مجلة حكمة
طلق رصاص مسدس عنف

في العنف – حنة أرنت / مراجعة: عبدالله الغانم

كتاب في العنف
غلاف الكتاب

في هذا الكتاب الصغير من حيث حجمه والعظيم من حيث مضمونه، تأخذنا “حنة أرندت” إلى عالم ملكوت السياسة للحديث عن السلطة والعنف بأسلوبها المميز، والشبيه بأسلوب الجدات في السواليف والحكايات. و ما سيتم الحديث عنه هنا هو: طبيعة العنف وموقفنا منه. فالغرض من هذه التدوينة إذن ليس تقديم عرض شامل لما تحدثت عنه الكتابة في كتابها.

من ناحية سياسية: السلطة والعنف ليسا نفس الشيء. إنهما يتعارضان؛ وحين يحكم احدهما مطلقاً فإن الآخر يغيب ضرورة. ويظهر العنف حين تكون السلطة مهددة، لكنه إن ترك على سجيته سينتهي باختفاء السلطة. والعنف قادر على تدمير السلطة، لكنه يعجز عن خلقها. وهذه القدرة والعجز للعنف ممكن فهمها من خلال ظهور الفارق بين شعار السلطة وشعار العنف، فالسلطة شعارها “الجميع ضد الواحد” بينما العنف شعاره “الواحد ضد الجميع”. ولا معنى لموقف من يرى تماهياً بين السلطة مع تنظيم العنف إن لم يكن مؤسساً على القول: الدولة تشكل أداة قمع تمتلكها الطبقة المسيطرة. (ماركس)

 تؤكد أرندت وبكل صرامة على أن العنف لا يمكن أن يتحدر من نقيضه، السلطة، وإذا كنا نريد أن نفهمه في حقيقته، فما أمامنا سوى البحث عن جذوره وطبيعته. ويعتقد أن جذر العنف هو الغضب، ومن هنا يكون السلوك العنيف ومشاعر الغضب لو فرضا معدومين عند الإنسان، فإن إنسانيته أيضاً تنعدم بانعدائهما.

إن الغضب رد فعل تلقائي وأصلي إزاء البؤس والألم القابل للإرتفاع، فهو يطلع فقط حين يكون هناك إمكانية لحدوث تبدل للأوضاع، لكن وبالرغم من ذلك هذا الممكن لا يحدث، أو لا يراد له أن يحدث. وهذا من شأنه أن يخدش حس العدالة لدى الإنسان، فيغضب، ويرافق هذا الشعور سلوك عنيف، وهذا ما يحاول تاريخ الثورات التشديد عليه وتأكيده. ( في كتابها “في الثورة” تكتشف أن الإنسان قبل الحديث لم يعرف الثورات لأنه لم يعتقد بإمكان ارتفاع كثير من بؤسه وآلامه، وذلك لاعتقاده أنهما صفة ذاتية له في الوجود؛ أو ربما كان هذا الاعتقاد منتزع من الواقع، وهذه المعرفة لم تكن ممكنة بدون حدث انتقال الانسانية إلى أفق مغاير” أفق الحداثة”، وأي تفكير لا يراعي هذه النقله ولا يضمها لبنية قبلياته فهو مضيعة للوقت وغير جدير بالاهتمام)

لكن الخطير من وجهة نظرها أن يتم أخذ هذه الحقيقة القائلة بأن العنف سلوك انساني أصيل وتوظيفها لصالح خطابات فلسفية وأيديولوجيات سياسية تمتدح العنف، وتبارك ممارسيه، وتنظر إلى آثاره من قلاقل وصراعات كدليل يبعث على الإطمئنان على تدفق نهر الحياة وعدم نضوبه وهو الذي لا يجب أن ينضب، وتعتقد أن فعل العنف ممكن فقط لمن يتمتع بالحيوية كلها. ويصل الأمر إلى مداه الأقصى حين يُمتدح العنف بالحياة والحياة بالعنف. وعند هذا الحد الأقصى بدأ كثير من فلاسفة الغرب “التبشير” بانهيار الغرب بعد رصد أمارات تدل على تقاعد العنف كقوة حيوية خلاقة. وهذه النظرة تعني أن أصحابها يعتقدون أن العنف يتعدى أثره إلى الأمد الطويل، والحقيقة التي تحاول حنة الانتصار لها تقول عكس ما قاله أنبياء العنف عن “فضيلته” باعتباره تجل للإرادة المبجلة، الإرادة إلى القوة.

لا تجادل الكاتبة في أن العنف يفيد، لكنه يفيد بشكل لا تمييز فيه، بمعنى أنه صرخة تنادي بالإلتزام المعين تجاه قضايا معينة، لكنه لا يفهم ولا يحل إشكالاتها، وهنا تظهر خطورة التبشير والتبجيل العنيف من قبل أنبياء العنف للعنف، فهو غير مجدي تماماً بالنسبة إلى أهداف المدى الطويل أو التبديلات البنيوية. وأضف إلى هذا الخطر ما هو أشد منه خطورة، وهو أن العنف، وإن إلتزم بالتحرك الواعي ضمن إطار غير متطرف يطال أهداف المدى القصير، فإنه واقع على الدوام في حتمية تغلب الوسيلة على الغاية.

عندئذ لا يكون هناك أي احتمال لتحقق الغايات بشكل سريع، والنتيجة لن تكون إلحاق الهزيمة بالتحرك كله وحسب، بل هناك نتيجة أكثر كارثية، ستجعلنا لا ننسى حض أنبياء العنف الوافر من توجيه مشاعرنا العنيفة نحوهم، وهي إدخال ممارسة العنف في صلب الجسم السياسي ككل. إن هذه المباركة للممارسة العنيفة ستغير العالم، أو ستدخل هذا العالم إلى عوالم أولئك القساة، وسيكون بالتالي تغير إلى عالم أكثر عنفاً. ( إن دعوات الرجوع إلى مدونات الأحكام السلطانية لغرض استخراج المنهج السياسي الإسلامي الوحيد والأبدي هي إلى جانب دلالتها على انعدام في الوعي التاريخي عند الداعين إليها، وإلى جانب عدم علميتها، هي دعوة إلى ترك طموح استئناف بحث وتفلسف سياسي معاصر يفترض أنه يحاول فصل العنف عن السلطة إلى منهج العنف عنصر  أساسي من بنيته، وبالطبع لا يتوقع أن يتأثر موقف هولاء الداعين عند إظهار هذا العنصر غير المستتر أصلاً، فغالب أصحاب هذه الدعوة يعتقدون أنهم في مستوى وجودي “وجود أهل الحق” وهذا المستوى من الوجود الموجود فيه يرسل ولا يستقبل، وماذا يستقبل وقد حاز كل الحقيقة؟ الباطل؟! عموماً؛  الخطير هو أنه في نفس اللحظة التي دخل العنف فيها كعنصر أساسي في بنية المنهج الذي هو تدوين لما هو مفروض بإكراهات الواقع فإن عناصر إسلامية “مجمع عليها” خرجت من النافذة )