مجلة حكمة
غوندري تشومسكي الصهيونية

غوندري وتشومسكي والمشكلة الصهيونية – جميل خضر / ترجمة: سهيلة عبداللطيف

جميل خضر

وما هو أكثر أهمية من ذلك هو تميّز الفيلم بالفرادة كونه يسلّط الضوء على عملية الإنتاج الفني وتحدياته المختلفة على الصعيد العاطفي والفكري والإنتاجي. فمع وجود التوتر الذي يواجهه غوندري في حضرة مثاله الأعلى، تشومسكي، وبسبب محدودية قدرته على التحدث بالإنجليزية وصراعه في اختيار التعبيرات الرسمية، يقوم غوندري بإنتاج نص جديد يعمل على اختبار حدود الأفلام الوثائقية، كنوع أدبي، واختبار الافتراضات الواقعية لهذا النوع عن طريق جعل عمليات التحرير وتأثيرها أكثر وضوحاً على حدّ قوله.

 الا ان فيلم غوندري فشل في معالجة السؤال المتعلّق بـ الصهيونية الموجود في حياة تشومسكي وفي عمله بأي طريقة نقدية أو ذات أهمية. ليس ذلك فقط، وإنما رفض الفيلم أيضاً إدراج أو استعمال ما تمّ وصفه بـ”مشكلة تشومسكي”، هذه المشكلة التي تعدّ قطعاً واضحاً يفصل بين نظريات تشومسكي اللغوية المحافظة، بل وحتى الرجعية، من جهة، وسياساته الراديكالية الأناركية من جهة أخرى. وما هو مثير للسخرية أنّه تمّ اختيار تشومسكي عام 2005 كأبرز مثقفي العالم بسبب نظرياته اللغوية ونقده الصريح لسياسة أمريكا الخارجية.

غوندري وعدم تسييس علم اللغة

ولا يرى تشومسكي أن حقليْ عمله يتفاعلان مع بعضهما البعض بشكل متبادل. ففي مقابلة له نُشرت في كتاب “مؤرّخات المعارضة” عام 1992 سُئل خصّيصاً عن الطرق التي عملت من خلالها نظرياته اللغوية على تشكيل وصياغة سياساته، فأجاب بأسلوبه المباشر والصريح “أعتقد أنها أثّرت بشكل بسيط جداً”، كما ووصف الرابط بين الحقلين بـ “الرابط الرخو” في أفضل الأحوال. ومن ثم يقوم تشومسكي بتقديم فرضيتين من أجل تفسير أي علاقة مزعومة بين الحقلين؛ الأولى فرضية منهجية والأخرى فلسفية. فعلى المستوى المنهجي، يبيّن تشومسكي أن حقل اللغويات، كحقل علمي، هو حقل يستند على “الدليل والحجة والعقل” ومن الممكن لهذه العناصر أن تنطبق على تحليله السياسي. أما على الصعيد الفلسفي، فيعتقد تشومسكي بأن مجاليْ الدراسة يشتركان، “على مستوى عميق ومجرّد، في التصوّر الأساسي لطبيعة الإنسان وفي المحرّك الذي يدفع به إلى الحرية وحقّه بأن يكون متحرّراً من الإجبار والسيطرة الخارجية”.

وبالرغم من ذلك، إلّا أن فكرة تشومسكي الثابتة والمترسّخة عن النحو الكلي (Universal Grammar)، كما يشير إليها أحد النقّاد بشكل سليم، من الممكن استخدامها للإشارة إلى أن “بعض الأشكال للبنى الاجتماعية هي أشكال طبيعية وغير قابلة للتغيير”. بالإضافة إلى ذلك، فإن إيمانه بأن المبادئ المنهجية للعلوم التجريبية من الممكن لها أن تُخفي التحيّز الثقافي والسياسي للباحث قبل دخوله المختبر. وفي النهاية قام تشومسكي بمحو وتجاهل الروابط التاريخية والمفاهيمية الموجودة بين العلوم الطبيعية والاقتصاد السياسي على وجه التحديد بالطريقة التي وُضعتْ فيها لخدمة الاستعمار الغربي.

وتم عكس عدم الترابط هذا، الموجود في أعمال تشومسكي، في فيلم غوندري من خلال التناقض الموجود بين اسم الفيلم ومضمونه، حيث أن الخيار السياسي الواضح الذي يختاره غوندري في تقويض حقيقة الأفلام الوثائقية يتعارض تماماً مع محوه المتعمّد لسياسات تشومسكي. فقد يكون غوندري منتج أفلام بارع أو حتى ثوري، ولكن السحر البارع لصوره قد أخفت في النهاية الترابط السياسي لمقاربة تشومسكي التجريبية لكل من اللغويات والسياسة وما ترتّب عليهما من نضال لأجل الحرية والمساواة ضمن سيطرة الرأسمالية العالمية.

الرابط الفرنسي: إعادة أنسنة تشومسكي

يستعيد تشومسكي في أحد مراحل الفيلم ذكرياته المتعلّقة بتجاربه مع معاداة السامية في فيلاديلفيا في مراحل الطفولة، ومن ثم يتبعه حديث عن المحرقة وهو ما يلتفّ حوله تشومسكي في حديثه عن محرقة روما في فرنسا. ولكن غوندري الذي يشعر بعدم الارتياح من هذا الحديث يقاطع مَثَله الأعلى فجأةً حين يسأله عن ذكرياته السعيدة في طفولته. ولكنه من غير الواضح تماماً فيما إذا كان يمكن أن يُعزى مثل عدم الراحة هذا تجاه نقد تشومسكي للسياسات الفرنسية أو أن يُعزى تجاه توسّعاته الثابتة والراسخة نحو المحرقة والإبادات الجماعية الأخرى التي حدثت حول العالم، بطريقة تثير أسطورة المحرقة كحدث فريد واستثنائي، وتُصوّر اليهود على أنهم “الضحايا الأزليين” في تاريخ العالم بالطريقة التي تم فيها استغلال هذه الفكرة في دعايات الحركة الصهيونية.

وفي النقاش الذي تمخّض مع غوندري عن هذا الفيلم، أصبح من الواضح جداً رؤية أن مثل هذه القضايا تُعدّ مترابطة في جوهرها. فقد وضّح غوندري بأن منهجيته في الفيلم كانت كمحاولة لفتح الأبواب أمام تشومسكي ليتم الاستماع إليه من جديد في فرنسا بعد قضية فوريسون التي حدثت عام 1979، القضية التي دافع فيها تشومسكي عن حرية التعبير لأحد ناكري المحرقة، بالرغم من عدم موافقته معه.

لقد خلّفت ردّة الفعل الفرنسية تجاه دور تشومسكي في قضية فوريسون تأثيراً عكسياً أبدياً عليه، حيث تشوّه اسمه للأبد وصار يُرى كمتعاطف مع النازيين. وكما يوضّح روبرت بارسكي في كتابه “نعوم تشومسكي: حياة من المعارضة” (دار نشر جامعة ماساتشوستس، 1997) فإن تشومسكي تمّ إقصاءه بشكل تام من الخطاب العام ومن الصحافة الفرنسية، إلى درجة أن ما كتبه تشومسكي، كطعن للمقالات التي ورّطته في القضية والتي ظهرت في المجلات الفرنسية الرئيسية، لم يتم نشرها. ولذلك، فقد كان هدف غوندري هو إصلاح صورة تشومسكي وإعادة أنسنته أمام الجمهور الفرنسي الذي خاصمه وعاداه، ولكن غوندري لا شكّ لم ينتبه إلى سخرية الموقف الذي كان لا بدّ فيه من أن يتمّ أنسنة يهودي أمام جمهور أوروبي يزعم أنه يتحسّس من فكرة إنكار المحرقة.

بغض النظر، فإن جمهور غوندري الفلسطيني يرى بأن غياب أي إطار أو سياق للمحرقة فيما يخص النكبة الفلسطينية المستمرة على وجه التحديد يعدّ إغفالاً لا يُغتفر. ففي النهاية، وكما اعترف تشومسكي نفسه في عدّة مناسبات، لقد تم استغلال موضوع المحرقة من قبل الفنانين التقنيين لدعايات الحركة الصهيونية من أجل إسكات أي نقد موجّه لأي سياسات تطهير عرقي حالية تستخدمها دولة الاحتلال العنصرية ومشروعها الاستعماري الاستيطاني الصهيوني على أرض فلسطين التاريخية كاملة.

تعلّق تشومسكي الفانتازي والخيالي: ردّ جيجاك المفقود

الصهيونية تشومسكي
سلافوي جيجك

يوضّح تشومسكي، كإجابة على أحد أسئلة غوندري في هذا الفيلم، بأن اهتمامه باللغات يمكن أن يتمّ إرجاعه إلى مشاركة والده في إحياء الثقافة العبرية، إلا أن غوندري لا يضغط على تشومسكي بتاتاً في أسئلته عن هذا الترابط السرّي أو العلني والموجود بين اهتماماته في اللغويات وانتمائه إلى الصهيونية الثقافية، وهي أيديولوجية سياسية “امتدّت جذورها من أفكار بعض الأشخاص مثل آحاد هاعام، ولكن على نحو أوسع، من التيار الصهيوني”.

وكإجابة على سؤال الكاتب عن التزام تشومسكي الأيديولوجي تجاه الحركة الصهيونية، فإن غوندري في حيرة وارتباك يكرّر الفكرة حول نقد تشومسكي اللاذع للسياسات الإسرائيلية وعزمهما على التبرّع بكافة الأموال التي يتم جمعها من عرض الفيلم إلى أطفال غزة. وكان من الممكن الذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك من خلال الملاحظة، على سبيل المثال، بأن تشومسكي تمّ رفض دخوله إلى الضفة الغربية المحتلّة عن طريق الأردن عام 2010، ذلك إلى جانب وصفه بـ “يهودي كاره لنفسه” منذ فترة طويلة. ولكن بالرغم من ذلك، فإن غوندري يبدو غير واعٍ للعلاقة البنيوية الموجودة بين نقد تشومسكي للسياسة الإسرائيلية والتزامه الأيديولوجي تجاه الصهيونية الثقافية، الأمران اللذان يمكن اعتبارهما في النهاية وجهان لعملة واحدة.

من جهة، فإن تشومسكي يفشل في التحقق من رابطة القوة والمعرفة الموجودة في موضوع الصهيونية، فهو يفصل بكل بساطة الأبعاد الثقافية للصهيونية عن تاريخها الجوهري الاستعماري وذلك من خلال تجاهل الدور المهم الذي تلعبه الثقافة في خلق ومساندة وإدامة المصالح السياسية الموجودة ضمن أهداف أنظمة القوى المهيمنة، أي الاستعمار الصهيوني لفلسطين في هذه الحالة، وهذا ما يحاجج به إدوارد سعيد بشكل أساسي في كتابه “الإستشراق”. وفي الوقت ذاته، وبالرغم من اعتراض تشومسكي، في شبابه، على خلق دولة يهودية، إلا أن إيمانه في الصهيونية الثقافية لم يكن من الممكن الحفاظ عليه دون هيكل سياسي قوي مثل الدولة اليهودية التي تدعم مثل هذا الإيمان وتقوّيه.

بالإضافة إلى ذلك، فإن تشومسكي يصرّ على رفضه الاعتراف بالتاريخ العنيف للحركة الصهيونية كجزء لا يتجزأ من الإمبريالية الغربية ومن المشروع الاستيطاني الاستعماري في فلسطين. ولا عجب أن تشومسكي يحاول إخفاء وطمس الحقائق الاستعمارية والتاريخ في فلسطين، وذلك من خلال وصفه للنضال من أجل العدالة في فلسطين على أنه صراع بين “السكّان الأصليين والمهاجرين وأسلافهم”. وبكل تأكيد، فقد انتمى تشومسكي في شبابه إلى الحركات الصهيونية اليسارية مثل حركة هاشومير هاتزير التي عزّزت فكرة “الهجرة اليهودية” لفلسطين كحل معقول لتاريخ اللاسامية الغربية، حتى وأنه خدم لمدة ستة أسابيع في أحد الكيبوتسات.

ويرى تشومسكي بشكل جليّ بأنه لا يوجد تناقض متأصّل بين إخلاصه للرؤية الاشتراكية في تكوين دولة ثنائية القومية من جهة، والمشروع الصهيوني الاستيطاني الفعلي والعنصرية ضد الفلسطينيين والتطهير العرقي لفلسطين من جهة أخرى. وعلى نحو غير مفاجئ، فإن تشومسكي قد انتهى به المطاف مؤيّداً لحل الدولتين ومفضّله على الحلّ المتعلّق بالدولة ثنائية القومية باسم الواقعية والبراغماتية. وكما صرح المؤرّخ ما بعد الصهيوني إيلان بابيه، بأنه كان قد تعاون مع تشومسكي بمشروع أو اثنين، ولكن الأول شعر بخيبة أمل عندما كانت أفكار تشومسكي المترسّخة عن الثقافة الصهيونية عائقاً أساسياً خلال عملهم.

وإلى هذا الحد، فإن موقف تشومسكي يُعدّ مميِّزاً لما أشار إليه نوح كوهين كصنف يُدعى “اعتذاريات اليسار عن الظلم في فلسطين”، حيث تقوم هذه الجدالات، كما يوضّحها كوهن بشكل مقنع، على افتراضين أساسييْن؛ الافتراض الأول هو أن المشروع الصهيوني الاستيطاني الاستعماري يُعدّ حالة استثنائية في تاريخ الامبريالية الغربية، والذي يستند على أسطورة قبل الوجودية لليهود باعتبارهم “الضحايا الأزليين” في التاريخ. أما الافتراض الثاني فمفاده أن الدعوة إلى تفكيك المشروع الصهيوني الاستيطاني الاستعماري هو أمر غير واقعي كون القوة الجغرافية – السياسية غير المتوازنة بين المستعمِر والمستعمَر لا يمكنها سوى أن تضع الأخير في مستوى النقص والخسارة. وكما يقول كوهين: “الافتراض الأول هو محاولة فاشلة من أجل تعميم أفكار العدالة. أما الافتراض الثاني فهو محاولة لجعل مثل هذه الأفكار بلا قيمة عن طريق الأفكار المتعلّقة بالواقعية”. (لقد قامت سيلا بن حبيب مؤخراً باستخدام نفس البلاغة في استعراضها لكتاب جوديث بتلر بعنوان “مفترق طرق: اليهودية ونقد الصهيونية “، حيث لا تعتقد بتلر بأننا “سنقطع شوطاً طويلاً ومهمّاً من تكرارنا للعبارة التي تقول بأن الصهيونية هي شكل من أشكال الاستعمار الاستيطاني.”)

وما هو أهم من ذلك كما يُعرَض في الفيلم من خلال حكايات ذكريات الطفولة، فإن تشومسكي لديه تعلّق ليبيدي أساسي تجاه الصهيونية الثقافية. فبكل تأكيد، الصهيونية تحتل مكاناً فانتازياً وخيالياً في أعمال تشومسكي وفي حياته، حيث تُرى على أنها الحقيقة المكبوتة التي تغذّي رغباته وهي الهدف الذي من خلاله يعمل تشومسكي على تحقيق متعته كما يقول سلافوي جيجيك. بكلمات أخرى، إن الصهيونية تشكّل المبتغى الصغير أ الخاص بتشومسكي (Chomsky’s objet petit a)، أيّ تعدّ مبتغاه الغامض وغير المفهوم والذي يكوّن ويشكّل خياله ويحقّق متعته بشكل دائم، ولكنّ سببه يظلّ غير معروف وصعب المنال. وبهذا المعنى، فإنه سيكون من المستحيل لتشومسكي أن يتقبّل الصهيونية على أرض الواقع، بالرغم من أن “حياته النفسية كاملةً تدور حولها”. ولذلك، فإن تشومسكي بإمكانه أن يتظاهر بنقده للدولة الصهيونية العنصرية، ولكنه لن يتمكّن أبدا من التعرّف أكثر على سبب رغبته وتعلّقه بالصهيونية، ولن يتمكّن من التخلّي عنه. (ما زلتُ متعجّباً من الحوار الذي دار بين تشومسكي وجيجيك، حيث لم يشارك الأخير هذا الموقف الفانتازي والخيالي حول الصهيونية في أفكار تشومسكي).

وفي إشارة لا تخلو من التهكّم والسخرية، فإن تشومسكي يمكنه الإدعاء فقط بأنّ صهيونيته يمكن فهمها بأفضل ما يكون على مستوى ما يمكن تسميته اليوم بـ”معاداة الصهيونية” وهي حالة تقلّل من النضال الموجود من كونه نضالاً ضد الاستعمار الاستيطاني الصهيوني إلى نشاطات ضد السياسات الاستبدادية الخاصة بالدولة الاسرائيلية العنصرية. والحل كما يراه تشومسكي هو ببساطة تغيير لغوي بسيط في تعريف ومعنى الصهيونية وليس في الاستمرارية البنيوية الموجودة في الفكر الصهيوني.

نحو نقد الرأسمالية العالمية: إعادة توضيح الرابط بين اللغويات والسياسة

يجادل ديفيد هوكس بشكل سليم في حديثه عن “مشكلة تشومسكي” بأن الرابط الأكثر أهمية والموجود بين نظريات تشومسكي اللغوية وسياساته هو إخفائه وطمسه لطبيعة الرأسمالية في يومنا هذا. فبالنسبة لتشومسكي كما يرى هوكس، إن الرأسمالية هي “مجلس شيوخ افتراضي” و”حكومة عالمية واقعية” والتي تُقلَّل فيه قيمة الذوات الإنسانية لتصبح في حالة من “العبودية العالمية الافتراضية”. فمع نهوض النظام الرأسمالي العالمي، كما يلخّص تشومسكي الحديث، فإن العمّال قد تمّ دمجهم في العمالة المأجورة حيث يعملون على تأجير وقتهم (حياتهم) وجهدهم مقابل سلعة مجرّدة، حتى صارت الأموال نفسها عبارة عن قوّة مستقلّة في قدرتها على إعادة الإنتاج. وعلى هذا النحو، صار العمّال مغتربين عن أنفسهم وأصبحوا يقدّرون مكانة الشيء. ولذلك، يقول تشومسكي إن الرأسمالية هي “الاسم الذي نعطيه لعملية التشييء الخاصة بنا”.

فمن ناحية، كما يقول هوكس، إن سياسة تشومسكي ترتكز على حجّة مفادها أن “الرأسمالية تتصرّف مثل وكيل مستقل يدسّ نفسه في عقل الإنسان فيقوم بإفساده بشكل منهجي ومنتظم”. أما من الناحية الأخرى، فإن نظرية تشومسكي اللغوية ترتكز على الافتراض الذي يفيد بأن البشر هم عبارة عن أشياء، “وأن أفكارنا يتم إنتاجها عن طريق العقل المادي، والبيولوجيا هي ما يحدّد طبيعتنا”. ولكن، وكما يقول هوكس، فإن هذا التشييء هو نتاج السوق الرأسمالي أكثر من كونه مسبّبه. وكما يشير هوكس أيضاً، فإن مشكلة تشومسكي هي أنه بالرغم من نقده الثاقب للنظام الرأسمالي في أعماله السياسية، “إلا أنه لا يعترف بأن هذا النظام الرأسمالي هو أيضاً شرط أيديولوجي مسبق للأسلوب الذي يستخدمه في علومه”.

اعتقد تشومسكي في بدايات حياته العملية أن “جزءاً كبيراً من السكان الفلسطينيين البائسين والمضطهدين” يمكن أن يتّحدوا “على أسس من المبادئ الإشتراكية”. يمكن لتشومسكي أن يصل إلى مرحلة تصبح فيها رؤيته للحرية والمساواة رؤية راديكالية ومثالية عندما يجتاز تصوّراته وخيالاته الصهيونية ويصبح قادراً على رؤية الصهيونية كمشروع استعماري استيطاني موجود في إطار الرأسمالية العالمية التي تعمل على تغذية الصهيونية وتعزيزها. بطريقة أكثر لطافة، يمكن القول بأن تشومسكي لن يتمكّن من التعبير عن تضامن حقيقي مع الفلسطينيين ولن يتمكّن من دعم حلاً راديكاليا للأزمة الخاصة بهم إلا حين يدرك بشكل كامل أنّه لا يملك شيئاً ليخسره. فلطالما ظلّ تشومسكي يعتقد بأن الدولة ثنائية القومية يمكن لها أن تشكّل خطراً على معنى الهوية الثقافية اليهودية وتَميّزها، فلن يكون التعاطف الحقيقي مع الآخر خياراً ممكناً ومحتملاً، ولكن هذا مشروع مختلف لفيلم راديكالي آخر.

————————————————-

الدكتور جميل خضر هو بروفيسور في الأدب الإنجليزي ومدير برنامج الدراسات الجندرية في جامعة ستيتسون، وقام بكتابة العديد من المقالات حول النسوية ما بعد الاستعمارية، والثقافة الشعبية، والنظرية الأدبية. كما أنّه مؤلّف كتاب “خرائط العالمية في الأدب النسوي ما بعد الكولونيالي: الجغرافيا والثقافة والهوية والسياسة” (كتب ليكسنغتون 2012)، بالإضافة لكونه محرر، إلى جانب مولي روثينبرغ، لمجموعة من المقالات عن الفيلسوف السولفيني سلافوي جيجيك تحت عنوان “جيجيك الآن: وجهات نظر حالية عن دراسات جيجيك” (بوليتي 2013). وقد ظهرت تعقيباته السياسية على الجزيرة بالانجليزية، وعلى جدلية، وفلسطين كرونيكل وعلى مواقع أخرى. وشارك بهذه المقالة في موقع PalestineChronicle.com

المصدر