل البرازيل وجنوبي أفريقيا والسعوديّة ودولٍ أخرى. وبالمثل فإنّ منطقة جنوب شرق آسيا في حالة حركة سريعة مباغتة، وليس من قبيل المصادفة أنّ الأدبيّات المتعلّقة بإعادة تنظيم عالم متعدّد الأقطاب قد نمت بسرعةٍ ملحوظة في العقد الماضي. هذا التغيّر في الوضع الجيوسياسي الذي زادت حدّته دراماتيكيّا من خلال انقسام الغرب فقط، يُظهر أنّ التسلّح الحالي لجمهورية ألمانيا الاتّحادية يُنظرُ إليه من منظورٍ مختلف تماما عمّا توحي به الافتراضات المبالغ بها للغاية حول تهديدٍ حالي للاتحاد الأوروبي من روسيا.

من وجهة نظري، فإنّ المزاج السائد في بلادنا– أيضا دُفع إلى الأمام بفعل عمليّة تشكّل رأيٍ سياسيٍّ أحاديّ الجانب– انجرّ للدخول في دوّامة العداء المتبادل مع المعتدي. بالطبع فإنّ القرار الأخير للبرلمان المنتهية ولايته ([12]) يُعدّ إشارة واضحة على الإصرار على عدم السماح بأن تصبح أوكرانيا ضحيّة صفقة تُعقد من خلف ظهرها ودون مشورتها. لكنّ عملية إعادة تسليحنا المخطّط لها على المدى الطويل تهدف بشكلٍ أساسيٍّ إلى هدف آخر: يجب على الدول الأعضاء في الاتّحاد الأوروبي تعزيز قوّتها العسكرية وتتضافر جهودها وتتآزر وإلّا لن يكون لها أيّ وزن سياسي في عالم متحرّك ومتفكّك جيوسياسيّا، وفقط بصفتها اتّحادا مستقلّا قادرا على العمل السياسي تستطيع الدول الأوروبية بشكلٍ فعّال تحقيق وزنها الاقتصادي العالمي المشترك بشكلٍ فعّال بما يتوافق وقناعاتها الأساسيّة ومصالحها.

في هذا السياق هنالك سؤالٌ لم يطرحه أحد حتّى الآن: هل يمكن النظر إلى الاتّحاد الأوروبي عامل قوّة عسكريّة مستقلّة على المستوى العالمي طالما أنّ كلّ دولة من أعضائه في نهاية المطاف قادرة على اتّخاذ قرارٍ سياديٍّ بشأن بناء واستخدام قوّاته العسكريّة؟ فقط من خلال القدرة على العمل الجماعي، بما في ذلك ما يتعلّق باستخدام القوّة العسكريّة يكتسب الاتّحاد الأوروبي استقلاليّة جيوسياسيّة. إنّ هذا يضع الحكومة الألمانية بلا ريب أمام مهمّة جديدة، إذ يتعيّن عليها حينئذٍ تجاوز عتبة سياسيّة من التكامل الأوروبي وهو ما دأبت على تجنّبه الحكومة الألمانية تحت قيادة ميركل وشويبله Schäuble ([13])، ناهيك عن تجاهل حكومة إشارة المرور وتقاعسها وخمولها في قضايا أوروبا في ظلّ جهودٍ مستمرّة على مدار السنوات لجارتنا فرنسا. ولأسبابٍ مفهومة تاريخيّا، فإنّ تلك الدول الأعضاء الجديدة وتلك التي لم تعد جديدة في شرق وشمال شرق الاتّحاد هي الأكثر إلحاحا وحثّا على القوّة العسكرية ولكنّها الأقلّ استعدادا للقيام بذلك، ولذلك فإنّه وفي هذه الحالة أيضا فإنّ “التعاون الوثيق” الذي تمنحه اتّفاقيات الاتّحاد الأوروبي لتلك الأطراف الراغبة من أعضائها يجب أن ينطلق أوّلا من الدول الأساسيّة التاريخيّة للاتّحاد الأوروبي. إنّها مهمّة عظيمة أمام فريدريش ميرتز Friedrich Merz ([14]) لأنّ الثقة بين السكّان بقوّة قيادته ليست كبيرة ويمكن أن تنمو هذه الثقة بطريقة مفاجئة.

ومع ذلك، فإن موجة التسليح تستجلب في الوقت الحاضر أصوات مختلفة تماما، وفي الواقع فإنّ هذه الأصوات لا تتلاقى فقط مع أولئك المشبوهين تقليديّا المحتفين بالقوميّة التي تمّ تجاوزها منذ فترة طويلة كفضيلة خالدة للأبد، بل أيضا مع أولئك السياسيّين الذين يريدون ولأسبابٍ وجيهة صقل وإحياء شباب ما بعد البطولة postheroische Jugend عبر إعادة إحياء التجنيد الإجباري، هذا في وقت ألغت فيه جميع الدول تقريبا أو علّقت التجنيد الإجباري منذ فترة طويلة ولأسباب وجيهة أيضا. يعكس إلغاء التجنيد الإجباري عمليّة تعلّم تاريخيّة عالميّة، أي ذلك الاستبصار الذي نما في ساحات المعارك وفي أقبية الحرب العالميّة الثانية بأنّ ذلك الشكل القاتل من استخدام العنف غير قانوني– حتّى لو كان في الوقت الراهن يشكّل الملاذ الأخير لحلّ الصراعات الدوليّة، فمن المؤكّد أنّه لا يمكن إلغاؤه سياسيّا إلا خطوة بخطوة. تُرعبني تلك الأطراف التي من خلالها تدعم الحكومة الألمانيّة التي تستعدّ وتتأهّب الآن لإعادة تسليح البلاد بشكلٍ غير مسبوق وبدون تفكير أو حتّى بشكل صريح بهدف إحياء عقليّة عسكريّةٍ قد تمّ تجاوزها بحق.

هذه المبرّرات السياسيّة التي ذكرتها لتبرير إنشاء قوّة ردع عسكريّة مشتركة للاتّحاد الأوروبي يمكنني تبنّيها والدفاع عنها بشرطٍ وتحفّظ واحد وهو اتّخاذ خطوة إضافية في التكامل الأوروبي. ولتبرير هذا التحفّظ تكفي تلك الفكرة الوحيدة التي تمّ على أساسها تأسيس وتطوير الجمهورية الفيدراليّة العتيقة:

ماذا سيحدثُ لأوروبا تلك، التي تزدهرُ في وسطها الدولة الأكثر اكتظاظا بالسكّان والقائدة اقتصاديّا والتي ستصبح قوّة عسكرية تتفوّق بشكل كبير على جميع جيرانها دون أن تكون مُلزَمة دستوريّا بسياسة دفاعية وخارجيّة أوروبية مشتركة وبناء على قرارات الأغلبية؟

المصدر

الهوامش


[1] . راجع هذا المقال بصحيفة زيوريخ الجديدة السويسريّة الشهيرة NZZ.

[2] . أنظر لهذا المقال في صحيفة Süddeutsche Zeitung الألمانية التي نشر فيها هابرماس مقاله هذا أيضا.

[3] . يمكن قراءة هذا المقال الساخر عن هابرماس كاملا في الديرشبيغل عبر هذا الرابط.

[4] . مؤسسة التراث Heritage Foundation هي مؤسسة أبحاث مستقلّة تأسّست عام 1973 وتخصّصت في الأبحاث السياسيّة ومقرّها في واشنطن. لعبت المؤسسة دورا وظيفيا تمثّل في الضغط والترويج للأفكار المحافظة منذ ثمانينيّات القرن العشرين ولا سيما في عهد الرئيس الأمريكي الراحل رونالد ريغن Ronald Reagan. من أشهر مشاريع المؤسسة هو مشروع “مشروع عام 2025 Project 2025” الذي يستند عليه ترامب في إعادة الهيكلة الجذريّة لأمريكا والجهاز الحكومي فيها وتركيز السلطة في يد الرئيس في فترة ولايته الثانية. وهابرماس هنا يشير لهذا المشروع الذي نشرته المؤسّسة عام 2023 ويتألّف من 900 صفحة ويستغرق إتمام الخطّة 180 يوما الأولى من رئاسة ترامب الثانية. لمعلوماتٍ تفصيليّة أكثر عن المشروع وداعميه يمكن العودة لهذا اللقاء الذي قمتُ بترجمته ونشره قبل فترة قصيرة.

[5] . يقصد هابرماس الحكومة البولنديّة التي شكّلها عام 2015 ياروسلاف كاتشينسكي Jarosław Kaczyński بقيادة حزب القانون والعدالة Prawo i Sprawiedliwość البولندي اليميني المحافظ والمعروف اختصارا بـ (PiS). ما ميّز هذه الحكومة ورئيسها هي قراراتها السياسية الإشكالية ونزعاتها الاستبداديّة، حيث قامت بتقييد استقلال القضاء وحرّية الإعلام في وقتٍ شجّعت فيه على تعزيز التفكير القومي المتطرّف. عانت بولندا في ظلّ هذه الحكومة من انقساماتٍ اجتماعية كبيرة بسبب قراراتها المثيرة للجدل والاستقطاب الذي تسبّبت فيه.

[6] . يستخدم هابرماس هذا الاسم المشتقّ من الفعل الألماني verschlanken الذي يعني جعل شيء ما أرقّ أو أقلّ حجما، أي أنه عمليا يعني إعادة عرض ما أو عملية إصلاح بحيث يعمل بكفاءة أكثر مع بذلك جهد أقل، وفي إطار إصلاح الدولة يعني تخفيف البيروقراطيّة وتقليل الهياكل والمؤسسات والعمليّات والموظّفين والتشديد في العمليّات المرافقة بهدف زيادة الكفاءة والإنتاجيّة عبر التقليل من العمليّات غير الضرورية وتخفيف التكاليف. عادة ما تضع الشركات الكبرى مدراء جدد بهدف مواجهة تحدّيات معيّنة مثل زيادة الإنتاجية أو تحسينها وتقليل التكاليف، ودونالد ترامب كلّف إيلون ماسك بمهمّة القيام بهذا التخسيس لهذه الأهداف.

[7] . إلغاء السياسة Abschaffung der Politik لا يعني حرفيا إلغاء السياسة والأنشطة المتعلّقة بها، بل يعني إلغاء مؤسّسات سياسيّة معيّنة أو بعض القوانين والممارسات التي تُعتبر غير فعّالة أو زائدة أو حتّى ضارّة. مثلا النقاش حول حقّ اللجوء أو إلغاء ضريبة التضامن أو إلغاء تغيير الوقت الشتوي والصيفي تدخل ضمن هذا التصنيف من إلغاء السياسة وهي قادرة على تغيير المشهد السياسي القائم بهدف جعله أكثر كفاءة وفعاليّة وحتّى أكثر عدلا.

[8] . يشير مصطلح الديمقراطية التنظيميّة إلى أنظمة سياسيّة تتحكّم فيها الدولة بسلوك مواطنيها ومؤسّساتها وتنظّمه وفق قواعد ولوائح معيّنة في وقت تضفي هذه الأنظمة شرعية على ذلك بالعمليات الديمقراطية، ولكن غالبا ما يؤدّي هذا إلى تولّد خلل بين الحرّيات الفرديّة وسيطرة الدولة. لكن هذه الديمقراطية التي تعتمدها الشركات غالبا ما تعتمد النمط الديمقراطي انطلاقا من مبدأ أساسي ينسف هذا المبدأ وهو اعتماد وجود توافق ضمني من أجل غايات جماعية وأيضا اعتماد معايير وظيفية بدلا من اعتماد قواعد تسلسلية هرميّة، ما دفع بالبعض للقول إن هنالك جيش ديمقراطي لا ينتخب فيه الجنود قادتهم، وهذا قد يؤدّي لنشوء علاقة استبداديّة. في هذه الديمقراطية غالبا ما يملك الرئيس وحده سلطة القرار وهذا ما يشير إليه هابرماس. سبق لإيميل دوركايم Émile Durkheim وقد افترض وجود ضمير جمعي وعقليّة جماعية يؤثّر في الهويّة الاجتماعيّة ومن ثمّ هنالك انسجام مزعوم في المجتمع وفقا لذلك.

[9] . كلمة plebiszitär الألمانية التي استخدمها هابرماس في مقاله هنا تعني “عن طريق استفتاء شعبي”، وهي مشتقّة من الكلمة اللاتينية ” plebiscitum” وتعني قرار الناس، أي أنّها تعني التشريع الشعبي المباشر للديمقراطية، لكن الكلمة تشمل ضمنيا جميع أنواع الاستفتاءات وإن كانت تشير لتصويت أو استفتاء يخصّ أحداثا وحقائق موضوعية وهذا ما يميّزها ولذلك استخدمها هابرماس ليكون أكثر دقّة باعتبارها ذات استخدام سلبي أساسا، فتتم عبر هذه الكلمة إدانة الإساء الاستبداديّة للأصوات الديمقراطية المباشرة ونابليون بونابرت سبق له وأن أساء استخدام هذه الأصوات، أما في التاريخ المعاصر فاستُخدمت في المجر عام 2012 بهدف إصلاح الدستور المجري حيث تمّ تقييد الحقوق الانتخابية المباشرة للناخبين وحتى صلاحيات المحكمة الدستورية، بينما تمّ توسيع حق الحكومة في الاستفتاء الذي عادة تكون له عدّة أشكال وخاصة من حيث مدى إلزاميّته للحكومات. أيضا قد يأتي هذا التصويت نتيجة مبادرة شعبية. لكن الأخطر في هذا المصطلح والاستفتاء المرتبط به هو ربطه مع مصطلح فرنسي هو ” Levée en masse” الذي يعني التحشيد وحتى التجنيد الإجباري، حيث تم استغلال معركة فالمي Valmy عام 1792 بين تحالف أوروبي وفرنسا لتحويل كل الجماهير من عمر 18 إلى 25 سنة لمقاتلين بحجة عدم وقت لتجهيزهم ولكن هنالك مصلحة وطنية ملحّة لتجنيدهم فورا وهو ما نجح فيه الفرنسيون بالفعل في منع احتلال باريس. في ألمانيا كان يُفترض أن يكون هنالك استفتاء على وضع دستور جديد إذا ما تمّت الوحدة الألمانية التي تمّت بالفعل، ولكن لم يتمّ إجراء استفتاء لتغيير الدستور. يتمّ ربط هذا المصطلح أيضا بما يمكن تسميته “الديمقراطيّة المباشرة”.

[10] . بسبب هذا التعبير تحديدا لاحظتُ أنّ كثيرين في الإعلام الألماني ينتقدون هابرماس وبغضب وسخرية أحيانا. هنا مع هذا التعبير يقصد تلك الأجواء الانتصاريّة التي سادت الغرب بعد نهاية الحرب الباردة وإعادة توحيد ألمانيا وتوحيد الغرب وإحياء الناتو. هذا الأمر كان مروّعا لهابرماس لأنّ هذا الانتصار والرضا عن الذات في الغرب قد أغفلا المشاكل المعقّدة والتحدّيات المرتبطة بنهاية الحرب الباردة، فهذا الموقف في الغرب فيه تقديرٌ مبالغ للقيم والمؤسسات الغربية ويتغافل الحاجة لمواجهة نقديّة لضعف وأخطاء الغرب ذاته وهي مواجهة تستوجبها تحدّيات عالميّة أكبر. والملفت هنا أنّ هابرماس استخدم الكلمة اللاتينيّة الدالّة على النصر في الإمبراطوريّة الرومانيّة في روما القديمة وهي كلمة Triumph أو triumphus أو حتى الكلمة الدالة على موكب النصر Triumphzug. كان احتفال النصر في روما احتفالا عامّا وطقسا دينيّا، حيث وإذا ما حقّق قائدٌ عسكري نصرا على دولة أجنبية يُقام الاحتفال على الملأ، الأمر الذي بات تقليدا من تقاليد الجمهورية الرومانية، وإعلان النصر ينحصر بمجلس الشيوخ فقط  ويأخذ مظهرا سياسيّا يستهدف ترسيخ السلطة وشرعية الإمبراطوريّة الرومانيّة، أمّا القائد الذي حقّق الانتصار فيغدو أشبه بالرجل المقدّس الذي يجول في شوارع روما في طريقه إلى معبد جوبيتر ليقدّم الأضاحي للآلهة شكرا للانتصار. كان الاحتفال بالنصر يدشّن الانتصار على الدوام أكثر من كونه ترسيخا أو اعترافا بحالة سلم وسلام دائمين.

[11] . استخدم هابرماس هنا مصطلحا يونانيّا قديما وهو مصطلح Hegemon الذي يعني قائدا أو زعيما له سيطرة على الحكّام الآخرين، وفي علم السياسة يشير المصطلح لقوّة أو دولة مهيمنة تلعب دورا رياديّا في السياسة الدوليّة من خلال قوّتها العسكرية أو الاقتصاديّة أو الثقافية وتطبّق مصالحها وتعترف الدول الأخرى بهيمنة الدولة والقوّة المهيمنة Hegemonialmacht دون الدخول في نزاع عسكري مسلّح، وقد سبق لأنطونيو غرامشي أن تحدّث عن الهيمنة كنوعٍ من السيطرة الثقافية أو الأيديولوجية. في الصين كان هنالك من عُرفوا تاريخيا بالمهيمنين أو الحكّام الخمس من القرن الثامن ما قبل الميلاد إلى القرن الخامس قبل الميلاد. ونُظر لهؤلاء الحكّام كنماذج لحكّام الصين اللاحقين. هؤلاء الحكّام هم وفق الأقدم تاريخيا هم:

 Huan von Qi، Xiang von Song، Wen von Jin، Mu von Qin، Goujian von Yue.

[12] . يقصد هابرماس قرار البرلمان الألماني يوم 18 من شهر آذار 2025 بتعديل قوانين الاقتراض الدستورية لتتمكن الحكومة الألمانية المزمع تشكيلها من الاقتراض دون وجود عوائق دستورية، حيث وافق البرلمان على أكبر حزمة إنفاق عبر الديون بتاريخ ألمانيا، منها إنشاء صندوق استثماري بقيمة 500 مليار يورو لتعزيز البنية التحديديّة، لكن المبالغ المخصّصة للبنية التحتية وإقامة نظام دفاعي وإعادة تسليح الجيش الألماني تتجاوز 1500 مليار يورو.

[13] . يقصد هابرماس السياسي الألماني الراحل فولفغانغ شويبله Wolfgang Schäuble الذي ترأّس البرلمان الألماني من عام 2017 لغاية عام 2021 وهو كان عضوا في حزب الاتّحاد الديمقراطي المسيحي. كان شويبله وزيرا للداخليّة الألمانية من عام 1989 لغاية عام 1991 ومن عام 2005 لغاية عام 2009 وكذلك وزيرا للماليّة من عام 2009 لغاية عام 2021.

[14] . فريدريش ميرتز Friedrich Merz هو سياسي ألماني ورئيس حزب الاتّحاد الديمقراطي المسيحي (CDU) منذ عام 2022 وهو الذي سيتمّ تكليفه برئاسة مستشارية ألمانيا الاتّحادية على الأغلب خلفا للمستشار الحالي أولاف شولتز Olaf Scholz الذي أُجبر على تقديم استقالته بعد تفكّك ائتلاف إشارة المرور الذي كان يتزعّمه وكان مكوّنا من الحزب الديمقراطي الاجتماعي (SPD) حزب شولتز والليبراليين والخضر. فاز ميرتز وحزبه بالانتخابات ولم يبق إلا إعلان تشكيل الحكومة الألمانية الجديدة خلال الأيام والأسابيع المقبلة بالتحالف مع حزب (SPD).