مجلة حكمة
فشل التعددية الثقافية الفورين افيرز

فشل التعددية الثقافية: الجماعة مقابل المجتمع في أوروبا

الكاتبكنان مالك
ترجمةمحمد الرشودي
فشل التعددية الثقافية
كنان مالك كاتب ومحاضر ومقدم برامج متخصص في العلوم العصبية، وتاريخ العلوم، وكاتب مقالة “فشل التعددية الثقافية

فشل التعددية الثقافية

قبل ثلاثين سنة، رأى كثير من الأوروبيين في التعددية الثقافية [2] – بصفتها الاحتواء الشامل لمجتمع متنوع – استجابة لمشاكل أوروبا الاجتماعية. وأدّى هذا التصور ببعض السياسين البارزين، كرئيس الوزراء ديفيد كاميرون وأنجيلا ميركل، إلى الإفصاح علنًا عن خطر التعددية. وهذا ما دعم نجاح الأحزاب اليمينة والشعبوية المتطرفة في كل أوروبا، من حزب الحرية في هولندا إلى الجبهة الوطنية في فرنسا، وألهم في حالات متطرفة أعمال عنف مريعة، كالعمل الانتحاري الفظيع في تموز 2011، والذي قام به أندرس بريفيك[3] في جزيرة أوتويا في النرويج.

     كيف حصل هذا التحول؟ بناء على نقّاد التعددية، فإن أوروبا كانت قد منحت حق الهجرة لعدد مفرط من الأجانب دون مطالبة كافية بالاندماج. وعدم التطابق هذا أدّى بالتماسك الاجتماعي إلى التآكل، وبالهويات القومية إلى الانحسار، وبالثقة الشعبية إلى التدهور. وفي الجهة المقابلة، أجاب أنصار التعددية بأن المشكلة لا تكمن في ارتفاع معدل التنوع في المجتمع، بل في ارتفاع صوت العنصرية.

     لكن الحقيقة هي أن التعددية أكثر تعقيدًا مما يصف الطرفان، والجدل حولها يؤول في الغالب إلى سفسطة. أصبحت التعددية ممثِّلة لمختلف المسائل الاجتماعية والسياسية: كالهجرة، والهوية، والتعثر السياسي، وانحسار الطبقة العاملة. دولٌ متعددة كانت قد اتبعت مساراتٍ متمايزة. فالمملكة المتحدة سعت إلى منح حصة متساوية في النظام السياسي لمختلف الجماعات الإثنية. أما ألمانيا فقد شجعت المهاجرين على السعي إلى حياة منعزلة بدلاً من منحهم المواطنة. وفرنسا رفضت سياسات التعددية لصالح السياسيات الاستيعابية[4]، فكانت النتائج الدقيقة أيضًا متمايزة: فهنالك العنف الشعبي في المملكة المتحدة، كما أُزيحت الجماعات التركية في ألمانيا خارج التيار السائد في المجتمع، وأصبحت علاقة الجماعات الشمال أفريقية مشحونة مع السلطات الفرنسية. ولكن الحصيلة الشاملة في كل دولة هي نفسها: مجتمع هشّ، وأقليات نافرة، ومواطنون مستاؤون.

      كون التعددية الثقافية أداةً سياسيةً، فإن لها مهمة غير كونها استجابة للتنوع المجتمعي، فهي أيضًا أداة لتقييد هذا التنوع. وهذا التبصّر يظهر المفارقة. فسياسات التعددية الثقافية تقبل – كأمر مفروغ منه – أن المجتمعات متنوعة، ومع ذلك، يُظن ضمنًا أن هذا التنوع ينتهي عند حافة مجتمع الأقليات. ويسعى أنصار سياسة التعددية الثقافية إلى مأسسة هذا التنوع عن طريق تقسيم الشعب ووضعه في قوالب إثنية وثقافية – كجماعة مسلمة مفردة متجانسة على سبيل المثال – وتعريف حاجته وحقوقه بناء عليها. بمعنى آخر، هذه السياسيات ساعدت على إنشاء ذات الانقسامات التي أُريد معالجتها مسبقًا.

خرافة التنوع المجتمعي

إن حلّ كثير من خيوط جدالات التعددية الثقافية المتشابكة يتطلب إدراكًا لذات المفهوم. فمصطلح “التعددية الثقافية” أصبح معرِّفًا لكلٍ من المجتمع -المتنوع على وجه الخصوص والذي ينجم عادة من الهجرة – والسياسات الضرورية لإدارة هكذا مجتمع. فيجسّد بالتالي وصفًا للمجتمع، ووصفةً للتعامل معه. والخلط بين الأمرين – تصور المشكلة مع حل مفترض – جعل جوهر الجدال معقدًا أكثر، ولفضّ الختم عن هذه التعقيدات، فإننا مطالبون بتقييم كل حالة تقيممًا دقيقًا.

      اتفق كل من النقاد والمناصرين للتعددية بصورة عامة على أن الهجرة الجماعية جعلت أوروبا أكثر تنوعًا. وإلى حد ما، تبدو هذه حقيقة بديهية. فألمانيا اليوم هي ثاني أشهر وجهة للمهاجرين بعد الولايات المتحدة. ففي العام ٢٠١٣، أكثر من عشرة ملايين ألماني، أي ما يعادل ١٢٪ من السكان، وُلدوا خارجها؛ والرقم في النمسا ١٦٪؛ وفي السويد ١٥٪؛ وفي المملكة المتحدة وفرنسا قرابة ١٢٪. ومن

2015_ma_cover
غلاف مجلة الفورين أفيرز، عدد مارس/أبريل 2015 والذي يحتوي على مقالة “فشل التعددية الثقافية”

وجهة نظرٍ تاريخية، فإن الزعم بأن مجتمعات هذه الدول أصبحت ذات عناصر متعددة أكثر من أي وقت مضى ليس بدقيق كما يبدو من الوهلة الأولى. وقد تبدو المجتمعات الأوروبية في القرن التاسع عشر وحدةً متجانسة من وجهة نظر هذا العصر، لكنها، في الواقع، لم تكن تحمل ذات التصور عن نفسها في ذلك الحين.

       فلنتأمل فرنسا. في سنوات الثورة الفرنسية، على سبيل المثال، نصف السكان فقط كانوا يتحدثون الفرنسية، و١٢٪ منهم فقط يتحدثونها على وجهها الصحيح. وكما أظهر المؤرخ يوجين ويبر، فإن تحديث وتوحيد فرنسا عقب آثار الثورة تطلب عملية جراحية طويلة من الاستعمار الذاتي في شتى النواحي الثقافية والتعليمية والسياسية والاقتصادية. وهذا الجهد شكل دولة فرنسا الحديثة، وصنع ميلادًا لأفكار التفوق والسمو الفرنسية (والأوروبية) على الثقافات غير الأوروبية. لكنه دعم في ذات الوقت الحس بالتفاوت ثقافيًا واجتماعيًا، والذي كان ولا يزال حاضرًا بين أكثر السكان. وفي خطاب للمجتمع الطبي النفسي في باريس[5] عام ١٨٥٧، تساءل الاشتراكي المسيحي فيليب بوتشز[6]: كيف يمكن “أن تتشكل أعراق –ليس مجرد عرق واحد، بل عدّة أعراق– مغلوبة على أمرها ومتدنية ومنحطة، والتي قد تُصنّف بأنها أكثر انحطاطًا من غالبية الأعراق المتوحشة، في داخل شعب كشعبنا؟ وبسبب تدنّيها، فهي أحيانًا بلا علاج”. لم تكن تلك “الأعراق” التي سببت بعض القلق لبوتشز من شمال أفريقيا أو آسيا، بل من الأرياف الفقيرة في فرنسا.

      كذلك رأى كثير من البريطانيين، في العصر الڤكتوري، في أنفسهم الطبقة المدنية العاملة، ولم يكن “الآخر” إلا القروي. وهناك مقالة قصيرة في نسخة العام ١٨٦٤ من المجلة الليبرالية ذائعة الصيت في ذلك العصر، ذا ساتورداي ريڤيو[7]، عن حياة الطبقة العاملة في بيثنال غرين، شرقي لندن، حيث تمثل مدينة بيثنال غرين النموذج السائد لمكانة الطبقة المتوسطة في العصر الڤيكتوري. وتشرح المقالة القصة كالتالي: “كان فقراء مدينة بينثال غرين طبقة اجتماعية منفصلة، وعرقًا لا نعلم عنه شيئًا، فحياة أهله مختلفة كليًا في مظهرها العام عنا، فهم أشخاص لا تربطنا معهم أية صلة”. وتشير المقالة إلى أن الحال ينطبق إلى حد كبير على “الجموع الحاشدة من المزراعين الفقراء”. ورغم أن الفوارق بين العبيد والأسياد كانت تعتبر أكثر “وضوحًا” من الفوارق بين الموسرين والمعسرين، إلا أن التشابه بينهما جدُّ كبير؛ وفي الواقع، كانت الفوارق متأصلة جدًا لدرجة منع حصول “أي شكلٍ من الترابط أو المصاحبة.”

     يمثل المجتمع البنغلاديشي اليوم ذاكرة بيثنال غرين في شرقي لندن. وكثير من البريطانيين البيض يعتبرون سكانها الحاليين فقراء بيثنال غرين الجدد، فهم متميزون ثقافيًا وعرقيًا عنهم. أولئك الذين على الهامش السياسي وحسب، هم وحدهم من سيقارنون الاختلافات بين البريطانيين البيض وجيرانهم البنغلاديشيين مع نموذج السادة والعبيد. والفروق الاجتماعية والثقافية بين السادة الڤكتوريين أو أصحاب المصانع، من ناحية، والمزارع أو الميكانيكي، من ناحية أخرى، كانت في الواقع أكبر بكثير من الفروق اليوم بين الساكن الأبيض والساكن من أصول بنغلاديشية. ورغم أن الكثيرين يرون أن الاختلاف لازال بذات الدرجة كما في الماضي، إلا أن الطفل ذو الـ ١٦ سنة من أصول بنغلاديشية في بيثنال غرين، والأبيض ذو ١٦ سنة، قد يلبسان ذات الملابس، ويستمعان لذات الموسيقى، ويتتبعان نفس نادي كرة القدم. إن الأسواق، وملاعب الرياضة، والأنترنت، تصنع مجموعة من التجارب والممارسات الثقافية المشتركة التي تربطهما ببعضهما البعض أكثر مما كان في الماضي.

      اعترى الجدالات حول الهجرة طاعون أشبه بفقدان الذاكرة التاريخي. فكثير من نقاد التعددية الثقافية يرون الهجرة الحالية لأوروبا غير التي كانت في أوقات مضت. وفي كتابه تأملات حول الثورة في أوروبا[8]، أشار الصحفي كريستفور كالدويل أنه قبل الحرب العالمية الثانية، قدم المهاجرون للدول الأوروبية حصرًا من داخل أوروبا نفسها، ولهذا كان اندماجهم سهلاً. ويقول كالدويل إن “استخدام مصطلح مهاجرين لوصف الحركات داخل أوروبا منطقي بدرجة أكثر بقليل من وصف النيويوركي بـ ’المهاجر’ إلى كاليفورنيا”. وبناءً على كالدويل، هجرة ما قبل الحرب بين الأمم الأوروبية اختلفت عن هجرة ما بعد الحرب لتصبح من خارج أوروبا، ولأن “الهجرة من دول جارة لا تستثير أكثر الأسئلة التي تدعو للقلق، مثل ‘إلى أي مدى سيتناغمون معنا؟’ و’هل الاندماج هو ما يريدون؟’ والسؤال الأكثر أهمية ‘لمن ولاؤهم الحقيقي؟’”

      بسبب هذه الأسئلة بالذات، رحبت أوروبا بالمهاجرين في سنين ما قبل الحرب. وبحسب ما كتب العالم ماكس سيلڤرمان[9]، فإن تصور أن فرنسا احتوت اللاجئين من أماكن متفرقة في أوروبا بسهولة قبيل الحرب العالمية الثانية هو “وهم بأثر رجعي”. وكثير منه ينطبق على المملكة المتحدة. ففي العام ١٩٠٣، صرح شهود من اللجنة الملكية للمهاجرين الأجانب [10] بمخاوفهم من القادمين الجدد إلى المملكة المتحدة، حيث أن هؤلاء سيميلون للعيش “بناءً على تقاليدهم وأعرافهم وعاداتهم”. وقد ذكر محرر الجريدة جي. إلـ. سيلڤر[11] بأن هنالك أيضًا مخاوف من “الوهن السقيم، والمنتجات الخبيثة الأوروبية التي يمكن أن تتغلغل في السوق الإنجليزية.” فكان قانون الأجانب 1905 [12] “أول قانون أصدرته الدولة في شأن الهجرة، وقد صُمم خصيصًا لوقف تدفق اليهود الأوروبيين.” جادل رئيس الوزراء حينها، أرثر بلفور، أنه بدون هكذا قانون، فإن القومية البريطانية “لن تصبح ذاتها، ولن تصبح القومية التي يجب أن نرغب بها لتكون إرثًا تتوارثه الأجيال القادمة”. إنها، بلا لبس، الأصداء ذاتها للقلاقل المعاصرة.

العرق إلى القمّة

بقى إذًا سؤال (ما إذا كانت أوروبا اليوم حقًا أكثر تعددية من القرن التاسع عشر) خاضعًا للمناظرة، رغم أن الأوروبيين في الحقيقة يعتقدون أن ارتفاع معدل التنوع الاجتماعي أمر لا نزاع فيه. وجزء كبير من هذا يعود إلى التغيرات في الكيفية التي يعرّف بها الناس الاختلافات الاجتماعية. فقبل قرن ونصف، كانت الطبقة هي الإطار الأكثر أهمية لفهم التفاعلات الاجتماعية. وكم هو صعب أن تتصور الآن أن كثيرًا من الناس في ذاك الوقت لم يروا في الوسوم العرقية، كالاختلاف في لون البشرة، محددًا للتفاعلات الاجتماعية، بل كان الطبقة أو الوضع الاجتماعي. وأكثر مفكري القرن التاسع عشر لم يكونوا معنيين بالغرباء الذين تخطّوا حدود بلدانهم، بل كانوا معنيين بأولئك الذين سكنوا الفضائات المظلمة في دواخلهم.

       غير أن أهمية الطبقة في أوروبا، كفئة سياسية وكوصمة للهوية الاجتماعية، انحسرت خلال العقدين المنصرمين. وأصبحت الثقافة في ذات الوقت، وبشكل تصاعدي، المقياس المحوري الذي يعي الناس من خلاله الاختلافات الاجتماعية. وهذا التغير يعكس توجهاتٍ أوسع، فالانقسام الأيدولوجي الذي شكّل السياسة إلى حدٍ كبير للمئتي عام الماضية بدأ في التقهقر، وأصبحت التمايزات القديمة بين اليمين واليسار ذات معنى أقل. وأصبحت التجمعات العمّالية وأيدولوجيات سيطرة الدولة على الانتاج في انحسار، فخسرت الطبقات العاملة قوة اقتصادية وسياسية. وفي الوقت نفسه، أصبح سوق العمل يتمدد في كل ركن وزاوية من الحياة الاجتماعية. والمؤسسات التي جمعت، على نحو تقليدي، الأفراد المتفاوتين معًا، من النقابات العمالية إلى الكنيسة، بدأت تتلاشى. وبالتالي، بدأ الأوروبيون بالنظر إلى أنفسهم وإلى انتماءاتهم الاجتماعية بطريقة مختلفة. فحددوا الوحدة الاجتماعية، على نحوٍ متزايد، ليس من الناحية السياسية بل من الناحية الإثنية والثقافية، أو من ناحية المعتقد، وأصبحوا مشغولين بدرجة أقل بتقرير نوع المجتمع الذي يريدون تشكيله لانشغالهم بتحديد انتماء كل جماعة. وهاتان المسألتان بالطبع مرتبطتان بشكل وثيق، وينبغي لأي معنى للهوية الاجتماعية أن يضعهما بعين الاعتبار. لكن، ورغم أن الطيف الأيدولوجي قد صغُر، وأن ديناميكية التغيير قد تآكلت، فقد مهدت سياسة الإيدلوجيا السابقة الطريق إلى سياسة الهوية السياسية الحالية. وهي ضد الرؤية التي يرى بها الأوروبيون أوطانهم كونها على وجه الخصوص، بل الاستحالة، متنوعة، وقد صاغت سبلها للرد والمنازعة من الحياة العامة.

تحت مظلّتي

في حال وصفنا المجتمعات الأوروبية الحالية بالمتنوعة اجتماعيًا وبطريقةٍ استثنائية، فإن تعدديتها الثقافية معيبة بشكل بيّن. إذًا، ما وصفة التعددية العلاجية لهذا التنوع المجتمعي المفترض؟ خلال الثلاثة عقود الأخيرة، تبنى كثير من الأمم الأوروبية السياسات التعددية، لكنها تبنّتها بطرق متمايزة، ومقارنة تاريخية لأمتين فقط، كالمملكة المتحدة وألمانيا، وفهم القواسم المشتركة بينهما، يظهر كثيرًا من روح التعددية الثقافية.

      واحدة من أكثر الخرافات السائدة في السياسيات الأوروبية هي أن الحكومات تبنت سياسيات التعددية الثقافية لأن الأقليات أرادت أن تؤكد على اختلافها. ورغم أن السؤال عن الاندماج الثقافي بالتأكيد قد أنهك النخبة السياسية، فهي لم تُشْغِل بالها بالمهاجرين أنفسهم إلا مؤخرًا. وعندما وصل رقم ضخم من المهاجرين من الشريط الكاريبي والهند وباكستان إلى المملكة المتحدة، في أواخر الأربعينات والخمسينات في القرن العشرين، ليسدّ فراغ شحّ العمالة، خشي المسؤولون من أن هذا قد يقوّض مفهوم هوية البلاد. كما حذر تقرير حكومي، عام ١٩٥٤، قائلاً: “رقم ضخم من الجماعات الملونة، كملمح ملحوظ لحياتنا الاجتماعية، سيُضعف … مفهوم إنجلترا أو بريطانيا الذي يرتبط بكل المواطنين من السلالة البريطانية في الأمة.”

      حضر المهاجرون معهم أعراف أوطانهم وتقاليدها، والتي غالبًا ما يعتزّون بها. لكنهم كانوا نادرًا ما يُشغلون بالهم في مسألة الحفاظ على هذه الاختلافات الثقافية، فلم يخطر ببالهم أن الثقافة مسألة سياسية. لم تكن تتملكهم الرغبة في أن يُعاملوا بطريقة مختلفة، لكنهم كانوا في الواقع يُعاملون بطريقة مختلفة. فالعنصرية واللامساواة تشكلان محور الاهتمام، لا الدين ولا الإثنية. وفي العقود اللاحقة، شكّل جيل جديد من النشطاء السود والآسيوين مجموعات مثل حركات الشباب الآسيوي [13]، ومنظمة عِرْق اليوم [14]، وبدأ بالاحتجاج على مظالم التمييز في مقرّات العمل، والترحيل، ووحشية السياسات عن طريق تنظيم العصيان المدني والمظاهرات. وهذه الجهود بلغت أوجها في سلسة من الاضطرابات التي مزقت حواضر المملكة المتحدة في نهاية ١٩٧٠ وبداية ١٩٨٠.

       في هذا المرحلة، اتضح للسلطات البريطانية أنه ما لم تعط تلك الأقليات حصّتها السياسية في النظام، فإن الاضطرابات ستستمر بتهديد الاستقرار في المناطق الحضرية. وفي هذا السياق ظهرت سياسات التعددية الثقافية. وتصدرت الدولة استراتيجيةً جديدة في المجالين القومي والمحلي بتصوير المجتمعات الأفريقية والآسيوية داخل الاتجاه العام للعملية السياسية عن طريق تعيين مؤسسات محددة أو قادة للجماعة لتمثيل مصالحهم. وفي محور هذه المقاربة إعادة تعريف لمفاهيم العنصرية والمساواة، فالعنصرية الآن لا تعني ببساطة الحرمان من التساوي في الحقوق، بل تعني أيضًا الحرمان من حق أن تكون مختلفًا، والمساواة لم تعد تستلزم الحصول على الحقوق التي تتجاوز العرق والإثنية والثقافة والمعتقد؛ بل تعني التأكيد على اختلاف الحقوق بسبب تلك الفروق.

      فلنتأمل قضية برمنغهام، وهي ثاني أكثر مدينة مكتظة بالسكان في المملكة المتحدة. فقد اجتاحت الاضطرابات منطقة هاندروورث، والتي أشعلت بشرارها الاستياء العام جراء الفقر والبطالة، ومضايقة الشرطة على وجه الخصوص. شخصان قتلا وجُرح العشرات في أعمال العنف. وعلى إثر هذا الاضطراب، حاول المجلس البلدي أن يشرك الأقليات عن طريق إنشاء تسع مما يسمى بـ “مجموعات المظلة” [15]، وهي مؤسسات يفترض أن تحامي عن أعضائها في شؤون تتعلق بسياسات المدينة. قد قررت هذه اللجان احتياجات كل جماعة، وكيف ولمن يجب أن تُصرف له الموارد، وكيف يجب أن يكون توزيع القوة السياسية. لقد أصبحت الأصوات التي تنوب على نحو فعال عن الإقطاعيات المصنفة إثنيًا.

      كان مجلس البلدية يأمل في أن يجتذب الأقليات إلى العملية الديموقراطية، لكن الجماعات واجهت صعوبة في تعيين المندوبين على المستوى الفردي وعلى مستوى الجماعة. بعضهم مثّلوا جماعات إثنية، كالحركات الكاريبية والأفريقية، بينما آخرون مثّلوا جماعات دينية كـ “قنصلية الكنائس بقيادة السود”. تَنَاغمَ هذا التنوع بين الجماعات من خلال التنوع داخل الجماعة الواحدة؛ فلا يفترض أن كل من تمثّلهم اللجنة الإسلامية البنغلاديشية كانوا أتقياء بشكل متساوٍ على سبيل المثال. وعيّنت خطة المجلس البلدي حتى الآن وبفعالية كل عضو في أقلية إلى جماعة منفصلة، وحددت احتياجات الجماعة ككيان، ووضعت المؤسسات المتعددة في منافسة مع بعضها البعض لأجل موارد المدينة. ويتم إقصاء أي فرد يقع خارج هذه الجماعات المحددة من عملية التعددية الثقافية بالجملة.

      استقصى جوي وارمينغتون – مدير ما كان يُسمى في ذالك الوقت “برمنغهام رايس اكشن بارتنرشيب”، وهي مؤسسة خيرية تعمل على تقليل اللامساواة – مشكلة سياسات برمنغهام في العام ٢٠١٥، وهي أن الناس “يميلون إلى التأكيد على الإثنية كجوهر للاستحقاق. لقد أصبح مقبولاً كممارسة جيدة أن تخصص الموارد على حدود الإثنية أو المعتقد. فبالتالي عوضاً عن التفكير في تلبية احتياجات الناس أو التوزيع المنصف للموارد، أُجبرت المؤسسات على التفكير بالتوزيع حسب الإثنية”. العواقب كانت كارثية. فبعد عقدين من اضطرابات هاندروورث، في تشرين الأول عام ٢٠٠٥، انفجر العنف في الأحياء المجاورة للوزيلز (منطقة تقع غربي مدينة برمنغهام). ونذكر أنه في العام ١٩٨٥، نزل المتظاهرون الآسيويون والسود والبيض إلى الشوارع احتجاجًا على الفقر والبطالة ومضايقة الشرطة. أما في العام ٢٠٠٥، فقد كان العراك بين الآسيوين والسود. وكانت الشرارة مجرد إشاعة لم تثبت أبدًا، وهي أن مجموعة من الرجال الآسيوين اغتصبوا فتاة جمايكية. أما العراك بينهم فقد استمر طوال عطلة نهاية الأسبوع.

      لماذا تعاركت الجماعتان اللتان كافحتا جنبًا إلى جنب، عام ١٩٨٥، ضد بعضهما البعض في ٢٠٠٥؟ الإجابة تعتمد بشكل كبير على السياسات التعددية الثقافية لبرمنغهام. بناءً على استقراء أحد أكاديميي سياسات برمنغهام، فإن “نموذج الارتباط عن طريق الجماعات الإثنية يميل إلى إحداث منافسة بين جماعتي السود والأقليات الأثنية الأخرى على الموارد. فبدلاً من جعل الاحتياجات والعمل العابر للجماعة أولوية، أصبحت العادة أن تسعى مختلف الجماعات إلى زيادة حصة مصالحها.”

       بعبارة أخرى، فإن سياسات المجلس البلدي لم تعزز الشعور بالهويات الخاصة فحسب، بل قادتها إلى الخوف والاستياء من الجماعات الأخرى كونهم منافسين على القوة والنفوذ. ومن هنا يجب أن نعزز الهوية الفردية كهوية متميزة عن الهويات الجمعية، فكون الفرد بنغلاديشيًا في برمنغهام يعني أيضًا أنه ليس بإيرلندي، ولا سيخي، ولا أفريقي كاريبي. والعواقب تتمثل في تولّد ما وصفه الاقتصادي أمارتيا سن [16] بـ “الأحادية الجمعية” [17]، وهي سياسة تُقاد بأسطورة أن المجتمع يتكون من ثقافاتٍ متمايزة ومنتظمة تتراقص حول بعضها البعض. لقد رسّخت النتائج في برمنغهام الانقسامات بين المجتمعين الأسود والآسيوي لدرجة أن هذه الانقسامات برزت على شكل عنف شعبي.

منعزل وغير متساوٍ

رغم أن طريقة ألمانيا للتعددية مختلفة عن المملكة المتحدة، إلا أن النقاط المبدئية هي نفسها. واجهت ألمانيا – مثل دول أخرى في أوروبا الغربية – عجزاً كبيراً في اليد العاملة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، واستعارت العمّال الأجانب بشكل فعّال. وعكس المملكة المتحدة، فإن هؤلاء العمّال لم يأتوا من مستعمرات سابقة، بل من دول حول البحر الأبيض المتوسط: من اليونان أولاً، وإيطاليا، وأسبانيا، ثم من تركيا. ولم يأتوا كمهاجرين – رغم أنهم مازلوا أقل من أن يعتبروا مواطنين محتملين – بل كضيوف عاملين [18] يُتوقع عودتهم إلى وطنهم الأصلي بعد أن يكتفي الاقتصاد الألماني من خدمتهم. لكن مع مضي الوقت، تحول هؤلاء الضيوف، والذين يشكل الأتراك غالبيتهم، من ضرورة مؤقته إلى واقع دائم. وهذا يعود إلى اعتماد ألمانيا المستمر على العمال الأجانب، وجزئياً إلى أن المهاجرين، وأبناءهم بدرجةً أعلى، أصبحوا يرون في ألمانيا وطنًا لهم، ولكن الدولة الألمانية استمرت في معاملتهم كغرباء ورفضت منحهم المواطنة.

      كانت المواطنة الألمانية حتى وقت ليس ببعيد مبنية على مبدأ (حق الدم) [19]، بحيث لا تتحصل المواطنة إلا في حال كان أحد الأبوين مواطنًا. وهذا المبدأ لم يقص الجيل الأول من المهاجرين من المواطنة فحسب، بل أيضًا أبناءهم المولودين في ألمانيا. وفي العام ١٩٩٩، جعل قانون الجنسية الجديد تحصيل المواطنة أسهل على المهاجرين. ولكن ٨٠٠ ألف فقط تمكنوا من الحصول على المواطنة في ألمانيا من أصل ثلاثة ملايين شخص من أصول تركية.

      بدلاً من الترحيب بالمهاجرين على مبدأ المساواة، تعامل السياسيون الألمان مع ما يسمى بـ “المشلكة التركية” من خلال سياسة التعددية الثقافية. ومنذ ثمانينيات القرن الماضي، شجعت الحكومة المهاجرين الأتراك على الاحتفاظ بثقافتهم ولغتهم ونمط حياتهم. وهذه السياسة لم تمثل احترامًا للتنوع بقدر ما هي وسيلة جيدة لتجنب مسألة كيف نصنع ثقافة مشتركة وشاملة، وعاقبتها الرئيسية كانت ظهور مجتمعات موازية.

      كان الجيل الأول من المهاجرين علمانيًا بشكل عام، ونادرًا ما كان المتدينون متعصبين في معتقداتهم وممارساتهم. أما اليوم فنجد أن ثلث البالغين من الأتراك في ألمانيا يحضرون للصلاة في المسجد بانتظام، وبمعدل أعلى من المجتمعات التركية الأخرى في أوروبا الغربية، بل وأكثر من كثير من بعض المناطق في تركيا. وعلى نحو مماثل، فإن الجيل الأول من النساء التركيات تقريبًا لم يسبق لهن أن ارتدين الحجاب؛ والآن كثير من بناتهن يلبسن الحجاب. وكثير من الأتراك لا يكلف نفسه عناء تعلم اللغة الألمانية لأنه بلا أي دافع يدفع إلى المشاركة في المجتمع الوطني.

      وفيما تشجع سياسات التعددية الثقافية في ألمانيا الأتراك على التقرب من المجتمع الألماني بلا حذر، أدى ذلك بالألمان إلى النظر للثقافة التركية بمزيدٍ من العداء. فقد أصبحت هنالك أفكار منتشرة تحدد معنى أن تكون ألمانيًا، ويعود هذا جزئيًا إلى معارضة قيم ومعتقدات جماعة المهاجرين المقصاة. وقد أجرت مؤسسة ايفوب [20] الفرنسية استطلاعًا، عام ٢٠١١، أظهر أن ٤٠٪ من الألمان يعتبرون حضور مجتمعات مسلمة “تهديدًا” لهويتهم القومية. وأشار استطلاع آخر أجرته جامعة بيلفيلد [21] في العام ٢٠٠٥، أن ثلاثة من كل أربعة ألمان يعتقدون أن الثقافة الإسلامية غير ملائمة للعالم الغربي. وبدأ صعود الجماعات المناهضة للمسلمين، مثل مجموعة “أوروبيون وطنيون ضد أسلمة الغرب” [22]. وكانت المظاهرات المناهضة للهجرة التي عُقدت في مدن حول البلد في كانون الثاني الماضي هي الأكبر في الذاكرة الحديثة. واتخذ كثير من السياسيين الألمان، بمن فيهم أنجيلا ميركل، موقفًا حازمًا ضد هذه الحركات، لكن الضرر كان قد وقع سلفًا.

سياسات الباطن

فشلت الحكومة في كلٍ من المملكة المتحدة وألمانيا باستيعاب التعقيدات والتضاد في الهوية. فالهويات الشخصية مستمدة من العلاقات – والتي هي ليست مجرد ارتباطات شخصية، بل ارتباطات اجتماعية كذلك – وهي في تغير مستمر.

     خذ الهوية الإسلامية كمثال، فكثيرًا ما يجري الحديث هذه الأيام عما يسمى بالمجتمع الإسلامي، وعن آرائه، واحتياجاته، وطموحاته. لكن هذا التصور جديد بالكلية. فحتى أواخر ثمانينيات القرن الماضي، قلة من المهاجرين المسلمين رأت نفسها منتمية إلى كيان يسمى الإسلام. وهذا ليس لأنها كانت قليلة العدد. ففي فرنسا، وألمانيا، والمملكة المتحدة، كمثال، كانت هنالك في الثمانينيات مجتمعات كبيرة ومعترف بها قانونياً من المهاجرين من جنوب آسيا وشمال أفريقيا وتركيا.

      الجيل الأول من المهاجرين من شمال أفريقيا كان علمانيًا بشكل عام، كذلك كان الجيل الأول من المهاجرين الأتراك في ألمانيا. بالمقابل، كانت الموجة الأولى من المهاجرين الجنوب آسيويين في المملكة المتحدة، بعد الحرب العالمية الثانية، أكثر تدينًا. ورغم ذلك، لم يعرِّفوا أنفسهم كمسلمين في المقام الأول، بل كبنجاب أو بنغلاديشيين أو سيلهيتيين. ورغم كونهم اتقياء، إلا أنهم لم يأخذوا معتقدهم بشكل جدّي. فالكثير من الرجال كانوا يشربون الكحول، وقليل من النساء يرتدين الحجاب، بصرف النظر عن البرقع أو النقاب. والأكثرية تحضر إلى المسجد في المناسبات. ولم يكن الإسلام في منظورهم فلسفة شاملة لكل مناحي الحياة. فمعتقدهم يحدد علاقتهم بالرب، ولم يكن هوية مقدّسة في الحياة العامة.

      كان الجيل الثاني من البريطانيين من خلفيات إسلامية أقل احتمالاً حتى من أن يعرِّف نفسه عن طريق ديانته. والشيء نفسه لمن كان ولداه هندوسيين أو سيخيين. كانت المؤسسات الدينية بالكاد تُرى داخل مجتمعات الأقلية، وكانت المؤسسات التي تجمع المهاجرين معاً علمانية بشكل رئيسي، وذات طابع سياسي في الأغلب؛ ففي المملكة المتحدة، كمثال، شملت جماعات كهذه حركات الشباب الآسيوي التي حاربت العنصرية، واتحاد العمال الهنود [23] الذي ركز على حقوق العمال.

      أصبح السؤال المتعلق بالاختلافات الثقافية مهماً في أواخر الثمانينيات فقط. وبأعجوبة، تحول ذاك الجيل المندمج المتغرّب أكثر بكثير من سابقه إلى متمسك بتميّزه المزعوم. وأسباب هذا التحول معقدة. فهي مبنيّة جزئيًا على شبكة معقدة من التغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في نصف القرن المنصرم، مثل انهيار اليسار وصعود الهوية السياسية، وهي أيضًا مبنيةً جزئيًا على التطورات الدولية، مثل الثورة الإيرانية عام ١٩٧٩ وحرب البوسنة في بدايات التسعينيات، فكلا العاملين لعبا دورًا مهمًا في تزايد الاحساس المستعر ضد الهوية الإسلامية في أوروبا. وأخيرًا هي مبنية جزئيًا على سياسات التعددية الثقافية الأوروبية.

      هويات الجماعة ليست تصنيفات طبيعية؛ فهي تنبثق من التفاعل الاجتماعي. وهكذا حظيت التصنيفات الثقافية بإقرار رسمي، وجاءت التفرقة على الهوية، والتي تبدو راسخة، لفئات محددة. ففي حال تمرير الموارد المالية والقوة السياسية خلال المؤسسات القائمة على الأساس الأثني، فإن الحكومات تقدم دعمًا أصيلاً لهويات أثنية معينة، وتتجاهل البقية.

      تسعى سياسات التعددية الثقافية إلى بناء جسرٍ بين الدولة ومجتمعات الأقليات من خلال النظر إلى المؤسسات والقادة في المجتمع ليتصرفوا كوسطاء. وعادةً ما يحسب السياسيون أن ولاء الأقليات الحقيقي هو لمعتقداتها أو لجماعاتها الأثنية، فلا تجد معاملة للمسلمين والأقليات الأخرى على كونهم مواطنين، وهو ما أدى بالحكومات إلى تمرير مسؤولياتها السياسية إلى قادة الأقليات.

      وعلى صعيد آخر، فإن هؤلاء القادة نادرًا ما يمثّلون مجتمعاتهم. ولا يجدر بهذا أن يكون مفاجأة، فلا وجود لقائد أو قادة قادرين على تمثيل مجتمع أبيض واحد مثلاً. فبعض الأوروبيين البيض محافظون، وكثير منهم ليبراليون، وبعضهم لايزال شيوعياً أو فاشيًا جديدًا. وأكثر البيض لا يرون مصالحهم ممثلة بمصالح “البيض” على وجه الخصوص. فلعل للمسيحي الأبيض مصالح مشتركة مع المسيحي الأسود أكثر من الأبيض الملحد؛ ولعل للأبيض الاشتراكي منطق مثل الاشتراكي البنغلاديشي لا الأبيض المحافظ؛ وهكذا دواليك. والمسلمون والسيخ والأفريقيون الكاريبيون ليسوا بمعزل عن هذه القاعدة؛ وهنا بالتحديد يكمن الخطأ الجوهري للتعددية الثقافية.

اندمج الآن!

سياسات فرنسا الاستيعابية تعد بشكل عام القطب المضاد للتعددية الثقافية، والتي يفخر السياسيون الفرنسيون برفضها. وعلى عكس باقي دول أوروبا، فإن فرنسا تصرّ على أنها تعامل كل فرد على أساس المواطنة لا كونه عضوًا في جماعة عرقية، أو إثنية، أو ثقافية. لكن فرنسا في الواقع منقسمة اجتماعيًا كألمانيا أو المملكة المتحدة، وبطريقة مماثلة لافتة للنظر.

      أصبحت الأسئلة التي تحيط بالسياسات الاجتماعية الفرنسية، وبانقسامات البلد الاجتماعية، تحت المجهر في باريس، في كانون الثاني الماضي، عندما أطلق مسلحون مسلمون النار، ما أسفر عن مقتل ١٢ شخصًا في مكاتب مجلة تشارلي إيبدو، وأربعة يهود في سوبرماركت للمنتجات اليهودية. لقد حمّل السياسيون الفرنسيون سياسات التعددية الثقافية مسؤولية تهئية البيئة المناسبة لتغذية الجهاديين المحليين في المملكة المتحدة، وعليهم الآن الإجابة على: لماذا نشأ هؤلاء الإرهابيون أيضاً في فرنسا التي استوعبتهم؟

       يُزعم في الغالب أن هنالك قرابة ٥ ملايين مسلم في فرنسا، على اعتبار أنهم أكبر جماعة مسلمة في أوروبا الغربية. وهؤلاء الفرنسيون ذوو الأصول الشمال أفريقية، والذين وُضِعوا في سلّة واحدة، في الواقع، لم يشكّلوا مجتمعًا واحدًا قط، والذي مازال ليس بذلك المجتمع المتدين. فقد كان المهاجرون من شمال أفريقيا علمانيين بشكل عام، بل في الواقع هم غالباً معادون للدين. وأطهر تقرير نشره مركز بيو للبحوث [24] أن ٤٢٪ من مسلمي فرنسا يّعرفون أنفسهم كمواطنين فرنسيين في المقام الأول، هذا المعدل أكثر من ألمانيا، وأسبانيا، أو المملكة المتحدة. وأصبح عدد الذين انجذبوا للإسلام في تصاعد في السنوات الأخيرة. لكن حتى هذا اليوم، وبناءً على دراسة أجراها معهد ايفوب عام ٢٠١١، فإن هنالك ٤٠٪ عرّفوا أنفسهم كمسلمين مقيمين للشعائر الإسلامية، و٢٥٪ فقط يحضرون لصلاة الجمعة.

      وغالبًا ما يُوصف الفرنسيون من أصولٍ شمال أفريقية بالمهاجرين. والواقع فإن أكثريتهم من الجيل الثاني من المواطنيين الفرنسيين الذين ولدوا في فرنسا، وهم فرنسيون كأي مصوّتٍ للجبهة الوطنية. لكن استخدام مصطلحات “المسلم” و”المهاجر” كوصمات للمواطنين الفرنسيين من أصولٍ شمال أفريقية ليس مصادفة، بل هو جزء من عملية تحشد فيها الدولة أمثال هؤلاء المواطنين بطريقة تُشعرهم بأنهم ليسوا جزءاً حقيقًا من الأمة الفرنسية.

       في فرنسا – ومثله في المملكة المتحدة – واجه الجيل الأول من المهاجرين بعد الحرب العالمية الثانية مقدارًا لا بأس به من العنصرية، ثم أتى الجيل الثاني بمقدار قبول أقل بكثير للتمييز الاجتماعي والبطالة ووحشية الشرطة. فقد نظموا مظاهرات، اتسمت غالباً بالعنف، من خلال مؤسسات علمانية. والاضطراب الذي مرّ على المدن الفرنسية، في خريف ٢٠٠٥، أظهر تشظي المجتمع الفرنسي بوضوح، تماماً كما كانت المدن البريطانية في وقت مضى.

       خلال السبعينيات وبداية الثمانينيات، أخذت السلطات الفرنسية موقفًا متراخيًا من التعددية الثقافية التي تتسامح بشكل عام مع الاختلافات الثقافية والدينية في وقتٍ كان هنالك القليل ممن يعبرون عن هوياتهم بمصطلحات ثقافية أو دينية في مجتمعات الأقلية. وصك الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران [25] شعار حق الاختلاف [26]. لكن مع وضوح التوتر في المجتمعات الشمال أفريقية، ومع صعود الجبهة الوطنية كقوة سياسية، هجرت باريس هذا الشعار إلى موقف أشد تصلّبًا. كانت اضطرابات العام ٢٠٠٥، وعدم الرضا الذي عبرت عنه، ردًا على العنصرية بدرجة أقل من كونها صعودًا للتهديد الإسلامي في فرنسا. لقد رفضت السلطات الفرنسية مبدأ مقاربة المملكة المتحدة للتعددية. لكنها في الممارسة، عاملت المهاجرين الشمال أفريقيين ونسلهم بذات طريقة “التعددية” كجماعة واحدة، مسلمة بشكل رئيسي. وأصبح القلق تجاه الإسلام يعكس قلقاً أكبر حيال كارثة القيم والهوية في فرنسا حاليًا.

       وجد استطلاع أجراه مركز البحوث السياسية [27] وابسوس الفرنسيين [28]، العام ٢٠١٣، في مركز الدراسات السياسية في باريس [29] أن ٥٠٪ من الشعب الفرنسي يعتقد أن “السقوط” الاقتصادي والثقافي لبلدهم كان محتوماً. وأقل من الثلث ظنوا أن الديموقراطية الفرنسية تعمل بشكل جيد، و٦٢٪ اعتبروا “أكثر” السياسيين “فاسدين”. وفي تقرير للبولسترز [30]، وُصِفت فرنسا بالمتشظية التي انقسمت بحدود عشائرية معزولة عن التيار السياسي السائد، وفاقدة الثقة بالقادة الوطنيين، وحاقدة على المسلمين. وخلص البحث إلى أن الشعور الذي يقود المجتمع الفرنسي هو “الخوف.”

       كانت سياسات التعددية الثقافية في المملكة المتحدة وعيًا فوريًا عن مجتمع متشظ وذي مصدر واحد. والسياسات الاستيعابية في فرنسا انتهت بشكل متناقض إلى ذات النتيجة. وحاول السياسيون، في مواجهتهم لعدم الثقة والانعزال الشعبي، التأكيد على هوية فرنسية جامعة. لكنهم كانوا غير قادرين على تحديد الأفكار والقيم التي تشكّل البلد، فهاهم يفعلون ذلك بشكل رئيسي عن طريق وضع العداوات باتجاه الرموز الغريبة عليهم، كمنع البرقع في العام ٢٠١٠ على سبيل المثال. وبدلاً من قبول الشمال أفريقيين كمواطنين بأتم معنى للمواطنة، فإن السياسات الفرنسية تميل إلى تجاهل العنصرية والتمييز الذي يواجهونه. والكثيرون في فرنسا يعتبرون المواطنين ذوي الأصول الشمال أفريقية عربًا أو مسلمين لا فرنسيين. ورغم أن الجيل الثاني منهم غالبًا في حالة اغتراب عن ثقافة آبائه أو عاداتهم – ومن التيار السائد للإسلام – كما لو أنهم من مجتمع فرنسي فضفاض. هم ليسوا عالقين بين ثقافتين كما يزعم البعض غالبًا، بل هم بلا ثقافة. والعاقبة لبعضهم كانت التحول إلى الإسلاموية، وقليل منهم عبّروا عن غضبهم اللحظي عن طريق العنف الجهادي.

       السياسات الاستيعابية الفرنسية، في ذات الوقت، فاقمت من شعور العزلة في مجتمعات الطبقة العاملة التقليدية. واستخدم الجغرافي الاجتماعي كريستوفر غويلوي [31] مصطلح “فرنسا المهمّشة” [32] ليصف هؤلاء “المدفوعين للخارج عن طريق تحسين وتصفية الصناعات في المناطق الحضرية”، والذين “يعيشون بعيدًا عن المراكز الاقتصادية ومراكز صناعة القرار، وفي حالة من عدم الاندماج الاجتماعي”، وهم بالتالي “يشعرون بالتهميش”. كان ظهور فرنسا المهمشة أساسًا نتيجة للتطورات الاقتصادية والسياسية، لكن، ومثل كثير من المجتمعات الشمال أفريقية في البلاد، فقد أصبحوا يرون تهميشهم من خلال عدسة الهوية الثقافية والإثنية. وبناءً على استطلاع ابسوس ومركز البحوث السياسية، فإن ٧ من كل ١٠ أشخاص يعتقدون أن هناك “الكثير من الأجانب في فرنسا”، و٧٤٪ يعتبرون الإسلام غير متوافق مع المجتمع الفرنسي. إن تقديم الإسلام كتهديد للقيم الفرنسية لم يقوي الدور السياسي للثقافة فحسب، بل وشحذ خيبة الأمل الشعبية تجاه السياسة السائدة.

      في الماضي، كان عدم الرضا – سواء من الشمال أفريقيين أو من العمال البيض – سيؤدي إلى تدخل حكومي مباشر. لكن اليوم كلا المجموعتين أصبحتا تعبرّان عن مظالمهما من خلال الهوية السياسية. العنصريون الشعبويون والإسلاميون الرادكاليون يعبرون بطريقتهم الخاصة لنوع مشابه من الانفصال الاجتماعي في عصر الهويات السياسية.

طريق آخر

إن التعددية الثقافية والاستيعابية سياستان مختلفتان تستجيبان لذات المشكلة: تشظي المجتمع. وكلتاهما جعلتا الأمور حتى الآن أكثر سوءًا. ولقد حان الوقت للمضي إلى ما وراء الجدال العقيم بين هاتين المقاربتين. وهو ما يتطلب استيعاب ثلاثة أنواع من الفروقات.

      أولاً، على أوروبا الفصل بين التنوع الثقافي كتجربة معاشة عن التعددية الثقافية كعملية سياسية. إذ يجب أن نرحب بتجربة العيش في مجتمع متنوع بسبب الهجرات الجماعية، لكن يجب مقاومة أي محاولة لمأسسة هذا التنوع عن طريق الاعتراف بالاختلافات الثقافية.

      ثانيًا، يجب على أوروبا التفريق بين عمى الألوان والعمى تجاه العنصرية. فالاستيعابيون لجؤوا إلى معاملة الجميع كمواطنين أكفاء، وهذا أمر قيّم، بدلاً من معاملتهم كحاملي تواريخ ثقافية أو عرقية، لكن هذا يجب ألا يعني تغاضي الحكومة عن التمييز العنصري ضد جماعات معينة. فالمواطنة تصبح بلا معنى في حال عُوملت طبقات مختلفة من المواطنين بطرق متمايزة، سواء بسبب السياسات التعددية الثقافية أم العنصرية.

      أخيرًا، يجب على أوروبا التفريق بين الشعوب والقيم. متبنّو التعددية الثقافية يجادلون أن التنوع المجتمعي يدمر احتمالية القيم المشتركة. وبشكل مشابه، يقترح الاستيعابيون أن هذه القيم ممكنة فقط في مجتمع متجانس ثقافيًا، وإلى حد ما إثنيًا. وكلا الفريقين يعتقد أن مجتمعات الأقلية عبارة عن مجموعات متجانسة ومنجذبة لتشكيل معين من الصفات والمعتقدات والعقائد والقيم الثقافية، بدلاً من كونها جزءًا من الناخبين في الديموقراطية الحديثة.

      يجب ألا يكون الجدال الحقيقي بين التعددية الثقافية والاستيعابية، بل بين ميزتين من الأول، وميزتين من الأخير. فالسياسية المثالية ستتزاوج باحتضان التعددية الثقافية للتنوع الواقع – بدلاً من ميولها إلى مأسسة الاختلافات – وقرار الاستيعابية معاملة الجميع كمواطنين، بدلاً من ميولها إلى هيكلة الهوية الوطنية من خلال وصم جماعات محددة بالطارئة على الأمة. وفي الممارسة، الدول الأوروبية فعلت العكس. لقد قامت بإحدى اثنتين: سياسات تعددية تضع المجتمعات في قوالب صغيرة أو سياسيات استيعابية تُبعد الأقليات من التيار السائد.

      يجب على أوروبا أن تعيد استكشاف الحس التقدمي للقيم العليا، الأمر الذي هجره ليبراليو القارة بشكل كبير، ولو كان بطريقة مختلفة. فمن جهة، هنالك قسم من اليسار مازال يجمع بين النسبية والتعددية، ويجادل أصحابه أن أساس فكرة القيم العليا هي – بأحد المعاني – عنصرية. في الجهة الأخرى، هؤلاء المُمثّلون بالاستيعابيين الفرنسيين كالفيلسوف برنارد هنري لاڤي [33]، والذي يصرّ على نقل قيم التنوير التقليدي، لكن بصرعة عشائرية تفترض صراع الحضارات.

       كان الاتجاه السائد على سائر أوروبا هو وجوب إدارة الهجرة والاندماج من خلال سياسات الدولة ومؤسساتها. لكن الاندماج الحق، سواء كان للمهاجرين أم للسكان الأصليين، نادراً ما يجلب معه إجراءات من الدولة؛ إنه يصاغ بشكل رئيسي من المجتمع المدني، عن طريق الروابط التي يبنيها الأفراد مع بعضهم البعض، ومن خلال المؤسسات يبنون مصالحهم السياسية والاجتماعية المشتركة. إن المشكل الثابت هو هدم هذه الروابط والمؤسسات، وهذا يربط فشل السياسة الاستيعابية مع فشل السياسات التعددية الثقافية، ويشرح لماذا لم يكن الانعزال الاجتماعي مجرد سمة للمجتمعات المهاجرة، بل لمجتمع أكبر من ذلك أيضًا. ولإصلاح هذا الضرر الذي أحدثه الانعزال، ولنعيد بعث الكونية التقدمية، فإن أوروبا لا تحتاج لكثير من السياسات الجديدة، بل تحتاج إلى تجديد مجتمعها المدني.

المصدر


هوامش:

[1] The Failure of Multiculturalism: Community Versus Society in Europe – Kenan Malik (Foregin Affairs).

[2] Multiculturalism.

[3] Anders Behring Breivik.

[4] Assimilationist.

[5] Medico-Psychological Society of Paris.

[6] Philip Buchez.

[7] The Saturday Review.

[8] Reflections on Revolution in Europe – Christopher Caldwell.

[9] Max Silverman.

[10] Royal Commission on Alien Immigration.

[11] J. L. Silver.

[12] Aliens Act 1905.

[13] Asian Youth Movements.

[14] Race Today Collective.

[15] Umbrella Groups.

[16] Amartya Sen.

[17] Plural Monoculturalism.

[18] Gastarbeiter.

[19] jus sanguinis.

[20] Ifop.

[21] Bielefeld University.

[22] Patriotic Europeans Against the Islamization of the West.

[23] Indian Workers’ Association.

[24] Pew Research Center.

[25] François Mitterrand.

[26] Le droit à la difference.

[27] Center de Researches Politiques.

[28] Ipsos.

[29] D’Etudes Politiques de Paris) science po(والمعروف بـ..

[30] The Pollsters.

[31] Christopher Guilluy.

[32] The peripheral France.

[33] Bernard-Henri Lévy. 30/12/2015