ملف بحثي: الدين والمجتمع ونظرية المعرفة – قراءات معاصرة في أعمال إميل دوركايم (ترجمة: محمد الحاج سليم)
I
نقترح في هذا الكتاب دراسة الدّين الأشدّ بدائيّة والأكثر بساطة من بين الأديان التي نعرفها في الوقت الرّاهن، وذلك بغرض تحليله ومن ثمّة محاولة تفسيره. ونحن نصف نسقاً دينيّاً مّا من بين الأنساق المتاح ملاحظتها بأنّه الأكثر بدائيّة إذا توفّر فيه الشّرطان التّاليان: أوّلاً، وجوده في مجتمعات هي الأبسط في تنظيمها قياساً ببقيّة المجتمعات ، ثمّ إمكانيّة شرحه دون الاستعانة بأيّ عنصر مقترض من دين سابق عليه.
وسنبذل أقصى جهدنا في محاولة وصف اقتصاد هذا النّسق بكلّ الدقّة والأمانة التي يمكن أن يتّصف بها عالم نياسة وصفيّة (اثنوغرافي) أو مؤرّخ. ولكن مهمّتنا لن تقتصر على هذا. فعلم الاجتماع يثير مسائل أخرى غير تلك التي يثيرها علم التّاريخ أو النّياسة الوصفيّة. إنّه لا يسعى لمعرفة الأشكال البائدة للحضارة بغرض وحيد هو التعرّف إليها وإعادة تركيبها، إذ أنّ موضوعه قبل كلّ شيء، شأنه شأن أيّ علم وضعيّ، هو شرح واقع راهن قريب منّا، وقادر بالتّالي على التّأثير في أفكارنا وأفعالنا: وهذا الواقع هو الإنسان، وخصوصاً إنسان اليوم، إذ لا يوجد من يستحقّ اهتمامنا بمعرفته معرفة جيّدة أكثر منه. لذا، فإنّنا لن ندرس الدّين القديم الذي سيكون موضوع بحثنا من أجل التمتّع برواية الغرائب والعجائب، فنحن لم نختره إلاّ بعد أن رأينا فيه الدّين الأكثر إتاحة لفهم الطّبيعة الدّينيّة للإنسان، بمعنى الكشف عن مظهر جوهريّ ودائم من مظاهر الإنسانيّة.
ولكن ما نقترحه لا يمكننا القيام به دون أن يثير اعتراضات قويّة. فقد يستغرب البعض أن يكون سبيلنا نحو التوصّل إلى فهم الإنسانيّة الحاضرة، هو الانعطاف عنها والانتقال نحو بدايات التاريخ. فمثل هذا النّهج يبدو مناقضاً لما نرومه من المسألة المطروحة. فالنّظرة السّائدة للأديان في الواقع، تقوم على المفاضلة بينها في القدر والشّرف، حتّى أنّها توصف عموماً بعدم تضمّنها نفس القدر من الحقيقة. ومن هنا، تبدو المقارنة بين أرقى أشكال الفكر الدّينيّ وأدناها أمراً صعب المنال دون إنزال الأولى إلى مستوى الثّانية. أفلا يقتضي القول مثلاً بإمكانيّة أن تساعدنا الأديان الفظّة للقبائل الاستراليّة على فهم المسيحيّة، القول بصدور كليهما عن نفس العقليّة، بمعنى أنّهما يتضمّنان نفس الخرافات ويستندان إلى نفس الأخطاء؟ هكذا تغدو الأهميّة النّظريّة التي نسبت أحياناً إلى الأديان البدائيّة، دليلاً على إلحاد منهجيّ يصدر أحكاماً مسبقة على نتائج البحث، وبالتّالي يفسدها.
ولسنا هنا بصدد البحث عمّا إذا كان هناك فعلاً علماء يستحقّون مثل هذا اللّوم وجعلوا من علمي التّاريخ والنّياسة الدّينيّة الوصفيّة آلة حرب ضدّ الدّين، وهو ما لا يمكن أن يمثّل على كلّ حال وجهة نظر عالم اجتماع. ذلك أنّ إحدى أهمّ المصادرات التي يقوم عليها علم الاجتماع أنّه لا يمكن لمؤسّسة بشريّة أن تقوم على خطإٍ وعلى باطل، وإلاّ لما تمكّنت من الدّيمومة. وهي إن لم تتأسّس حسب مقتضيات طبيعة الأشياء، لقاومتها تلك الأشياء عينها بما لا يمكنها التغلّب عليه. لذا، فإنّنا حين نتعرّض لدراسة الأديان البدائيّة، فإنّنا نفعل ذلك ونحن على يقين من أنّها تمثّل جزءاً من الواقع، وأنّها تعبّر عنه؛ وهو المبدأ الذي سنعود إليه باستمرار خلال التّحليل والمناقشات التي ستتلو هذا، وما نأخذه على المدارس التي نختلف معها هو بالذّات عدم تقديرها هذا الأمر حقّ قدره. ولا مشاحة أنّ التقيّد بالظّاهر من شأنه أن يجعل تلك المعتقدات والممارسات الدّينيّة تبدو مربكة أحياناً، وهو ما قد يغري بنسبتها إلى نوع من الزّيغ والضّلال. ولكن يجب علينا أن نبحث في ما وراء الرّمز لبلوغ الواقع الذي يمثّله والذي يكسبه معناه الحقيقيّ. فالطّقوس الأكثر همجيّة أو الأكثر شذوذاً، والأساطير الأكثر غرابة، إنّما تترجم حاجة إنسانيّة، وجانباً من جوانب الحياة، سواء كانت شخصيّة أو اجتماعيّة. وقد تكون الحجج التي ينتحلها المؤمن لتبريرها مغلوطة، وهي كذلك في أكثر الأحيان، إلاّ أنّ الأسباب الحقيقيّة لا تزال موجودة، وعلى العلم أن يسعى إلى كشفها.
ومن هنا، فلا وجود لأديان زائفة أساساً، إذ جميع الأديان قويمة على طريقتها الخاصّة: إنّها تستجيب جميعها، ولو بطرق مختلفة، لأوضاع معيّنة من الوجود البشريّ. ومن دون شكّ، فإنّه لا يستحيل ترتيب الأديان حسب تسلسل هرميّ بحيث يمكننا وصف بعضها بأنّه متفوّق على غيره بمعنى اعتماده وظائف ذهنيّة أرقى، وأنّه أكثر ثراء في الأفكار والمشاعر، وأنّه يتضمّن مفاهيم أكثر، وأحاسيس وصوراً أقلّ، وأنّ تنظيمه أكثر عقلانيّة. ولكن رغم حقيقة وجود أديان أكثر تعقيداً وأكثر مثاليّة من غيرها، فإنّ ذلك لا يكفي لترتيبها ضمن أنواع منفصلة. إنّها جميعا أديان متساوية على غرار تساوي الكائنات الحيّة من حيث هي حيّة، من البلاستيدات الخضراء الأكثر تواضعاً وصولاً إلى الإنسان. ومن هنا، فإنّ توجّهنا صوب الأديان البدائيّة، لا يتضمّن أيّ نيّة مبيّتة في الحطّ من شأن الدّين عموما؛ ذلك أنّ هذه الأديان لا تقلّ جدارة بالاحترام عن غيرها. إنّها تستجيب لنفس الضّرورات، وتلعب نفس الدّور، وهي خاضعة لنفس الدّواعي؛ ومن هنا قدرتها أيضاً على كشف طبيعة الحياة الدّينيّة، وبالتّالي حلّ المسألة التي نروم معالجتها.
ولكن لم أعطيناها نوعاً من الامتياز؟ لم خصصناها دون غيرها بالدّراسة؟- لأسباب تتعلّق بالمنهج فحسب.
أوّلاً، لا يمكننا التوصّل إلى فهم الأديان المتأخرّة الظّهور إلاّ بتتبّع كيفيّة تكوّنها تدريجيّاً في التّاريخ. وبالفعل، فالتّاريخ هو طريقة التّحليل البيانيّ الوحيدة التي يمكن تطبيقها في هذا المجال، وهو الوحيد الذي يتيح لنا تحليل مؤسّسة ما إلى عناصرها الأولى، لأنّه يظهرها لنا وهي تتولّد في الزّمن واحداً بعد آخر. ومن ناحية أخرى، فإنّ تعيين موضع كلّ عنصر منها من مجمل الظّروف التي ظهر فيها، يوفّر لنا الوسيلة الوحيدة التي تمكّننا من تحديد الأسباب التي أدّت إلى ولادته. ومن هنا، فإنّ محاولة تفسير شيء إنسانيّ في لحظة معيّنة من الزّمن – سواء تعلّق الأمر بمعتقد دينيّ أو قاعدة أخلاقيّة أو مبدأ قانونيّ أو تقنية جماليّة أو نظام اقتصادي – يقتضي أوّلاً أن نبدأ بالعودة إلى شكله الأكثر بدائيّة والأكثر بساطة، ومحاولة تحديد الخصائص التي كانت تميّزه في تلك الفترة من وجوده، ومن ثمّ إظهار كيفيّة تطوّره وتعقّده تدريجيّاً وصولاً إلى ما هو عليه في تلك اللّحظة المعيّنة.
وفي هذه الحالة، يمكننا أن ندرك بيسر الأهميّة الكبرى لتحديد نقطة البداية التي تتعلّق بها تلك السّلسلة من التّفسيرات المتدرجّة. إنّه نفس المبدأ الدّيكارتي القائل بالدّور المهمّ الذي تلعبه الحلقة الأولى في سلسلة الحقائق العلميّة. وواضح هنا أنّ الأمر لا يتعلّق هنا باعتماد مفهوم مصاغ على الطّريقة الدّيكارتيّة أساساً لعلم الأديان، أي اعتماد مفهوم منطقيّ هو محض احتمال عقليّ فحسب، إذ أنّ ما يجب علينا إيجاده هو واقعة محسوسة لا يمكن كشفها إلاّ بالملاحظة التّاريخية والنّياسيّة. ولكن إذا كان الحصول على هذا التصوّر الجذريّ ينبغي أن يتمّ باستخدام أساليب مختلفة، فإنّه لا مندوحة من أن يكون له تأثير كبير على كلّ سلسلة القضايا التي يطرحها العلم. لقد تمّت إعادة تصوّر التطوّر البيولوجي بطريقة مخالفة تماماً لما كان سائداً انطلاقاً من اللّحظة التي عرفنا فيها بوجود كائنات وحيدة الخليّة. وبالمثل، فإنّ تفاصيل الوقائع الدّينيّة تفسّر بطرق مختلفة باختلاف ما نعتبره أصل تطوّرها، سواء كان ذلك المذهب الطّبيعيّ أو الأرواحيّة أو أيّ شكل آخر من أشكال الدّين. فحتّى أكثر العلماء تخصّصاً، إذا ما كانوا يريدون عدم قصر أعمالهم على مهامّ دراسيّة محضة وسعوا إلى معرفة الحقائق التي يقومون بتحليلها، سيجدون أنفسهم مضطرّين لاختيار واحد من هذه الافتراضات واستلهامه. فسواء شاؤوا أم أبوا، فإنّ ما يطرحونه من أسئلة سيأخذ بالضّرورة الشّكل التّالي: كيف كان من المحتّم أن يتّخذ المذهب الطبيعيّ أو الأرواحيّة هنا أو هناك، ذاك الشّكل المخصوص بالذّات، وأن يغتني أو يفتقر بهذه أو تلك من الطّرق؟ ونظراً إلى استحالة تجنّب عدم اتّخاذ موقف محدّد بشأن هذه المسألة المبدئيّة، وبما أنّه سيكون للحلّ المتبنّى تأثير على مجمل العلم، فإنّه لا مندوحة من مواجهتها؛ وهذا ما نعتزم القيام به.
وبعيداً عن هذه الانعكاسات غير المباشرة، فإنّ لدراسة الأديان البدائيّة بحدّ ذاتها فائدة مباشرة على درجة كبيرة من الأهميّة.
وإذا ما كان من المفيد، في الواقع، معرفة ماهيّة دين معيّن، فإنّ الفائدة ستكون أعظم لو امتدّ بحثنا ليشمل ماهيّة الدّين بصفة عامّة. وهذه هي المسألة التي استقطبت فضول الفلاسفة على مرّ الأزمان، ولم يكن ذلك إلاّ لسبب وجيه يكمن في أنّها تمسّ البشريّة جمعاء. ولكن الطّريقة التي استخدمها الفلاسفة في الغالب لحلّ تلك المسألة كانت لسوء الحظ جدليّة بحتة: لقد اقتصروا على تحليل الفكرة التي كوّنوها عن الدّين، ولم يتجاوزا ذلك إلاّ إذا تعلّق الأمر بتوضيح نتائج ذاك التّحليل الذّهني بأمثلة منتقاة من الأديان بما يحقّق أهدافهم على الوجه المطلوب. ولكن إذا كان علينا التخلّي عن هذا المنهج، فإنّ المسألة تبقى على ما هي عليه والخدمة الجليلة التي قدّمتها الفلسفة تتمثّل في منع تغييبها بفعل ازدراء كبار العلماء لها. إلاّ أنّه يمكن إعادة طرح تلك المسألة بطرق أخرى. فبما أنّ جميع الأديان متشابهة لأنّها لا تعدو أن تكون تنويعات من نفس الجنس، فهي تتضمّن بالضّرورة عناصر جوهريّة مشتركة. ونحن لا نقصد بهذا فحسب الخصائص الخارجيّة والظّاهرة التي تتّصف بها جميع تلك العناصر بنفس القدر والتي تسمح – منذ بداية البحث- بتعريفها بصفة مؤقّتة؛ إذ أنّ اكتشاف تلك العلامات الظّاهرة سهل نسبيّاً، ما دامت الملاحظة التي يتطلّبها ذلك لا تتجاوز سطح الأشياء. ولكن هذا التّشابهات الخارجيّة تفترض وجود أخرى عميقة. ففي أساس جميع نظم الاعتقاد وجميع الأديان، لا بدّ ضرورة من وجود عدد من التصوّرات الأساسيّة والمواقف الطّقوسيّة التي تحمل جميعها، رغم اختلاف الأمكنة وتنوّع الأشكال التي يمكن أن تتلبّس بها، نفس الدّلالة الموضوعيّة وتقوم بالوظائف نفسها. هذه هي العناصر الدّائمة التي تشكّل ما هو خالد وإنسانيّ في الدّين، إنّها كلّ المضمون الموضوعيّ للفكرة التي نعرب عنها حين نتحدّث عن الدّين بشكل عامّ.
فكيف يمكن إذن الوصول إليها ؟ من المؤكّد أنّ ذلك لن يكون بملاحظة الأديان المعقّدة التي تظهر متأخّرة في التّاريخ. فكلّ منها يتكوّن من عناصر يصل تنوّعها حدّاً يصعب معه التّمييز بين ما هو أساسيّ وما هو ثانوي منها، وبين ما هو جوهريّ وما هو ملصق فيها. ولنأخذ بعض الأديان مثل أديان مصر والهند أو العصر القديم الكلاسيكيّ! إنّها تمثّل أجمة متداخلة من العبادات المتعدّدة والمتغيّرة بتغيّر المدن والمعابد والأجيال والسّلالات الحاكمة والغزوات، وما إلى ذلك، وتختلط فيها الخرافات الشّعبية مع أرقى العقائد. ولا وجود فيها لفكر أو نشاط دينيّ موزّع بالتّساوي بين حشد المؤمنين؛ فالمعتقدات كما الطّقوس يشعر بها بطرق مختلفة بحسب اختلاف البشر والبيئات والظّروف. إنّك تجد كهنة هنا ورهباناً هناك وعلمانيّين في مكان آخر؛ وهناك المتصوّفون والعقلانيّون، واللاّهوتيّون والأنبياء، إلخ. وفي مثل هذه الظّروف، يعسر تبيّن ما هو مشترك بين الجميع. وقد نجد طريقة فعّالة لدراسة إحدى الوقائع الخصوصيّة التي تطوّرت في هذا النّسق أو ذاك من بين تلك الأنساق، كالتّضحية أو النبوّة أو الرّهبنة أو السرّانيّة؛ ولكن كيف يمكن بلوغ الأرضيّة المشتركة للحياة الدّينيّة القابعة تحت الغطاء الكثيف الذي يحجبها؟ كيف يمكن التوصّل، وراء تصادم علوم اللاّهوت وتغيّرات الطّقوس وتعدّد الجماعات وتنوّع الأفراد، إلى المبادئ الأساسيّة، أي خصائص العقليّة الدّينيّة بشكل عامّ؟
إنّ الأمر يختلف تماماً في المجتمعات الدّنيا. فالتطوّر الضّئيل للفردانيّات، والتمدّد الضّعيف للجماعات، وتجانس الظّروف الخارجيّة، أمور تساعد كلّها على التّقليل من الاختلافات والتباينات إلى أدنى حدّ ممكن. كما أنّ الجماعة البشريّة تحقّق، على نحو منتظم، اتّساقاً فكريّاً وأخلاقيّاً لا نجد سوى أمثلة قليلة عنه في المجتمعات الأكثر تقدّماً. فالكلّ مشترك بين الجميع، والتحرّكات منمّطة، إذ أنّ الجميع يعمل نفس الشّيء في نفس الظّروف، بحيث يعكس هذا التّطابق في السّلوك التّطابق في الفكر. وبما أنّ جميع الضّمائر منجذبة إلى نفس الدوّامة، فإنّ النّمط الفرديّ يكاد يتطابق مع النّمط العامّ. فالكلّ متّسق، والكلّ في نفس الوقت بسيط، ولا وجود لما هو فظّ على غرار تلك الأساطير المؤلّفة من موضوع واحد يتكرّر إلى ما لا نهاية، أو تلك الطّقوس المكوّنة من عدد محدود من الحركات المكرّرة إلى حدّ الإشباع. لم يتوفّر للخيال الشّعبيّ أو الكهنوتيّ آنذاك لا الوقت ولا الوسائل لتهذيب المادّة الأوليّة الخام للأفكار والممارسات الدّينيّة وتطويرها؛ وهذا ما يجعلها تعرض نفسها عارية للملاحظة التي ليس عليها سوى بذل أقلّ جهد ممكن لاكتشافها. ولم يتسنّ بعد لما هو كماليّ وثانويّ، وللتطوّرات الباذخة أن تنشأ وتخفي ما هو رئيسيّ . فكلّ شيء مختزل إلى الضّروري، إلى ما لا يمكن أن يكون دين بدونه. ولكن الضّروريّ هو الجوهريّ أيضاً، أي ما يهمّنا بالدّرجة الأولى معرفته.
ومن هنا، فإنّ الحضارات البدائيّة تمثّل حالات مفضّلة للبحث، لأنّها حالات بسيطة. وهذا هو السّبب الذي جعل ملاحظات الإثوغرافيّين تمثّل في معظم الأحيان كشوفاً حقيقيّة ساهمت في تجديد دراسة المؤسّسات الإنسانيّة. ومن ذلك مثلاً أنّنا كنّا قبل منتصف القرن التّاسع عشر مقتنعين بأنّ الأب كان العنصر الأساسيّ في الأسرة، ولم نكن نتصوّر حتّى مجرّد إمكانيّة وجود تنظيم أسريّ لا تكون فيه سلطة الأب حجر الزّاوية. وجاء اكتشاف باخوفن (Bachofen) ليطيح بهذا التصوّر القديم. فإلى وقت قريب جدّاً، كنّا نعتبر من البدهيّ أنّ العلاقات الأخلاقيّة والقانونيّة التي تشكّل صلة القرابة لم تكن سوى مظهراً آخر من مظاهر العلاقات الفسيولوجيّة المتولّدة عن جماعة النّسب، وقد كان باخوفن وخلفاؤه مثل ماكلينن (McLennan) ومورغان (Morgan) وكثيرون غيرهم لا يزالون تحت تأثير هذا الحكم المسبق.
إلاّ أنّنا أضحينا منذ أن عرفنا طبيعة العشيرة البدائيّة، نعرف على العكس من ذلك أنّ القرابة لا يمكن أن تحدّد من خلال زواج الأقارب. ولكي نعود الى موضوع الأديان، نشير إلى قصر الدّراسة على الأشكال الدّينية المأنوسة لدينا أكثر من غيرها هو ما أدّى إلى الاعتقاد خلال فترة طويلة بأنّ مفهوم الإله هو من خصائص كلّ ما هو دينيّ، والحال أنّ الدّين الذي سندرسه في ما يلي من صفحات بعيد في جانب كبير منه عن أيّ فكرة لاهوتيّة، فيما تختلف القوى التي يتوجّه إليها بالطقوس اختلافاً كبيراً عن تلك التي تحتلّ الصّدارة في أدياننا الحديثة، إلاّ أنّ ذلك لن يمنعها من مساعدتنا على فهم هذه الأخيرة فهماً أفضل. فلا شيء إذن أكثر ظلماً من ذاك الاستخفاف الذي يبديه كثير من المؤرّخين الذين يواصلون القيام بأعمال هي من مهامّ علماء النّياسة الوصفيّة. فمن المؤكّد، على عكس ذلك، أنّ النّياسة الوصفيّة هي التي كانت غالباً وراء أخصب الثّورات في مختلف فروع علم الاجتماع، إذ لعبت دوراً شبيهاً بدور اكتشاف الكائنات وحيدة الخليّة التي ذكرناه سابقاً في تغيير فكرتنا الشّائعة حول الحياة. فبما أنّ الحياة مختزلة عند هذه الكائنات البسيطة إلى أدنى سماتها الأساسيّة، فإنّ تجاهل تلك السّمات يضحي أكثر صعوبة.
ولكن الدّيانات البدائيّة لا تسمح باستخراج العناصر المكوّنة للدّين فحسب، بل تتميّز أيضاً بميزة عظيمة هي تيسير تفسير تلك العناصر. فالوقائع فيها أكثر بساطة، وهو ما يجعل العلاقة بين تلك الوقائع أكثر وضوحاً. فالحجج التي يبرّر بها البشر أعمالهم لم تكن وضعت ولا شوّهها النّظر العقليّ بعد؛ لقد كانت حينها أكثر قرباً وأكثر قرابة من الدّوافع التي حدّدت بالفعل تلك الأعمال. فمن أجل فهم الهذيان ووصف أنسب علاج له، يحتاج الطّبيب معرفة نقطة انطلاق المرض. وفي هذه الحالة ستكون الإحاطة بهذا الحدث أكثر يسراً لو تمّت معاينة ذاك الهذيان في زمن قريب من بدايته. وعلى العكس من ذلك، فإنّه كلّما أفسحنا في الزّمن للمرض كي يتقدّم، كلّما أضحت الملاحظة أبعد منالاً، ذلك أنّ المرض سيتعرّض خلال تقدّمه إلى ضروب شتّى من التّأويلات التي تنحو إلى كبت الحالة الأصليّة في اللاّوعي واستبدالها بأخرى قد يصعب أحياناً الوصول من خلالها إلى تحديد أوّلها.
فالمسافة بين هذيان نمطيّ والانطباعات الأولى التي ولّدته، قد تكون كبيرة في كثير من الأحيان. وهذا ما ينطبق أيضاً على الفكر الدّينيّ، فهو كلّما تقدّم في التّاريخ، كلّما أضحت ملاحظة الأسباب التي دعت إلى وجوده، رغم تواصل تأثيرها، غير متاحة إلاّ من خلال مجموعة واسعة من التّأويلات التي تشوّهها. لقد قامت الأساطير الشّعبيّة والتّفسيرات اللاّهوتيّة الملغزة بفعلها: لقد ركّبت على المشاعر البدائيّة مشاعر أخرى مختلفة جدّاً إلى درجة أنّها لم تعد تسمح، رغم تواصل ارتباطها بالأولى التي تمثّل شكلها الأصليّ، بالوصول إلى طبيعتها الحقيقيّة إلاّ بصورة منقوصة للغاية. وبذلك تعاظمت المسافة النّفسيّة بين السّبب والنّتيجة، بين السّبب الظّاهر والسّبب الفعليّ، وأضحى استيعاب العقل لها أكثر عسراً. وسنكرّس ما يلي من كتابنا هذا لتوضيح هذه الملاحظة المنهجيّة والتحقّق منها. سوف نرى أنّ الواقعة الدّينيّة لا تزال تحمل، في الأديان البدائيّة، بصمة أصولها بوضوح، وسنرى أنّ الاستدلال عليها كان يغدو أكثر عسراً لو اقتصرنا على مجرّد البحث في الأديان الأكثر تطوّراً.
إنّ الدّراسة التي نقوم بها هي إذن وسيلة لاستعادة مسألة قديمة، ولكن في ظلّ ظروف جديدة، هي مسألة أصل الدّين. وبالتّأكيد، فإنّنا إذا كنّا نعني بالأصل بداية أولى مطلقة، فإنّ السّؤال يضحي بغير أساس علميّ ويجب أن يرفض رفضاً باتّاً. فلا وجود للحظة حاسمة بدأ الدّين فيها وجوده، ولا يتعلّق الأمر بإيجاد وسيلة تسمح لنا بالانتقال إليها من خلال الفكر. فالدّين مثله مثل أيّة مؤسّسة بشريّة، لا يبدأ في مكان بعينه. لذا، فإنّ جميع التأمّلات من هذا النّوع هي بلا مصداقيّة، ولا يمكنها أن تكون سوى إنشاءات ذاتيّة واعتباطيّة غير مسيطر عليها. أمّا ما نطرحه، فمسألة أخرى مختلفة تماماً. فما نريده هو إيجاد طريقة لتبيّن الأسباب التي ما تزال موجودة، والتي تقوم عليها أهمّ الأشكال الأساسيّة للفكر الدّينيّ والممارسة الدّينيّة. إلاّ أنّه، وللأسباب التي بيّناها، فإنّ ملاحظة تلك الأسباب تكون أكثر يسراً كلّما كانت المجتمعات الملاحظة أقلّ تعقيداً. وهذا هو السّبب في محاولتنا الاقتراب من الأصول . ولا يعني هذا أنّنا نضفي على الأديان الدّنيا فضائل مخصوصة، فهي، على العكس من ذلك، غير متطوّرة وفظّة، وبالتّالي فإنّنالا ننوي جعلها نماذج ليس على الأديان اللاّحقة سوى استنساخها. إلاّ أنّ فظاظتها هي بالذّات ما يجعلها في غاية الإفادة، ذلك أنّها تمثّل تجارب مريحة تسهل فيها ملاحظة الوقائع وما تقيمه بينها من علاقات. وإذا ما كان من شأن عالم الفيزياء، في سبيل اكتشاف قوانين الظّواهر التي يدرسها، أن يسعى إلى تبسيطها وتخليصها من سماتها الثّانويّة، فإنّ الطّبيعة تقوم بصفة عفويّة، فيما يتعلّق بالمؤسّسات، بتبسيطات مماثلة عند بداية التّاريخ، وهو ما نريد الاستفادة منه تحديداً. وبلا شكّ، فإنّنا لن نتوصّل من خلال هذا المنهج إلاّ لوقائع بسيطة للغاية. وحين سنتمكّن من تقريرها، في حدود إمكانيّانتا، فإنّ المستجدّات من كلّ نوع والتي قد تكون حدثت خلال مسار التطوّر لا يمكن أن تفسّر بذلك. إنّنا لا ننكر حجم المشكلات النّاجمة عن تلك المستجدّات، ونقدّر أن يتمّ بحثها في أوانها، وهو ما ستكون فائدته أعظم بعد دراستنا لبعضها في كتابنا هذا.
II
ولكن بحثنا لا يختصّ بعلم الأديان فحسب. فلكلّ دين، في الواقع، جانب يتجاوز من خلاله الدّائرة الضيّقة للأفكار الدّينيّة، وهو ما يجعل دراسة الظّواهر الدّينيّة وسيلة لتجديد طرح المسائل التي كانت مناقشتها حتّى الآن حكراً على الفلاسفة.
إنّنا نعرف منذ أمد طويل أنّ أولى أنساق التمثّلات التي أنشأها الإنسان حول العالم وحول نفسه هي من أصل دينيّ. ولا يوجد دين إلاّ وهو في ذات الوقت علم للكونيّات، وتفكّر في الإلهيّات. وإذا ما كانت الفلسفة والعلوم ولدت من رحم الدّين، فذلك لأنّ الدّين ذاته كان في البداية قائماً مقام العلوم والفلسفة. ولكن ما لم تتمّ الإشارة إليه كما ينبغي له، هو أنّ الدّين لم يقتصر على إثراء ذهن بشريّ مشكّل مسبقاً بعدد من الأفكار، بل ساهم في تشكيله أيضاً. فالبشر لا يدينون للدّين بجزء كبير من مادّة معارفهم فحسب، بل وبالشّكل الذي تطوّرت من خلاله تلك المعارف أيضاً.
يوجد في أصل أحكامنا، عدد من المفاهيم الرّئيسيّة التي تهيمن على حياتنا الفكريّة برمّتها، وهي ما يسمّيه الفلاسفة منذ أرسطو مقولات الفهم ممثّلة في مفاهيم الأين [المكان] والمتى [الزّمان] والكمّ والفعل والجوهر والوضع، إلخ، وهي تتوافق مع الخصائص الأكثر كونيّة للأشياء. إنّها بمثابة الأطر القويّة التي تحيط بالفكر، والتي يبدو ألاّ انعتاق له منها دون أن يدمّر نفسه. ذلك أنّه ليس بإمكاننا على ما يبدو التّفكير في أشياء غير متعيّنة في الزّمان والمكان أو التي لا كمّ لها، إلخ. فبينما تكون المفاهيم الأخرى، حادثة ومتحرّكة، وندرك أنّها يمكن أن تغيب عند إنسان أو عند مجتمع أو في حقبة، فإنّ هذه تبدو غير ممكنة الانفصال تقريباً عن الأداء السويّ للذّهن. إنّها بمنزلة الهيكل العظميّ للذّكاء. ومع ذلك، فإنّنا حين نقوم بتحليل منهجيّ للمعتقدات الدّينيّة البدائيّة، فإنّ أهمّ تلك المقولات تعترضنا بطبيعة الحال. ذلك أنّها ولدت في الدّين، ومن الدّين، وهي نتاج للفكر الدّيني. وهذه ملاحظة سنعود إليها مرّات خلال هذا العمل.
ولئن كان لهذه الملاحظة فائدة بذاتها، إلاّ أنّني سأشير إلى ما يعطيها زخمها الحقيقيّ. إنّ الخلاصة العامّة للكتاب الذي ستقرؤونه هي أنّ الدّين شيء اجتماعيّ للغاية. فالتمثّلات الدّينيّة هي تمثّلات جماعيّة معبّرة عن حقائق جماعيّة؛ والطّقوس هي طرق تصرّف لا يمكنها أن تنشأ إلاّ داخل جماعات ملتئمة بهدف توليد بعض الحالات الذهنيّة لتلك الجماعات، وصيانتها أو إعادة صياغتها. ولكن إذا كانت المقولات من أصل دينيّ، فإنّه يجب أن تكون من نفس الطّبيعة المشتركة لجميع الظّواهر الدّينيّة: يجب أن تكون، هي أيضاً، أشياء اجتماعيّة، ونتاجاً للفكر الجمعيّ. وأقلّ ما يجب أن يقال- لأنّه في الحالة الرّاهنة لمعارفنا بشأن هذه المسائل، يجب أن نكون حذرين من الطّروحات الجذريّة والحصريّة – إنّه من المشروع أن نفترض أنّها ثريّة بعناصر اجتماعيّة.
وهذا ما يمكننا بالفعل تبيّنه منذ الآن بالنّسبة لبعضها. دعونا نحاول، على سبيل المثال، تخيّل ما يمكن أن يكونه مفهوم الزّمن، فنحن نجرّد العمليّات التي نقسّمه بها، ونقيسه، ونعبّر عن ذلك من خلال علامات موضوعيّة، إنّه الزّمن الذي لن يكون تعاقباً للسّنوات والأشهر والأسابيع والأيّام والسّاعات! بل شيئاً لا يمكن تصوّره تقريباً. إنّه لا يمكننا أن نتصوّر الزّمن إلاّ بشرط التّمييز فيه بين آنات مختلفة. ولكن ما هو أصل هذا التّمييز؟ ممّا لا شكّ فيه، أنّه يمكننا استرجاع حالات الوعي التي سبق لنا معايشتها بالفعل، وحسب التّرتيب الذي وقعت به أصلاً، وهو ما يعني عودة أجزاء من ماضينا لتضحي حاضرة مرّة أخرى، مع تميّزها تلقائيّاً عن الحاضر. ولكن أهميّة هذا التّمييز لتجربتنا الخاصّة، لا ينفي كونها غير كافية لتحديد مفهوم أو مقولة الزّمان. فهذه المقولة لا تشمل مجرّد إحياء ذكرى، جزئيّة أو تامّة، من حياتنا الماضيّة. بل هي إطار مجرّد ولاشخصيّ يحيط بوجودنا الفرديّ، بل وبوجود الإنسانيّة جمعاء. إنّها بمثابة لوحة لامحدودة تكون فيها المدّة الزّمنيّة معروضة تحت نظر الفكر، ويمكن من خلالها تحديد جميع الأحداث الممكنة بحسب نقاط مرجعيّة ثابتة ومحدّدة. وليس زمني هو المنظّم بهذه الكيفيّة، بل الزّمن كما هو مفكّر فيه موضوعيّاً من قبل جميع البشر المنتمين لحضارة واحدة. وهذا لعمري كفيل وحده لتبيّن أنّ مثل هذا التّنظيم يجب أن يكون جماعيّاً. وبالفعل، فإنّ الملاحظة تؤكّد أنّ تلك النّقاط المرجعيّة الضّروريّة التي تصنّف بحسبها جميع الأشياء مؤقّتاً، مقتبسة من الحياة الاجتماعيّة. فتقسيمات الزّمن إلى أيّام وأسابيع وأشهر وسنوات، إلخ، تتوافق مع تواتر الطّقوس والأعياد والاحتفالات العامّة . كما أنّ التّقويم يترجم إيقاع النّشاط الجماعيّ ويقوم في الوقت نفسه بوظيفة ضمان تساوقه.
وهذا هو شأن الفضاء أيضاً. فهو كما بيّنه هاملين (Hamelin) ليس ذاك الوسط المبهم وغير المحدّد الذي كان يتصوّره عمّانويل كانط (Emmanuel Kant) من كونه تامّ التّجانس وخالصه، فهذا لا يخدم أيّ غرض، ولا يستميل الفكر حتّى. فالتّمثّل المكانيّ يقوم في جوهره على تنسيق أوّلي بين معطيات التّجربة الحسّية. ولكن هذا التّنسيق سيكون مستحيلاً إذا كانت أجزاء الفضاء متعادلة من حيث الكيف، وإذا ما كانت حقّاً قابلة لأن يقوم بعضها مقام بعض. فلكي ننظّم الأشياء فضائيّاً، يجب أن نكون قادرين على وضعها بطرق مختلفة: وضع بعضها يميناً، وبعضها يساراً، وأخرى في الأعلى، وغيرها في الأسفل، شمالاً أو جنوباً، شرقاً أو غرباً، الخ…، وبالمثل أيضاً لا بدّ لتنظيم حالات الوعي مؤقّتاً، أن نكون قادرين على تعيينها في مواعيد محدّدة. وهذا يعني أنّ الفضاء لا يمكن أن يكون هو نفسه ما لم يكن، شأنه شأن الزّمن، مقسّماً ومتمايزاً. ولكن من أين تأتي هذه التّقسيمات الجوهريّة للفضاء؟ فالفضاء في حدّ ذاته لا يمين أو يسار له، ولا أعلى وأسفل، ولا شمال وجنوب، إلخ، وما جميع هذه التّمييزات بالطّبع إلاّ نتيجة إسنادنا قيماً وجدانيّة مختلفة للمناطق. وبما أنّ جميع البشر المنتمين إلى نفس الحضارة يتمثّلون الفضاء بنفس الكيفيّة، فإنّه لا بدّ بداهة أن تكون تلك القيم الوجدانيّة والتّمييزات المرتبطة بها، مشتركة هي أيضا؛ الأمر الذي يعني أنّها تكاد تكون بالضّرورة من أصل اجتماعيّ .
كما نجد، من جهة أخرى، حالات أضحى فيها هذا الطّابع الاجتماعيّ واضحاً جليّاً. توجد بعض المجتمعات في استراليا وأمريكا الشماليّة، يتمّ فيها تصوّر الفضاء على شكل دائرة كبيرة، وذلك لأنّ للمخيّم نفسه شكل دائريّ ، فالدّائرة الفضائيّة مقسّمة تماماً على غرار الدّائرة القبليّة وعلى صورتها، وتوجد مناطق متمايزة بقدر ما توجد عشائر في القبيلة، إذ أنّ المكان الذي تشغله العشائر داخل المخيّم، هو ما يحدّد اتّجاه المناطق. وتتحدّد كلّ منطقة بطوطم العشيرة الذي تنتمي إليه. ومن ذلك على سبيل المثال، احتواء “البويبلو” (pueblo) عند قبائل الزّوني (Zuñi) على سبعة أحياء، كلّ حيّ منها عبارة عن مجموعة عشائر توحّدت، أو هي بالأحرى حسب أغلب الاحتمالات عشيرة واحدة في الأصل انقسمت في وقت لاحق. ولكنّ الفضاء يحتوي أيضاً على سبع مناطق، ولكلّ من أحياء العالم السّبعة هذه علاقات حميمة مع حيّ من أحياء البويبلو، أي مع مجموعة من العشائر . وهكذا نجد، حسب قول كوشينغ “قسم يفترض أن يكون ذا صلة بالشّمال، وآخر يمثّل الغرب، وثالث يمثّل الجنوب” ، إلخ… و”لكل حيّ من أحياء البويبلو لونه المميّز الذي يرمز له؛ ولكلّ منطقة أيضاً لون، هو بالتّحديد لون الحيّ المُناظر لها”. وخلال مسار التّاريخ، اختلف عدد العشائر الأساسيّة، كما اختلف بنفس الطّريقة أيضاً عدد مناطق الفضاء. ومن هنا، كان التّنظيم الاجتماعيّ مثالاً للتّنظيم الفضائيّ، بحيث كان الثّاني مثيل نسخة كربونيّة من الأوّل. وإلى هذا الحدّ، لم يكن يوجد تمييز بين اليمين واليسار، وهو تمييز يبعد أن يكون راجعاً لطبيعة الإنسان بصفة عامّة، بل ويحتمل جدّاً أن يكون نتيجة تمثّلات دينيّة، وبالتّالي جماعيّة .
وستعترضنا في ما يلي أدلّة أخرى مماثلة تتعلّق بمفاهيم النّوع، والقوّة، والشّخصيّة، والفعاليّة. بل ويمكننا أيضاً أن نتساءل ما إذا كان مفهوم التّناقض هو أيضاً، غير متوقّف على الظّروف الاجتماعيّة. وما يميل بنا إلى هذا الاعتقاد، هو أنّ النّفوذ الذي مارسه على الفكر قد تغيّر باختلاف الأزمنة والمجتمعات. وإذا ما كان مبدأ الهويّة هو المهيمن حاليّاً على التّفكير العلميّ، فقد سبق أن وجدت أنساق تمثّلات واسعة لعبت في تاريخ الأفكار دوراً خطيراً وكثيراً ما أسيء فهمه: وهي الأساطير، من أشدّها فجاجة إلى أكثرها علميّة . ويتعلّق الأمر باستمرار بكائنات اتّصفت في نفس الوقت بأشدّ الصّفات تناقضاً، صفات واحدة ومتعدّدة معاً، ماديّة وروحيّة، ويمكنها الانقسام على ذاتها بلا حدّ ودون أن تفقد أيّ من مكوّناتها؛ إذ من بديهيّات الميثولوجيا أن يكون الجزء مساوياً للكلّ. وتدلّ هذه الاختلافات التي طرأت عبر التّاريخ على القاعدة التي تتحكّم في منطقنا الحاليّ، بعيداً عن كونها كانت مسجّلة منذ الأزل في التّركيبة الذّهنيّة للإنسان، على أنّها ناتجة، جزئيّاً على الأقلّ، عن عوامل تاريخيّة، وبالتّالي اجتماعيّة. ونحن لا نعرف بالضّبط ما هي تلك العوامل، ولكنّنا نستطيع أن نفترض وجودها .
وإذا ما تمّ القبول بهذه الفرضيّة، فإنّ من شأن ذلك إعادة طرح مسألة المعرفة بمصطلحات جديدة.
إنّنا لا نجد إلى حدّ الآن سوى مذهبين اثنين. مذهب يرى أتباعه استحالة استقاء المقولات من التّجربة: فهي سابقة عليها منطقيّاً ومشروطة بها. ومن هنا يتمّ تمثّلها بوصفها معطيات بسيطة، غير قابلة للاختزال، ومتأصّلة في الذّهن الإنسانيّ بموجب تركيبتها الأصليّة. ولذلك نقول إنّها ماقبليّة [سابقة للتّجربة]. وعلى العكس من ذلك، يرى أصحاب المذهب الثّاني أنّها مبنيّة، مكوّنة من أجزاء وقطع، وأنّ الفرد هو من يبنيها .
ولكن كلا الحلّين يثير صعوبات جديّة. فهل نتبنّى الأطروحة التّجربيّة (الأمبيريقيّة)؟ وفي هذه الحالة لا بدّ من تجريد جميع المقولات من خصائصها المميّزة. وبالفعل، فهي تتميّز عن جميع المعارف الأخرى بكونيّتها وضرورتها. وهي التصوّرات الأكثر عموميّة نظراً لانطباقها على كلّ ما هو واقعيّ، وعدم ارتباطها بالتّالي بشيء خاصّ، فهي مستقلّة عن كلّ ذات فرديّة: إنّها السّاحة العامّة حيث تجتمع كلّ الأذهان. أضف إلى ذلك، أنّها تلتقي هناك بالضّرورة، وذلك لأنّ العقل، وهو لا يخرج عن كونه مجموع المقولات الأساسيّة، يتمتّع بسطوة لا نستطيع أن نتحاشاها حتّى لو أردنا ذلك. وإذا ما حاولنا التمرّد عليه، والتحرّر من بعض تلك المفاهيم الأساسيّة، فإنّنا نواجه مقاومات قويّة. لذا، فإنّ تلك المفاهيم ليست تحت سيطرة إرادتنا فحسب، بل هي تفرض نفسها علينا أيضاً. – ولكن المعطيات التّجربيّة تظهر خاصيّات على طرفي نقيض. فما من إحساس أو صورة إلاّ وهما متعلّقان على الدّوام بشيء محدّد أو بمجموعة من الأشياء من هذا النّوع، ويعرب عن حالة مؤقّتة لوعي مخصوص: إنّه في جوهره فرديّ وذاتيّ. لذلك فإنّه يمكننا، بحريّة نسبيّة، استخدام التمثّلات المنحدرة من هذا الأصل. ولا شكّ في أنّه حين تكون مشاعرنا آنيّة، فهي تفرض نفسها علينا فعلاً. ولكنّنا نبقى بالقوّة أحراراً في إدراكها على غير ما هي عليه، في تمثّلها كما لو كانت حادثة في نظام مختلف عن ذاك الذي حدثت فيه. فنحن لا يربطنا حيالها أيّ رابط ما لم تتدخّل اعتبارات من نوع آخر. ونحن هنا بالتّالي أمام نوعين من المعارف، مثيل قطبين متعاكسين للفهم. وفي ظلّ هذه الظّروف، تغدو إعادة العقل إلى التّجربة، تغييباً له، لأنّ في ذلك اختزالاً للشّموليّة ولما يتّصف به من ضرورة إلى مجرّد مظاهر، مجرّد أوهام يمكن أن تكون ملائمة عمليّاً، ولكنّها لا تتطابق مطلقاً مع أيّ من مكوّنات تلك الأشياء. وهو ما يعني بالنّتيجة، إنكار كلّ واقع موضوعيّ للحياة المنطقيّة التي تتوّلى المقولات وظيفة ضبطها وتنظيمها. فالتّجربيّة الكلاسيكيّة تؤدّي إلى اللاّعقلانيّة، وربّما كان هذا هو الاسم الذي ينبغي أن تسمّى به.
والماقبليّون (aprioristes)، رغم المعنى المرتبط عادة بالتّسميات، هم أكثر احتراماً للوقائع من غيرهم. ذلك أنّهم لا يقبلون كحقيقة بدهيّة أنّ المقولات مكوّنة من نفس عناصر تمثّلاتنا الحسّية، فهم ليسوا مضطرّين إلى إفقارها نسقيّاً، وإفراغها من كلّ مضمون واقعيّ، واختزالها إلى مجرّد ألعاب لفظيّة. إنّهم يتركون لها، على العكس، جميع سماتها الخاصّة. والماقبليّون عقلانيّون، ويعتقدون أنّ للعالم جانباً منطقيّاً يعبّر عنه العقل بكلّ وضوح. ولكي يتحقّق ذلك، توجّب عليهم أن يعزوا للذّهن قدرة على مجاوزة التّجربة، قدرة على أن يضيف إلى ما هو معطى مباشر، ولكنّهم لم يقدّموا لهذه القدرة الفريدة تفسيراً ولا تبريراً. ولا يمكن أن يعتبر تفسيراً، الاقتصار على القول بتأصّلها في طبيعة الذّكاء الإنسانيّ. بل يجب علينا أيضاً أن نتبيّن مصدر هذه الميزة المدهشة، وكيف يمكننا أن نرى في الأشياء، علاقات لا يمكن لمظهر الأشياء كشفها لنا. فالقول بأنّ التّجربة نفسها غير ممكنة إلاّ في ظلّ هذا الشّرط ربّما كان مجرّد نقل للمسألة، وليس حلاً لها. ذلك أنّ الأمر يتعلّق تحديداً بمعرفة من أين جاءنا أنّ التجربة لا تكتفي بذاتها، وأنّها تتطلّب شروطاً خارجيّة وسابقة عليها، وكيف أمكن لتلك الشّروط التحقّق في الوقت المناسب وبالكيفيّة المناسبة. وللإجابة على هذه الأسئلة، تمّ أحياناً تخيّل وجود عقل أسمى وكامل فوق العقول الفرديّة تصدر عنه وتستمدّ منه بضرب من المشاركة الصّوفيّة ملكتها الرّائعة: ألا وهو العقل الإلهيّ. ولكن لهذه الفرضيّة، وهذا أقلّ ما يقال عنها، عيب خطير يتمثّل في خروجها عن نطاق كلّ سيطرة تجريبيّة، وبالتّالي عدم خضوعها للشّروط المطلوبة في كلّ فرضيّة علميّة. أضف إلى ذلك أنّ مقولات الفكر الإنسانيّ ليست ثابتة إطلاقاً في شكل محدّد، فهي تصاغ، وتنقض، وتعاد صياغتها مجدّداً باستمرار؛ وهي تتغيّر وفقاً للأمكنة والأزمنة. أمّا العقل الإلهيّ، فهو على العكس من ذلك، ثابت غير متغيّر. فكيف لهذا الثّبات أن يفسّر ذلك التغيّر المستمرّ؟
هذان هما المفهومان المتجابهان منذ قرون؛ وإذا ما كان للجدل أن يستمرّ، فإنّ ذلك عائد في الحقيقة إلى تعادل الحجج المتبادلة بقدر ملموس. فإذا كان العقل مجرّد شكل من أشكال الخبرة الفرديّة، فلن يكون هناك عقل. أمّا إذا اعترفنا له بالقدرات التي ينسبها لنفسه، ولكن دون أن ندركها، فإنّ من شأن ذلك أن يلقي به خارج مجال الطّبيعة وخارج نطاق العلم. وفي وجود هذه الاعتراضات، يبقى الذّهن بعيداً عن كلّ يقين. – ولكن إذا أقررنا بالأصل الاجتماعيّ للمقولات، فإنّ موقفاً جديداً يمكن أن يفصح عن نفسه ليسمح، في اعتقادنا، بتفادي هذه الصّعوبات المتعارضة.
إنّ الافتراض الأساسيّ للماقبليّة هو أنّ المعرفة مكوّنة من ضربين من العناصر لا يمكن أن يتحلّل أحدهما إلى الآخر، مثيل طبقتين متمايزتين ومتراكبتين . وفرضيّتنا تحافظ على هذا المبدأ بالكامل. ففي الواقع، فإنّ المعارف التي نسمّيها تجربيّة، وهي الوحيدة التي لم يستخدمها منظّرو التّجربيّة مطلقاً لبناء العقل، هي ذاتها تلك التي يولّدها الفعل المباشر للأشياء في أذهاننا. إنّها إذن حالات فرديّة، تعرب عن نفسها جملة من خلال الطّبيعة النّفسيّة للفرد. وعلى العكس من ذلك، فإنّه إذا ما كانت المقولات في أساسها، كما نرى، تمثّلات جماعيّة، فهي تعكس في المقام الأول حالات الجماعة: إنّها تتوقّف على الكيفيّة التي تشكّلت بها الجماعة وانتظمت بموجبها، وشكلها الخارجيّ، ومؤسّساتها الدّينيّة والأخلاقيّة والاقتصاديّة، وما إلى ذلك. ومن هنا، نجد بين هذين النّوعين من التمثّلات جميع المسافة الفاصلة بين ما هو فرديّ وما هو اجتماعيّ، ولا يمكننا بالتّالي اشتقاق الثّانية من الأولى إلاّ بقدر ما نستنبط المجتمع من الفرد، والكلّ من الجزء، والمعقّد من البسيط . إنّ المجتمع حقيقة واقعة (sui generis)، وهو فريد في نوعه وذو خصائص لا نعثر عليها، أو بالأحرى لا نعثر عليها تحت نفس الشّكل، في بقيّة المعمورة. ومن هنا، فإنّ للمقولات التي تعبّر عنه مضموناً آخر مختلفاً تمام الاختلاف عن مضمون التمثّلات الفرديّة البحتة، بل ويمكننا أن نطمئنّ سلفاً إلى أنّ الأولى هي التي تفسّر الثّانية.
بل إنّ من شأن الكيفيّة التي تتشكّل بها كلّ من التمثّلات الجماعيّة والفرديّة، أن تنتهي بنا إلى التّمييز بينها. فالتمثّلات الجماعيّة هي نتاج تعاون هائل لا يمتدّ في الفضاء فحسب، بل وفي الزّمن أيضا؛ وقد اقتضى إنشاؤها قيام عدد كبير من الأذهان المتنوّعة بالمساهمة بأفكار وأحاسيس تضافرت وامتزجت وتراكبت، وقيام سلسلة طويلة من الأجيال بمراكمة خبراتها ومعارفها. إنّها تتوفّر إذن على عقلانيّة خاصّة جدّاً، هي أكثر ثراء وتعقيداً من عقلانيّة الفرد بما لا يقاس، ولعلّ هذا ما يجعل قدرة العقل على تجاوز نطاق المعرفة التّجريبيّة، أمراً مفهوماً. وهي غير مدينة في ذلك لأيّ قوّة غامضة، بل لحقيقة بسيطة مفادها أنّ الإنسان، وفقاً لصيغة معروفة، ذو شقّين. إنّه يشتمل على كائنين: كائن فرديّ أساسه الجسم يكون مجال فعله، نتيجة ذلك بالذّات، محدوداً للغاية، وكائن اجتماعيّ يعبّر فينا عن أسمى حقيقة، في معناها الفكريّ والأخلاقيّ، يمكننا معرفتها من خلال الملاحظة، ألا وهي المجتمع. وتؤدّي هذه الازدواجيّة في طبيعتنا، على المستوى العمليّ، إلى عدم تحلّل المثال الأخلاقيّ إلى دافع نفعيّ، وعلى المستوى الفكريّ، إلى عدم تحلّل العقل إلى تجربة فرديّة. فما دام الفرد يشارك في المجتمع، فإنّه بطبيعة الحال يتجاوز نفسه، سواء عندما يفكرّ أو حين يفعل.
ويمكّن هذا الطّابع الاجتماعيّ ذاته من فهم من أين تولّدت ضرورة المقولات. وتوصف فكرة ما بأنّها ضروريّة حين تفرض نفسها على الذّهن، بضرب من القوّة الدّاخليّة، دون أن يرافقها أيّ دليل. وهي بذلك تتضمّن شيئاً مرغماً للعقل، يستدعي القبول دون سابق امتحان. هذه الفاعليّة الفذّة، هو ما تفترضه الماقبليّة، ولكن دون أن تفصح عنه؛ ذلك أنّ القول بأنّ المقولات ضروريّة لأنّها لازمة لسير الفكر، لا يعدو تكراراً للقول بأنّها ضروريّة. أمّا إذا كانت نابعة من الأصل الذي أسندناه إليها، فإنّ سطوتها تغدو مفهومة. فهي تعبّر في الواقع عن العلاقات الأكثر عموميّة بين الأشياء؛ بل وتسيطر من خلال امتدادها وتجاوزها لجميع مفاهيمنا الأخرى، على أدقّ تفاصيل حياتنا العقليّة. فإذا ما كان البشر غير مجمعين في كلّ لحظة من الزّمن على هذه الأفكار الأساسيّة، وإذا لم يكن لديهم نفس التصوّر عن الزّمان والمكان، والسّبب، العدد، الخ…، فإنّ كلّ اتّفاق بين العقول يغدو مستحيلاً، ويستحيل بالتّالي بينهم، كلّ عيش مشترك. أضف إلى ذلك أنّ المجتمع لا يمكنه التخلّي عن المقولات وفقاً لتقدير الأفراد دون أن يسلم عنانه لهم. فالمجتمع لا يحتاج لكي يعيش إلى قدر أدنى من الالتزام الأخلاقيّ فحسب، بل لا بدّ أيضاً من وجود حدّ أدنى من التّساوق المنطقيّ لا يمكن له تجاوزه. ولهذا السّبب، فهو يضغط بثقله أجمع على أعضائه من أجل منع الانشقاقات. فهل لعقل أن يخرق جهاراً هذه المعايير اللاّزمة لكلّ فكر؟ في هذه الحالة، لن يعتبره المجتمع عقلاً بشريّاً بالمعنى الكامل للكلمة، وسيعامله وفقاً لهذا الاعتبار. ولذلك نشعر حين نحاول، ولو في دخيلة أنفسنا، التحرّر من هذه المفاهيم الأساسيّة، بأنّنا غير مطلقي الحريّة، وأنّ شيئاً ما يستعصي علينا، وهو في آن داخلنا وخارج ذواتنا. فخارج ذواتنا، يوجد الرّأي العامّ الذي يحاكمنا، أضف إلى ذلك أنّ المجتمع بوصفه ممثّلاً فينا أيضاً، فهو يقوم من داخل أنفسنا بالذّات، بمعارضة هذه الرّغبات الثّوريّة؛ وهو ما يشعرنا بالعجز عن مسايرتها دون أن يتخلّى فكرنا عن أن يكون بحقّ فكراً بشريّاً. هذا ما يبدو أصل السّلطة الاستثنائيّة الكامنة في العقل، تلك التي تجعلنا نتقبّل اقتراحاته بكلّ ثقة. بل إنّ سلطة المجتمع نفسها ، من خلال تواصلها مع أساليب معيّنة من التّفكير، هي بمثابة الشّروط الضّروريّة لأيّ فعل مشترك. وبالتّالي، فإنّ الضّرورة التي تفرض بها المقولات نفسها علينا ليست نتيجة عادات بسيطة يمكننا التخلّص من نيرها بقليل من الجهد؛ كما أنّها ليست أيضا ضرورة ماديّة أو ميتافيزيقيّة، لأنّ المقولات تختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة؛ إنّها نوع معيّن من الضّرورة الأخلاقيّة التي تمثّل بالنّسبة للحياة العقليّة ما يمثّله الواجب الأخلاقيّ بالنّسبة للإرادة .
ولكن إذا كان المقولات لا تعكس في الأصل سوى حالات اجتماعيّة، ألا يستتبع ذلك أنّه لا يمكنها أن تنطبق على بقيّة الطّبيعة إلاّ بصفة مجازيّة ؟ فإذا ما كانت حادثة للتّعبير عن الأمور الاجتماعيّة فحسب، فهي قاصرة على ما يبدو على توسيع نطاقها ليشمل عوالم [أحيائيّة] أخرى إلاّ عن طريق المواضعة. وبالتّالي، فطالما كنّا نستخدمها للتفكّر في العالم الفيزيائيّ أو البيولوجيّ، فإنّ قيمتها لا يمكن أن تكون سوى قيمة رموز مصطنعة، قد تكون ربّما مفيدة من النّاحيّة العمليّة، لكن لا علاقة لها بالواقع. وبذلك نعود، عبر سبيل أخرى، إلى الاسميّة (nominalisme) والتّجربيّة.
ولكن تأوّل نظريّة سوسيولوجيّة للمعرفة على هذا النّحو، سيكون معناه تناسي أنّه إذا كان المجتمع حقيقة واقعيّة محدّدة، فإنّه ليس امبراطوريّة داخل امبراطوريّة؛ إنّه جزء من الطّبيعة، بل هو أسمى مظاهرها. فالعالم الاجتماعيّ هو عالم طبيعيّ، ولا يتميّز عمّا عداه من عوالم إلاّ بقدر أكبر من التّعقيد. وفي هذه الحال، فإنّه يستحيل أن تكون الطّبيعة، في ما يتعلّق بأخصّ جوهرها، مغايرة لنفسها بصفة جذريّة، هنا أو هناك. وبالتّالي، فإنّ العلاقات الأساسيّة الموجودة بين الأشياء – تلك بالذّات التي تقوم المقولات بوظيفة التّعبير عنها – لا يمكن أن تكون متنافرة جوهريّاً بحسب كلّ عالم من عوالم الأحياء. وإذا ما كانت تبدو، لأسباب علينا أن نسعى إلى معرفتها ، أكثر وضوحاً في العالم الاجتماعيّ، فإنّه من المستحيل أن تكون غير موجودة في أماكن أخرى، وإن بأشكال أكثر استتاراً. وإذا ما كان المجتمع يجعلها أكثر وضوحاً، فإنّ ذلك ليس حكراً عليه. وهكذا نرى كيف يمكن لمفاهيم تمّ وضعها حسب نموذج الأشياء الاجتماعيّة أن تساعدنا على تفكّر أشياء من طبيعة مغايرة. وهذا ما يسمح على الأقلّ لتلك المفاهيم، حين يتمّ حرفها عن معناها الأصليّ، وكان لها أن تلعب، بمعنى من المعاني، دور الرّموز، أن تكون رموزاً ذات أساس مكين. فإذا ما دخل على تلك المفاهيم، بوصفها فحسب مفاهيم مبنيّة، بعض اصطناع، فإنّه سيكون اصطناعاً يساير الطّبيعة عن كثب، ويجهد للاقتراب منها قدما . أمّا كون أفكار الزّمان، والمكان، والنّوع، والعلّة، والشّخصيّة، مبنيّة انطلاقاً من عناصر اجتماعيّة، فلا يجب أن يفهم منه خلوّها من كلّ قيمة موضوعيّة. بل على العكس من ذلك، إذ أنّ أصلها الاجتماعيّ يفترض بالأحرى وجود أساس لها في طبيعة الأشياء .
وبهذا التّجديد، تبدو نظريّة المعرفة متّجهة نحو توحيد المزايا المتعاكسة للنّظريّتين المتنافستين، دون اكتساب عيوبها. إنّها تحتفظ بجميع المبادئ الأساسيّة للماقبليّة؛ ولكنّها تستلهم في الآن نفسه من ذلك النَّفَس الوضعيّ (esprit de positivité) التي تجهد التّجربيّة في تحقيقه. إنّها تترك للعقل سلطته الخاصّة، ولكنّها تعرب عنه، وذلك دون الابتعاد عن العالم المعاين. إنّها تثبت ثنائيّة حياتنا العقليّة كحقيقة واقعيّة، لكنّها تفسّرها، وبأسباب طبيعيّة. وبهذا تتوقّف المقولات عن أن تكون حقائق أوّليّة وغير قابلة للتّحليل، ولكنّها تبقى مع ذلك على درجة من التّعقيد تعجز التّحاليل المبسّطة كتلك التي تقتصر عليها التّجربيّة، عن إدراكها. ذلك أنّها تظهر عندئذ، ليس كمفاهيم غاية في البساطة يمكن لأيّ عابر سبيل أن يستخلصها من ملاحظاته الشّخصيّة فيما قام الخيال الشّعبيّ عَرَضاً بتعقيدها، بل على العكس، كأدوات علميّة للفكر، جهدت الجماعات البشريّة في صهرها على مدى قرون، وراكمت فيها أفضل ما لديها من رأسمال فكريّ . إنّها بمثابة ملخّص موجز لجزء من تاريخ البشريّة. وهذا يعني أنّ الوصول إلى فهمها والحكم عليها، يستوجب الاستعانة بوسائل أخرى غير تلك التي استخدمت إلى حدّ الآن. ولمعرفة ممّا تتكوّن تلك المفاهيم التي لم نصنعها بأنفسنا، فإنّه لا يكفي أن نسائل ضميرنا؛ بل علينا أن نمدّ النّظر إلى ما هو خارجنا، لا بدّ أن ننظر إلى التّاريخ، وهذا علم كامل لا بدّ من إنشائه، علم معقّد لا يمكنه أن يتقدّم إلاّ ببطء، ومن خلال عمل جماعيّ هو ما يسعى أن يكون كتابنا فاتحة له، وإن كان في قالب مساهمات متناثرة. ودون أن نجعل من هذه القضايا موضوعاً مباشراً لدراستنا، سوف نستخدم كلّ الفرص المتاحة لنا للإمساك ببعض المفاهيم، على الأقلّ لحظة ولادتها؛ إذ أنّها رغم هويّتها الدّينيّة من حيث أصولها، إلاّ أنّها تظلّ مع ذلك في أساس الذّهنيّة البشريّة.