الكاتب | نادجا جيرمان |
ترجمة | عمرو بسيوني، مي فؤاد |
تحميل | نسخة PDF |
حول فلسفة الفارابي للمجتمع والدين، وماهية فلسفة المجتمع، حول الوجود والمعرفة؛ نص مترجم ومنشور على (موسوعة ستانفورد للفلسفة). ننوه بأن الترجمة هي للنسخة المؤرشفة في الموسوعة، والتي قد تختلف قليلًا عن النسخة الدارجة للمقالة، حيث أنه قد يطرأ على الأخيرة بعض التعديل منذ تتمة هذه الترجمة. وختامًا، نخصّ بالشكر محرري موسوعة ستانفورد واعتمادهم للترجمة والنشر على مجلة حكمة.
في حين لم يكن للفارابي مصطلحٌ معيَّنٌ لـ “فلسفة الدين”؛ فقد كان لديه مصطلح بالفعل لما يمكن أن يُترجم حرفيًّا إلى “فلسفة المجتمع”، وهو الفلسفة المدنية(1). ومن الجدير بالذكر أن هذا المفهوم يشتمل على نقطتين رئيسيتين، الأولى، وبالتوافق مع الأخلاق النيقوماخية لأرسطو، تتكون من عنصر أنثروبولوجي وأخلاقي في جوهرها، وبالتالي تصبح الفلسفة المدنية جزءًا من الفلسفة المكرَّسة للبحث عن كمال الإنسان كفردٍ في المجتمع. وأما الثانية، فكما كانت السياسة لأفلاطون، والسياسة لأرسطو؛ فإنها تتعامل أيضًا مع المدينة، دولة المدينة، كوحدةٍ واحدة مع الأخذ في الاعتبار لبنيتها وإدارتها. ومع ذلك فإنها تتعامل بصرامة شديدة من زاويتين: فمن ناحية تضع للمدينة ونظامها تقييمًا يرتبط بنجاحها في توجيه مواطنيها نحو كمالهم الفردي، ومن ثَمَّ تحصيل السعادة القصوى. ومن الناحية الأخرى تعتبر محاكاة لنموذجٍ معياري للمجتمع، أي نظامٍ كوني، من خلال بنية المدينة.
ويتضح في هذا السياق بالتحديد أن للدين، أو الملة، كما يراه الفارابي؛ مكانته الخاصة. فبالنسبة إليه: الدين مؤهل ليوجّه أعضاء المجتمع نحو الكمال الإنساني، ومن ثم التشارك معًا في الوصول إلى السعادة الفردية والخير للمدينة بأكملها. ونتيجة لذلك يرى الفارابي أن الدين أداة ضرورية أو حرفة يراد بها التطبيق، ولا يمكن اعتباره مجالًا للمعرفة والحكمة والحقيقة بذاتها. يحظى هذا المفهوم للدين ومكانته داخل إطار الفلسفة المدنية بتأثير هائل على المفكرين اللاحقين في العالم الإسلامي – مثل ابن باجه وابن طفيل وابن رشد -، وكذلك على تفكير الفارابي، وبخاصة ما يشار إليه عادة على أنه “فلسفته السياسية”، والتي لها قيمتها المقدَّرة في علم التاريخ الأوربي. ولتقديم فكرة أوضح حول هذه الموضوعات فمن الضروري فحصها بالترتيب المشار إليه بالأسفل، بدءًا من أساس فلسفة الفارابي للمجتمع، مرورًا بمبدأ التشابه لتحديد علاقة الإنسان والمجتمع والعالم، وصولًا إلى الدين وأسلوب الحكم.
.1 خلفية مفاهيمية
-
2. ما هي فلسفة المجتمع؟
1.2 السعادة والحياة الأخرى
2.2 الشروط المسبقة للسعادة
-
3. مبدأ التشابه
3.1 الوجود: الإنسان، المجتمع، الكون
3.2 المعرفة: الأشياء مقابل التمثيلات الرمزية
-
الدين وفن الحكم
4.1 ما هو الدين؟
4.2 الدين والحُكم
-
5. ملاحظات ختامية
.1 خلفية مفاهيمية
كما نعلم لم يكن الفارابي الفيلسوف الأول في العالم الإسلامي الذي أبدى اهتماماً بالغاً بفلسفة المجتمع (والدين) فحسب، بل لقد وضع أيضًا تصوُّرًا بالغ الأهمية لذلك. ومع ذلك فإنه لم يبدأ من نقطة الصفر. ففي عصره كانت أغلب النصوص الفلسفية المترجمة من اليونانية (غالباً من السريانية) إلى العربية متاحةً للاطلاع عليها، وكان الفارابي قارئًا متعطشًا لكتابات أسلافه. وبناءً عليه فقد أظهرت كتاباته: أ- اطلاعًا عميقا على الأخلاق النيقوماخية لأرسطو، ب- توافقًا مع أسس السياسة لأفلاطون (على الأرجح عبر مصدر وسيط هو تلخيص جالينوس: راجع: Gutas 2012: 85)، وعلى ما يبدو، ج- بعض المعرفة بالـسياسة لأرسطو، لتلك الأجزاء التي كانت مترجمة بالعربية فحسب (Pines 1975). يمكن وصف فلسفة المجتمع للفارابي (والدين) بالتوليفة الذكية والأصلية، بخاصة لتلك الأعمال، التي اشترك اهتمام شُرَّاح العصر الكلاسيكي المتأخر فيها بالتوفيق بين مواقف أرسطو وأفلاطون. وأكثر من ذلك فقد حققت فلسفة الفارابي للمجتمع والدين تكييفًا ذكيًّا للفكر الأخلاقي-السياسي اليوناني لأجل احتياجات ومتطلبات سياقها الجديد في العالم الإسلامي في القرن العاشر الميلادي.
يظهر التراث اليوناني للفارابي بوضوح على المستوى المفاهيمي الأساسي. فالمجتمع وفقًا له هو عبارة عن اجتماع تعاوني إنساني “من أجل قوامه[*م]، ومن أجل أن يبلغوا أفضل كمالاتهم” (Perfect State [*المدينة الفاضلة] V, 15, 1: 229). ويؤكد الفارابي على أنه دون تحقيق هذا التعاون، “لا يمكن أن يكون الإنسان ينال الكمال، الذي لأجله جُعلت الفطرة الطبيعية” (المرجع نفسه)، وعلى حسب اتساع تلك الرابطات فإنها تتمكن أو لا تتمكن من وضع أساس “للمجتمع الكامل” (Perfect State [*المدينة الفاضلة] V, 15, 2: 229–31). فتصبح الوحدة الأصغر حجمًا القادرة على حماية المجتمع الكامل هي المدينة. والاجتماعات الأصغر – مثل القرى والمحالّ، والسكك، والمنازل – فليست كاملة في حد ذاتها، وعلى النقيض من ذلك فإن الاجتماعات الأكبر حجماً – مثل الأمم “واجتماعات الجماعة كلها في المعمورة” – (المرجع نفسه)، هي الكاملة.
يظهر بوضوح اعتماد فكر الفارابي حتى الاَن وبوجه خاص على الأخلاق النيقوماخية والسياسة لأرسطو. فكلٌّ من المفهوميْن: الذي يرى أن المجتمعات ذات المساحة المعينة هي فقط التي يمكنها إيواء أعضائها بالاستقلال عن الموارد الخارجية، والفكرة القائلة بأن الإنسان يكافح من أجل تحقيق بعض الكمال؛ يمكن أن ترجع إلى كتاب ستاجريتي [*المدينة التي وُلد فيها أرسطو]. وبالإضافة إلى ذلك فالفارابي يعتقد مثل أرسطو أن تحقيق أقصى درجات الكمال الممكنة يتبعه بالتأكيد الشعور بالسعادة، وهو المفهوم الرئيسي لفكرته. وربما متأثرًا بمفهوم السياسة لأرسطو؛ يفسر الفارابي مفهوم كمال الإنسان كالتالي: أولًا: يربطه بالمفهوم الذي يقول إن البشر يعيشون في مجتمعات، وثانيًا: يخلص إلى هذه المجتمعات تقوم بتقديم خدمة ذات غرض محدد، أبعد من مجرد توزيع الاحتياجات اليومية كالطعام والمأوى والحماية. تمتلك المجتمعات أهدافًا نهائية، وهي تتكوَّن وفقًا للفارابي من إرشاد أعضائها نحو غايتهم الأخيرة، وهي السعادة الحقيقية. ونتيجة لذلك تصبح المدينة:
التي يُقصد بالاجتماع فيها التعاون على الأشياء التي تُنال بها السعادة في الحقيقة، هي المدينة الفاضلة، والاجتماع الذي به يُتعاوَن على نيل السعادة هو الاجتماع الفاضل. (Perfect State [*المدينة الفاضلة] V, 15, 3: 231)(2).
وهذا هو السبب في أن المجتمع عند الفارابي يشكل عنصرًا لا يمكن الاستغناء عنه في المسائل الفلسفية. وبشكل أساسي، وجنبًا إلى جنب: تسعى الأنثروبولوجي (علم الإنسان، المصطلح الذي يستخدمه الفارابي بنفسه في بعض الأحيان) وعلم الكونيات، وفلسفة المجتمع؛ تسعى كلُّ هذه العلوم إلى الكشف عن الغاية النهائية للإنسانية، بالإضافة إلى الوسائل المطلوبة لتحقيق هذا الهدف (cf. Enumeration 1: 76). ولهذا يعد هذا “الفرع المعرفي” الجديد هو الفرع الرئيسي للفلسفة العملية التي تركّز على بعض العناصر الجوهرية التي يجب مناقشتها بتفاصيل أكثر في هذا المدخل، وبمزيد من التوضيح: السعادة، والحياة الاَخرة؛ وفكرة التشابه بين المجتمع والكائنات الطبيعية بالإضافة إلى الكون بأكمله؛ والالتزام الأخلاق: المعرفي والعملي كلاهما، بحسب ما تفرضه المعطيات الطبيعية؛ وطرق توجيه مواطني المدينة الفاضلة نحو غايتهم الطبيعية، والتي أهمها أم يكونوا متدينين.
-
2. ما هي فلسفة المجتمع؟
1.2 السعادة والحياة الأخرى
متفقًا مع أرسطو، لا يدع الفارابي أي مجال للشك أن هناك نوعًا واحدًا من السعادة يشكّل الهدف لكل إنسان. وقد يفرّق الفارابي في بعض الأحيان بين “السعادة الدنيوية” و”السعادة القصوى” [*في الحياة الأخرى] (Attainment [*تحصيل السعادة] i, 1: 13)، ومع ذلك يظهر بوضوح من أغلب كتاباته أن السعادة بالمعنى الدقيق للكلمة ولأنها تصاحب أعلى درجات الكمال الإنساني؛ هي السعادة القصوى(3). ولكن على النقيض من مفهوم أرسطو عن يودايمونيا [*الرفاهية]، يرى الفارابي أن السعادة القصوى حالة مرتبطة بالحياة الأخرى، وذلك وفقاً لنظريته عن الروح، حين تنفصل الروح عن الجسد في الحياة الأخرى (راجع: مدخل علم النفس عند الفارابي (رابط)). إن تحقيق هذه الحالة مشروط بعدد من الشروط المسبقة(4). وعلى الرغم من ذلك يلزم قبل التطرق لهذه الشروط (انظر: القسم (2.2 إجراء مزيد من الفحص الدقيق لمفاهيم الفارابي عن الكمال الإنساني والحياة الأخرى.
يحدد الكمال الإنساني من خلال مكانة الإنسانية داخل النظام الكوني. ففي البداية يكون البشر قبل الموت مجرد هجين – كيانات مادية محسوسة، إلا أنها من ناحية أخرى غير مادية، ومن ناحية أخرى فإنه نتيجة لإدراكهم تسعى الملكة العقلية للنفس البشرية للنجاة من الموت -، يتعرض على هذا النحو لمجموعتين من القوى. فمثله مثل جميع سكان العالم الأرضي(5)؛ يخضع البشر للقوانين الطبيعية التي تحدد المواد المادية. وفي المقابل، وكجميع الكائنات الأخرى التي تتعلق بنطاق الكون والفساد؛ يعاني البشر تأثيرًا معيّنًا لما يطلق عليه “العقل الفعال”، الذي يتصف بأنه كيان غير مادي وغير قابل للفساد وفائق، ووجوده تفكيرٌ [*تعقُّلٌ] محض(6). لا يؤثر العقل الفعال على جسم الإنسان ولكن يظهر تأثيره على فكره وخياله، الذي يشترك مع القدرات الجسدية في التفكير. ويتمثل التأثير الأكثر جوهرية الذي يمارسه العقل الفعَّال على النفس الإنسانية في: أولاً: الإمداد، وثانيًا: وهو الأساس “تهيئة” القدرة العقلية.
فإنه يُعطي الإنسان أولًا قوةً ومبدأً به يسعى أو به يقدر الإنسان على أن يسعى من تلقاء نفسه إلى سائر ما يبقى عليه من الكمالات. وذلك المبدأ هو العلوم الأُول والمعقولات الأُول التي تحصل في الجزء الناطق من النفس (Political Regime [*السياسة المدنية] B, 1, 68: 62).
وفقط من خلال هذه “العلوم الأولية” و”المعقولات الأولية” يستطيع الإنسان التفكير بطريقة مجرَّدة وكليّة، ومن ثَمَّ تصبح لديه القدرة على اكتساب المعرفة(7)، وعلى نحو أكثر دقة فإن تحقق هذا النشاط، أي التفكير وكماله – ونظرياً بلوغ أعلى مستوى له، أي العلم –، يشكِّل غاية الإنسانية. ومن ثَمَّ يولد الإنسان بالتزامٍ طبيعي نحو إتقان قدراته العقلية. وعندما يكون الإنسان مزودًا من قِبل العقل الفعال بهذه القدرة ومبادئ الفكر، تصبح مهمته تحقيق هذه الإمكانية بالفعل، أي قدرته العقلية [*قوته الناطقة] “التي بها الإنسانُ إنسانٌ” (Political Regime [*السياسة المدنية] A, 2, 8: 32)، وهكذا يشكِّل تحوُّل العقل [*النطق] إلى كونه بالفِعل [*لا بالقوة]، بالإضافة إلى العقل الفعال والعقول المفارقة [*للمادة] الأخرى؛ الكمالَ الإنساني. وبمجرد أن يصل الإنسان لهذا المستوى من الكمال فإنه يحقق حالة السعادة المطلقة:
فإذا حصلت القوة الناطقة عقلًا بالفعل، ويجعل سائرَ الأشياء معقولة بالفعل للقوة الناطقة. فإذا حصلت القوة الناطقة عقلًا بالفعل؛ صار أيضًا ذلك العقل الذي هو الآن عقلًا بالفعل شبيهًا بالأشياء المفارقة، …، فبهذا يصير في رتبة العقل الفعال، وهذه الرتبة إذا بلغها الإنسان كملت سعادته.. (Political Regime [*السياسة المدنية] A, 2, 8: 33)(8).
وبالرغم من الكتابات المتنوعة للفارابي، يظل الوصول إلى هذه المرحلة من السعادة المطلقة غير واضح سواء أثناء حياة الإنسان، عندما تكون الروح مازالت متصلة بالجسد، أو بعد الحياة الأخرى، عندما تنفصل الروح عن الجسد بعد المَنِيّة الأخيرة(9)، على أية حال، يعتقد الفارابي في تناقضٍ شاسعٍ مع التعاليم الإسلامية أن الحياة الأخرى هي حصرًا حالة نفسية أو بالأحرى فكرية. ففي اعتقاده لا وجود للبعث الجسماني. وبدلًا من ذلك فإن السعادة في الحياة الأخرى بالنسبة له تعني سعادةً فكرية خالصة، وهي حالة تتطلب الاستعداد لها طوال عمر المرء، وعلاوة على ذلك فإنها تسمح بوجود اختلافات فردية. فتبعًا للفضل الذي يحققه الإنسان بأعماله الصالحة أثناء حياته، تزداد أو تقل سعادته في الحياة الأخرى. ويقيس الفارابي هذا الفضل مقابل عدد من “الواجبات الطبيعية” وهي شرط مسبق لتحصيل السعادة، ولكنها تختلف وفقًا للقدرات الطبيعية التي يمتاز بها كل فرد عن الاَخر: (راجع: Perfect State [*المدينة الفاضلة] V, 16, 2–3: 261–5):
وأهل المدينة الفاضلة لهم أشياء مشتركة يعلمونها ويفعلونها، وأشياء أُخر من علمٍ وعملٍ يخصُّ كلَّ رتبة وكلَّ واحدٍ منهم. وإنما يصير (كلُّ واحدٍ) في حدِّ السعادة بهذين … فإذا فعل ذلك كل واحد منهم؛ أكسبته أفعاله تلك هيئةً نفسانية فاضلة، وكلما داوم عليها أكثر؛ صارت هيئته تلك أقوى وأفضل وتزايدت قوتها وفضيلتها، …، إلى أن تصير من حدِّ الكمال إلى أن تستغني عن المادة، فتحصل متبرئةً منها، فلا تتلف بتلف المادة، ولا إذا بقيت احتاجت إلى المادة …(10) /4: 265/ وإذا مضت طائفة فبطلت أبدانُها، وخلصت أنفسها وسعدت، فخلفهم ناس آخرون في مرتبتهم بعدها؛ قاموا مقامهم وفعلوا أفعالهم، فإذا مضت هذه أيضًا وخلصت؛ صاروا أيضًا في السعادة إلى مراتب أولئك الماضين، واتصل كلُّ واحدٍ بشبيهه في النوع والكمية والكيفية … /5: 267/ والسعادات تتفاضل بثلاثة أنحاء: بالنوع والكمية والكيفية … (Perfect State [المدينة الفاضلة] V, 16, 2: 261–3; 4: 265; 5: 267) (11).
تتحول السعادة الحقيقية للفرد كما يرها الفارابي لمزيج مميز من الفلسفة الأرسطية والأفلاطونية والأفلاطونية المحدثة. حيث إنها تحتضن في آنٍ واحدٍ فكرةَ السعادة الفردية التي أنجزها الفلاسفة، ومفهوم التطهُّر، وفي النهاية تألُّه النفس الإنسانية، ونظرية العقل التي تتداخل بشكل كبير مع الأبعاد الكونية والمعرفية. بينما يوضح المقطع المقتبس من كتاب المدينة الفاضلة أنه بالإضافة إلى العلم بأشياء معينة، فإن هناك أفعالًا يجب أن تُنجزَ كشرط مسبق لتحصيل السعادة الفردية؛ يؤكد الفارابي على أنه لا يجب المبالغة في تقدير المعرفة. ومهما كان ما يقصده الفارابي فيما يتعلق بالأفعال، يبدو واضحًا مما ورد سابقًا أن موضع الغاية الإنسانية هو في الرُتبة العقلانية. وبالتالي تتمثّل السعادةُ في الاندماج الكامل بقدر الإمكان للنفس البشرية في العقل الفعال، والذي نشاطه الفريد هو التفكُّر.
ومع ذلك يبقى عدد من الأسئلة مفتوحًا للنقاش، وتنبغي معالجته فيما يلي: أولًا: الأشياء التي يُتوقع أن يعلمها كل مواطن في المدينة، وثانيًا: الأعمال المقصود تنفيذها لتحصيل السعادة الفردية، وثالثًا: كيف وفَّق الفارابيُّ مفهوم السعادة الذي نوقش للتو مع تفريقه بين “طبقات” مختلفة من المواطنين بالإضافة إلى درجات مختلفة من السعادة.
2.2 الشروط المسبقة للسعادة
كما جاء في الاقتباس الأخير من المدينة الفاضلة، عند مناقشة الشروط المسبقة للسعادة، يفرَّق الفارابي بين النقاط التالية: (أ) الواجبات المشتركة و(ب) الواجبات الخاصة للمواطنين، وكذلك بين: (1) العلم و(2) الأفعال. وأكثر إشاراته تفصيلًا فيما يتعلق بتلك الشروط المسبقة بالنسبة للنقطة (أ. 1) حول الأشياء المشتركة التي يجب على كل شخص العلم بها قد جري إيضاحًها في القائمة التالية:
فأما الأشياء المشتركة التي ينبغي أن يعلمها جميعُ أهل المدينة الفاضلة فهي أشياء، (1) أولها معرفة السبب الأول وجميع ما يوصف به، (2) ثم الأشياء المفارقة للمادة وما يوصف به كلُّ واحد منها (بما في ذلك العقل الفعال الذي ذُكر سابقًا)، … (3) ثم الجواهر السماوية، … (4) ثم الأجسام الطبيعية التي تحتها، كيف تتكوّن وتفسد …، (5) ثم كَوْن الإنسان …، (6) ثم الرئيس الأول …، (7) ثم الرؤساء الذين ينبغي أن يخلفوه …، (8) ثم المدينة الفاضلة وأهلها والسعادة التي تصير إليها أنفسهم (Perfect State [*المدينة الفاضلة]، V, 17, 1: 277–9).
ويُستنتج من هذه القائمة أنه يفترض أن يكون لدى الفارابي معرفة واسعة بعلم الكونيات والفيزياء والأنثروبولوجيا وفلسفة المجتمع. ويعد هذا أمرًا مذهلاً في ضوء حقيقة أنه – كما يعترف بنفسه – هناك مجموعة قليلة من الناس لديهم موهبة عقلية كافية لفهم الأشياء التي ذكرها الفارابي في قائمته(12). وهذا يثير التساؤل حول ما إذا كان يمكن لجميع الأفراد تحصيل السعادة في الواقع، أم لا؟ وهو تساؤل سيجري بحثه في القسم 2.3 من هذا المدخل. وفيما يتعلق بالشروط المسبقة للسعادة، يمكن الاستنتاج أن تضمين شرط العلم المشترك (أ.1) قد جعل الفارابي يرفع الحد الأعلى إلى حدٍّ ما: ففقط سيكون الفلاسفة البارعون هم القادرين على تحقيق هذه المعايير.
أما بالنسبة إلى الشروط المسبقة الباقية، فإنها أقل وضوحًا عند الفارابي. وهناك بعض الإشارات فيما يتعلق بالأفعال المشتركة (أ.2). ويظهر أنها بالموافقة للمرة الثانية مع أرسطو؛ تتضمن جميع أنواع الممارسات التي يزاولها الفرد لتنقية روحه حين تكون الروح لا تزال متحدة مع “بدنها”، بحسب إشارة الفارابي لمراتب الروح، بالإضافة إلى مقارناته المتكررة بالفنون والحرف. ومن ثَمَّ فهو يشير في العبارة المقتبسة الأخيرة أنه:
فإذا فعل ذلك (ما يتعلق بالواجبات المشتركة بين المواطنين) كلُّ واحدٍ منهم (كل فرد من أفراد المدينة الفاضلة)؛ أكسبته أفعالُه تلك هيئةً نفسانية جيدة فاضلة، وكلما داوم عليها أكثر؛ صارت هيئته تلك أقوى وأفضل، وتزايدت قوتها وفضيلتها، كما أن المداومة على الأفعال الجيدة من أفعال الكتابة تكسب الإنسانَ جودةَ صناعة الكتابة … (Perfect State [*المدينة الفاضلة] V, 16, 2: 261).
تكمن خلفية المفهوم الخاص باكتساب هيئة نفسية جيدة من خلال تكرار عمل نشاطات معينة، في التقليد الطبي القديم (بالإضافة إلى الأخلاق النيقوماخية لأرسطو). وتبعًا لذلك قد تتأثر حتى القدرة العقلية للروح (غير المادية) إيجابيًّا إذا تحسّنت القوى الروحية التي تعمل بالأعضاء الجسدية (مثل الإدراك الحسِّي والخيال). ويتعلق ذلك على نحو أكثر جوهريّةً بخليط من الأمزجة، التي ترتبط مباشرةً بالقوى الغذائية: فكلما كان مزاج الفرد متوازنًا، كلما كانت التأثيرات السلبية للجسد على الروح أقل، وكلما كان استخدامُ الفرد لقدرته العقلية أكثر سهولة. وعلى مستوى أكثر تعقيدًا بعض الشيء، تتعلّق فكرة التوازن أو الإنسجام باعتبارها وسيلة لتنقية الروح بمجال الفضائل الأخلاقية أيضًا. فعلى الرغم من أن شخصيةَ الفرد تتأثّر بشكلٍ أساسي بمزاجها؛ يؤكد الفارابي أن الفضائل يمكن أن تُدرَّب وتُحسَّن. فكما هو الحال في الاعتناء بالأمزجة الجسدية؛ فإن القدرة على إيجاد “المتوسط الذهبي” في المسائل الأخلاقية عادةً ما يمهِّدُ الطريقَ لتطبيقٍ أسرعَ وأقلّ تشتُّتًا للملكة العقلية للفرد(13).
وفي الواقع فإن تصوير الفارابي للفضائل الأخلاقية باعتبارها أحد الشروط المسبقة للسعادة الفردية مدعومٌ أيضًا من تقييمه للمدن والمجتمعات الناقصة. ومن بين هذه المجتمعات “المدن الفاسقة” والتي سكانها، على الرغم من علمهم الجيد إلا أنهم “مالوا بهواهم وإرادتهم” نحو ما يعتبره الفارابي خطأ أو يُظَنُّ أنه جيد، مثل “المنزلة أو الكرامة أو الغلبة” (Political Regime [*السياسة المدنية] C, 3, 120: 90; وراجع أيضًا: Book of Religion [*كتاب الملة] 11:101)، والذي يصرف الانتباه عن الغاية الطبيعية للإنسانية. ومن الأمثلة الأخرى على الغايات الضالة: السعي نحو “التمتع باللذات”، والتي صوّر أنها توجد في “شره ومحبة المأكول والمشروب والمنكوح” (Political Regime [*السياسة المدنية] C, 3, 119: 89). وحكم الفارابي على هذه المدن واضح وغير مبهم “وأهل هذه المدن ليس واحد منهم ينال السعادة أصلًا”(المرجع نفسه 120: 90). وكما ظهرت هذه الأمثلة وتقييم الفارابي تمامًا كتوازنٍ في مزاج الفرد؛ فإن صفتها ضرورية للغاية في تحصيل السعادة، ليس من أجل ذاتها، ولكن بقدر ما تفي بمهمة تحضيرية. حيث إنها تُعِدّ النفس الإنسانية بحيث تستطيع بأفضل ما عندها من قدرات أن تؤدي نشاطها الصحيح، أي التفكير.
وأخيرًا فيما يتعلق بالأمور التي يفترض أن يعرفها المواطنون ويفعلوها وفقًا لطبقاتهم المعينة (المشار إليها في (ب.1) و(ب.2) بالأعلى، في الفقرة الأولى من هذا القسم) فيبدو أن الفارابي يفكر في الصناعات والمهن المتعددة في المدينة(14)، وكما سيكشف القسم التالي، فإنه يفرِّق بين المهارات الفردية ونقاط الضعف التي يولد بها كل إنسان. وهو على اقتناعٍ بأنّ كل فرد، مزوَّدًا بهذه المواهب الخاصة؛ يحصل على مكانه الطبيعي وواجباته داخل المجتمع. ومن ثَمَّ فإن تفعيل الإمكانيات الفردية لأقصى مدى لها، يساهم في فاعلية ورفاه المجتمع. لا يؤدي هذا في الواقع إلى تحصيل السعادة الفردية، ولكنه شرط مسبق لأنه يساهم في تغطية الاحتياجات اليومية، وبالتالي ضمان الأساس لمجتمع يطمح إلى غايته الطبيعية (راجع القسم 1 بالأعلى).
-
3. مبدأ التشابه
3.1 الوجود: الإنسان، المجتمع، الكون
كان لمفهوم الفارابي عن السعادة المطلقة تأثير كبير على فلسفته للمجتمع. ففي في ضوء الغاية الخاصة للإنسانية، يمكن للمجتمع أن يكون مجتمعًا فاضلًا بالمعنى الوارد سابقًا(15)، إذا كان تعاونه في السعي نحو الغاية الإنسانية للمجتمع فقط، أي إذا كان يسعى لإعداد أعضاء المجتمع بالوسائل اللازمة لتحصيل السعادة الفردية. ومن ثَمَّ يجب أن يكون الهدف الأساسي لإدارة المجتمع إتاحة الأدوات والوسائل ليستطيع كل فرد اكتساب المعرفة النظرية(16)، والتعرف على واجباته الطبيعية والبدء في تطبيقها. ولكي يشرح الفارابي مفهومه عن المجتمع الفاضل، يرجع لمثالين متكررين، هما الكائنات الحية الطبيعية والكون. للوهلة الأولى قد تبدو هذه المقارنة غير مناسبة، وتربط السلوك الطوعي في حالة الكائنات البشرية والمجتمع بالعمليات الطبيعية والسببية الصارمة التي تميز عمل الكائنات الحية والكون بأكمله. ومع ذلك فلا يهدف الفارابي إلى إنكار التفريق بين الأفعال الطوعية والطبيعية، بل على العكس تمامًا.
ففي حين يتمتع البشر في رأيه بالإرادة الحرة ولذلك يمكنهم تنظيم حياتهم ومجتمعاتهم حسب رغبتهم واختيارهم ad libitum(17)؛ فإن هناك قاعدةً طبيعية للإنسانية – كما أشرنا بالأعلى –، تميِّز الحياة الجيدة عن السيئة، وتحصيل السعادة عن الإخفاق في فعل ذلك، وفقًا لشروط الإيسخاتولوجي eschatology [*علم الأخرويات]. بهذا المعنى يؤيد الفارابي بوضوح ما يُطلق عليه في الوقت الحالي أخلاقيات القانون الطبيعي. وفي هذه المرحلة بالذات، يدخل مثالاه، عن الكائنات الحية والكون؛ حيز التنفيذ، ويعيران مفاهيمه عن المجتمع والسعادة نكهةً أفلاطونية واضحة. يرى الفارابي أن الكائنات الحية والكون هما النموذجان المثاليان اللذان ينصح البشر بمحاكاتهما – من أجل أنفسهم ومن أجل حياتهم الاجتماعية أيضًا –:
المدينة والمنزل قياس كلِّ واحدٍ منهما قياس بدن الإنسان، كما أن البدن مؤتلف من أجزاء مختلفة … يفعل كلُّ واحدٍ منها فعلًا ما، فيجتمع من أفعالها كلِّها التعاون على تكميل الغرض ببدن الإنسان؛ كذلك المدينة والمنزل يأتلف كل واحدٍ منهما من أجزاء مختلفة … يفعل كل واحد منها على حِياله فعلًا ما، فيجتمع من أفعالها التعاون على تكميل الغرض بالمدينة أو المنزل. (Selected Aphorisms [*فصول منتزعة] 25: 23).
يطبق الفارابي بشكل أساسي مفهوم أرسطو عن الإرجون ergon [*النشاط العملي] للكون وكلٍّ من أجزائه، ومن ثَمَّ لا يحصر الكون فقط في ترتيب محدد، ولكنه في الحقيقة يمثِّل أفضل الأبنية الممكنة، كما أنه معلول العلة الأولى الأكثر كمالًا(18)، ومن ثَمَّ يمتلك كل جزء من الكون وظيفةً محددة يجب أن يقوم بها من أجل الحفاظ على استمرار الكون في حالة تحرك دائم سلس دون أي انقطاع أو اضطرابات. فبينما يقوم كلُّ شيء آخر بتنفيذ وظيفته بالطبيعة، يجب أن تختار الإنسانية المجهزة بالعقل والإرادة الحرة أن تقوم بوظيفتها كذلك. ولذلك علينا فهم النظام الكوني ومكانته ومهامه، أو بالأحرى الإرجون؛ في إطار هذا البناء الشامل، والذي يؤكد، مرة أخرى، على الأهمية المتعلقة بالمعرفة في فكر الفارابي.
ولا تزال اَثار المترتبة على المثالين النموذجيين، الكائنات الحية والكون؛ تصل إلى أبعد من ذلك، حيث يمثِّل كلٌّ مِن المثاليْن كياناتٍ معقدةً ذات بِنية داخلية متنوعة. فمن المؤكد أنّ كلَّ عنصرٍ في الكون أو الكائنات الحية يُسهم بوجه عام في سلامة الكيان كله، ومع ذلك كل واحد منهما يمتلك نشاطه المتميز، فالقلب على سبيل المثال مسؤول عن ضخ الدم عبر الأوعية الدموية، ومن ثَمَّ الحفاظ على الجسم حيًّا، في حين أن الكُلى مسؤولة عن تصفية الدم وتنظيم مستوى سيولة الماء. وبالمثل يرى الفارابي أن كل إنسان حي لديه مهمة معينة داخل نطاق عمله في المجتمع وفقًا لمهاراته الخاصة (راجع القسم 2.2 بالأعلى، فيما يتعلق بالمعرفة المحددة للمواطنين وأنشطتهم [ب.1 و ب.2]:
تشبه المدينة الفاضلة البدنَ التام الصحيح، الذي تتعاون أعضاؤه … وكما أن البدن أعضاؤه مختلفة متفاضلة الفطرة والقوى، وفيها عضو واحد رئيس وهو القلب، وأعضاؤه تقرب مراتبها من ذلك الرئيس … وكذلك المدينة، أجزاؤها مختلفة الفطرة متفاضلة الهيئات، وفيها إنسان هو رئيس، وأُخر يقرب مراتبها من الرئيس، وفي كلِّ واحدٍ منها هيئة وملكة يفعل بها فعلًا يقتضي به ما هو مقصود ذلك الرئيس (Perfect State [*المدينة الفاضلة] V, 15, 4: 231–3).
يكمن هذا المفهوم في قلب فلسفة المجتمع للفارابي، وهو الأمر الذي خلق توترات متعددة جديرة بالملاحظة في فكره. وكما رأينا بالأعلى، وبمزاج أرسطي؛ فإنه يدَّعِي أن الفصلَ [*بالمعنى المنطقي: أي أحد الكليات الخمس] الخاص بالإنسانية هو العقل، والغاية الطبيعة لكل إنسان حيٍّ تتمثّل في كمال هذه الخاصية. وهو في الوقت نفسه يرى أن البشر يختلفون فيما يتعلق بقدراتهم الطبيعية. ولذا نجد البعض على درجة عالية من الذكاء بينما البعض الاَخر ليسوا كذلك. لدى البعض القدرة أن يصبحوا فلاسفة ويستوعبوا بِنْيةَ العالم والَسعادة والقاعدة الطبيعية المتضَمَّنة في هذه المعطيات الوجودية، ولا يمتلك الآخرون، – وهم الأغلبية كما يعتقد الفارابي – هذه القدرات. ويثير ذلك الأمر سؤالين متشابكين، الأول: كيف يمكن لهؤلاء الأفراد على اختلافهم تحصيل السعادة، والثاني: كيف يجب تأسيس المجتمع من أجل تحقيق الغاية الطبيعية الخاصة به، وتوفير فرصة متساوية لكل أعضائه لتحصيل السعادة الفردية.
3.2 المعرفة: الأشياء مقابل التمثيلات الرمزية
لكي نُقارب تلك الأسئلة، لابد أن نلقي نظرة فاحصة على أنثروبولوجيا (علم الإنسان) الفارابي، والذي يمثل العمود الفقري لفلسفة المجتمع (والدين). وتماشيًا مع التقليد الطبي اليوناني، وعلى الأخص جالينوس، يعتقد الفارابي أن الهبات الطبيعية الفردية، تعتمد بشكل رئيس على عاملين، الأول: المنطقة من العالم التي يولد فيها الإنسان، والثاني: التركيبة الجسدية أي مجموعة العناصر المكوِّنة للمزيج الصلب لجسم الإنسان (راجع القسم 2.2)(19). وعلى الرغم من أن الروح الإنسانية ليست مادية، ما دامت مقترنة بالجسد، إلا أنها تعتمد في أنشطتها (بما في ذلك، بطريقةٍ ما: التفكير) على الأعضاء الجسدية، كالحواس الخارجية، مما يتيح الإدراك الحسي والخيال. ومن الجدير بالملاحظة أن مزاج الفرد أو فطرته الطبيعية – التي تحدد في المقام الأول تلك العمليات التي ترتبط بالمزاجية والمشاعر والسمات الشخصية بوجه عام – تتحول لأن تكون العامل المحدود الذي يحدِّد ما إذا كان الإنسان سيكون حادّ الذكاء أو متبلدًا، ومن ثَمَّ فهي قادرةٌ على تحسين النشاط [*الإرجون] الإنساني الخاص، أي التعقل.
في حين يبدو للوهلة الأولى أن هذا يشير إلى أن القَدَر الطبيعي يوفّر للقلة السعيدة الوسائل اللازمة لتحصيل الرفاهية eudaimonia، من جهة، ولكنه من جهة أخرى يحكم بالتعاسة على الكثرة التعيسة؛ إلا أن الفارابي يُصرُّ على أن كل إنسان مجهَّز بالمتطلبات اللازمة لتحصيل السعادة المطلقة، حتى أولئك الذين لا تسمح لهم فطرتهم الطبيعية بأن يصبحوا فلاسفة. فبالنسبة إليه فإن الناس:
الذين فطرتهم سليمة، لهم فطرة مشتركة أُعدوا بها لقبول معقولات هي مشتركة لجميعهم. ثم من بعد ذلك يتفاوتون ويختلفون فتصير لهم فِطر تخصُّ كلَّ واحدٍ وكل طائفة، فيكون فيهم من هو مُعَدٌّ لقبول معقولات ما أُخر، ليست مشتركة بل خاصة … (Political Regime [*السياسة المدنية] B, 1, 74: 65).
وبناء على ذلك، فبشرط ألّا يولد المرء أحمق أو مجنونً، بل شخص سليم العقل compos mentis(20)، فلدى كلِّ الناس الوسائل التي تمكنهم من السعي نحو “الأشياء المشتركة التي يعلمونها ويفعلونها”. وتلك الأشياء والأفعال المشتركة بين الجميع، إلى جانب “الأشياء الأُخَر من العلم والعمل التي تخص كلَّ مرتبة وكلَّ واحد منهم” (Perfect State [*المدينة الفاضلة] V, 16, 2: 261) تتوافق تمامًا مع الشروط المسبقة لتحصيل السعادة المذكورة أعلاه في القسم 2.2. ومع ذلك، وكما هو مذكور أعلاه؛ تضع هذه الشروط المسبقة، وبخاصة تلك الأمور التي يجب أن يعلمها كلُّ الناس؛ معاييرَ فكرية على درجةٍ عاليةٍ إلى حدٍّ ما. وعلى الرغم من ذلك، فوفقًا للفارابي، لا يستبعدُ شرطُ معرفة هذه الأشياء المشتركة أيَّ فردٍ من تحصيل السعادة لأنها يمكن أن تُعرف:
بأحد وجهين: إما أن ترتسم في نفوسهم كما هي موجودة، وإما أن ترتسم فيها بالمناسبة والتمثيل (Perfect State [*المدينة الفاضلة] V, 17, 2: 279).
يمكن لكل إنسان إذن أن يحصّل السعادة الفردية في الآخرة (21) بشرط أن يتعلم الأشياءَ المشتركة بإحدى الطريقتين. وواجب المجتمع أو على الأخص حاكم المدينة الفاضلة أن يتأكد من تعليم كل فرد هذه الأشياء وفقًا لقدراته. وفي هذا الصدد، وكما سيناقَش في القسم 4، يمتلك الدين باعتباره “علم الإقناع” مكانته وأهميته الخاصة. وفيما يتعلق بمفهوم الفارابي للمجتمع، فمن المهم ملاحظة أن للواجب الرئيسي المسند هنا إلى المجتمع والمدينة الفاضلة آثارًا بارزة على طبيعة حكومته. فالحكومة، كما يمكن الآن استنتاجها ودعم ذلك بنصوص المختلفة في جميع كتابات الفارابي(22)؛ يجب أن توصف في المقام الأول على أنها ” توجِّه” أو “تعلِّم” أو “تروِّض”.
وفي هذه المرحلة، يجب أن نقدم المزيد من التوضيح حول الجانب الثاني المذكور أعلاه، أي “الفِطر التي تخصُّ كلَّ واحدٍ وكل طائفة” (راجع الاقتباس الأول في هذا القسم)، فكما ذُكر من قبل، فإن للإنسان العلاقة نفسَها مع المجتمع كعلاقة أعضاء الجسم مع الجسم. ونظرًا إلى “فطرته الخاصة” أو طبيعته الخاصة، فإنه يحظى بمكانةٍ خاصة داخل مجتمع الكائنات الحية، مع وجود نشاط عملي ergon محدد يجب عليه أن يؤديه، حتى يستطيع الجسم بأكمله أداء مهمته بنجاح. ونتيجة لذلك فليس على الإنسان واجب طبيعي تجاه نفسه فحسب لتحقيق السعادة الفردية، بل أيضًا تجاه المجتمع ككل، بل حتى لأبعد من ذلك، تجاه النظام الكوني كله، مما يساهم في الأداء السليم لمجتمعه ومن أجل تحصيل السعادة للعالم الطبيعي وأجزائه المتعددة(23). ومن ثَمَّ فطبقًا للمهن والصناعات الخاصة التي تتضمنُها المهاراتُ الفردية للأعضاء، يتهيكل المجتمع بطبيعته وفق طريقة عضوية وهرمية في آنٍ:
العضو الرئيس في البدن هو بالطبع أكمل أعضائه وأتمُّها في نفسه وفيما يخصُّه، وله من كلِّ ما يشارك فيه عضوٌ آخر أفضلُه، ودونه أيضًا أعضاء أخرى رئيسة لما دونها، ورياستها دون رياسة الأول، وهي تحت رياسة الأول تَرأس وتُرأس، كذلك رئيس المدينة هو أكمل أجزاء المدينة فيما يخصه، وله من كلِّ ما شارك فيه غيره أفضله، ودونه قوم مرؤوسون ويرأسون آخرين. (Perfect State [*المدينة الفاضلة] V, 15, 5: 235).
يأتي التسلسل الهرمي الطبيعي للمجتمع وفقَ تفريق الفارابي بين الوظائف الحاكمة والخادمة. ففي المدينة الفاضلة، كما في الصورة المثالية للجسد الطبيعي والكون بالكامل؛ يكون معيار الحكم – في سياق جمهوري أفلاطوني – هو التعقل والحكمة. وهذا يعني أن هناك حاكمًا يتميّز بطبيعته بفهمه الفطري للنظام الكوني، ومقتضياته المعيارية، والطبيعة الإنسانية، وكيفية إدراك المقتضيات المعيارية المكتشفة في ضوء المهارات والقيود المتنوِّعة التي تميّز “الفِطر الطبيعية” للمواطنين. تتمثَّل طريقةُ حكم المدينة، كما ذكر من قبل؛ في توفير هذا النوع من التوجيه بدقة: تحقيق الإمكانيات المتنوعة بأفضل الطرق المتناسقة، والتي تشبه بإخلاص عمل الكائنات الحية، ومن ثَمَّ السعي نحو تسهيل طريق كل المواطن لتحصيل السعادة(24).
ويستنتج من ذلك أن الحاكم الفاضل: ليس فقط مجرد الفيلسوف المتفوق، الذي يمتلك معرفة نظرية شاملة حول كل ما هو موجود(25)، بل هو أيضًا، وهو وجه الخصوص، الشخص القادر على ضمان تحقيق ما يلي: أولًا: تعليم كل مواطن الأشياء التي يحتاج إلى فعلها ومعرفتها، والتي تؤهله لتحصيل السعادة، وثانيًا: أن يكلَّف كل شخص وينفذ تلك الأشياء “التي تخصُّ كلَّ رتبة وكلَّ واحدٍ منهم” (Perfect State [*المدينة الفاضلة] V, 16, 2: 261؛ راجع أيضًا: Political Regime [*السياسة المدنية] B, 2, 78: 68)، وبهذه الطريقة المتوازية يجلب رفاهية المدينة ويُسهم في سعادة الكون الحي. وبهذه الخلفية، يمكننا معالجة تصور الفارابي عن الدين، أي فن الإقناع أو التعليم بتأثير “المناسبات والتمثيلات [*الرمزية]”.
-
الدين وفن الحكم
4.1 ما هو الدين؟
الملَّة [*الدين] هي آراء وأفعال مقدَّرة مقيَّدة بشرائط يرسمها للجمع رئيسهم الأول، يلتمس أن ينال باستعمالهم لها غرضًا له فيهم أو بهم محدودًا… والرئيس الأول إن كان فاضلًا وكانت رئاسته فاضلة في الحقيقة؛ فإنه إنما يلتمس بما يرسم من ذلك أن ينال هو وكل من تحت رئاسته السعادة القصوى، التي هي في الحقيقة سعادة، وتكون تلك الملّة ملةً فاضلة (Book of Religion [*كتاب الملة] 1:93).
كما يُبرهن هذا الاقتباس بإسهاب، فإن لدى الفارابي مفهومًّا غريبًا إلى حدٍّ ما عن الدين. فهو أولًا يتضمّن “الآراء” و”الأفعال”، ومن ثَمَّ يؤدي هذان العنصران، كما رأينا أعلاه في (الجزء 2.2)؛ دوراً هامًّا فيما يتعلق بتحصيل السعادة الفردية. وتبعًا لذلك يحتاج الإنسان إلى معرفة أشياء معينة (عبر إحدى الطريقتين المذكورتين أعلاه)، وتنفيذ أفعال معينة؛ ليصبح شخصًا سعيدًا حقًّا. ثانيًا: يوصَف الدين على أنه نتيجة لأنشطة الحاكم [*الرئيس] الأول. وبتعبير أدق يُصوَّر هذا الحاكم على أنه الشخص الأول الذي أنشأ الآراء والأفعال التي يجب أن يعتنقها وينفذها المجتمع الذي يحكمه. وإلى جانب ذلك فإنه يسعى إلى تحقيق هدف معين. وبمعنى اَخر فإنه يفترض الدفاع عن هذه الاَراء والأفعال وتنفيذها: ليس من أجلها في نفسها، ولكن – في حال “إن كان الرئيس الأول فاضلًا” – من أجل الوصول إلى السعادة القصوى. ومن ثَمَّ فليس الدين هدفًا بحد ذاته، بل إنه أداة، وبشكل أكثر تحديدًا هو أداة للحكم.
للوهلة الأولى يبدو مفهوم الدين عند الفارابي منتقصًا من قيمته، ولاسيما من منظور الأديان القائمة، كالإسلام، فهو ينكر بصراحة وضعَ الدين كمجالٍ مستقل للحكمة والمعرفة، ويرفض ادعاءه الحقيقة المطلقة، وينخفض به إلى مجرد أداة. ومع ذلك لا يمكن تقييم هذه السمات عن بُعد، لأن التقييم يتطلب أن تكون في سياقها الخاص، وهو تحديدًا آراء الفارابي الأنطولوجية والابستمولوجية الأساسية. فوفقًا للفارابي، فإن معطيات الواقع – الأشياء التي تشكّل الواقع وسلوكياته وقوانينه الطبيعية الكامنة – هي آثار [*معلولات] لبعض المبادئ الأولية المحددة، مثل العقل والنفس والمادة، والتي نشأت جميعها في نهاية المطاف من شيء واحد، السبب الأول [*العلة الأولى] (راجع القسم 2.1) (26). وكما يعتقد الفارابي، فيمكن أن يعرف الإنسان هذه الحقائق، تمامًا مثل الالتزامات الأخلاقية التي يلتزم بها (كما نوقش في القسم 3.1). ومن ثَمَّ فهناك واقعٌ موضوعي واحد، ومن الناحية الإبستمولوجية: تصوُّرٌ موضوعيٌّ حقيقيٌّ واحد له أيضًا. وعلى الرغم من ذلك فهناك أساليب متعددة لإحراز هذا التصوُّر الحقيقي، ومن ثَمَّ نقله إلى الآخرين، أي: ” إما كما هي موجودة، وإما أن ترتسم فيها بالمناسبة والتمثيل” (القسم 3.2).
يجري تعيين تلك الطريقة الأخيرة للتمثيل الرمزي في الدين، في حين تتطابق نظيرتها الأولى: أي تعليم الأشياء ومعرفتها ” كما هي موجودة” مع الفلسفة. وبالتالي فمن المؤكد أن الفلسفة متفوِّقة على الدين، كما تؤكد الدراسات العلمية في كثير من الأحيان، وكما يعترف الفارابي نفسه بذلك (راجع: Book of Religion [*كتاب الملة] 5: 97–8). ومع ذلك فإن ذلك التفوُّق لا يتعلق إلا بمستويات معرفية معينة. ففي حين تعتمد الفلسفة على البراهين والنتائج الكامنة في اليقين الموضوعي؛ يعتمد الدين على الوسائل الجدلية والخطابية، والنتائج الكامنة في الآراء الظنية والقناعات(27). ومن وجهة نظرٍ برجماتية، وعلى النقيض من ذلك، يتحول نظام الترتيب بدرجة كبيرة. فمن هذه الزاوية يتضح أن الدين لا يقل أهميةً عن الفلسفة وفقًا لمعطيات علم الأنثربولوجيا [*الإنسان]: حيث يعتمد أغلبية الناس إلى حد بعيد على “المناسبة والتمثيل” باعتبارها السبيل إلى المعرفة والأفعال اللازمين لتحصيل السعادة، في حين تدرك الأقليةُ الأشياءَ “كما هي موجودة”.
لذلك تشبه علاقة الدين بالفلسفة، علاقة الإنسان بالكائنات الحية، وعلاقة المجتمع بالكون، بشرط أن يكون الدين فاضلًا. فالدين يشبه الفلسفة من نواحٍ عدَّة، فمن ناحية، فيما يتعلق ببنيته الأساسية، ومن ناحية أخرى فيما يتعلق بأسلوب عمله. فهو يتضمن، تمامًا مثل الفلسفة؛ مفهومًا للمعرفة النظرية (العقيدة)، ويستمد منه قواعد عملية (القانون [*الفقه])، كما يتمثّل غرضه الرئيس، كما هو الحال تمامًا بالنسبة للفلسفة؛ في التعليم، ومن ثَمَّ تقديم وسائل الحُكم للحاكم. ومن هذا السياق الخاص، يمكن أن نستنتج أن ما يعلِّمه، أو بالأحرى ما يعلمه الحاكم من خلال تأثير الدين؛ هو سردٌ مجازيٌّ لما تقدمه الفلسفة كعلمٍ. يبدو هذا واضحًا بالفعل، على سبيل المثال؛ في الطريقة التي يقدِّم بها الفارابي الآراء النظرية (العقيدة) التي ينقلها الدين:
فالآراء في الأشياء النظرية [*التي تُعلِّمُنا إياها الملَّةُ الفاضلة] ما يُوصَف الله تعالى به، ثم ما يوصف به الروحانيون ومراتبهم في أنفسهم ومنازلهم من الله (Book of Religion [*كتاب الملة] 2: 94).
وحتى من دون عرض القائمة بأكملها، فمن الواضح أن الفارابي يشير إلى القضايا نفسها التي جرى تفصيلُها في كتابه المدينة الفاضلة (انظر إلى القسم 2.2). فعلى الرغم من استخدام كتابه المدينة الفاضلة للمصطلحات التي تذكّرنا بمعجم الفلسفة، فإن كتاب الملة يرجع إلى المصطلحات الدينية. فبدلًا من السبب الأول فإنه يتحدث عن الله. وبدلًا من علم الكونيات فإنه يشير إلى اللاهوت، وبدلًا من العقول المفارقة فإنه يستحضر الملائكة والشياطين ككائنات روحية. ويمكن ملاحظة النوع نفسه من التحول فيما يتعلق بالأفعال التي يجب على الدين الفاضل [*الملة الفاضلة] أن يحدده (القانون):
وأما الأفعال فأولها الأفعال والأقاويل التي يُعظَّم اللهُ بها ويُمجَّد، ثم التي يُعظَّم بها الروحانيون والملائكة، ثم التي يُعظَّم بها الأنبياء والملوك والأفاضل والرؤساء الأبرار وأئمة الهداة الذين كانوا فيما سلف (Book of Religion [*كتاب الملة] 3: 96).
مرة أخرى، فإن الصيغ التي يستخدمها الفارابي للإشارة إلى نوع الأفعال التي يحددها الدين، ودون تقديم أمثلة على ذلك؛ تستحضر الروابط مع الأديان الموجودة، ولاسيما الإسلام. فسيربط المرء بسهولةٍ تعظيمَ بأداء الصلوات الخمس اليومية المفروضة على المسلمين. ويذكِّرنا “الأنبياء”، و”الرؤساء الأبرار”، و”أئمة الهداة” بالرسول محمد وأصحابه من الخلفاء الراشدين الأربعة الأوائل، أو أئمة الشيعة أو غيرهم من القادة الروحيين للإسلام (الصوفية على سبيل المثال).
والجدير بالذكر، كما جاء من قبل (في القسم 2.2)، أنه من الواضح أن الكتاب المقدس للدين، مثل القراَن؛ يخدم وظيفتين – بشرط أن يحقق الدينُ المعنيُّ المعاييرَ الفاضلة. ففيما يتعلق بالآراء التي ينقلها؛ فإنه يقدّم مثالًا للأشياء التي يجب على الناس معرفتها لتحقيق غايتهم الطبيعية (28). وأما بالنسبة للمضامين العملية كالشعائر والطقوس التي ينقلها؛ فإنه ينفذ الوظيفية التحضيرية السابق ذكرها، حيث يدرِّب المؤمنين على سلوكٍ يعزز الفضائل الأخلاقية نفسَها التي عالجتها الأخلاق النيقوماخية، والتي يشير إليها الفارابي نفسُه: أنها الفضائل التي تحسِّن من تصرفات النفوس كي تدرك أقصى قدرات المرء، وتحقيق مهمته الطبيعية.
4.2 الدين والحُكم
إن الحاكم الطبيعي للمدينة الفاضلة أو الأمة أو “اجتماعات الجماعة كلها في المعمورة” (الاقتباس الأول من القسم 2.1) وفق خلفية الفارابي الفلسفية للمجتمع والدين؛ هو شخصٌ فيلسوف بارع، ونبي، وحاكم أعلى، ومشرِّع، وإمام، في الوقت نفسِه. إنه يفهم الواقع حقًّا، ومبادئه الأساسية، ويستطيع التحقق من إدراكه بطريقة برهانية. ومع هذا فإن لديه القدرة على “ترجمة” المعرفة إلى استعارات وتمثيلات نظرية وتقديمها بأسلوب خطابي وبطريقة إقناعية(29). ومن وجهة نظر أغلبية الناس تبدو هذه السرديات المجازية نوعًا من الوحي الإلهي الخارق للعادة [*فوق الطبيعي]. وبطريقة ما هي بالتأكيد “إلهية”، بالنظر إلى علم كونيات الفارابي. ومع ذلك فمن وجهة نظر الفلسفة فمن الواضح أنها ليست فوق طبيعية، حيث إنها بالكاد مجرّد تمثيلات رمزية تلخِّص بدقة أساسيات الميتافيزيقيا والفلسفة الطبيعية والأنثروبولوجيا وفلسفة المجتمع(30).
فالدين الذي يتضمن فرعًا عقديًّا وآخر قانونيًّا؛ هو إذن عناصر الأكثر أهمية للحُكم. إنه المشروع الذي يجب تنفيذه بعد وفاة الحاكم الأول، ورعايته وتطويره من الحكام اللاحقين الذين يحظون بمكانة عالية في التسلسل الهرمي في مجتمعات معينة، لكونهم أذكياء واسعي المعرفة، ومن ثَمَّ يكونون “بالطبيعة” مسؤولين عن نشر المعرفة المشترطة لتحصيل السعادة. وعلى وجه الخصوص فإن تلك الأفعال التي لم يحددها الحاكم الأول، لأي من الأسباب، فيجب أن يجري تشريعُها في مرحلةٍ ما(31). وجدير بالذكر أنه حتى التشابه المفترض للمجتمع مع الكون، إلى جانب لغة الفارابي الخاصة؛ يوحي الشكل “الطبيعي للحكومة” سيكون نظامًا ملكيًّا، إلا أنه يظل غير ملتزمٍ إلى حدٍّ ما بهذا الموضوع.
من الواضح إذا كان هناك إنسان، أثناء وقت معين وفي مجتمع معين، تتوحد فيه الصفات المطلوبة؛ فإنه سيكون هو القائد الطبيعي. وبالموافقة للسياسة لأفلاطون، يعتقد الفارابي أن الفعل التأسيسي لإنشاء دينٍ ملائم ليكون بمثابة “الدستور” للمدينة الفاضلة؛ يفتَرِض مسبقًا حاكمًا أولًا يتصرف كمشرِّعٍ أصلي. ومع ذلك، فإذا لم يوجد أي شخص واحد يشتمل على جميع هذه الصفات، فيجب أن يتعاون مجموعة من الأشخاص الذين يمتلكون خصائص متكاملة ويقدموا الإرشاد للمجتمع. يدلُّ ذلك بوضوح على عدم اهتمام الفارابي بشكل خاص بالهياكل والنُّظُم السياسية الملموسة. بدلًا من ذلك فقد كان اهتمامه موجَّهًا نحو المبادئ الميتافيزيقية التي تقوم عليها الاجتماعات الإنسانية ومقتضياتها المعيارية.
ويظهر هذا الموقف الخاص بوضوحٍ في مناقشة الفارابي للمدن والمجتمعات الناقصة. ففي حين تختلف التفاصيل عبر مصنفاته المختلفة المخصصة لهذا الموضوع؛ إلا أن المقياس الذي يقيّم من خلاله “الفاضلة” و”الناقصة” هو دائمًا هذان العاملان المحددان فيما سبق: وهما العلم والفعل، سواء على المستوى المشترك أو ذي الصلة بالطائفة [*الطبقة] الخاصة. فعلى سبيل المثال يصنف الفارابي في النظام السياسي ستة أشكال للنقص في المدن، ومنها “الاجتماعات الضرورية” (Political Regime [*السياسة المدنية] C, 2, 93: 76). ويشرح الفارابي هذا النوع من المجتمعات أو المدن بأنه:
هو الذي يكون به التعاون على اكتساب ما هو ضروري في قوام الأبدان وإحرازه… وقد يكون من المدن الضرورية ما يجتمع فيها جميع الصنائع التي يستفاد بها الضروري، ومنها ما تكون المكاسب للضروري فيها بصناعة واحدة مقل الفلاحة وحدها… ورئيس هؤلاء هو الذي له حُسن تدبير وجودة احتيال في أن يستعملهم فيما ينالون به الأشياء الضرورية، وحسن تدبير في حفظها عليهم، أو الذي يبذل لهم هذه الأشياء من عند نفسه. (Political Regime C, 2, 94: 77).
وللوهلة الأولى يبدو أن هذا هو ما يجب أن ينجزه الحُكم الجيد. فجميع المهن والصناعات اللازمة لاستمرار العيش في المدينة موجودة. وليس الحاكم بأي حال من الأحوال طاغيةً يستغل رعيته، ولكنه يساعد المواطنين في الحصول على هذه السلع، ويحفظها عليها ويوزعها بينهم. وعلى الرغم من ذلك فإن ما يفتقر إليه هذا النوع من المجتمعات هو ما ورد في الجملة الأولى من الاقتباس: حيث يتجه “التعاون إلى اكتساب ما هو ضروري في قوام الأبدان” حصريًّا. ومن ثَمَّ فإنه يتجاهل الغرض المناسب للمجتمع، أي تعزيز الغاية الطبيعية للإنسان، وهو الأمر الذي يفترض مسبقًا سلامةَ الأجساد بالتأكيد، ولكن لا يمكن اختزاله فيها.
إن المجتمع، وفقًا للفارابي، كما يمكن استنتاجه من هذه الملاحظات؛ يجب أن يكون مشروعًا مشتركًا، يستند على الفهم الحقيقي للواقع ومبادئه، ويسترشد بالدين، الذي يترجم هذا الفهم أولاً: إلى عقائد مفهومةٍ على المستوى العام، أي التشبيهات، وثانيًا: إلى أنشطة تناسب تنقية نفوس المواطنين وإعدادهم لتحصيل السعادة، ومن ثَمَّ فمن الواضح أنه يجب أن يتجاوز مجرد تلبية الاحتياجات والرغبات اليومية. ولذلك يخلص الفارابي إلى أن:
الرئيس الأول للمدينة الفاضلة قد عرف الفلسفة النظرية على التمام، لأنه لا يمكن أن يقف على شيء مما في العالم من تدبير الله تعالى حتى يأتسي به إلا من هناك. ويتبين مع ذلك أن هذه كلها لا تمكن إلا أن تكون في المدن ملة مشتركة تجتمع بها آراؤهم واعتقاداتهم وأفعالهم وتأتلف بها أقسامهم وترتبط وتنتظم، وعند ذلك تتعاضد أفعالهم وتتعاون حتى يبلغوا الغرض الملتمس وهو السعادة القصوى. (Book of Religion [*كتاب الملة] 27: 113)
-
ملاحظات ختامية
تحولت العلاقة بين الفلسفة والدين إلى علاقة خاصة إلى حدٍّ ما في فكر الفارابي. وأصبحت الفلسفة، أو بالأحرى الميتافيزيقيا؛ الطريق الوحيد للتقدم إلى التفسير الأكثر عمقًا لكل ما هو موجود بالإضافة إلى الواجبات الطبيعية للإنسانية التي تفرضها المعطيات الطبيعية. ووفقًا لذلك يستطيع فيلسوف ممتاز أن يسعى لتحصيل السعادة دون الحاجة إلى الدين. ولكن لا يستطيع الدين أن يصل إلى السعادة من دون الفلسفة، وكذلك المجتمع من باب أولى. وبالنظر إلى ما هو على المحكّ في حالة الفشل في فهم الحقيقة ونقلها، فإن الضغط الذي يمارس في هذه النظرية على الفلسفة، وإلى حد ما أقل على الدين؛ هائل. لا يستطيع المجتمع تحقيق مهمته من دون الفلسفة والدين معًا، ولا من دون حكومة تنقل له بوعيٍ الواجباتِ النظرية والعملية: والنتيجة المنطقية لذلك، وبصرف النظر عن عدد قليل من الفلاسفة “بالولادة”؛ أنه سيفشل البشر في تحصيل السعادة الفردية.
وفي حين يشكِّل هذا الأمر تهديداتٍ خطيرةً على المستوى العملي؛ فيبدو أنه بقدر ما يتعلق الأمر بالأنثروبولوجيا الأساسية فإن الفارابي يؤيد وجهة نظر متفائلة للغاية. فهو مقتنع بأن كل الأمور التي يجب العلم بها وفعلها للوصول إلى السعادة الفردية؛ هي أشياء قابلة للتحقيق بفضل القدرات الطبيعية للإنسانية. وعلى هذا النوع فليس ثَمَّ حاجة إلى الوحي كنوع من خرق الطبيعة. وبدلًا من ذلك، وكما نفهم من الفارابي، هناك العديد من الدلائل التي يمكن العثور عليها في الواقع ومبادئه، والتي تعلم الإنسانية عن السعادة. وعلاوة على ذلك فهناك نماذج وفيرة، تترواح بين النظام الكوني إلى تركيب الكائنات الأكثر بدائية، والتي تحتاج فقط إلى محاكتها لتوجيه الإنسانية نحو هدفها النهائي. وأخيرًا وليس اَخرًا ثَمّة فلاسفة اكتشفوا هذه المعطيات الطبيعية واَثارها وأدركوها منذ قرون مضت(32). ومن ثَمَّ، فإن الشيء الوحيد المتبقي الذي لا يزال يتعيّن القيام به، وفق رأيه؛ هو وضع هذه التصورات موضع التنفيذ.
الببلوغرافيا
المصادر الأولية المترجمة إلى الإنجليزية
- Al-Fārābī, Attainment [of Happiness], in Alfarabi, 1962, Philosophy of Plato and Aristotle, trans. with an intro. by M. Mahdi, Glencoe, IL: Free Press, pp. 13–50 (revised ed. with a foreword by C.E. Butterworth and T.L. Pangle, Ithaca and New York: Cornell University Press, 2001, pp. 13–50; quotations in this entry are based on this revised edition).
- –––, Book of Religion, in Alfarabi 2001: 93–113.
- –––, Enumeration [of the Sciences], Chapter Five (on philosophy of society, jurisprudence, and theology), in Alfarabi 2001: 76–92.
- –––, Perfect State, in Alfarabi, 1985, On the Perfect State ((مبادئ آراء أهل المدينة الفاضلة revised text with intro., trans., and comm. by R. Walzer, Oxford: Clarendon Press (reprint 1998; quotations in this entry are based on this reprint).
- –––, Political Regime, in Alfarabi, 2015, The Political Writings: “Political Regime” and “Summary of Plato’s Laws”, trans. and annot. by C.E. Butterworth, Ithaca and London: Cornell University Press, pp. 27–94.
- –––, Selected Aphorisms, in Alfarabi 2001: 11–67.
- –––, Commentary, in Al-Fārābī, 1981, Al-Farabi’s Commentary and Short Treatise on Aristotle’s “De Interpretatione”, trans. with an intr. and notes by F.W. Zimmermann, Oxford et al.: Oxford University Press (reprinted with corrections 1991, pp. 1–219; references in this entry are to this reprint).
- –––, 2001, The Political Writings: “Selected Aphorisms” and Other Texts, trans. and annot. by C.E. Butterworth, Ithaca and London: Cornell University Press.
المراجع الثانوية باللغات الغربية
- Adams, F., 1844–1847, The Seven Books of Paulus Aegineta, 3 vols., London: Sydenham Society.
- Afsaruddin, A. (ed.), 2011, Islam, the State, and Political Authority: Medieval Issues and Modern Concerns, New York, NY: Palgrave McMillan.
- Baffioni, C., 2002, “Al-Madīnah al-Fāḍilah, in al-Fārābī and in the Ikhwān al-Ṣafāʾ: A Comparison”, in Studies in Arabic and Islam: Proceedings of the 19th Congress, Halle 1998, S. Leder (ed.), Leuven et al.: Peeters, pp. 3–12.
- Black, D.L., 1990, Logic and Aristotle’s “Rhetoric” and “Poetics” in Medieval Arabic Philosophy, Leiden and Boston: Brill.
- Burrell, D., 2013, “From al-Fārābī to Mulla Ṣadrā: The Two Phases of Islamic Philosophical Theology”, in Philosophy and the Abrahamic Religions: Scriptural Hermeneutics and Epistemology, T. Kirby, R. Acar, and B. Bas (eds.), Newcastle: Cambridge Scholars Publishing, pp. 279–295.
- Butterworth, C.E., 1991, “Al-Farabi’s Statecraft: War and the Well-Ordered Regime”, in Cross, Crescent and Sword: The Justification and Limitation of War in Western and Islamic Tradition, J.T. Johnson and J. Kelsay (eds.), New York, NY: Greenwood Press, pp. 79–100.
- –––, 2008, “What Might We Learn from al-Fārābī about Plato and Aristotle with Respect to Lawgiving?”, Mélanges de l’Université Saint-Joseph, 61: 471–489.
- –––, 2011, “Alfarabi’s Goal: Political Philosophy, Not Political Theology”, in Afsaruddin 2011: 53–74.
- –––, 2013, “Law and the Common Good: To Bring about a Virtuous City or Preserve the Old Order”, in Mirror for the Muslim Prince: Islam and the Theory of Statecraft, M. Boroujerdi (ed.), Syracuse, NY: Syracuse University Press, pp. 218–239.
- Campanini, M., 2011, “Alfarabi and the Foundation of Political Theology in Islam”, in Afsaruddin 2011: 35–52.
- Çevik, M., 2010, “Farabi’s Utopia and Its Eschatological Relations”, Journal of Islamic Research, 3 (2): 173–178.
- Crone, P., 2004, “Al-Fārābī’s Imperfect Constitutions”, Mélanges de l’Université Saint-Joseph, 57: 191–228.
- Daiber, H., 1986, “Prophetie und Ethik bei Fārābī”, in L’homme et son univers au moyen âge, vol. 2, C. Wenin (ed.), Louvain-la-Neuve: Editions de l’Institut supérieur de philosophie, pp. 729–753.
- –––, 1991, “The Ismaili Background of Fārābī’s Political Philosophy: Abū Ḥātim ar-Rāzī as a Forerunner of Fārābī”, in Gottes ist der Orient: Gottes ist der Okzident, U. Tworuschka (ed.), Köln and Wien: Böhlau, pp. 143–150.
- Druart, T.-A., 1997, “Al-Fārābī, Ethics, and First Intelligibles”, Documenti e studi sulla tradizione filosofica medievale, 8: 403–423.
- El-Rayes, W.M., 2013, “The Book of Religion’s Political and Pedagogical Objectives”, Interpretation: A Journal of Political Philosophy, 40 (2): 175–197.
- Galston, M., 1990, Politics and Excellence: The Political Philosophy of Alfarabi, Princeton, Princeton University Press.
- –––, 1992, “The Theoretical and Practical Dimensions of Happiness as Portrayed in the Political Treatises of al-Fārābī”, in The Political Aspects of Islamic Philosophy: Essays in Honor of Muhsin S. Mahdi, C.E. Butterworth (ed.), Cambridge, MA: Harvard University Press, pp. 95–151.
- Genequand, C., 2008, “Loi morale, loi politique: Al-Fārābī et Ibn Bāǧǧa”, Mélanges de l’Université Saint-Joseph, 61: 491–514.
- Geoffroy, M., 2012, “Raison et foi ou raison et Loi: Le philosophe et la cité selon Averroès, d’après al-Fārābī et Ibn Bāǧǧa (Avempace)”, in The Medieval Paradigm: Religious Thought and Philosophy, G. D’Onofrio (ed.), Turnhout: Brepols, pp. 381–416.
- Germann, N., 2015, “Natural and Revealed Religion”, in The Routledge Companion to Islamic Philosophy, L.X. López-Farjeat and R.C. Taylor (eds.), London and New York: Routledge, pp. 346–359.
- Griffel, F., 2009, Al-Ghazālī’s Philosophical Theology, Oxford et al.: Oxford University Press.
- Gutas, D., 1997, “Galen’s Synopsis of Plato’s Laws and Fārābī’s Talkhīṣ”, in The Ancient Tradition in Christian and Islamic Hellenism: Studies on the Transmission of Greek Philosophy and Sciences, Dedicated to H.J. Drossaart Lulofs on his Ninetieth Birthday, R. Kruk and G. Endress (eds.), Leiden: Brill, pp. 101–119 (reprint in D. Gutas, 2000, Greek Philosophers in the Arabic Tradition, Aldershot: Variorum, Nr. V).
- –––, 2004, “The Meaning of madanī in al-Fārābī’s ‘Political’ Philosophy”, Mélanges de l’Université Saint-Joseph, 57: 259–282.
- –––, 2012, “Die Wiedergeburt der Philosophie und die Übersetzungen ins Arabische”, in Rudolph 2012b: 55–91.
- Harvey, S., 2003, “Did Alfarabi Read Plato’s Laws?”, Medioevo, 28: 51–68.
- Hasnaoui, A., A. Elamrani-Jamal, and M. Aouad (eds.), 1997, Perspectives arabes et médiévales sur la tradition scientifique et philosophique grecque: Actes du colloque de la SIHSPAI, Leuven and Paris: Peeters and Institut du monde arabe.
- Heck, P.L., 2008, “Doubts About the Religious Community (milla) in al-Fārābī and the Brethren of Purity”, in In the Age of al-Fārābī: Arabic Philosophy in the Fourth/Tenth Century, P. Adamson (ed.), London: Warburg Institute, pp. 195–213.
- Janos, D., 2012, Method, Structure, and Development in al-Fārābī’s Cosmology, Leiden and Boston: Brill.
- –––, 2015, “Al-Fārābī, Philosophy”, in Encyclopaedia of Islam, THREE, K. Fleet, G. Krämer, D. Matringe, J. Nawas, and E. Rowson (eds.), Leiden: Brill, September 8, 2015.
- Lameer, J., 1997, “The Philosopher and the Prophet: Greek Parallels to al-Fārābī’s Theory of Religion and Philosophy in the State”, in Hasnaoui, Elamrani-Jamal, and Aouad 1997: 609–622.
- López-Farjeat, L.X., 2012, “Faith, Reason, and Religious Diversity in al-Fārābī’s Book of Letters”, in The Judeo-Christian-Islamic Heritage: Philosophical and Theological Perspectives, R.C. Taylor and I.A. Omar (eds.), Milwaukee, WI: Marquette University Press, pp. 193–217.
- Mahdi, M., 1990, “Al-Fārābī’s Imperfect State”, Journal of the American Oriental Society, 110: 691–726.
- –––, 1997, “Remarks on Alfarabi’s Book of Religion”, in Hasnaoui, Elamrani-Jamal, and Aouad 1997: 583–608.
- –––, 2001, Alfarabi and the Foundation of Islamic Political Philosophy, Chicago and London: University of Chicago Press.
- Maróth, M., 1978, “Griechische Theorie und orientalische Praxis in der Staatskunst von al-Fārābī”, Acta antiqua Academiae Scientiarum Hungaricae, 26: 465–469.
- Najjar, F.M., 1958, “Al-Fārābī on Political Science”, The Muslim World, 48: 94–103 (reprint 1999, Frankfurt a. M. [Islamic Philosophy, vol. 11], pp. 362–371).
- –––, 1961, “Fārābī’s Political Philosophy and Shīʿism”, Studia Islamica, 14: 57–72.
- Neugebauer, O., 1975, A History of Ancient Mathematical Astronomy, Berlin et al.: Springer.
- Neria, C.M., 2013, “Al-Fārābī’s Lost Commentary on the Ethics: New Textual Evidence”, Arabic Sciences and Philosophy, 23 (1): 69–99.
- O’Meara, D.J., 2002, “Religion als Abbild der Philosophie: Zum neuplatonischen Hintergrund der Lehre al-Fārābīs”, in Metaphysik und Relgion: Zur Signatur des spätantiken Denkens, T. Kobusch and M. Erler (eds.), München and Leipzig: K.G. Saur, pp. 343–353.
- Parens, J., 2006, An Islamic Philosophy of Virtuous Religions: Introducing Alfarabi, Albany: State University of New York Press.
- Pines, S., 1975, “Aristotle’s Politics in Arabic Philosophy”, Israel Oriental Studies, 5: 150–160 (various reprints).
- Reisman, D.C., 2004, “Plato’s Republic in Arabic: A Newly Discovered Passage”, Arabic Sciences and Philosophy, 14: 263–300.
- Rosenthal, E.I. J., 1955, “The Place of Politics in the Philosophy of al-Fārābī”, Islamic Culture, 29: 157–178 (reprint 1999, Islamic Philosophy, 10: 399–420).
- –––, 1958, Political Thought in Medieval Islam: An Introductory Outline, Cambridge: Cambridge University Press (reprint 2009).
- –––, 1974, “Some Observations on al-Fārābī’s Kitāb al-Milla”, in Etudes philosophiques offertes au Dr. Ibrahim Madkour, O. Amine (ed.), Cairo: Organisation Egyptienne Générale du livre, pp. 65–74.
- Rudolph, U., 2012a, “Abū Naṣr al-Fārābī”, in Rudolph 2012b: 363–457.
- ––– (ed.), 2012b, Philosophie in der islamischen Welt, Band 1: 8.-10. Jahrhundert, Basel: Schwabe.
- Schoeler, G., 2005, “Poetischer Syllogismus—Bildliche Redeweise—Religion: Vom aristotelischen Organon zu al-Fārābīs Religionstheorie”, in Logik und Theologie: Das “Organon” im arabischen und im lateinischen Mittelalter, D. Perler and U. Rudolph (eds.), Leiden and Boston: Brill, pp. 45–58.
- Streetman, W.C., 2008, “‘If It Were God Who Sent Them …’: Aristotle and al-Fārābī on Prophetic Vision”, Arabic Sciences and Philosophy, 18: 211–246.
- Tamer, G., 2001, Islamische Philosophie und die Krise der Moderne: Das Verhältnis von Leo Strauss zu Alfarabi, Avicenna und Averroes, Leiden and Boston: Brill.
- Taylor, R.C., 2006, “Abstraction in al-Fārābī”, Proceedings of the American Catholic Philosophical Association, 80: 151–168.
- Vajda, G., 1970, “Langage, philosophie, politique et religion d’après un traité récemment publié d’Abū Naṣr al-Fārābī”, Journal asiatique, 258: 247–260.
- Vallat, P., 2004, Farabi et l’école d’Alexandrie: Des prémisses de la connaissance à la philosophie politique, Paris: Vrin.
- –––, 2008, “Vrai philosophe et faux prophète selon Fārābī: Aspects historiques et théoriques de l’art du symbole”, in Miroir et savoir: La transmission d’un thème platonicien, des Alexandrins à la philosopie arabo-musulmane, D. De Smet, M. Sebti, and G. de Callataÿ (eds.), Leuven: Leuven University Press, pp. 117–143.
- Woerther, F., 2008, “L’interprétation de l’ēthos aristotélicien par al-Fārābī”, Rhetorica, 26: 392–416.
أدوات اكاديمية
How to cite this entry. | |
Preview the PDF version of this entry at the Friends of the SEP Society. | |
Look up this entry topic at the Indiana Philosophy Ontology Project (InPhO). | |
Enhanced bibliography for this entry at PhilPapers, with links to its database. |
مصادر أخرى على الانترنت
- Al-Farabi, at Islamic Philosophy Online
مقالات ذات صلة
Al-Farabi | Al-Farabi: metaphysics | Al-Farabi: psychology and epistemology | Arabic and Islamic Philosophy, historical and methodological topics in: Greek sources | Aristotle, General Topics: ethics | Aristotle, General Topics: political theory | Plato: ethics and politics in The Republic
الهوامش:
-
- الصفة: المدنية (مؤنث: المدني) مشتَّقةٌ من الاسم: (مدينة). وعلى هذا النحو فالمدينة هي المصطلح العربي للمصطلح اليوناني polis؛ والوصف بالمدني يقارب politikē. للوقوف على مناقشة الآثار المترتبة على هذه المصطلحات، انظر: Rudolph 2012a: 444–447; Gutas 2004.
-
- تجب الإشارة في هذا الصدد إلى التفريق بين (الكامل) و(الفاضل)، ففي حين يشير (الكامل) في الفقرة المقتبَسة إلى اكتمال شروط البداية؛ يشير (الفاضل) إلى صحة الهدف المنشود، ومطابقته للغاية الطبيعية.
-
- التفريق الأدقُّ في تحصيل السعادة بين “السعادة الدنيا في الحياة الأولى، والسعادة القصوى في الحياة الأخرى” (Attainment [تحصيل السعادة] i, 1: 13). وانطلاقًا من المفهوم الإجمالي، الذي قُدِّم في القسم 1 يبدو أن “السعادة الدنيا” تتوافق مع رفاهية المدينة وجميع أجزائها، في حين أن “السعادة العليا” أو “القصوى” تحدِّد السعادة الفردية في الآخرة. علاوة على ذلك يفرِّق الفارابي بين “السعادة الحقيقية” و”السعادة المظنونة” [منها ما هي في الحقيقة سعادة، ومنها ما هي مظنون أنها سعادة، إحصاء العلوم (38)]، ولاسيما التفريق بين المجتمعات الفاضلة والناقصة، انظر هذه المؤشرات في القسم 4.2؛ وراجع: Enumeration [إحصاء العلوم]، 3: 78.
-
- يشير الفارابي في كتاباته الموجودة إلى الآخرة بصورة منتظمة. ومع ذلك فتجدر الإشارة إلى وجود بعض الخلاف بين الدراسات المتعلقة بالفارابي حول ما إذا كان الفارابي نفسه يوافق – في نفس الأمر – على فكرة الحياة الآخرة أم يرفضها، راجع: Rudolph 2012a: 440–442، للوقوف على نظرة عامة وإشارة إلى المواقف الرئيسة. وبما أن المدخل الحالي يعتمد على كتابات الفارابي التي بقيت موجودة، وبما أن هذه الكتابات تذكر الآخرة بوضوحٍ وتربط بينها وبين السعادة الحقيقة والفردية؛ فسوف نقدِّم نظريّتَه وفقًا لذلك. ولا يعني هذا إنكارَ احتمال أن يكون الفارابي قد دافع عن وجهة نظرٍ مختلفةٍ في كتابات أخرى قد فُقِدت (مثل شرحه على الأخلاق النيقوماخية، والذي هو أساس ذلك النزاع).
-
- بشكل عامٍّ يقبل الفارابي علم الكونيات اليوناني القديم، والذي يمكن من خلاله تقسيم الكون إلى فلك فوق قمري [سماوي]، وتحت قمري [تحت السماوي]. ففي حين يتكون الفلك القمري [تحت السماوي] من العناصر الأربعة (التراب، والماء، والهواء، والنار)، وتحدده القوانين الطبيعية؛ فإن الفلك فوق القمري [السماوي] – باستثناء الأثير (شبه المادي الذي تتكون منه أجسام النجوم والنباتات على سبيل المثال) –غير مادي، ويسكنه ما يسمى “العقول المفارِقة”، مثل “العقل الفعّال” (المزيد عنه في الهامش الآتي). تحدِّدُ الأجسام السماوية من خلال حركتِها الدائرية (الكواكب والشمس والقمر بصورة أساسية) أسبابَ الأشياء، ومن ثَمَّ القوانينَ الطبيعية للفلك تحت القمري. المثال الكلاسيكي على ذلك هو حركة المد والجزر التي تسببها الدورة القمرية.
-
- بناءً على هذه النظرية فإن “العقل الفعال” هو آخر العقول المفارقة (بحسب ترتيب الفيض أو الانبثاق). وبخلاف الأجرام السماوية (الكواكب والشمس والقمر) فإن العقل الفعّال لا يؤثر بشكل مباشر على الكيانات الجسدية في الفلك تحت القمر، ولكنه يهبُ [يُمدُّ] النفسَ البشرية بالعقل والخيال. العقل الفعال هو في الوقت نفسِه سبب وجود الأفراد الكائنين في الفلك تحت القمر (هو على حد تعبير ابن سينا “واهب الصور”)، والمبدأُ الفعّال – الذي أدخله أرسطو في علم النفس في كتابه: عن الروح De anima – هو الذي يحقِّق العقل الإنساني. للاطلاع على آراء الفارابي حول هذين الموضوعين، راجع المداخل المتعلقة: بالميتافيزيقا وعلم النفس.
-
- ثَمَّةَ سؤالٌ حول ما إذا كانت “المَلَكة” (أي: قدرة العقل الأساسية على استقبال المعقولات بتجريدِ عقليّ، ومن ثَمَّ التفكير في الواقع)، و”المبدأ” (أي “العلوم الأولية والمعقولات الأولية”): يمكن من خلالها أن يفكر الإنسان بطريقة استدلالية في شيء ما ونظيره أو في شيئين متباينيْن. انظر، على سبيل المثال: Taylor 2006.
-
- كما ورد في الهامش (6)؛ فإن مصدر الإلهام وخلفية الفارابي في علم النفس ترجع إلى كتاب: عن الروح De anima لأرسطو. وفقًا لذلك، وانطلاقًا من رؤية أرسطو، يعتقد الفارابي أن العقل البشري يحتاج إلى التحقُّق (ومن ثم يُصبح “العقل بالفعل“) من أجل الفهم والتعقّل فعليًّا في الواقع. فإذا استعمَل إنسانٌ ما – فيلسوف طموحٌ على سبيل المثال – عقلَه باستمرار، وأدْرَك عددًا متزايِدًا من المعارِف والمعقولات (موضوعات العلم)؛ فإن عقله يرتقي إلى مستوًى معيَّن، يُطلق عليه الفارابي “العقل المستفاد“. وفي هذا المستوى يُشبِه العقلُ البشريُّ في جوهره العقول المفارقة والكونية تقريبًا، وبخاصةٍ “العقل الفعّال“. لمزيد من التفاصيل، راجع: المدخل الخاص بعلم النفس لدى الفارابي.
- وفقًا لـ: Selected Aphorisms [فصول منتزعة]: 81: 52-3؛ فإن هذه الحالة – التي تتوافق بشكلٍ أساسٍ مع مستوى العقل المستفاد، انظر الهامش السابق – يمكن تحقيقُها بالفعل في هذه الحياة:
(مفارَقة النفس للبدن) إنما تكون النفسُ التي تخصُّ الإنسانَ (أي أن ذلك ليس لروح الحيوانات غير البشرية)، وهو العقل النظري، فإنه إذا صار بهذه الحال؛ صار مفارقًا للبدن، سواءٌ كان ذلك البدن يحيى بأن يغتذي ويحس، أو كانت قوته التي بها يغتذي ويحس قد بطلت. فإنها إذا صارت غير محتاجة في شيء من أفعالها لا إلى الحس ولا إلى التخيُّل (أي إذا وصل إلى مستوى العقل المستفاد)؛ فقد صارت إلى الحياة الأخيرة.
سوف تصبح علاقةُ المفارقة هذه بالسعادة القصوى واضحةً في الفقرتين الآتيتين. ففي كتابه: الملة 11: 101، يصر الفارابي، على النقيض من ذلك؛ على أن السعادة الحقيقية لا تتحقق إلا في الآخرة (لاحظ أنه لا يشير هنا إلى نظريته عن العقل):
وسعادةٌ هي في الحقيقة سعادة – وهي تطلب لذاتها، ولا تطلب في وقت من الأوقات ليُنال بها غيرُها، وسائر الأشياء إنما تطلب لتُنالَ هذه، فإذا نِيلَتْ كفَّ الطلب. وهذه ليست تكون في هذه الحياة، بل في الحياة الآخرة التي تكون بعد هذه، وهي تسمى السعادة القصوى.
- لاحظ أن هذا هو مستوى العقل المستفاد المشار إليه أعلاه؛ انظر الهامش السابق مع الاقتباس من الفصول المنتزعة.
- راجع بالمثل: Political Regime B, 2, 78: 67 [السياسة المدنية]، حيث يلخص الواجبات الطبيعية لكل إنسان، تحت العناوين الآتية:
فإنه يحتاج (الإنسان) في بلوغها أن يعلم السعادة ويجعلها غايته ونصب عينيه، ثم يحتاج بعد ذلك إلى أن يعلم الأشياء التي ينبغي أن يعلمها حتى ينال بها السعادة، ثم أن يعمل تلك الأعمال.
- فيما يتعلق بنظرية المعرفة ونظرية الإدراك؛ فإن الفارابي يتبع أرسطو عن كثب. ونتيجة لذلك، تتطلب المعرفةُ بالمعنى الدقيق للكلمة فهمَ السبب لكون (س) على حالةٍ ما (مع كون س حالة معينة). ومن ثَمَّ فإنها حالة معرفية تفترض مسبقًا إتقانَ العلوم الخاصة بها (epistēmē).
- حول هذه القضية لازال من المفيد أن تنظر: Adams 1844–1847.
- يربط الفارابي نفسه بين الحرف والمهن (أو في مصطلحه: الفنون [الصنائع]، المقابلة للكلمة اليونانية technē) فيما يتعلق بالاقتباس أعلاه. حيث يشير إلى أن السعادة يمكن أن تختلف في الكيفية. تُقرأ الجملة الأخيرة من الاقتباس أعلاه، ويتبعها مباشرة (المرجع نفسه. 267-8):
والسعادات تتفاضل… وذلك شبيه بتفاضل الصنائع ههنا. فتفاضُل الصنائع بالنوع هو أن تكون صناعات مختلفة بالنوع… مثل الحياكة وصناعة البز وصناعة العطر وصناعة الكناسة…. والتفاضل في الكيفية هو أن يكون اثنان احتويا من أجزاء الكتابة على أشياءَ بأعيانها، ويكون أحدهما أقوى فيما احتوى عليه وأكثر دراية، فهذا هو التفاضل في الكيفية. والسعادات تتفاضل بهذه الأنحاء أيضًا.
- بمعنى (فاضل) وليس فقط (كامل)، انظر الهامش (2) أعلاه.
- على عكس نموذجِه أرسطو؛ فإن الفارابي مقتنع أنَّ كل إنسان يستطيع، بطريقةٍ ما (انظر القسم 2 الآتي) الوفاء بواجباته الطبيعية، بما في ذلك متطلبات المعرفة. فلا يتبع أرسطو في التفريق بين الأحرار والعبيد، ولا بين الرجال والنساء. بل على العكس من ذلك، فقد أكّد الفارابي بوضوح، أنه فيما يتعلق بالملكة البشرية العقلية، فإن الرجال والنساء موهوبون بها على حدٍّ سواء (بينما لا يذكر العبيدَ صراحةً في أي موضع)، انظر: Perfect State [المدينة الفاضلة] IV, 12, 8: 197: “وأما في القوة الحاسّة وفي المتخيلة وفي الناطقة؛ فليسا يختلفان [أي الذكر والأنثى]”.
- قد يكون من الجدير بالذكر أن مشكلة حرية الإرادة (والفعل) كانت نقطةً نوقِشت بشدة في اللاهوت الإسلامي المبكر. يقف الفارابي في الأساس مع المعتزلة، وهي مجموعةٌ أصبحت مهمَّشةً تدريجيًّا في عصره، وترفض تلك المواقفَ التي ستهيمن بشكل متزايد على الفكر السنّي السائد (الأشعري). لمزيد من المراجع، انظر: Encyclopaedia of Islam (online resource). وحول موقف الفارابي من حرية الإرادة، انظر: Griffel 2009، وبخاصة 139-141. يتناول الفارابي هذه المسألة في شرحه على كتاب أرسطو: في العبارة On Interpretation، وبخاصة 76-78، و91-96.
- مصطلح (الأكثر كمالًا) من عندي، وقد استعملته من أجل التأكيد على الوضع الفريد الذي يعزو إليه الفارابي السبب الأول، انظر على وجه الخصوص، Perfect State [المدينة الفاضلة] I, 1: 57–89، وهنا على سبيل المثال، ص 59: “لا يمكن أن يكونَ وجودٌ أصلًا مثل وجوده، ولا أيضًا في مثل مرتبة وجودِه وجودٌ يمكن أن يكون له أو يتوافر عليه”. للوقوف على تحليل لمفهوم الفارابي حول السبب الأول [العلة الأولى]، انظر: Janos 2012: 180–189.
- حول خلفية هذه المفهوم في النظرية القديمة للمناخ (راجع. Aristotle, Meteorology II, 5, 362a32-b9). وللاطلاع على مقدمة عامة، انظر على سبيل المثال: Neugebauer 1975.
- يعني هذا أنّهم “عُلِّموا” من العقل الفعّال على النحو الموصوف أعلاه في القسم 1، أي أن عقولهم تلقَّت بنجاحٍ “التكوين” الأساسي (العلوم الأولية، والمعقولات الأولية)، الذي بموجبه فقط يمكن أن تجري عملية التفكير.
- راجع القسم 1 السابق، مع الإشارة إلى درجات مختلفة من السعادة، تتناسب مع درجة الكمال التي تحققت خلال حياة الفرد. ووفقًا لذلك فسيواجِهُ الفلاسفة البارعون، بفهمهم الحقيقي والعِلْمي لما هو موجود، ملذَّاتٍ فكريّةً أكبر من الأشخاص الموهوبين (مثل النساجّين أو الكنّاسين)، ومع ذلك فإن هؤلاءِ الموهوبين مؤهَّلون أيضًا لتحصيل السعادة في الآخرة.
- راجع على سبيل المثال: Attainment [تحصيل السعادة] iii, 39: 35: “وتحصيلها (أي “النماذج الجزيئة” للفضائل النظرية والعملية، وللصناعات) بطريقين أوليين: بتعليم وتأديب. والتعليم هو إيجاد الفضائل النظرية في الأمم والمدن. والتأديب هو طريق إيجاد الفضائل الخلفية والصناعات العملية في الأمم.
- راجع السابق مع الهامش (3)، مفهوم السعادة الدنيوية (Attainment [تحصيل السعادة] i, 1: 13).
- راجع في هذا الصدد أيضًا: مقارنة الفارابي بين الرئيس الفاضل، ومهمته تجاه المجتمع، وبين السبب الأول ووظيفته الكونية، على سبيل المثال: Political Regime [السياسة المدنية] B, 3, 88: 73:
وتصير (أي المدينة التي يحكمها الرئيس الفاضل) شبيهةً بالموجودات الطبيعية، ومراتِبُها شبيهةً أيضًا بمراتِبِ الموجودات التي تبتدئ من (السبب) الأول وتنتهي إلى المادة الأولى والأسطقسات، وارتباطها وائتلافها شبيهًا بارتباط الموجودات المختلفة بعضها ببعض وائتلافها. ومدبر تلك المدينة شبيهًا بالسبب الأول الذي به وجود سائر الموجودات.
- إذا كان من الممكن تحصيل السعادة القصوى بالفعل قبل الموت (راجع الهامش (4) سابقًا)؛ فإن الرئيس الفاضل من بين الواصلين لهذه الحالة.
- راجع القسم 2 السابق أيضًا، النقل الأول: معرفة “السبب الأول” مع “الوجود غير المادي” (أي الأشياء المفارقة للمادة)، من بين الأشياء التي يجب على الجميع معرفتها من أجل تحصيل السعادة.
- لاحِظ أن الشخص الذي يتقيَّد بدينٍ معيَّنٍ، سيشعر بالثقة – من الناحية الشخصية – في عقائد دينه كفيلسوف يدافع عن موقفٍ معيَّن بموجب الأقيسة البرهانية. وما هو على المحكّ هنا، هو الحالة المعرفية الموضوعية للأحكام (المستمدَّة في نهاية المطاف من كتاب أرسطو: التحليلات الثانية [البرهان] Posterior Analytics)، والتي تتّفِق مع الرأي والقناعة في الحالة الأولى، أو تتعارض مع العلم واليقين في الحالة الثانية.
- راجع كتاب: الملة 4: 97: “الآراء المقدَّرة التي في الملة الفاضلة: إمَّا حقٌّ، وإمَّا مثالُ الحق”. فعلى سبيل المثال، فوفق هذا التصوُّر يتحدّث القرآنُ عن الله في الأغلب بطريقة مجازية (على سبيل المثال: يشير إلى عرشه، ويده، إلخ)، وقد يتناول الحقيقة أحيانًا بصورة مباشرة، فعلى سبيل المثال يؤكّد القرآن على وحدانية الله المطلقة، ويرفض بشكل قاطع أيَّ شكلٍ من أشكال الشرك.
- على أساس هذه الفكرة تنبني نظرية الفارابي للغة والمنطق. ووفق ذلك فإن هناك مستوياتٍ مختلفة يمكن أن يقع فيها الحُجَّة: فيجب أن تكون الحجة العلمية من النوع البرهاني (الأقيسة sullogismos بحسب منطق أرسطو في التحليلات الأولى Posterior Analytics). وهي النوع المتفوِّق بسبب: (أ) أنها استنتاجٌ من مبادئ أولية يقينية تمامًا أو بدهية، و(ب) أنها تجري بموجب صورة منطقية تنتج نتائج ضرورية. ونتيجة لذلك فإنه لا يمكن أن تكون النتائج على غير هذه الحالة، ومن ثم فهي نتائج يقينية تمامًا. وبخلاف البرهان، فإن الأنواع المتبقية من الحجج، وهي: الجدل، والخطابة، والشعر؛ تعمل على مناطق أضعف (على سبيل المثال، المشهورات، والمقبولات، والمسلمات)، وأشكالٍ أقلَّ تقيُّدًا، لأنها تهدف في المقام الأول إلى الإقناع، ولا تقصد إلى الحقيقة مطلقًا إلا بشكلٍ ثانويّ. الحجج الشعرية هي أضعف هذه الأنواع، لأنها ببساطة تخاطب الخيال، وتسعى بالتالي إلى إثارة قبول المستمع. راجع: Black 1990.
- حول نظرية الفارابي عن النبوة، انظر: المدخل حول علم النفس.
- راجع كتاب: الملة 7: 98–9: “والرئيس الأول قد يلحقه ويعرَض له أن لا يقدِّر الأفعال كلَّها ويستوفيها، فيقدِّر أكثرها، …، فلا تعرض كل العوارضِ في زمانه ولا في البلد الذي هو فيه، فتبقى أشياء كثيرة مما يجوز أن يعرض في غير زمانه أو في غير بلده يُحتاج فيها إلى فعل محدود مقدَّر في ذلك الشيء العارض، فلا يكون هو شرَّع فيها شيئًا، أو يعمد إلى ما يظنّ أو يعلم أنها من الأفعال الأصول، تمكِّن غيرَه أن يستخرج عنها الباقية، علْمًا منه أنه يمكن أن يستخرجها غيرُه إذا قصد قصدَه واحتذى حذوَه”.
[1] Germann, Nadja, “Al-Farabi’s Philosophy of Society and Religion”, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Summer 2018 Edition), Edward N. Zalta (ed.), URL = <https://plato.stanford.edu/archives/sum2018/entries/al-farabi-soc-rel/>.