كتابة | زيجومنت باومان و تم ماي |
ترجمة | محمد الشامي |
وفي مواجهة هذه التوقعات، ومن اتجاه مختلف، يأتي هذا الكتاب عن “التفكير سوسيولوجيا Thinking Sociologically”، وقد اشترك في تأليفه زيجمونت باومن، صاحب سلسلة السوائل الشهيرة وأحد أهم علماء الاجتماع المتأخرين، إلى جانب تم ماي أستاذ الاجتماع بجامعة شيفيلد بإنجلترا.
والاتجاه الذي ينطلق منه الكتاب إنما يعتد بأولوية الفهم، ذلك الفهم الذي قد يشكل تهديدا للنظام القائم على إسكات العقل، والاستحواذ المتسلط على الموارد بعقلانية ترشيدية مفككة، تنصب على العمليات الأدائية المختلفة دونما مراعاة لتأثيراتها الحيوية على الإنسان والبيئة والعمران.
يحدثنا هذا الكتاب عن القيمة التي يقدمها لنا عالم الاجتماع في محاولات فهمه للمارسات غير المألوفة التي تشكل تحديا للنظام، وتلك التي يقوم عليها النظام دون أن يسائلها أحد أو يضعها في سياق أوسع تدخله فلسفة الأخلاق مثلا. وهنا تستقل القيمة عن حساب المنفعة الذي يعتني به النظام الرأسمالي.
ولا يجب أن نفهم هذا التقييد بالنظام الرأسمالي على أنه قضية حصرية، بل إن الكتاب يقرب لنا روح علم الاجتماع كما يجب أن تكون، في مواجهة أي نزعة دوغمائية/وثوقية أو تسييس للمعرفة. لأن السوسيولوجيا، بما هي جزء لا يتجزأ من العلوم الإنسانية، ترفض الادعاء القائم على التفسيرات الواحدية التي تختزل ثراء الظاهرة الإنسانية، أو الجبرية الرافضة للديناميات المنبثقة عن الإرادة الحرة، فالإنسان على المستوى الوجودي يتصرف بعكس التوقعات؛ وعليه، فمفردات من قبيل التفسير النهائي والقانون الأبدي هي مفردات أجنبية عن علم الاجتماع الإنساني.
“تُنير هذه المعرفة الوسائل التي ندبر بها حياتنا، ولكنها تفضي أيضا إلى التشكك في هذه المقدرة من خلال إنتاج دراسات وأعمال تحفز الخيال وتتحداه. وبما تكون هذه عملية شاقة تنظر إلى الأشياء المألوفة من زوايا غير متوقعة وغير مستكشفة. وعندئذ يمكن أن ينتابنا الارتباك بسبب معتقداتنا بشأن أشكال المعرفة وتوقعاتنا منها. وغالبا ما نتوقع منها أن تبرر أفكارنا القائمة، أو أن تتيح معرفة جديدة لا تشوش jصرفاتنا، بل تضيف إليها إضافة مجدية. بالطبع، ربما تلبي المعرفة السوسيولوجية كل هذه التوقعات. ومع ذلك ربما تشكك فيها برفضها إغلاق كل ما هو مفتوح أو غامض في حياتنا، وما ينتقل من المألوف إلى غير المألوف”(ص283).
إذن فالتوقعات الضمنية والصريحة تطالب علم الاجتماع بدور مماثل لدور العلوم الطبيعية في تيسير مزيد من التحكم والسيطرة، الموجهان إلى الأوضاع البشرية هذه المرة. فالمعرفة التي تم تحديدها بالمعايير المسبقة “للعلم” الحديث، إنما هي أداة لتحويل الذوات في صورتها الجمعية من كيان فاعل إلى موضوع يمكن توجيهه والتحكم فيه من خلال فهم شبكة العلاقات والبواعث الكامنة. ولكن، أتلك حقا غاية الأمر؟ فلنصحب تلك العدسات السوسيولوجية، ولنحاول إمعان النظر من خلالها، ثم لنرى ما يمكننا أن نقوله وما يسعنا أن نقطع به من أحكام بعد ذلك.
خصائص التفكير الاجتماعي
يستعرض المؤلفان في المقدمة المعنونة بـ “صنع العدسات السوسيولوجية” خصائص الدراسة الاجتماعية وما يميز هذا العلم عن غيره من العلوم الإنسانية.
فهذه المقدمة تتناول أهم الأسئلة التي تشغل الدراسة الاجتماعية، كما تهتم بمفهوم العلائقية في الفعل الإنساني، أي حقيقة أننا نولد ونموت في مجتمع لا يتحدد تاريخ ميلاده أو وفاته بالارتباط بحيوات أفراده، وأنه لا تخلو تجربة من تجاربنا من أن تكون منفعلة ومتأثرة بالأبنية الجتماعية المحيطة بنا، وأن كل واحد منا إنما يتخذ مؤطي قدميه في شبكة معقدة من الاعتماد المتبادل، وأن تلك العلاقات مؤثرة حتما في نظرته لنفسه وللعالم من حوله.
ولعل قطب الرحى في هذه المقدمة هو الحديث عن طبيعة العلاقة بين علم الاجتماع وبين الحس العام Common Sense . لأن تشابك العلم مع هذا المفهوم لا يخلو من تفرد شيق، إذا ما قارناه بموقف العلوم الطبيعية من الأخير، فلا شك أنها قد نفضت يديها منه وكبر رجالها عليه أربعا واستقر الأمر على ذلك، وإن كانت هذه القطيعة لا تعني تحقق رسل العلم الطبيعي بالموضوعية الكاملة بله احتكارهم لأوصاف “العلمية” بطبيعة الحال، وحتى لو افترضنا ذلك، فمن المفارقات الساخرة أن لعلم الاجتماع ما يقوله في هذا الشأن، ذلك لأن “إنتاج المعرفة العلمية [الطبيعية. يشتمل] على عوامل اجتماعية توجه ممارسته وتشكلها، ويمكن أن يكون للنتائج العلمية تداعيات اجتماعية وسياسية واقتصادية لا يحددها العلماء كما هو الحال في أي مجتمع ديمقراطي”(ص29).
إن ارتباط علم الاجتماع بالحس العام هو فرع عن ارتباط موضوع الدراسة السوسيولوجية بحياتنا اليومية. فكلٌ منا فاعل كامل الفاعلية في الظاهر بمقتضى إنسانيته، لكن هوية ذلك الفاعل –وهي أهم ما يملك– ليست نتاج خياراته المنفردة، وقل مثل ذلك في عواقب أفعاله واكتسابها للمعاني. نعم، إن لم يكن وجودنا العلائقي محوريا لهذه الدرجة، لم يكن انهيار التواصل تجربة مريرة لأي منا، ومن باب أولى، لم يكن لضمور قوتنا الناطقة وإحجامها عن الوجود بالفعل إلى الوجود بالقوة فارق ذو أهمية في حياة أي إنسان. إن كل شيء ها هنا مبدأه تأمل هذه الحقيقة، حينئذ تتحول كل الموضوعات والنقاشات اليومية العابرة إلى موضوعات للدراسة الجادة، بما تتضمنه من مناهج استقراء وفحص وفرض واستنباط وتأويل.
فإذا أردنا مزيدا من البيان فلنقل إجمالا لما فصلته هذه المقدمة: إن موضوعات الدراسة الاجتماعية لا ليست بمعزل عن التداول المفتوح للحس العام، بيد أن هذه الدراسة تختص بما يأتي:
1- أنها تتحمل مسؤولية التفسير فلا تطرح مقولاتها عارية عن الدليل، وتكشف عن مصادر
الرؤى.
2- أنها لا تنطلق من نطاق فردي محدد بتجربة خاصة، بل تسعى قدر الإمكان إلى الاستناد إلى
عدد وافر من التجارب والمنظورات المقارنة بما يتجاوز ما يمكن الوصول إليه من تأملات
تعتمد على سيرة فردية.
3- تسعى السوسيولوجيا إلى فهم الوضع الإنساني عن طريق تحليل الشبكات المتعددة للاعتماد
البشري المتبادل، وباعتبار السياقات التي تتولد فيها الأفعال، وليس بناءا على المقاصد والنوايا
الفردية للفاعلين فحسب.
الحياة في مجتمع: بين حرية الاختيار وحرية الفعل
يناقش المؤلفان في الفصل الأول فكرة أن فهم الذات، والفعل، والهوية الاجتماعية، إنما يتم مع الآخرين ومن خلالهم.
ومن الفروق المركزية التي ينبغي الوقوف عندها لإدراك الواقع الاجتماعي المعاصر: الفرق بين حرية الاختيار وحرية الفعل. فإننا إن كنا نعيش في أزهى عصور الليبرالية حقا، فإن ذلك يدفعنا للتساؤل عن حقيقة الحرية التي نتمتع بها وعن الجدوى من هذه الحرية في ظل التعجيز والتقييد الممنهج الذي يحيط بنا من كل ناحية، سواء أكان ذلك أمام الشؤون الشخصية أم أمام أشد القضايا الإنسانية إلحاحا.
فحرية الاختيار لا تؤدي إلى حرية الفعل بالضرورة، بل إن الجهة منفكة بينهما تماما، والمفارقة هنا تكمن في أن حرية الفعل دائما ما تتقيد باختيارات سابقة لفاعلين آخرين، أو محددات مترسخة في البنية الاجتماعية بحيث لا تستطيع الإرادة الفردية تجاوزها. “وهذا يعني أن حرية الفعل في الحاضر توجهها كل من أحوال الماضي، وتراكمات التجارب، والقيمة التي يضيفها الآخرون على تلك الأحوال والتجارب”(ص46-47).
والعنصر الأخير يلعب دورا كبيرا في أنطولوجيات الجماعات التي ننتمي إليها، والتي من خلالها ننعم بالتمكين ونعاني التقييد في ممارستنا اليومية للحرية.
والحديث عن الجماعات موصول بمسألة الهوية، فتشكيل الهوية يتم في إطار اجتماعي بجدارة، ولا يتم ذلك بمحض الإرادة، “فالجماعة التي تحدد هويتنا وأفعالنا ربما لا تكون الجماعة التي اخترناها بوعينا وإرادتنا. وعندما التحقنا بها أول مرة أو عندما رآنا آخرون جزءا منها، لم يكن ذلك فعلا من أفعال الحرية، بل أحد مظاهر التبعية والاعتماد على الغير”(ص48)، ويتضمن تشكيل الهوية ذلك كلا من الغايات والوسائل.
التواصل وتوليد الذاتية: الأنا الفاعلة والأنا المفعولة
استلهاما من جورج روبرت ميد، الفيلسوف والاجتماعي الأمريكي، الذي تنافح نظريته عن الهوية
باعتبارها حقيقة تكتسب من خلال التفاعل الإنساني. يحلل المؤلفان الجدلية التي تصاغ بين “الأنا الفاعلة”و”الأنا المفعولة”.
فـ“الأنا الفاعلة هي حوار داخلي، وفيه تعمل اللغة وسيطا يساعدنا على تصور أنفسنا وحدة كاملة. أما الأنا المفعولة فهي تنظيم توقعات الآخرين في أفعالنا، بحيث نستجيب إلى الآخرين وفقا رؤيتنا لأنفسنا، وتلك الرؤية تتعرض دوما للتغيير وفقا للسياقات الاجتماعية المختلفة”(ص52).
فبينما تسهم التنشئة الاجتماعية في إرساء القواعد الأساسية للعب، وتحدد الاستجابات المتوقعة للأقوال والأفعال المختلفة، وتتبلور إسهاماتها في ظهور الأنا المفعولة، تظل الأنا الفاعلة ساعية في اكتساب المزيد من الحرية بمقتضى خلقتها ولأنه لا مفر من الاختيار حتى في أكثر البيئات الاجتماعية تسلطا وأكثرها آلية.
“وهذا يعني أن العلاقة بين تجارب الحرية والتبعية لا تصل إلى وجهة نهائية، بل إنها جزء من عمليات التغير، والتعلم، والمقاومة، والتفاوض، والتي تبدأ في المهد ولا تنتهي إلا في اللحد. فلا تكتمل حريتنا أبدا، بل هي صراع نخوضه في أغلب الأوقات ويحدد هويتنا وشخصيتنا. وتتشكل الأفعال الحاضرة بالأفعال الماضية، وكل منها ينطوي على شعور جنيني بالمستقبل”.(ص59).
“نحن” و”الآخرون”: بين التفاعل، والفهم، والمسافة الاجتماعية
للقرب والبعد بجميع تجلياتهما الزمانية والمكانية والفكرية واللغوية دور جوهري في تفعيل الانتماء أو القطيعة، والتفاهم أو التنميط، والتواصل أو التخاصم.. إلخ من المواقف التي يتخذها الفاعلون إزاء الجماعات المختلفة، أي تجاه الآخرين باعتبارهم أعضاءا في تلك الجماعات. ويتأثر التفاعل الاجتماعي بهذه التجليات، كما أنه يؤثر في تضخيمها أو تقزيمها، في ثنائية مدهشة ومحيرة من ثنائيات الدور الاقتراني. فالتفاعل يمثل الحرية الإنسانية، والقرب والبعد بكافة تجلياتهما يمثلان التقييد المتراكم، سواء أكان ناتجا عن العواقب المختزنة للأفعال أم كان متولدا من الحوادث الطبيعية فوق الاجتماعية عندما تتقاطع مع مسارات الفعل الحضاري.
بعبارة أخرى، يخبرنا الكتاب أن: “[مدى] القُرب يوجه التفاعل”، إلا أنه ثمة حقيقة أخرى تقضي بأن التفاعل مؤذن بالتغيير في خرائطنا التي نرسم فيها القريب والبعيد، ونميز فيها الصديق من العدو، وتتموضع فيها كافة الجماعات الإنسانية على مستويات متنوعة من التحديد والإبهام.
ويقترب هذا من الاقتباس المأخوذ عن ألفرد شوتس إذ يقول : “كل الأعضاء الآخرين من الجنس البشري ربما يمكن تمثيلهم بخط تصوري أو خط متصل تنظمه المسافة الاجتماعية التي تزداد عندما ينكمش التفاعل في المستوى والكثافة. ويمتد هذا الخط من المعرفة المخصصة ]معرفة أعيان الأفراد[ إلى المعرفة المقتصرة على القدرة على تصنيف الناس إلى فئات معينة، ومنها: الأغنياء، والمتعصبين الكرويين، والجنود، والبيروقراطيين، والإرهابيين، والسياسيين، والصحافيين، وغيرهم”(ص63).
على أن هذه المعرفة قد تكون أحادية الجانب، ولا تقتضي التفاعل الحقيقي بالضرورة، ثم تكون مع ذلك ذات أهمية عظمى، فخرائطنا الإدراكية تتجاوز حدود الزمان الحاضر، إلى السعي في تخليد الماضي ومحاولة هندسة المستقبل. وذلك لأن الهوية الاجتماعية عمل لا يمكن إنجازه في ظلال اللحظة الحاضرة فحسب، بل هي مفهوم مستحيل في غياب الذاكرة التاريخية والرؤية المستقبلية.
تصور الهوية الاجتماعية
قلنا أن تجليات القرب والبعد تتحكم في صور التفاعل، وتتصل قدرتنا على التفاعل بقدرتنا على التصنيف والتمييز، الذي يبدأ من التفرقة بين ضمير الهوية الجمعية: “نحن”، وضمير الأغيار: “هم”.
وبمقتضى تمايز الأضداد، فإن كلا من الضميرين يمثل جماعة مغايرة للأخرى، ولا يمكن أن تتماسك
إحداهما في غياب الأخرى، “وبهذا تصبح التقابلات أدوات نستعين بها لرسم العالم والإبحار فيه”(ص65)
بغض النظر ما إن كان ذلك الإبحار على هدى أم على غير ذلك.
ولأن الهويات الجمعية هي ماهيات متصورة في حقيقة الأمر، وواقع ضروري في رؤية أعضاء الجماعات، فإن ذلك يقتضي تسليط الضوء على بعض خصائص الجماعة وتهميش بعضها.
ومن آثار ذلك أيضأ: أن “تصبح اليقظة ضرورة للجماعات التي تسعى بهمة ونشاط لحماية حدودها ضد التهديد الذي يمثله لها غير المؤمنين بمعتقداتها. فتميل هذه الجماعات إلى التحامل في رفض الاعتراف بأية فضيلة ربما يمتلكها الغرباء. مع ميل لتضخيم رذائلهم؛ حتى تتعزز عمليات التماسك والتضامن الداخلي لها.”(ص67).
وليست أشكال الرهاب والإقصاء وشتى مظاهر العنصرية بعيدة عن هذه الممارسة الجوهرية. والتحامل على الغرباء في هذه الحالة يزداد طرديا بازدياد الشعور بانعدام الأمان الناتج عن اضطراب العادة وتصدع النظام الذي يتسبب عن طرح رؤى جديدة وطرق مغايرة للوجود والعيش، حتى وإن لم يحمل الغرباء دعوة تبشيرية بذلك، فإن وجودهم بحد ذاته، إلى جانب تعريفهم بأنهم غرباء، خليق بمسائلة النظام وخرق المألوف سواء تم ذلك شيئا فشيئا أو كان متجسدا في تهديدات راديكالية.
وهنا يأتي سؤال في غاية الأهمية: “فهل لا بد من وجود أناس “آخرين” نتسامح “نحن” معهم، لكنهم لا يحظون بالحقوق نفسها، أم أن هناك أسبابا وجيهة لقبول ذلك التسامح بما يتوافق مع اعترافنا بمحدودية رؤية العالم التي نكونها عنهم؟ إن عواقب هذين المسارين مختلفة جدا. فالمسار الأول يعتمد على ممارسة سلامة النية، ويمكن أن يؤدي إلى مواطنة من الدرجة الثانيةـ بينما يمنح المسار الثاني الحقوق نفسها لجماعة خارجة ومن ثم مكانة متساوية”(ص69).
إذن فوجود الغرباء بما هو مؤد أثناء عمليات الاندماج إلى مراجعة مسلمات وعادات وتوقعات الجماعة، سواءا على الأصعدة الفكرية أو السلوكية، دائما ما يستقبل بأنواع من التمييز أو التحقير الهادفة لإعادة رسم الحدود، على أن تلك الحدود ليست حدودا سلبية فحسب، بل إنها حدود إيجابية بما تعيد فرضه من علائق الانتماء وطقوسه كما تذهب ماري دوجلاس في كتابها: Purity and Danger.
وفي هذا السياق، نجد المدينة بمظهرها الرأسمالي الحديث، وبتعقيدها الصاخب والمزدحم، تقدم طرازا آخر من الحياة مع الغرباء، فالحدود والتصنيفات التي يستمر إنتاجها والحفاظ عليها في أطر خاصة، يتسامح الأفراد مع غيابها في الإطار العام من خلال “التجاهل المهذب”.
“وقد وجد إرفنغ غوفمان أن التجاهل المهذب أسلوب مهم للغاية يساعد على الحياة في المدينة مع الغرباء. وربما يصبح التجاهل المهذب أسلوبا اعتياديا لأنه يتسم بأنماط متقنة من التظاهر بأننا لا ننظر ولا ننصت، أو نتخذ وضعية توحي بأننا لا نرى ولا نسمع، أو لا نهتم بما يفعله الآخرون من
حولنا”(ص78).
فهذا التجاهل يمثل اتحاد الخصوصية والحرية بالقسوة واللامبالاة، والمسافة التي توفرها المدينة وإن كانت مفهوما قائما منذ القديم، إلا أن الصورة الفجة للامبالاة وتغييب الهوية والتجاهل العام، لهي طور غير مسبوق تشهده المدينة بخصائصها المعاصرة.
ولا شك أن هذه اللامبالاة حيثما وجدت وجد تخدر في الضمير الأخلاقي وناتج عن فقدان للإحساس بالمسؤولية، فمع السرعة والتعقيد اللذان يمتاز بهما الوجود والسلوك الحضري الراهن، تفقد التعاملات الإنسانية حميميتها كما تفقد كثيرا من معانيها، وإذا أضفنا إلى ذلك غياب المرجع الأخلاقي المتعالي والحاضر في آن، فإن ذلك كله –بالضرورة- مؤذن بانهيار كافة القيم الأخلاقية في الحياة العامة، وذلك قبل أن تظهر هذه التصدعات في المساحات الخاصة بفضل النزعة الفردانية.
إذن فنحن عندما نمر بالمساحات العامة، وعندما نشهد على أفظع جرائم الصمت، فإننا نعاين“تجريد القرب الفيزيائي من جانبه الأخلاقي، وبذلك ربما لا يستشعر الناس القرب الأخلاقي كما ينبغي مع أن الواحد منهم يعيش بالقرب من الآخر ويؤثر الواحد منهم في ظروف الآخر ووجوده… وبعبارة أخرى، ليس الغرباء أهدافا للعداء والعدوان، لكن لا يختلف الغرباء كثيرا عن الأعداء، لأن الغرباء (الذين نحن جميعا منهم في بعض الأحيان) محرومون من الحماية التي يوفرها القرب الأخلاقي.”(ص80).
الجماعات وصناعة الروابط الاجتماعية
يذهب المؤلفان إلى أن الجماعة بما تتضمنه من مرجعية، ومن روابط معترف بها، ومن مفارقات مهمشة، هي مسلمة يفترضها أعضاؤها، وهي دعوة وقضية تستخدم في تعبئة الصفوف وتجييش الطاقات، وليست حقيقة واقعة يمكن إقرار أسبقيتها على أية معايير تصنيفية أخرى وفقا للظرف الطبيعي.
وتكمن المفارقة في أن إسناد هذه الرابطة الجمعية للظرف الطبيعي أدعى إلى تقديس الرابطة الجمعية المعينة بما يقتضيه ذلك من استدعاء للحتمية والجبرية، كما نراه في الإحالات إلى العرق والدم المشترك، أو إلى الوحدة العضوية بين الشعب والأرض.. إلخ من المقولات غير العلمية.
ولعل من أهم القضايا في هذا الكتاب بأسره، هو ما يأتي في هذا السياق من التحول الحداثي من الأشكال التقليدية الشاملة للروابط الاجتماعية، إلى مأسسة الروابط الاجتماعية، المصحوبة بإيمان منقطع النظير بالعقلانية البيروقراطية.
فنشأة “المؤسسات” إنما مثلت نشأة مفهوم جديد للجماعة، جماعة يتعهد أعضاءا بالتزامات وحقوق جزئية، محدودة بحدود طبيعتها العقدية.
ترتبط المؤسسات بمفهوم تقسيم العمل، و”أدوار الأداء”، “وفي أثناء قيامنا بهذه الأدوار، ربما لا يهتم الآخرون بالأعمال التي نقوم بها في سياقات أخرى، بل إن ما يعرفه الواحد منا عن الآخر نحصل عليه من خلاص ملاحظة هذه العروض الأدائية والتفاعل فيها. لذا لا يأتي الفهم من رؤية الناس منعزلين… فعلى العكس من الجماعة المغلقة، يبدو أن المؤسسة تستوعب جزءا فقط من الأشخاص المشاركين”(ص92-91).
يبشر ماكس فيبر بأن المنهج البيروقراطي هو خير ممثل للعقلانية العملية، فعندما يتصرف الموظف بصفته الرسمية فحسب، فإنه ينحي كافة توابع الهوية الاجتماعية المستقلة، من روابط عائلية، ومشاعر وعواطف، ومصالح خاصة لا تتماشى مع أهداف المؤسسة.
ولقد نجح ماكس فيبر في رسم صورة ونموذج مثالي للعمل المؤسسي المجرد عن كل شائبة من شوائب الذاتية أو المشاعر المتعارضة مع عمليات الترشيد Rationalization والعقلنة الكاملة، على أن الكتاب لا يناقش مدى تحقق هذا النموذج في كافة الأنظمة البيروقراطية المألوفة لدينا، وإنما يناقش هذا النموذج من حيث هو.
وأنا أزعم أنه يمكنني أن أجمل هذه المناقشة في سؤالين أساسيين. أولهما: ما مدى مشروعية استقلال العقلانية العملية ممثلة في النظام البيروقراطي عن سائر الاعتبارات الإنسانية في سياق حضاري؟ وهل يعفي هذا الاستقلال الظاهري أعضاء هذه البيروقراطية من المسؤولية الأخلاقية في الدوائر المتجاوزة لدائة السلم الإداري؟
الثاني: ما هي الضمانات التي تحمي البيروقراطية من نفسها؟ أي ما الذي يمنعها من استبدال أهداف المؤسسة وتحويلها إلى أهداف ثانوية في مقابل تعظيم المؤسسة وجعلها غاية بحد ذاتها؟ وهل يحق لأهداف استدامة المؤسسة أن تتمادى إلى ذلك الحد على ضوء القيمة الوجودية للمؤسسة؟
فهذان السؤالان في رأيي يتضمنان كل أسباب الفشل الحضاري للتجربة البيروقراطية ويجسدان الحمولة الأخلاقية التي تضع الإطار النموذجي للمؤسسة/الشركة في أزمة.
وعلى كل حال، معلوم أن الصورة النموذجية للمؤسسة الفاضلة لا تواجه الآن مشكلة تحقق واقعي فحسب، وإنما تواجه أطروحات وخطوات تجديدية تتناول جوهر القضية برمتها. فمع ثورة التواصل الراهنة، ومع السرعة والتغير المستمر كقيمة كبرى لعصر ما بعد الحداثة، “يزداد عدم وضوح الحدود بين العناصر العامة والخاصة في حياتنا، وتتوقع المؤسسات المزيد من وقت أعضائها، وربما توفر لهم التسوق وشراء الهدايا لعائلاتهم- إذا شغل أحدهم درجة عليا في التراتبية الهرمية.
لقد اتضح لنا أن هناك مراجعة لفكرة النموذج المثالي ومفهوم العقلانية بوصفها استبعادا للجوانب العاطفية في حياتنا. وربما ينصب اهتمام المؤسسة الآن على فتح أبواب الذكاء العاطفي، والاختبار السيكومتري للمرشحين… وينصب المزيد من الاهتمام على الجوانب الخاصة لحياة الموظفين… وهذا جزء من “الروح الجديدة للرأسمالية”” (ص99-100).
ولكن ما يعنينا في هذا السياق هو أن البيروقراطية تظل أكبر مخدر أخلاقي في مجتمعنا الحديث، وذلك ما نجد ذكره بإسهاب في الفصل الرابع حيث أشير إلى أهم عاملين في ذلك:
الأول: أن التأثير النهائي للنشاط المشترك في المؤسسة البيروقراطية أو الشركة الضخمة بعيد جدا عن مرأى معظم الفاعلين في ذلك النشاط وعن إحساسهم بالمسؤولية عنه. والثاني: هو اللامبالاة الناشئة عن الاعتياد المغيب للمسائلة الأخلاقية.
خاتمة
يناقش الكتاب إضافة إلى الروابط الاجتماعية، وقضايا التفاعل والإقصاء والتعايش، وما يتعلق بالهوية الاجتماعية وتكوينها، يناقش الكتاب مجموعة من القضايا الاجتماعية التي من شأنها أن تعزز لدى القارئ ملكة التفكير سوسيولوجيا: من بينها العلاقات التبادلية/التعاقدية والتراحمية، وما يتعلق بالجسد والجنسانية والصحة، ومفهوم الزمان، والتقابل بين الثقافة والطبيعة، التكنولوجيا وتأثيرها على الفعل البشري.. إلى غير ذلك. فيمكننا أن نستخلص من ذلك كله مجموعة من الرؤى الثاقبة فيما يتعلق بمجتمع العولمة وبالحداثة السائلة التي نحياها، فضلا عن الثمرة الأساسية التي يستهدفها هذا الكتاب، وهي التعريف بالتفكير الاجتماعي عمليا.