الكاتب | لورنس نولان |
المترجم | ناصر الحلواني |
يُعد دليل ديكارت الأنطولوجي (أو القَبْلِي) من أكثر جوانب فلسفته إثارة للاهتمام وتعرضا لسوء الفهم معا. ينبع الانبهار بالدليل من الجهد المبذول لإثبات وجود الله من مقدمات تتسم بالبساطة وإن كانت قوية. يُستمد الوجود مباشرة من الفكرة الواضحة والمتميزة لوجود مطلق الكمال. ومن المفارقات أن بساطة الدليل أنتجت أيضًا العديد من التفسيرات الخاطئة، والتي تفاقمت جزئيًا بسبب ميل ديكارت إلى صياغته بطرق مختلفة.
يظهر البيان الرئيسي للدليل في التأمل الخامس. ويأتي في أعقاب دليل سببي على وجود الله ورد قبل ذلك في التأمل الثالث، مما أثار تساؤلات حول الترتيب والعلاقة بين هذين البرهانين المتميزين. يكرر ديكارت ذكر الدليل الأنطولوجي في عدد قليل من النصوص الأساسية الأخرى، بما في ذلك مبادئ الفلسفة. كما يدافع عنه في الرد الأول والثاني والخامس على الاعتراضات الشديدة من بعض المثقفين البارزين في عصره.
لم يكن ديكارت أول فيلسوف يصوغ دليلا أونطولوجيا. فقد دافع القديس أنسلم بقوة عن نسخة سابقة للدليل في القرن الحادي عشر، ثم انتقدها راهب يُدعى جونيلو (معاصر لأنسلم)، ثم انتقدها لاحقا القديس توما الأكويني. وقد اعتُبِر انتقاد توما الأكويني ذو تأثير سلبي شديد إلى الحد الذي أدى إلى اندثار الدليل الأنطولوجي لعدة قرون. ولهذا كان أمرًا مفاجئًا لمعاصري ديكارت أن يروه يحاول إحياءه. ورغم زعمه بعدم معرفته بنسخة أنسلم من الدليل، إلا أن ديكارت يبدو وكأنه يصوغ دليله الخاص ليمنع الاعتراضات التقليدية.
وعلى الرغم من أوجه التشابه، فإن نسخة ديكارت من الدليل تختلف عن نسخة أنسلم في جوانب مهمة. إذ يُعتقد أن نسخة أنسلم تنطلق من معنى كلمة “الله”، وحسب التعريف: الله وجود أعظم من أي وجود غيره، ولا يمكن تصوره. وعلى النقيض من ذلك، يرتكز دليل ديكارت على مبدأين أساسيين من مبادئ فلسفته – نظرية الأفكار الفطرية، ومذهب التصورات الواضحة والمتميزة. وهو يهدف إلى ألا يعتمد على تعريف تعسفي لله، بل أن يعتمد على فكرة فطرية محتواها “موهوب”. تتصف نسخة ديكارت بالبساطة البالغة. فوجود الله يُستدل عليه مباشرة من حقيقة مفادها أن الوجود الضروري موجود في الفكرة الواضحة والمتميزة عن وجود مطلق الكمال. والواقع أنه يقترح في بعض المناسبات أن ما يسمى “الدليل” الأنطولوجي ليس دليلاً شكلياً على الإطلاق، بل هو مسلَّمَة بديهية يدركها بنحو فطري عقل خال من التحيز الفلسفي.
كثيراً ما يقارن ديكارت الدليل الأنطولوجي بالبرهان الهندسي، فيزعم أن الوجود الضروري لا يمكن استبعاده من فكرة الله، تماماً كحقيقة أن زوايا المثلث تساوي زاويتين قائمتين، على سبيل المثال، لا يمكن استبعادها من فكرة المثلث. ويؤكد هذا القياس مرة أخرى على البساطة المطلقة للدليل. يرى أن وجود الله واضح وبديهي مثل أبسط الحقائق الرياضية الأساسية. كما يحاول أن يُظهر كيف أن “منطق” هذا البرهان متجذر في ممارساتنا المنطقية العادية.
وفي السياق نفسه، يصف ديكارت الدليل الأنطولوجي أيضًا بأنه برهان مُستمَد من “ماهية” أو “طبيعة” الله، محاجيًا بأن الوجود الضروري لا يمكن فصله عن ماهية وجود مطلق الكمال. وفي صياغة الدليل بهذه المصطلحات، يعتمد ضمناً على التمييز التقليدي في العصور الوسطى بين ماهية الشيء ووجوده. ووفقًا لهذا التقليد، يمكن للمرء أن يحدد ما يكون شيء ما ( أي: ماهيته)، بغض النظر عن معرفة ما إذا كان موجودًا بالفعل. رأى البعض أن هذا تمييز مفيد لأهداف ديكارت؛ لأنه يُمكِّنَه من تحديد ماهية الله دون طرح السؤال عن وجوده.
- 1. بساطة “الدليل”
- 2. التمييز بين الوجود والماهية
- 3. الاعتراضات والردود
- قائمة المراجع
- الأعمال الرئيسية
- الأعمال الثانوية
- أدوات أكاديمية
- مصادر أخرى على الإنترنت
- المدخلات ذات الصلة
1. بساطة “الدليل”
إحدى السمات المميزة لنسخة ديكارت من الدليل الأنطولوجي هي بساطتها. والواقع أنه أقرب إلى تقرير حدسي منه إلى البرهان الشكلي. ويؤكد ديكارت بساطة برهانه عن طريق مقارنته بالطريقة التي عادة ما نُثبِت بها حقائق بسيطة للغاية في الحساب والهندسة، مثل أن الرقم اثنين زوجي، أو أن مجموع زوايا المثلث يساوي مجموع زاويتين قائمتين. ونحن ندرك مثل هذه الحقائق بشكل حدسي مباشر بتفحص أفكارنا الواضحة والمتميزة عن الرقم اثنين والمثلث. وعلى نحو مماثل، نستطيع أن نتوصل إلى المعرفة بوجود الله ببساطة من خلال إدراك أن الوجود الضروري مُتضمَّن في الفكرة الواضحة والمتميزة لوجود مطلق الكمال. وكما يقول ديكارت في التأمل الخامس:
[1] لكن إذا كانت الحقيقة البسيطة بأني أستطيع أن أنتج في ذهني فكرة عن شيء ما تستلزم أن كل ما أدرك بوضوح وتميز أنه ينتمي إلى ذلك الشيء فهو ينتمي إليه بالفعل، ألا يشكل هذا أساسًا محتملًا لدليل أخر لإثبات وجود الله؟ من المؤكد أن فكرة الله، أو الوجود المُطلَق الكمال، هي فكرة أجدها بداخلي بنفس القدر من اليقين مثل فكرة أي شكل أو عدد. وفهمي بأنه يتعلق بطبيعته دائما أنه موجود ليس أقل وضوحًا وتميزا مما هو الحال عندما أثبت لأي شكل أو عدد أن خصائص معينة تنتمي إلى طبيعته (AT 7:65; CSM 2:45).
ينخدع المرء بسهولة بالتشابه بين الدليل الأنطولوجي والبرهان الهندسي، وكذلك بتعبير “البرهان” في هذا المقطع وغيره من المقاطع المشابهة. لا يتصور ديكارت الدليل الأنطولوجي على غرار البرهان الإقليدي أو البديهي، حيث تشتق المبرهنات من المسلَّمَات والتعريفات السابقة بنحو معرفي. على العكس من ذلك، فهو يلفت انتباهنا إلى إثبات الحقائق بطريقة أخرى توجه ممارساتنا العادية، وتتصف بأنها غير لفظية. وتعتمد هذه الطريقة على الحدس أو، ما يماثله بالنسبة لديكارت؛ الإدراك الواضح والمتميز. وتتمثل في الكشف عن محتويات أفكارنا الواضحة والمتميزة. وأساس هذه الطريقة هو قاعدة الصواب والخطأ، التي تم تأسيسها مسبقًا في التأمل الرابع. ووفقًا لصيغة هذه القاعدة التي استشهد بها في التأمل الخامس، فإن كل ما أُدرك بوضوح وتميز أنه موجود في فكرة شيء ما، فهو صحيح بالنسبة لذلك الشيء. لذا إذا أدركت بوضوح وتميز أن الوجود الضروري يتعلق بفكرة وجود مطلق الكمال، فإن مثل هذا الوجود موجود حقًا.
ورغم أن ديكارت يؤكد أن وجود الله يُعرَف في النهاية بواسطة الحدس، فإنه لا يمتنع عن تقديم نسخ صورية منطقية من الدليل الأنطولوجي. هو لم ينسى قط أنه يكتب لجمهور القرن السابع عشر، الذي كان غارقاً في المنطق المدرسي، والذي كان من المتوقع أن يكون ملتزما بالقياس المنطقي الأرسطي. ويُرضي ديكارت هذه التوقعات، فيقدم لا نسخة واحدة، بل نسختين منفصلتين على الأقل من الدليل الأنطولوجي. ولكنها براهين موجزة بشكل مذهل، وتكشف عن مقاصده الحقيقية. فإحدى نسخ الدليل تُنظم فحسب العملية النفسية التي يَحدُس بها المرء وجود الله، بالطريقة المذكورة آنفا:
النسخة أ :
1. كل ما أدرك بوضوح وتميز أنه مُتضَمَّن في فكرة شيء ما فهو من خصائص هذا الشيء بالفعل.
2. أنا أدرك بوضوح وتميز أن الوجود الضروري مُتضَمَّن في فكرة الله.
3. إذن، الله موجود.
تظهر قاعدة الصواب هنا في ثنايا المقدمة الكبرى، ولكن من الطبيعي أكثر أن نقرأها باعتبارها بيانًا لطريقة ديكارت البديلة في “البرهنة” عن طريق الإدراك الواضح والمتميز، أو الحدس. في واقع الأمر، تم تصميم “المقدمة” الكبرى لإرشاد المتأمل إلى كيفية تطبيق هذه الطريقة، وهو نفس الدور الذي يلعبه القياس في البرهان الهندسي في الفقرة رقم [1].
عندما عرض ديكارت هذه النسخة من الدليل في “الردود الأولى”، نحَّى جانباً هذه المقدمة الكبرى، وحوَّل انتباهنا إلى المقدمة الصغرى. وبقيامه بذلك، فإنه يشير إلى عدم الأهمية النسبية للدليل نفسه. بعد أن تعلَّمنا كيفية تطبيق طريقة ديكارت البديلة في التفكير، ما علينا إلا أن ندرك أن الوجود الضروري يتعلق بفكرة الوجود ذو الكمال الأسمَى. وبمجرد أن نصل إلى هذا الإدراك، فلا تعود هناك حاجة إلى الحجج الصورية؛ فسوف يكون وجود الله بديهياً (Second Replies, Fifth Postulate; AT 7:163–4; CSM 2:115).
يستخدم ديكارت أحيانًا الحجج التقليدية كأدوات استدلالية، ليس فقط لإرضاء جمهور معتاد على المنطق المدرسي، بل أيضًا للحث على إحداث تصورات واضحة ومتميزة. ويتضح هذا، على سبيل المثال، في نسخة الدليل الأنطولوجي التي ترتبط باسمه عادة:
النسخة ب :
1. لدي فكرة عن وجود مطلق الكمال، أي وجود يتصف بكل الكمالات.
2. الوجود الضروري كمال.
3. ومن ثم، يوجد وجود مطلق الكمال.
رغم أن هذه المجموعة من العبارات تشبه في بنيتها الظاهرية الدليل المنطقي، إلا أن قوتها الإقناعية تكمن في صعيد مختلف. فالمتأمل الذي يجد صعوبة في إدراك أن الوجود الضروري مُتضمَّن في فكرة الوجود تام الكمال يمكنه أن يصل إلى هذا الإدراك، بشكل غير مباشر، بواسطة الإقرار بأن هذه الفكرة تتضمن كل كمال. والواقع أن فكرة الوجود المُطلَق الكمال هي فحسب فكرة عن وجود يتمتع بكل الكمالات. ويلاحظ ديكارت أن محاولة استبعاد أي أو كل الكمالات من فكرة الوجود الأسمى تُوقِع صاحبها في التناقض، وهي أشبه بتصور جبل بلا واد (أو منحدر صاعد بلا منحدر هابط). وبتحقق هذا التصور، لا يحتاج المرء إلا إلى حدسٍ مفاده أن الوجود الضروري هو في حد ذاته كمال. سيتضح حينئذ أن الوجود الضروري هو صفة من الصفات المتضمَّنة في فكرة الوجود مطلق الكمال.
إن مثل هذه الاعتبارات قد تكفي لإثارة التصور الواضح والمتميز لدى المتأمِّل، إلا أن ديكارت يهدف إلى نقطة أعمق، وهي أن هناك رابطًا تصوريًا بين الوجود الضروري وكل كمال من الكمالات الإلهية الأخرى. ومن المهم تذكُّر أنه في التأمل الثالث، وفي خضم الدليل السببي على وجود الله، اكتشف المتأمِّل بالفعل العديد من هذه الكمالات – القدرة المطلقة، والعلم الكلي، وعدم التغير، والخلود، والبساطة، وغير ذلك. ولأن عقولنا محدودة القدرة، فإننا عادة ما نفكر في الكمالات الإلهية كصفات منفصلة، و”من ثم قد لا نلاحظ على الفور ضرورة ارتباطها ببعضها البعض” (First Replies, AT 7:119; CSM 2:85). ولكن إذا انتبهنا بعناية إلى “ما إذا كان الوجود ينتمي إلى وجود مطلق الكمال، وأي نوع وجود هو” فسوف نكتشف أننا لا نستطيع تصور أي من الصفات الأخرى مع استبعاد الوجود الضروري منها (نفس المصدر).
ولتوضيح هذه النقطة، يستشهد ديكارت بالقدرة الإلهية المطلقة. فهو يعتقد أننا لا نستطيع أن نتصور وجوداً كلي القدرة إلا باعتباره موجوداً. ومثال ديكارت يفترض الفهم التقليدي القروسطى لـ “الوجود الضروري”. وعندما يتحدث عن هذه الصفة الإلهية، فإنه يستخدم أحياناً مصطلح “الوجود”، ببساطة، كاختصار. ولكن في تصريحاته الأكثر دقة، فإنه يصر دائماً على عبارة “الوجود الضروري والخالد”، التي تتماشى مع التقاليد. وكثيراً ما تحدث الفلاسفة المدرسيون في العصور الوسطى عن الله باعتباره “الوجود الضروري” الوحيد، والذي كانوا يقصدون به الوجود الذي يستمد وجوده من ذاته. وهذا هو مفهوم “الوجود الذاتي ” (a se esse). وبما أن مثل هذا الوجود لا يعتمد على أي شيء آخر في وجوده، فلا بداية له ولا نهاية، بل هو سرمدي. وبالعودة إلى المناقشة في “الردود الأولى”، يمكننا أن نرى كيف ترتبط القدرة المطلقة من الوجهة النظرية بالوجود الضروري بهذا المعنى التقليدي. إن الوجود ذو القدرة المطلقة، أو القادر على كل شيء، لا يعتمد وجوديًا على أي شيء غيره (لأنه لو كان كذلك لما كان كلي القدرة). فهو موجود بفضل قدرته الذاتية:
[2] عندما ننتبه إلى القدرة الهائلة لهذا الوجود، فلن نتمكن من التفكير في وجوده على أنه ممكن دون أن نقر أيضًا بأنه يمكن أن يوجد بقدرته الذاتية؛ وسوف نستنتج من هذا أن هذا الوجود موجود حقًا، وكان موجودًا منذ الأزل، لأنه من الواضح تمامًا بالنور الطبيعي، أن ما يمكن أن يوجد بقدرته الذاتية يكون دائم الوجود. لذلك سنفهم أن الوجود الضروري موجود في فكرة الوجود المُطلَق الكمال … ( المصدر السابق).
يظن بعض القراء أن ديكارت يقدم نسخة ثالثة من الدليل الأنطولوجي في هذه الفقرة (Wilson, 1978, 174–76)، ولكن سواء كان هذا هو قصده أم لا فهو أمر غير مهم، حيث أن هدفه الأساسي، كما هو موضح في السطر الأخير، هو تمكين المتأمل من إدراك أن الوجود الضروري مُتضمَّن في فكرة الله. ولأن هناك رابطًا تصوريًا بين الصفات الإلهية، فإن الإدراك الواضح والمتميز لإحداها يوفر مسارًا معرفيًا إلى أي من الصفات الأخرى.
ورغم أن ديكارت يستخدم أحيانًا نسخًا منطقية صورية من الدليل الأنطولوجي لتحقيق أهدافه، فإنه يؤكد باستمرار أن وجود الله يُعرَف في نهاية المطاف من خلال الإدراك الواضح والمتميز. والنسخ الصورية من الدليل ليست أكثر من أدوات استدلالية، ينبغي التخلي عنها بمجرد أن يحقق المرء الحدس اللازم بوجودٍ مطلق الكمال. ويؤكد ديكارت على هذه النقطة صراحةً في التأمل الخامس، مباشرة بعد تقديم نسختي الدليل الذين ناقشناهما آنفا:
[3] أياً كانت طريقة البرهنة التي أستخدمُها، فإنني أعود دائماً إلى حقيقة أن ما أدركه بوضوح وتميز هو ما يقنعني بنحو تام. فبعض الأشياء التي أدركها بوضوح وتميز تكون واضحة للجميع، في حين أن هناك أشياء أخرى لا يكتشفها إلا أولئك الذين ينظرون عن كثب، ويتحرون بدقة؛ ولكن بمجرد اكتشافها، فإنها تُعتبر مؤكدة مثل الأولى. في حالة المثلث القائم الزاوية، على سبيل المثال، فإن حقيقة أن المربع المرسوم على وتر المثلث يساوي المربعين المرسومين على الضلعين الآخرين ليست شديدة الوضوح مثل حقيقة أن الوتر يقابل أكبر زاوية في المثلث؛ ولكن بمجرد أن يرى المرء ذلك، فإنه يؤمن به بنفس القوة. ولكن فيما يتعلق بالله، إذا لم أكن غارقًا في التحيزات الفلسفية، وإذا لم تكن صور الأشياء التي تدركها الحواس تحاصر ذهني من كل جانب، فمن المؤكد أنني سأعترف به عاجلاً وبأسهل من أي شيء آخر. فما هو أكثر وضوحًا من حقيقة وجود الوجود الأسمَى، أو أن الله، الذي ينتمي الوجود إلى ماهيته وحده، موجود؟ (AT 7:68–69; CSM 2:47)
وهنا يطور ديكارت مقارنته السابقة بين (ما يُسمَّى) الدليل الأنطولوجي والبرهان الهندسي. فهو يشير إلى أن هناك بعض المتأملين الذين يتجلى لهم وجود الله مباشرة؛ فبالنسبة لهم يشبه وجود الله المسلَّمَة، أو الحَّدَّ في الهندسة، مثل أن وتر المثلث القائم الزاوية يقابل أكبر زاوية فيه. أما المتأملين الآخرين، ممن تشوشت عقولهم وغرقت في الصور الحسية، فعليهم أن يبذلوا جهداً أكبر بكثير، وربما احتاجوا إلى برهان لتحقيق الإدراك الواضح والمتميز المطلوب. بالنسبة لهم فإن وجود الله يشبه نظرية فيثاغورس. والأمر المهم هنا هو أن كلا النوعين من المتأملين يصل في نهاية المطاف إلى معرفة وجود الله بواسطة إدراك واضح ومتميز بأن الوجود الضروري موجود في فكرة الوجود المُطلَق الكمال. وبمجرد أن يتحقق لدينا هذا الإدراك، سيكون وجود الله جليا أو، كما يقول ديكارت في مكان آخر، “واضحا بذاته” ( per se notam ) (Second Replies, Fifth Postulate; AT 7: 164; CSM 2:115).
كان معاصرو ديكارت ليتفاجأوا بهذه الملاحظة الأخيرة. ففي أثناء مراجعة نسخة سابقة من الدليل الأنطولوجي، رفض توما الأكويني الادعاء بأن وجود الله واضح بذاته، على الأقل فيما يتعلق بنا. وزعم أن ما هو واضح بذاته لا يمكن إنكاره دون الوقوع في تناقض، ولكن وجود الله يمكن إنكاره. والواقع، يُحدِّث الأحمق نفسه قائلا: “ليس هناك إله” (مزمور 1: 53).
عندما واجه ديكارت هذا الانتقاد من قِبَل أحد المعترضين المعاصرين له، حاول إيجاد أرضية مشتركة: “يسأل القديس توما عما إذا كان الوجود واضحا بذاته بالنسبة لنا، أي ما إذا كان واضحًا للجميع؛ ويجيب مُحقًا، أنه ليس كذلك” (First Replies, AT 7:115; CSM 2:82). يؤول ديكارت قول الأكويني على أنه يدَّعي أن وجود الله ليس واضحا بذاته بالنسبة للجميع، وهو أمر يمكنه موافقته فيه. لا يعتقد ديكارت أن وجود الله واضح بذاته مباشرة، أو أنه كذلك بالنسبة للجميع، ولكنه يمكن أن يصبح واضحا بذاته لبعض المتأملين المتأنيين والمجتهدين.
2. التمييز بين الماهية والوجود
في التأمل الخامس، وفي أماكن أخرى، يقول ديكارت إن وجود الله ينشأ من حقيقة أن الوجود مُتضمَّن في “الماهية الحقيقية والثابتة، أو طبيعة، أو شكل “الوجود المُطلَق الكمال، تمامًا كما ينشأ من ماهية المثلث أن زواياه تساوي مجموع زاويتين قائمتين. لقد حيرت هذه الطريقة في تطبيق الدليل القَبْلِي المعلقين، وأدت إلى نقاش حيوي حول الوضع الوجودي للماهيات الديكارتية، والموضوعات التي يُزعم أنها “تمتلكها”. رأى بعض المعلقين أن ديكارت ملتزم بنوع من الواقعية الأفلاطونية. وفقًا لهذا الرأي، فإن بعض الأشياء القاصرة عن الوجود الفعلي تبقى ككيانات مجردة ومنطقية خارج العقل، ومتجاوزة للعالم المادي (Kenny, 1968; Wilson, 1978). ويضع معلق آخر الماهيات الديكارتية في الله (Schmaltz 1991)، في حين أن تفسيرين تنقيحيين حديثين (Chappell, 1997; Nolan, 1997) يقرأان ديكارت باعتباره تَصوُّرِيا ينظر إلى الماهيات كأفكار في العقول البشرية.
إن إشارة ديكارت إلى “الماهيات” تثير مسألة أخرى مهمة تتعلق بشكل مباشر بالدليل الأنطولوجي. ففي زعمه أن الوجود الضروري لا يمكن استبعاده من ماهية الله، يستعين ديكارت بالتمييز التقليدي في العصور الوسطى بين الماهية والوجود. ووفقاً لهذا التمييز، يمكن للمرء أن يقول ما هو الشيء ( أي ماهيته)، قبل أن يعرف ما إذا كان موجوداً أم لا. على سبيل المثال، يمكن للمرء أن يحدد ما هو الحصان – تعداد كل خصائصه الأساسية – قبل أن يعرف ما إذا كان هناك أي خيول في العالم. كان يُعتقد أن الاستثناء الوحيد لهذا التمييز هو الله نفسه، الذي لا وجود لماهيته إلا في الوجود. ومن السهل أن نرى كيف يمكن استغلال هذا التمييز التقليدي من قبل المُدافِع عن الدليل الأنطولوجي. إن الوجود متَضمَّن في ماهية الوجود المُطلَق الكمال، ولكن ليس في ماهية أي شيء متناهٍ. ومن ثم فإنه يتبع فقط عن ماهية الوجود اللامتناهي المُطلَق الكمال أن مثل هذا الوجود موجود بالفعل. في بعض الأحيان، نجد ديكارت داعما لهذا التفسير للدليل الأنطولوجي. في الرد الخامس، على سبيل المثال، كتب “إن وجود المثلث لا ينبغي مقارنته بوجود الله، لأن العلاقة بين الوجود والماهية مختلفة تمامًا في حالة الله عما هي عليه في حالة المثلث. الله هو وجوده، لكن هذا ليس صحيحًا في حالة المثلث” (AT 7:383; CSM 2:263). لكن وجهة نظر ديكارت الكاملة أكثر دقة وتطورًا مما يبدو، للوهلة الأولى، أن هذه الملاحظات تشير إليه. يتطلب فهم وجهة النظر هذه تحقيقًا أكثر دقة في التمييز بين الماهية والوجود كما يظهر في المصادر القروسطية. على الرغم من أننا نتحدث غالبًا عن التمييز “التقليدي”، فإن الطبيعة الدقيقة للعلاقة بين الماهية والوجود في الأشياء المتناهية كانت موضوع نقاش حاد بين فلاسفة العصور الوسطى. إن معرفة موقع ديكارت في هذا النقاش سيوفر فهمًا أعمق لنسخته من الدليل الأنطولوجي.
يمكن إرجاع التمييز بين الماهية والوجود إلى بوئثيوس في القرن الخامس. الذي طوره، لاحقا، فلاسفة مسلمون مثل ابن سينا. ولكن المسألة لم تتحول إلى مشكلة فلسفية رئيسية حتى تناولها توما الأكويني في القرن الثالث عشر. ولم تنشأ المسألة كجزء من الجهود الرامية إلى إثبات وجود الله على أسس قَبْلِية (كما ذكرنا آنفاً، كان توما الأكويني واحداً من أشد منتقدي الدليل الأنطولوجي)، بل من باب الانشغال بتمييز الله عن الكيانات الروحية المتناهية مثل الملائكة. ومثله كمثل العديد من الفلاسفة المدرسيين، كان توما الأكويني يعتقد أن الله بسيط تماماً وأن الكائنات المخلوقة، على النقيض من ذلك، لها طابع مُركَّب يفسر تناهيها ونقصها. فالمخلوقات الأرضية عبارة عن مُركَّبَات من المادة والصورة ( مذهب الهيلومورفية hylomorphism)، ولكن بما أن الكائنات الروحية الصرفة غير مادية، فقد حدد توما الأكويني طابعها المُركَّب في التمييز بين الماهية والوجود.
سوف تظهر بعض تفاصيل رواية توما الأكويني في ثنايا مناقشتنا التالية. إن الفائدة الأساسية من نظريته بالنسبة لأغراضنا هي أنها أدت إلى نقاش حيوي بين خلفائه حول الكيفية التي يفسرون بها ما ذهب إليه المُعلِّم، وحول الطبيعة الحقيقية للعلاقة بين الماهية والوجود في الأشياء المخلوقة. وقد أسفر هذا النقاش عن ثلاثة مواقف رئيسية:
1. نظرية التمييز الحقيقي
2. الموقف الوسطي
3. نظرية التمييز العقلاني
بالنسبة لأنصار الرأي الأول فقد تصوروا التمييز بين الماهية والوجود كأمر حاصل بين شيئين منفصلين. وفي نظر العديد من أتباع الأكويني، كان هذا الرأي يعتبر متطرفًا للغاية، وخاصة باعتباره تفسيرًا لموقف توما الأكويني الأصلي. ويُعبَّر عن هذا الرأي أحيانًا بالقول إن الماهية والوجود “مبادئ للوجود” وليسا الموجودات ذاتها. ومن ثم فإن إحدى المشكلات التي تعيب نظرية التمييز الحقيقي، على الأقل كما يتبناها العديد من أتباع توما الأكويني، هي أنها جسَّدَت الماهية والوجود، وتعاملت معهما باعتبارهما وجودين حقيقيين بالإضافة إلى الكيان المخلوق الذي يشكلانه معا.
اعتُبِرت نظرية التمييز الحقيقي غير مقبولة أيضاً لأسباب فلسفية. فبعد توما الأكويني، زعم العديد من المشاركين في النقاش أن الماهية والوجود مرتبطان ببعضهما البعض باعتبارهما قوة وفعلاً، وبالتالي يمكن القول إن الوجود “يحقق” الماهية. وبحسب نظرية التمييز الحقيقي، فإن هذا الرأي يؤدي إلى نكوص لا نهائي. فإذا أصبحت الماهية واقعية بالفعل فقط بفضل شيء آخر – أي: الوجود – كونه إضافة فائقة إليها، فما الذي يعطي الوجود حقيقته، وهكذا إلى ما لا نهاية؟ (Wippel, 1982, 393f).
وفي مواجهة هذه الصعوبات، طوّر بعض الفلاسفة المدرسيين موقفاً على الطرف النقيض من نظرية التمييز الحقيقي. وكان مفاد هذا الرأي أن الأمر مجرد تمييز عقلي، أو “تمييز للعقل” بين الماهية والوجود في الكائنات المخلوقة. وكما يوحي المصطلح، فقد ذهبت هذه النظرية إلى أن ماهية ووجود المخلوق متطابقان في الواقع، ولا يحدث التمييز بينهما إلا في تفكيرنا عن طريق العقل. وغني عن القول إن أنصار هذه النظرية اضطروا إلى التمييز بين الكيانات الروحية الصرفة عن الله على أسس أخرى غير التكوين الحقيقي.
كان التخلي عن مذهب التكوين المركَّب الحقيقي يبدو أمرا مبالغا فيه بالنسبة لمجموعة أخرى من المفكرين الذين انتقدوا أيضًا نظرية التمييز الحقيقي. وقد أدى هذا إلى تطوير عدد من المواقف الوسطية، بما في ذلك فكرة دونز سكوتس الغريبة عن التمايز الصوري، والرأي القائل بأن الماهية والوجود متمايزان شكليا بحيث يمثل الوجود نمطا من ماهية الشيء.
يقف ديكارت، مثل فرانسيسكو سواريز، سلفه المباشر المنتمي إلى الفلسفة المدرسية، إلى جانب أنصار التمييز العقلاني بين الماهية والوجود. ومع ذلك، كان موقفه فريدا، بقدر ما ينبع من نظرية “الصفات” الأكثر عمومية. يزعم ديكارت عند صياغة هذه النظرية، في مقطع مهم في مبادئ الفلسفة، أنه لا يوجد سوى تمييز عقلاني بين الجوهر substance وأي من صفاته، أو بين أي صفتين من صفات جوهر واحد (1:62, AT 8A:30; CSM 1:214). بالنسبة لديكارت، فإن أهم حالات التمييز العقلاني هي تلك التي تحدث بين الجوهر وماهيته – أو ما يشير إليه أحيانًا باسم “صفته الأساسية” (1:53, AT 8A:25; CSM 1:210). وبما أن الفكر والامتداد يشكلان ماهية العقل والجسد على التوالي، فإن العقل يتميز فحسب بشكل عقلاني عن تفكيره، ويتميز الجسد عقلانيًا فحسب عن امتداده (1:63, AT 8A:31; CSM 1:215). لكن ديكارت يصر على أن التمييز العقلاني يحدث أيضًا بين أي صفتين من صفات الجوهر. وبما أن الوجود مؤهل ليكون صفة بهذا المعنى الفني، فإن ماهية ووجود الجوهر يتمايزان أيضًا بالعقل فقط (1:56, AT 8A:26; CSM 1:211). ويؤكد ديكارت مجددا على هذا الاستنتاج في رسالة تهدف إلى توضيح روايته عن العلاقة بين الماهية والوجود:
[ 4]… الوجود، والمدة، والحجم، والعدد، وكل الكليات ، كما يبدو لي، ليست أحوالا بالمعنى الدقيق للكلمة …. بل يُشار إليها بمصطلح أوسع ويُطلق عليها الصفات … لأننا نفهم ماهية الشيء بطريقة ما عندما نفكر فيه في حالة مجردة سواء كان موجودا أو غير موجود، وبطريقة مختلفة عندما نفكر فيه على أنه موجود؛ لكن الشيء نفسه لا يمكن أن يكون خارج تفكيرنا بدون وجوده …. وفقًا لذلك أقول إن الشكل، والأحوال المماثلة الأخرى، بالمعنى الدقيق للكلمة، متميزة من الناحية الشكلية عن الجوهر التي هي أحواله؛ ولكن هناك تمايز أقل بين الصفات الأخرى…. أسميه تمايزًا عقلانيًا …. (إلى صحفي غير معروف،AT 4:349; CSMK 3:280)
نجد هنا إشارات لكيفية إنتاج التمييز العقلاني في ذهننا. ويوضح ديكارت أننا ننظر إلى الشيء الواحد بطرق تجريدية مختلفة. مثال على ذلك، يمكننا أن ننظر إلى الشيء باعتباره موجودًا، أو يمكننا أن نجرده من وجوده ونوجه انتباهنا إلى سماته الأخرى. وبذلك، نكون قد ميزنا بين وجود الجوهر وبين ماهيته داخل ذهننا. ولكن، مثل المدرسيين من أنصار نظرية التمييز العقلاني، يحرص ديكارت على التأكيد على أن هذا التمييز تَصَوُّرِيّ بحت. بل إنه يمضي في توضيح أن ماهية الجوهر ووجوده “ليسا منفصلين بأي حال من الأحوال” خارج الفكر (AT 4:350; CSMK 3:280). ومتطابقان في الواقع .
ورغم استعارة ديكارت للكثير من أفكار الفلسفة المدرسية، إلا أن تفسيره يتميز بمجال تطبيقه. فهو يوسع نطاق نظرية التمييز العقلي بدءا من الجواهر المخلوقة وصولا إلى الله. وبوجه عام، فإن ماهية ووجود الجوهر لا يتمايزان عن بعضهما البعض إلا عقلانيًا، ومن ثم فهما متطابقان في الواقع.
ويبدو أن هذه النتيجة قد أحدثت فوضى في دليل ديكارت الأنطولوجي. ومن أهم الاعتراضات على هذه الدليل أنه إذا كانت صحيحا، فمن الممكن أن نوسع تطبيق مثل هذا الأدلة على كل أنواع الأشياء، بما في ذلك الموجودات ذات الوجود الممكن. وبافتراض وجود تمييز عقلاني بين الماهية والوجود في الخارج في كل شيء، فيبدو أن ديكارت يؤكد هذا الاعتراض. وبشكل عام، يجب أن يتم تعيين الجوهر بوجوده، سواء كان الله أو شيئاً مخلوقاً متناهيًا.
المشكلة بخصوص هذا الاعتراض، في هذه الحالة، أنه يفترض أن ديكارت يحددالفرق بين الله والمخلوقات في العلاقة التي تربط كل منهم بوجوده. والأمر ليس كذلك. ففي بضعة مقاطع مهمة، يؤكد ديكارت أن الوجود مُتضمَّن في الفكرة الواضحة والمتميزة لكل شيء، ولكنه أيضا يشدد على وجود درجات مختلفة من الوجود:
[5] إن الوجود مُتضمَّن في فكرة أو تصور كل شيء، وذلك لأننا لا نستطيع أن نتصور أي شيء إلا باعتباره موجودًا. فالوجود الممكن أو المحتمل مُتضمَّن في تصور الشيء المحدود، في حين أن الوجود الضروري والكامل مُتضمَّن في تصور الوجود المُطلَق الكمال (Axiom 10, Second Replies; AT 7:166; CSM 2:117).
وعلى ضوء هذا المقطع وغيره من المقاطع المشابهة، يمكننا تنقيح نظرية التمييز العقلي. وما ينبغي لنا أن نقوله، بالمعنى الدقيق للكلمة، هو أن الله يتمايز عقلانيا فحسب عن وجوده الضروري، في حين أن كل شيء متناهٍ مخلوق يختلف عقلانياً فحسب عن وجوده المحتمل أو الممكن. والتمييز بين الوجود المحتمل أو الممكن من ناحية، والوجود الضروري من ناحية أخرى، يسمح لديكارت بتفسير الاختلاف اللاهوتي بين الله ومخلوقاته.
والآن، عندما يقول ديكارت إن الجوهر (سواء كان متناهيا أو مطلقا) لا يختلف عن وجوده إلا من الناحية العقلية، فإنه يقصد دائماً جوهراً موجوداً بالفعل. فكيف إذن نفهم الادعاء بأن الجوهر المتناهي لا يختلف عن وجوده الممكن إلا من الناحية العقلية؟ ما المقصود بـ “الوجود المحتمل (أو الممكن)”؟ من المغري أن نفترض أن هذا المصطلح يعني الوجود غير الواقعي. ولكن كما رأينا بالفعل في حالة الوجود الضروري، فإن ديكارت لا يقصد هذه المصطلحات بمعناها المنطقي أو الشكلي. فإذا كان “الوجود الضروري” يعني الوجود المستقل وجودياً، فإن “الوجود الممكن” يعني شيئاً أشبه بالوجود التابع. في نهاية الأمر، يقارن ديكارت الوجود الممكن لا بالوجود الفعلي ولكن بالوجود الضروري بالمعنى التقليدي. وهذا التفسير يوحي به أيضاً مصطلح “الممكن contingent”. فالأشياء المخلوقة ممكنة الوجود، بمعنى أنها تعتمد في وجودها على الله، الوجود الذاتي الوحيد.
تفسر هذه النتيجة سبب اعتقاد ديكارت أننا لا نستطيع أن نولِّد أدلة أنطولوجية لإثبات وجود الجواهر المخلوقة. ليس الأمر أن العلاقة بين الماهية والوجود تختلف في الله عنها في الأشياء المتناهية. ففي كلتا الحالتين لا يوجد سوى تمييز عقلاني. والفرق يكمن في درجة الوجود التي ترتبط بكل منهما. فبينما يستلزم مفهوم الوجود المستقل وجود مثل هذا الوجود، فإن مفهوم الشيء المتناهي يستلزم فقط وجوده التابع.
وإذا نظرنا إلى الفقرة الإشكالية المذكورة آنفا من الردود الخامسة، فسوف يتبين لنا أن ديكارت كان يقصد شيئاً من هذا القبيل حتى في هذه الفقرة. فهو يقول: “إن وجود المثلث لا ينبغي أن يُقارن بوجود الله”، وهو ما يعزز وجهة النظر القائلة بأن نوع الوجود هو الذي يجعل الله فريداً. وقبل هذه العبارة مباشرة، يكتب: “في حالة الله، فإن الوجود الضروري … ينطبق عليه وحده ويشكل جزءاً من ماهيته، كما أنه لا ينطبق على أي شيء آخر”. ثم يضيف لاحقا: “أنا لا أنكر أن الوجود الممكن هو نوع كمال في فكرة المثلث، تماماً كما أن الوجود الضروري هو نوع كمال في فكرة الله” (AT 7:383; CSM 2:263). إن الموقف النهائي لديكارت إذن هو أن الماهية والوجود متطابقان في كل شيء. وما يميز الله عن المخلوقات هو رتبة وجوده. وبوسعنا أن نسوق دليلا أنطولوجيا على وجود الله، لكن ليس لإثبات وجود الجواهر المتناهية، لأن فكرة الوجود المُطلَق الكمال تنطوي، بنحو فريد، على وجود ضروري، أو أنطولوجي مستقل.
3. الاعتراضات والردود
اعتُبرت نسخة ديكارت من الدليل الأنطولوجي، بسبب سهولتها، أكثر بساطة ووضوحاً في مغالطتها من تلك التي طرحها أنسلم في القرن الحادي عشر. ولكن عندما يتم طرح مجمل النظام الديكارتي، فإن الدليل يثبت أنه مرن للغاية، على الأقل وفقاً لشروطه الخاصة. والواقع أن نسخة ديكارت متفوقة على نسخة سلفه بقدر ما ترتكز على نظرية الأفكار الفطرية، ومبدأ الإدراك الواضح والمتميز. وهذان المذهبان يحصنان ديكارت من التهمة الموجهة إلى أنسلم، على سبيل المثال، بأن الدليل الأنطولوجي يحاول تعيين الله بالوجود عن طريق الإنشاء التعسفي لوجود في مفهوم الوجود المُطلَق الكمال. وفي التأمل الثالث، يكتشف المتأمل أن فكرته عن الله ليست خيالاً اخترعه ببساطة، بل إنه شيء أصيل في العقل. وكما سنرى فيما يلي، فإن هذين المذهبين يوفران الموارد اللازمة للرد على اعتراضات أخرى أيضاً.
في ضوء مناقشتنا السابقة بشأن الحالة غير المنطقية للدليل الأنطولوجي، فقد يبدو من المدهش أن يأخذ ديكارت الاعتراضات عليها على محمل الجد. كان من المفترض أن يكون قادرًا على استبعاد معظم الاعتراضات بحيلة واحدة أنيقة بالإصرار على الطبيعة غير المنطقية للبرهان. وهذا ينطبق بشكل خاص على الاعتراض القائل بأن الدليل الأنطولوجي يتهرب من الإجابة على السؤال. إذا كان وجود الله بديهيًا في نهاية المطاف، ومعروفًا من خلال حدس بسيط للعقل، فلا توجد أسئلة يمكن إثارتها. لسوء الحظ، لا يمكن رفض جميع الاعتراضات على الدليل الأنطولوجي بسهولة، وذلك للسبب البسيط المتمثل في أنها لا تعتمد جميعها على افتراض أننا نتعامل مع برهان شكلي.
ورغم تجاهل الكثير منها، في كثير من الأحيان، إلا أن أكثر انتقادات الدليل الأنطولوجي شهرة من قِبَل معارضين رسميين إلى ديكارت كانت إلى كتابه التأملات. وقد رد بدوره على هذه الاعتراضات – في بعض الأحيان بإجابات مطولة – على الرغم من أن العديد من القراء المعاصرين وجدوا ردوده غامضة وغير مُرضية. ويمكننا أن نفهم ردوده بشكل أفضل، وفي بعض الحالات، أن ننقحها من خلال الاستعانة بالمناقشات التي جرت في الأقسام السابقة.
أحد الاعتراضات الكلاسيكية على الدليل الأنطولوجي، والتي طرحها لأول مرة جونيلو ضد نسخة أنسلم للبرهان، هو أنه يقوم بقفزات منطقية غير مشروعة من عالم التصورات الذهني إلى عالم الأشياء الحقيقي. والادعاء هو أنه حتى لو سلَّمنا بأن الوجود الضروري لا ينفصل عن فكرة الله (وفقًا لمصطلحات كانط، حتى لو كان الوجود الضروري تحليليًا لتصور “الله”)، فلا شيء يتبع من هذا عما يوجد أو لا يوجد في العالم الفعلي. ويطرح يوهانس كاتيروس، مؤلف المجموعة الأولى من الاعتراضات على التأملات، هذه النقطة على النحو التالي:
[6] حتى لو سلمنا بأن الوجود المُطلَق الكمال يحمل ضمناً معنى الوجود بحكم اسمه ذاته، فإن هذا لا يعني أن الوجود المعْنِي هو أي شيء واقعي في العالم الحقيقي؛ كل ما يعنيه ذلك هو أن تصور الوجود مرتبط ارتباطاً لا ينفصم بتصور الوجود الأسمَى. لذا لا يمكنك أن تستنتج أن وجود الله هو أي شيء فعلي ما لم تفترض أن الوجود الأسمَى موجود بالفعل؛ لأنه عندئذٍ سوف يتضمن بالفعل كل الكمالات، بما في ذلك كمال الوجود الحقيقي (AT 7:99; CSM 2:72).
ولكي يتمكن ديكارت من مواجهة هذا التحدي، يتعين عليه أن يشرح كيف “يسد” الفجوة الاستدلالية بين الفكر والواقع. والواقع أن مبدأ الإدراك الواضح والمتميز يهدف إلى تحقيق هذا الغرض على وجه التحديد. ووفقاً لهذا المبدأ، الذي يحاجج به في التأمل الرابع، فإن كل ما يدركه المرء أو يفهمه بوضوح وتميز هو حقيقي – وهذا لا يصدق على الأفكار فحسب، بل وعلى الأشياء في العالم الحقيقي التي تمثلها هذه الأفكار. بالتالي، فإن التزام ديكارت بمبدأ الإدراك الواضح والمتميز يسمح له بالتهرب من اعتراض آخر كان يطارد نسخة أنسلم من الدليل.
الاعتراض السابق يتعلق بصعوبة أخرى أثارها كاتيروس. من أجل بيان أن الاستدلال من العقلي إلى ما هو خارج العقل خطأ منطقي، لاحظ النقاد أنه إذا كانت مثل هذه الاستدلالات مشروعة، فيمكننا الإكثار من الأدلة الأنطولوجية للجُزُر المثالية، والأسود الموجودة، وجميع أنواع الأشياء التي إما لا وجود لها، أو وجودها ممكن، وهكذا لا ينبغي أن تتبع بنحو أولي تصوراتها. الحيلة ببساطة هي إنشاء وجود في التصور. لذلك، ففي حين أن الوجود لا يصدر عن تصور الأسد بحد ذاته، فإنه يصدر عن تصور “أسد موجود”.
إن الرد الذي قدمه ديكارت على هذا الاعتراض، والذي أخذه على محمل الجد، كان شديد التعقيد، وتمت صياغته في إطار نظرية “الطبائع الحقيقية والثابتة”. ويمكننا تبسيط الأمور بالتركيز على عناصرها الأساسية. ومن بين الخطوات الأولى التي اتخذها ديكارت طرح نقطة ناقشناها في وقت سابق (أنظر الفقرة [5] في القسم 2)، بالتحديد: أن الوجود مُتضَمَّن في فكرة كل شيء ندركها بوضوح وبتميز: فالوجود الممكن (أو التابع) موجود في فكرتنا الواضحة والمتميزة عن كل شيء متناه، والوجود الضروري (أو المستقل) مُتضمَّن بشكل فريد في فكرة الله (AT 7:117; CSM 2:83). لذا، فبالنسبة لديكارت، لا يتعين علينا أن نُنشئ وجودا في فكرة شيء ما، فإذا كانت هذه الفكرة واضحة ومتميزة؛ فالوجود مُتَضمَّن بالفعل في كل فكرة واضحة ومتميزة. لكن هذا لا يعني أن الشيء الذي تمثله هذه الفكرة موجود بالفعل، عدا في حالة الله. ولا يمكننا أن ننتج أدلة أنطولوجية للأشياء المتناهية لسبب بسيط يتمثل في أن الأفكار الواضحة والمتميزة عن هذه الأشياء تتضمن وجودا تابعا فحسب. إن الوجود الفعلي تقتضيه فقط فكرة الله، التي تتضمن، بشكل فريد، وجودا مستقلا.
إن التعقيب الطبيعي على هذا الرد سيكون بالسؤال عن فكرة أسد لها ليس لها وجود ممكن بل ضروري تماماً. فإذا كان نهج ديكارت في الاستدلال صحيحا، فإن هذا يعني أن يتبع عن تلك الفكرة أن مثل هذا المخلوق موجود. تتطلب صيغة الاعتراض النقطة الثانية والأعمق التي أشار إليها ديكارت، والتي ألمح إليها في رده الرسمي. وهي أن فكرة أسد – ناهيك عن أن فكرة الأسد تتضمن وجودا ضروريا – غامضة ومرتبكة إلى حد كبير. وكما يقول ديكارت، فإن طبيعة الأسد “ليست تامة الوضوح بالنسبة لنا” (Axiom 10, Second Replies; AT 7:117; CSM 2:84). ولأن هذه الفكرة ليست واضحة ومتميزة، فإن نهج البرهنة المستخدم في الدليل الأنطولوجي لا ينطبق عليها. ولنتذكر أن النهج الهندسي للإثبات يرتكز على مبدأ الإدراك الواضح والمتميز، ويتمثل في استخلاص محتويات أفكارنا الواضحة والمتميزة. إذا لم تكن الفكرة واضحة ومتميزة، فلن نتمكن من استخلاص أي استنتاجات منها عن الأشياء خارج الفكر.
إن الفارق الأساسي، إذن، بين فكرة الله من جهة، وفكرة الوجود الضروري للأسد، هو أن الأولى يمكن إدراكها بوضوح وتميز. وبالنسبة لديكارت، فإنها حقيقة غير مبررة أن بعض الأفكار يمكن إدراكها بوضوح وتميز بينما لا يمكن ذلك مع أفكار أخرى. وقد اتهمه بعض النقاد بالدوجمائية في هذا الصدد. فلماذا يُسمح لديكارت بتشريع نطاق إدراكاتنا الواضحة والمتميزة؟ ربما نستطيع أن ندرك بوضوح وتميز شيئًا لم يكن هو قادرًا على إدراكه.
لا يمكن تبرئة ديكارت بالكامل من هذه التهمة، ولكن يمكن تقديم نقطتين مهمتين في دفاعه. أولاً، لديه أسباب مبدئية للاعتقاد بأن الجميع لديهم نفس المجموعة من الأفكار الفطرية، أو الأفكار الواضحة والمتميزة. عندما أثبت المتأمِّل لأول مرة وجود الله في التأمل الثالث، أثبت أيضًا أن الله خير مطلق، وبالتالي فإن الله ليس مخادعًا. إحدى عواقب إحسان الله الكامل هي أنه غرس نفس مجموعة الأفكار الفطرية في كل العقول المتناهية. وبالتالي، يشعر ديكارت بأنه مُبرَّر في استنتاجه بأن حدود قدرته على الإدراك الواضح والمتميز ستكون مشتركة بين الجميع.
ثانياً، عندما يرد ديكارت على اعتراضات موجهة إلى الدليل الأنطولوجي، مثل تلك التي ناقشناها أعلاه، فإنه عادة ما يفعل أكثر من مجرد الإصرار بتزمت على مجموعة فريدة من الأفكار الواضحة والمتميزة. فهو يحاول أيضاً تبديد الارتباك الذي يعتقده كامنا في أصل الاعتراض. وبما أن الدليل الأنطولوجي يصير في نهاية المطاف مُسلَّمَة، فإن مصدر الاعتراض وفقاً لتشخيص ديكارت هو فشل المعترض في إدراك هذه المُسلَّمَة بوضوح وتميز. وعلى هذا فإن ديكارت يكرس الجزء الأكبر من جهوده لمحاولة إزالة تلك التحيزات الفلسفية التي تعيق المعترض عليه من حَدس تلك المُسلَّمَة. ولكن هذه الجهود لا تكون واضحة دائماً. إن ديكارت بارع في الحفاظ على تظاهره بالرد على الانتقادات ببرهان صوري. لكن ردوده على اعتراضات كاتيروس على الدليل الأنطولوجي يمكن قراءتها على أفضل وجه باعتبارها جهداً موسعاً لتبديد التحيز والتشوش، وذلك لتمكين قارئه من حدس وجود الله بنفسه.
ولنعد الآن إلى الاعتراض القائل بأن الدليل الأنطولوجي ينزلق بشكل غير مشروع من عالم العقل إلى عالم خارج العقل. لقد رأينا كيف رد ديكارت على هذا الاعتراض، ولكن هذا الاعتراض مرتبط باعتراض آخر أصبح مرتبطاً بليبنتز. يزعم ليبنتز أن نسخة ديكارت من الدليل الأنطولوجي غير مكتملة. فهي تُبين فقط أنه إذا كان وجود الله ممكناً، أو غير متناقض، إذن فإن الله موجود. ولكنها تفشل في برهنة العنصر الشرطي في تلك القضية الشرطية (Robert Adams 1998, 135). ولتعزيز هذا الاعتراض، يلاحظ أحياناً أن الكمالات الإلهية (القدرة المطلقة، والعلم الكلي، والخيرية، والسرمدية، إلخ) قد تكون غير متسقة مع بعضها البعض. ويرتبط هذا الاعتراض بالاعتراض السابق من حيث أن الفكرة الأساسية في الحالتين هي أن دليل ديكارت يقيدنا بالادعاءات المتعلقة بتصور الله، والتي تفتقر إلى المضمون الوجودي. ولكي يعالج هذه المسألة بنفسه، صاغ ليبنتز نسخة مختلفة من الدليل الأنطولوجي (see Adams 1998, 141f).
لقد مات ديكارت قبل وقت طويل من صياغة ليبنتز لهذا النقد، لكنه كان مألوفًا له من المجموعة الثانية من الاعتراضات (Marin Mersenne et al.) (AT 7:127; CSM 2:91). يرد بالاحتكام مرة أخرى إلى مبدأ الإدراك الواضح والمتميز، والذي ينص على أنه إذا كان هناك شيء مُتضَمَّن في الفكرة الواضحة والمتميزة لشيء ما، إذن، فهو ليس ممكنًا فحسب، بل إنه حقيقي أيضًا بالنسبة لهذا الشيء في الواقع. (ربما قال ديكارت أنه إذا كان من الممكن تصور شيء ما، فهذا يعني أنه ممكن، وأن الوجود الذي يتمتع بكل الكمالات يمكن تصوره، لكن لديه مبدأ أقوى تحت تصرفه في قاعدة الصواب). في الواقع، يعتقد ديكارت أنه قد استوفى بالفعل الشرط الإضافي لميرسين وليبنتز. ولكن نسخة ميرسين من الاعتراض تذهب إلى أبعد من ذلك، فتؤكد أنه لكي نعرف على وجه اليقين أن طبيعة الله ممكنة، فلابد أن يكون لدينا فكرة كافية تشمل كل الصفات الإلهية والعلاقات بينها (نفس المصدر) – وهو ما ينفي ديكارت امتلاكنا له. ويرد ديكارت على هذا الانتقاد على النحو التالي:
[7] بقدر ما يتعلق الأمر بتصوراتنا فلا يوجد استحالة في طبيعة الله؛ بل على العكس من ذلك، فإن جميع الصفات التي ندرجها في تصور الطبيعة الإلهية مترابطة إلى حد أنه يبدو لنا متناقضًا إن زُعم أن أيًا منها لا ينتمي إلى الله (AT 7:151; CSM 2:107).
من الصعب أن نرى كيف يعالج هذا البيان بمفرده انتقادات ميرسين، ولكن هنا، مرة أخرى، يمكننا أن نحصل على فهم أفضل لما يدور في ذهن ديكارت بالاحتكام إلى مناقشتنا السابقة في القسم 2. لاحظنا هناك أنه وفقًا لوجهة نظر ديكارت، لا يوجد سوى تمييز عقلاني بين الجوهر وأي من صفاته، وبين أي صفتين لجوهر واحد. كما يؤكد أن الله له صفات فقط وليس له أحوال أو خصائص عَرَضيَّة. وهذا يعني أن ما يوجد هو محض تمييز عقلاني بين جميع الكمالات الإلهية، وهو الأمر الذي يؤكده بوضوح في مراسلاته (see, e.g., AT 4:349; CSMK 3:280). في التأمل الثالث، يلاحظ أيضًا أن “وحدة أو بساطة أو تلازم جميع الصفات الإلهية لله هي واحدة من أهم الكمالات التي أفهم أنه يتصف بها” (AT 7:50; CSM 2:34). لذا، فليس الأمر فحسب عدم التناقض بين الكمالات الإلهية، بل إننا نفهم أيضًا أن أحد أهم الكمالات هو البساطة (contra Curley 2005)، وهو ما يعني ببساطة أنه لا يوجد تمايز بين صفات الله: إن قدرة الله المطلقة هي ذاتها علمه المطلق الذي هو ذاته إحسانه، إلخ. إن التمييز بين الصفات الإلهية يقتصر على فكرنا أو عقلنا. هذا إذن ما يعنيه بقوله في المقطع [7] أن الصفات الإلهية “مترابطة”، وهو ما يردد ملاحظة في التأمل الثالث في المقطع المتعلق بـ “الترابط والتلازم بين الكمالات” (نفس المصدر). ربما لم تكن ردود ديكارت لترضي ليبنتز وميرسين، لكن يمكننا تقدير كيف أن لهما أسس أصيلة في نظامه الفلسفي.
ولعل الاعتراض الأكثر شهرة على الدليل الأنطولوجي هو أن الوجود ليس خاصية أو محمولاً predicate. وقد اكتسب هذا الاعتراض شعبية كبيرة على يد كانط، وأصبح شعاراً معروفاً لدى كل خريج جامعي بارع في الفلسفة. في زعمه أن الوجود متَضمَّن في فكرة الوجود المُطلَق الكمال، إلى جانب كل الصفات الإلهية الأخرى، فيبدو أن نسخة ديكارت من الدليل تقع تحت طائلة هذا الاعتراض.
من غير الواضح بالطبع أن الوجود ليس محمولا. ولإقناعنا بهذه النقطة، يلاحظ كانط أنه لا يوجد فرق فعلي بين تصور مائة ثالر حقيقي (عملات معدنية شائعة في زمن كانط) ومفهوم مائة ثالر ممكنة. وقتما نفكر في أي شيء، فإننا نعتبره موجودًا، حتى لو لم يكن الشيء المعني موجودًا بالفعل. وبالتالي، فإن الوجود لا يضيف أي شيء إلى تصور الشيء. فما الوجود إذن إن لم يكن محمولا؟ إن إجابة كانط هي أن الوجود “مجرد تموضع شيء” أو “صلة الحكم”، والمسألة هنا هي أنه عندما نقول “الله موجود” فإننا ببساطة نؤكد وجود موضوع يستجيب لتصور الله. نحن لا ننسب إلى الله أية محمولات جديدة، بل نحكم فقط بوجود موضوع، بكل محمولاته، في العالم ( CPR:B 626-27).
وقد صقل برتراند راسل صياغة كانط للاعتراض في وقت لاحق في نظريته الشهيرة للأوصاف theory of descriptions . وهو يزعم أن العبارات الأنطولوجية مثل “الله موجود” مضللة فيما يتصل بشكلها المنطقي. فبينما تعمل عبارة “موجود” في هذه الجملة على أنها خبر نحوي، فإنها تؤدي وظيفة منطقية مختلفة تمام الاختلاف، ولا يتبين ذلك إلا من خلال التحليل. فإذا ما تم تحليلها على النحو اللائق، فإن عبارة “الله موجود” تعني أن “هناك واحد (وواحد فقط) هو X بحيث يكون X كلي القدرة، وكلي العلم، إلخ. تكون صحيحة”. ويرى راسل أن هذه الترجمة تظهر أن عبارة “الله موجود”، على عكس ما يبدو، لا تنسب الوجود إلى موضوع، بل تؤكد أن وصفًا معيناً (بين علامتي اقتباس مفردتين) ينطبق على شيء في الواقع. وتنعكس وجهة نظر راسل في المعالجة المنطقية الحديثة القياسية للوجود باعتباره مُحدِّدًا كَمِّيا وليس محمولاً.
والاعتقاد السائد أن ديكارت لم يكن لديه رد على هذا الاعتراض، بل افترض دون اكتراث أن الوجود خاصية دون أن ينظر في الأمر بعناية كافية. ولكن الأمر ليس كذلك. واجه بيير جاسندي، عالم تجريبي في القرن السابع عشر، ديكارت بهذا الانتقاد في المجموعة الخامسة من الاعتراضات (ويستحق الثناء لكونه أول من قال بها): “الوجود ليس كمالاً سواء في الله أو في أي شيء آخر؛ إنه ذلك الذي بدونه لا يمكن لأي كمالات أن توجد” (AT 7:323; CSM 2:224). وكما هي الحال مع معظم ردوده على جاسندي (الذي اعتبرَهُ ماديًا بغيضًا ومراوغًا)، كان رد ديكارت يأتي بشكل مقتضب إلى حد ما. لكن من الواضح من المناقشة في القسم 2 أنه كان لديه الوسائل اللازمة لمعالجة هذا الاعتراض بطريقة منهجية.
قبل أن نفحص كيف قد يدافع ديكارت عن نفسه، من المهم أن نلاحظ أن السؤال المطروح هنا عادة ما يكون في إطار غير ديكارتي، وبالتالي غالبًا ما يخطئ هدفه. على سبيل المثال، كان كل من كانط وراسل مهتمين بالقضية المنطقية المتمثلة في ما إذا كان الوجود محمولًا. على النقيض من ذلك، لم يكن ديكارت منطقيًا، وازدرى منطق الموضوع والمحمول التقليدي الموروث من أرسطو. ورغم أن ديكارت يستخدم أحيانًا نسخًا منطقية صورية للدليل الأنطولوجي كأدوات استدلالية، فإنه يرى أن وجود الله يُعرَف في نهاية المطاف بواسطة الحدس. هذه العملية الحدسية في طبيعتها نفسية. إنها ليست مسألة إسناد محمولات للموضوعات، ولكن تحديد ما إذا كان من الممكن إدراك فكرة الوجود المُطلَق الكمال بوضوح وتميز مع استبعاد الوجود الضروري منها من خلال عملية ذهنية بحتة. من المؤكد أن ديكارت كان مهتمًا بالسؤال الأنطولوجي عما إذا كان الوجود “صفة” للجواهر. وبالنسبة له، فإن نظائر الخصائص هي أفكار واضحة ومتميزة وسبل معالجتها، وليست محمولات.
وبقولنا هذا، فإن أفضل استراتيجية لديكارت للرد على النسخة الأنطولوجية من الاعتراض هي الاعتراف به، أو على الأقل بعض جوانبه. يؤكد ديكارت صراحةً وجهة نظر كانط القائلة بأن الوجود لا يضيف أي شيء إلى فكرة شيء ما (شريطة أن يُنظر إلى مصطلحي “الفكرة” و”التصور” باعتبارهما عنصرين نفسيين). مرة أخرى، يجب أن نتذكر المقطع [4] من الردود الثانية: “الوجود مُتضَمَّن في فكرة أو مفهوم كل شيء مفرد، لأننا لا نستطيع تصور أي شيء إلا باعتباره موجودًا” (Axiom 10, AT 7:166; CSM 2:117). لذا، يتفق ديكارت مع كانط على أنه لا يوجد فرق تصوري بين تصور جوهر معين على أنه موجود بالفعل، وتصوره على أنه ممكن فحسب. في الحالة الأولى، ينتبه المرء إلى الوجود المُتضَمَّن في كل فكرة واضحة ومتميزة، وفي الحالة الأخرى يتجاهل المرء وجود الشيء دون استبعاده بالفعل. لكنه كان ليؤكد على اختلاف تصوري آخر لم يتناوله كانط وغيره من النقاد، ألا وهو الاختلاف بين درجتي الوجود – الوجود الممكن والوجود الضروري. فالأفكار الواضحة والمتميزة لكل الأشياء المتناهية لا تتضمن إلا وجودا ممكنًا أو تابعا، في حين أن الفكرة الواضحة والمتميزة عن الله تتضمن وجودا ضروريا أو مستقلا كلياً (نفس المصدر). وكما ناقشنا سابقاً، فإن الدليل الأنطولوجي يرتهن بهذا التمييز.
ثمَّ حدس آخر يكمن في الادعاء بأن الوجود ليس خاصية، وهو أن هناك ارتباطاً وثيقا بين الفرد ووجوده بأكثر من الارتباط التقليدي بين الجوهر والصفة، وخاصة إذا تصورنا الصفة المعنية على أنها شيء عرضي. فإذا كان الوجود عرضياً، فيمكن للشيء أن يكون بدون وجوده، وهو ما يبدو عبثياً. ولا يبدو أقل سخافة أن نقول إن الوجود خاصية بين خصائص أخرى (عرضية أو جوهرية)، فكيف يمكن لشيء أن يكون له صفات إذا لم يكن موجوداً؟ ويشارك ديكارت هذا الحدس. فهو لا يعتقد أن الوجود خاصية بالمعنى التقليدي، أو أنه حتى متميز عن الجوهر الذي يقال إنه يحمله. ولنتذكر الرأي الذي ناقشناه في القسم الثاني، والذي يقول إن هناك تمييزاً عقلانياً فحسب بين الجوهر ووجوده، أو بين ماهية الجوهر ووجوده. وهذا يعني أن التمييز بين الجوهر ووجوده ينحصر في الفكر أو العقل. إن البشر، في سعيهم لفهم الأشياء باستخدام عقولهم المتناهية، يرسمون تمايزات في الفكر لا تتحقق في الواقع. فالجوهر (سواء كانت مخلوقا أو إلهيا) في الواقع هو مجرد وجوده.
إن الغرض من هذا الدفاع عن ديكارت ليس إصدار حكم على ما إذا كان لديه التفسير الصحيح للوجود، بل إظهار أنه عالج بشكل متمرس ومنهجي ما كان من أكثر المسائل إثارة للقلق في تاريخ الفلسفة. فهو لا يقدم هذا الافتراض الخاص بأن الوجود صفة من أجل تلبية احتياجات الدليل الأنطولوجي. والواقع أن الوجود من وجهة نظر ديكارت ليس خاصية بالمعنى التقليدي، كما لا يمكن للمرء أن يتصور شيئاً ما دون اعتباره موجوداً. وربما لا يقتنع منتقدو ديكارت بتفسيره للوجود، ولكن يبقى عليهم تحمل عبء تقديم تفسير أفضل. ومن ثم فإن تركيز النقاش سوف يتحول إلى السؤال عمن لديه الأنطولوجيا الصحيحة، وليس ما إذا كان الدليل الأنطولوجي صحيحا أم لا.
____________________________________________
المراجع
الأعمال الرئيسية
- Adam, Charles, and Paul Tannery, 1964–1976. Oeuvres de Descartes, vols. I-XII, revised edition. Paris: J. Vrin/C.N.R.S. [references to this work (abbreviated as AT) are by volume and page, separated by a colon.]
- Cottingham, John, Robert Stoothoff, Dugald Murdoch, and (for vol. 3) Anthony Kenny, eds. and trans., 1984. The Philosophical Writings of Descartes, vols. 1–3. Cambridge: Cambridge University Press. [All quotations are taken from this edition (abbreviated as CSM); any deviations from it are the author’s own. References to this work are by volume and page, separated by a colon.]
- Kant, Immanuel, 1990. Critique of Pure Reason, trans. Norman Kemp Smith. London: Macmillan Education Ltd. [abbreviated as CPR]
الأعمال الثانوية
- Alston, William P., 1967. “The Ontological Argument Revisited” in Descartes: A Collection of Critical Essays, Willis Doney (ed.), New York: Doubleday, 278–303.
- Abbruzzese, John Edward, 2007. “The Structure of Descartes’ Ontological Proof,” British Journal for the History of Philosophy, 15: 253–282.
- Adams, Robert, 1994. Leibniz: Determinist, Theist, Idealist, New York: Oxford University Press.
- Barnes, Jonathan, 1972. The Ontological Argument, London: Macmillan.
- Beyssade, Jean-Marie, 1992. “The Idea of God and Proofs of His Existence,” in The Cambridge Companion to Descartes, Cambridge: Cambridge University Press, 174–199.
- Chappell, Vere, 1997. “Descartes’ Ontology,” Topoi, 16: 111–127.
- Cottingham, John, 1986. Descartes, Oxford: Blackwell.
- Cress, Donald, 1975. “Does Descartes have Two Ontological Arguments?”, International Studies in Philosophy, 7: 155–166.
- –––, 1973. “Does Descartes ‘Ontological Argument’ Really Stand on its Own?”, Studi-Internazionali-di Filosofia, 5: 127–136.
- Crocker, Sylvia Fleming, 1976. “Descartes’ Ontological Argument,” Modern Schoolman, 53: 347–377.
- Curley, Edwin, 2005. “Back to the Ontological Argument” in Early Modern Philosophy: Mind, Matter, and Metaphysics, C. Mercer and E. O’Neill (eds.), Oxford: Oxford University Press, 46–64.
- –––, 1978. Descartes Against the Skeptics, Cambridge, MA: Harvard University Press.
- Doney, Willis, 1993. “Did Caterus Misunderstand Descartes’s Ontological Proof?”, in Essays on The Philosophy and Science of Rene Descartes, Stephen Voss (ed.), New York: Oxford University Press.
- –––, 1978. “The Geometrical Presentation of Descartes’s A Priori Proof,” in Descartes: Critical and Interpretive Essays, Michael Hooker (ed.), Baltimore: Johns Hopkins University Press, 1–25.
- Dougherty, M.V., 2002. “The Importance of Cartesian Triangles: A New Look at Descartes’s Ontological Argument,” International Journal of Philosophical Studies, 10(1): 35–62.
- Dutton, Blake, 1993. “Suarezian Foundations of Descartes’ Ontological Argument,” The Modern Schoolmen, 70(4): 245–58.
- Edelberg, Walter, 1990. “The Fifth Meditation,” Philosophical Review, XCIX: 493–533.
- Forgie, J. William, 1976. “Is the Cartesian Ontological Argument Defensible,” New Scholasticism, 50: 108–121.
- Gaukroger, Stephen, 1996. “The Role of the Ontological Argument,” Indian Philosophical Quarterly, 23(1–2): 169–180.
- Gueroult, Martial, 1984. Descartes’s Philosophy Interpreted According to the Order of Reasons, vol. 1, Roger Ariew (trans.), Minneapolis: University of Minnesota Press.
- –––, 1955. Nouvelles réflexions sur la preuve ontologique de Descartes, Paris: J. Vrin.
- Harrelson, Kevin, 2009. The Ontological Argument from Descartes to Hegel, Amherst, New York: Humanity Books/Prometheus.
- Hartshorne, Charles, 1965. Anselm’s Discovery, LaSalle: Open Court.
- Hick, John and McGill, Arthur C., 1967. The Many-Faced Argument, New York: The Macmillan Company.
- Kenny, Anthony, 1997. “Descartes’ Ontological Argument,” in Descartes’ Meditations: Critical Essays, Vere Chappell (ed.), New York: Rowman & Littlefield Publishers, Inc, 177–194.
- –––, 1995. Descartes: A Study of His Philosophy, Bristol: Thoemmes Press, 146–171.
- –––, 1970. “The Cartesian Circle and the Eternal Truths,” Journal of Philosophy, LXVII: 685–700.
- Koistinen, Olli, 2014. “The Fifth Meditation: externality and true and immutable natures,” in The Cambridge Companion to Descartes’ Meditations, David Cunning (ed.), New York: Cambridge University Press, 223–239.
- Newman, Lex, and Alan Nelson, 1999. “Circumventing Cartesian Circles,” Noûs, 33: 370–404.
- Nolan, Lawrence and Alan Nelson, 2006. “Proofs for the Existence of God,” The Blackwell Guide to Descartes’ Meditations, Stephen Gaukroger (ed.), Oxford: Blackwell Publishing, 104–121.
- Nolan, Lawrence, 2018. “Descartes,” Ontological Arguments, Graham Oppy (ed.), Cambridge: Cambridge University Press, 53–74.
- –––, 2005. “The Ontological Argument as an Exercise in Cartesian Therapy,” Canadian Journal of Philosophy, 35: 521–562.
- –––, 1998. “Descartes’ Theory of Universals,” Philosophical Studies, 89(2–3): 161–180.
- –––, 1997. “The Ontological Status of Cartesian Natures,” Pacific Philosophical Quarterly, 78: 169–194.
- Oppenheimer, Paul, and Zalta, Edward. 1991. “On the Logic of the Ontological Argument” in Philosophical Perspectives 5: The Philosophy of Religion, J. Tomberlin (ed.), Atascadero: Ridgeview, 509–29.
- Oppy, Graham, 1995. Ontological Arguments and Belief in God, Cambridge: Cambridge University Press.
- Plantinga, Alvin (ed.), 1965. The Ontological Argument, New York: Doubleday.
- Secada, Jorge, 2000. Cartesian Metaphysics, Cambridge University Press.
- Schmaltz, Tad, 2014. “The Fifth Meditation: Descartes’ doctrine of true and immutable natures,” in The Cambridge Companion to Descartes’ Meditations, David Cunning (ed.), New York: Cambridge University Press, 205–222.
- –––, 1991. “Platonism and Descartes’ View of Immutable Essences,” Archiv für Geschichte der Philosophie, 73: 129–70.
- Scribano, Emanuela, 1994. L’esistenza di Dio: Storia della prova ontologica da Descartes a Kant, Roma-Bari: Laterza.
- Wertz, S. K., 1990. “Why Is the Ontological Proof in Descartes’s Fifth Meditation?” Southwest Philosophy Review, 6(2): 107–109.
- Wippel, John, 1982. “Essence and Existence,” in The Cambridge History of Later Medieval Philosophy, eds. Norman Kretzmann, Anthony Kenny and Jan Pinborg. New York: Cambridge University Press, 385–410.
- Wilson, Margaret, 1978. Descartes, New York: Routledge and Kegan Paul.
أدوات أكاديمية
How to cite this entry. | |
Preview the PDF version of this entry at the Friends of the SEP Society. | |
Look up topics and thinkers related to this entry at the Internet Philosophy Ontology Project (InPhO). | |
Enhanced bibliography for this entry at PhilPapers, with links to its database. |
مصادر أخرى على الإنترنت
- The Ontological Argument, entry in the Internet Encyclopedia of Philosophy, by Kenneth Einar Himma (Seattle Pacific University)
- Medieval Sourcebook: Philosophers’ Criticisms of Anselm’s Ontological Argument for the Being of God, by Paul Halsell (Fordham University)
- Medieval Sourcebook: Thomas Aquinas: On Being and Essence, by Paul Halsell (Fordham University)
- “On the Logic of the Ontological Argument”, paper by Paul E. Oppenheimer and Edward N. Zalta.
- Philosophy of Religion.Info by Tim Holt.
المدخلات ذات الصلة
Anselm of Canterbury [Anselm of Bec] | Aquinas, Thomas | Descartes, René | Descartes, René: epistemology | Descartes, René: life and works | Descartes, René: modal metaphysics | Elisabeth, Princess of Bohemia | existence | Kant, Immanuel | ontological arguments | Russell, Bertrand