قام ستيف بولسون بإجراء هذا الحوار لمجلة لوس أنجلوس مع أستاذ الدراسات النسوية جياترى سبيفاك ، وتحدثت فيه عن موضوعات عديدة، وهذا نص الحوار:
-
ستيف بولسون: لقد وصلت طباعة ترجمتك لكتاب لدريدا عن “الجراماتولوجى” للطبعة الأربعين، فلماذا نحتاج إلى ترجمة منقحة لهذا الكتاب؟
جاياتري سبيفاك : عندما قمت بترجمة الكتاب، لم أكن أعرف دريدا أو أي شيء عن تفكيره. لذلك بذلت قصارى جهدي لتقديم الكتاب وترجمته، واشتهرت مقدمتى تلك، ولذلك أشعر تجاهها بالامتنان. ولكن الآن، وبعد فترة من الاشتغال على أعمال دريدا، يمكنني أن أقول للقراء الكثير عن هذا المفكر الاستثنائي، لذلك أضفت خاتمة للكتاب. هذا تكريم منى لحياة معاشة وليس مواجهة لنص جديد عظيم .
-
وهل تغير فهمك للكتاب على مدى العقود الأربعة الماضية منذ أول ترجمة له؟
هذا ما حدث بالفعل. فعندما بدأت الترجمة، لم أتبين انتقاد الكتاب لفكرة “المركزية الأوروبية” لأنها لم تكن شائعة كل الشيوع في عام 1967. كان دريدا جزائريا يهوديا، ولد قبل الحرب العالمية الثانية، وكان في الواقع يواجه الفلسفة الغربية من داخلها. هو رجل ذكى، كان يبحث في مركزية أوروبا. ولا أظن أنني قد استوعبت هذا الجانب من فكره كما هو حالى الآن. أفهم أيضا الخيط الذي يلملم أطرافه من جهة كيف نقرأ بل ونعيش كما ينبغى، وهو ما لم يكن واضحا بالنسبة لي. وإننى أعرف الآن المزيد عن هيجل أكثر مما كنت أعرف وقتها لذلك استطعت أن أربط بينه وبين ديريدا .
– لذلك رأيت فى هذا الكتاب نقدا للفلسفة الغربية؟
هذا ما يعنيه اصطلاح “تفكيك”، أليس كذلك؟ انها ليست مجرد تدمير بل وبناء. إنه حميمية نقدية، وليس حيادية نقدية. ومن ثم فأنت تتحدث في الواقع من الداخل. هذا ما تعنيه التفكيكية. مرة قال أستاذي بول دي مان لناقد آخر رفيع المقام، وهو فريدريك جيمسون، “فريد، يمكنك أن تقوم فقط بتفكيك ما تحب”. لأنك تقوم بالتفكيك من الداخل، بألفة حقيقية. إنه ذلك النقد الذى تقلب فيه ما تنقده رأسا على عقب.
-
ما الذى حاول دريدا تفكيكه؟ كيف حاول تفسير الفلسفة الغربية تفسيرا مغايرا؟
إن موضوع اهتمامى هو استمرار هيمنتها على مدى قرون دون تغيير. فجماعات بكاملها همشت لأن خطابا سائدا قد استقر. وقال أيضا شيئا قويا للغاية حول الشفوية الأفريقية: فالأفارقة يمكنهم تذكر الماضى حتى سبعة أجيال، ولقد فقدنا تلك القدرة. فـ”الكتابة” تحل محل مواد نفسية تسمى “الذاكرة”. يربط دريدا هذا الفهم بفرويد. وهكذا كان يقول انظر للواقع بعناية. فهو مشفر بحيث أن آخرين، حتى ولو كانوا غير موجودين، قادرون على فهم ما نقوله. لقد بحث كيف قمعت التقاليد الفلسفية هذا.
-
بدأتى العمل على ترجمة كتاب الجراماتولوجى أواخر الستينات. ولم تكونى باحثة معروفة وقتها، ولم يكن دريدا معروفا إلى حد كبير في الولايات المتحدة. والكتاب شديد التجريد، وصعب للغاية، ولا يزال عصيا على القراءة. فلماذا شرعت فى العمل على هذا المشروع الشاق؟
حسنا، لم أكن أعرف من هو دريدا مطلقا. كان عمري 25 وأعمل أستاذا مساعدا في جامعة أيوا عام 1967، وأحاول أن أحافظ على مغايرتى الفكرية. لذلك كنت أطلب شراء الكتب من الكتالوج التي تبدو غير عادية، وعلى هذا النهج قررت طلب هذا الكتاب.
-
لذلك قرأتى الكتاب بلغته الفرنسية ثم فكرت فى ترجمته إلى الإنجليزية؟
لا لا. تمكنت من قرائته ورأيت فيه كتابا غير عادي. كان هذا قبل الانترنت، لذلك لم يخبرنى أحد شيئا عن دريدا. ولم يلتق أستاذي دريدا عندما غادرت كورنيل، لذلك لم أعرف حقا من هو. فدارت بخلدى هذه العبارة “حسنا، إننى أجنبية شابة وذكية، ولدى هنا مؤلف مجهول. ولن يتعاقد معى أحد لنشر كتاب حوله، لذلك قلت لماذا لا أحاول أن أترجم له؟ ” وسمعت في حفلة كوكتيل أن دار نشر جامعة ماساتشوستس تنشر الترجمات، لذلك كتبت للعاملين فيها خطابا أستعلم فيه الأمر أواخر 1967 أو أوائل 1968. أخبرونى فيما بعد أن رسالتي شجاعة للغاية وظنوا أنهم يجب أن يمنحوننى فرصة. [تضحك] انه لأمر سخيف حقا، ولكن هذا ما كان.
-
أصول متواضعة للغاية بالنسبة لكتاب أصبح كلاسيكيا.
لعلمك لقد أصابتنى الدهشة. ضع نفسك مكانى. لا الانجليزية ولا الفرنسية هى لغتى الأولى ولقد غادرت الهند فقط عام 1961. واتسمت مقدمتي بالتواضع لأنني لم أدرس الفلسفة.
-
وإنها لمقدمة طويلة للغاية. مقدمتك للكتاب تكاد أن تعتبر كتابا في حد ذاته.
هذا ما كتبته في عقدي لأنني أردت أن أكتب كتابا عنه. لذلك كتبت في عقدي، أننى لن أقوم بالترجمة إذا عجزت عن كتابة مقدمة مطولة. كنت في منتصف العشرينات عندما كتبت تلك المقدمة. والآن إنها تشعرنى بالخجل والحرج.
-
هل تواصلت كثيرا مع دريدا نفسه وقت الترجمة؟
لا، فأنا لا أعرفه على الإطلاق. التقيته فقط عام 1971. ولم أعرفه حتى جاء لي وقال بالفرنسية “اسمى جاك دريدا”، وكدت أن أموت.
-
ولكن أفترض أنك عرفته علم المعرفة فيما بعد.
نعم، أصبحنا أصدقاء. كنا حلفاء. كما تعرف، أحد الأمور التي فهمهما هو، ربما أكثر منى وقتها، معنى أن هذه الفتاة الآسيوية التي في الحقيقة لا تجيد الفرنسية، وتنشر هذا الكتاب في العالم بأسلوبها الخاص، من خارج الزمرة الأوروبية للفلسفة الرفيعة. ولسوف نخرج معا لتناول الطعام – هو رجل داكن البشرة، جزائري يهودي من السفارديم – ولسوف يعتبره الناس هنديا، وأنا الهندية ونقشي الثقافي قوي وأحيانا أرتدي زى “الساري”، وكان الأمر مدعاة للسخرية سيقول: “نعم، أنا الهندي” لقد فهم جمال وضع هذه الشابة التي لم تكن حاصلة على درجة دكتوراة من جامعة فرنسية، وليست من أهل فرنسا المتحدثين بالفرنسية الأصلية أو متحدثة باللغة الإنجليزية الأصلية، وتطرح نصه، ليس لأنها مفتونة به، بل لأنها لم تعرف من هو. قدمت نصه للعالم، والتقطوه. هناك شئ جذاب للغاية فى هذا الأمر بالنسبة له.
-
ولدت في كلكتا قبل بضع سنوات من تقسيم الهند. فهل نشأت في عائلة من المثقفين؟
نعم فعلا. تزوجت والدتي في عمر الرابعة عشرة، وولد أخي عندما بلغت الخامسة عشرة. وولد والدي في قرية على سفوح جبال الهيمالايا في بنجلاديش، في مجتمع لا يرتدون فيه الملابس قبل سن ست أو سبع سنوات. يرتدون فقط حلقة معدنية حول الوسط. وعندما يلتحقون بالمدرسة يرتدون الزوتيس dhotis. وفي فصل الشتاء، يجلسون قرب النار والحرام حول أكتافهم. ومع ذلك فان هذين الشخصين حقا من المثقفين ولاحقا قادوا حياة المثقفين وربوا أطفالهم لأجل حياة العقل. أب مؤيد للنسوية وأم نسوية. لقد تربيت تربية غير عادية. وإننى مدينة بكل شئ لأبوى.
-
هل التقسيم الذى قسم البلاد إلى دولتى الهند وباكستان له تأثير كبير على عائلتك؟
كما تعلم، ظنناه أيضا استقلالا. إن الاستقلال هو رعب التقسيم. ولذلك يعتبر التقسيم ثمنا اضطررنا لدفعه. حسنا، انه ترك أثره على أقاربي أكثر من أفراد أسرتي لأن والدي هرب فعلا من ولاية بنغالية الشرقية، والتي هي الآن بنجلادش. وعندما اجتاز امتحان الثانوية العامة بكفاءة، قال والده له: “آه، يمكنك إذن أن تعمل مديرا لمكتب البريد في بلدة المقاطعة”، وطموح والدي أكبر بكثير من ذلك، ففر إلى كلكتا عام 1917. ولقد ولدت في كلكتا. ولكن طريقة تأثير التقسيم فى حياتنا تمثلت فى أحداث الشغب الرهيبة التي نتجت عن عمليات القتل فى كلكتا عام 1946 وعن المجاعة التى حدثت عام 1942. تلك الأشياء أثرت حقا فينا. وعندما بدأ اللاجئون في القدوم، كانت والدتي، التي عملت وقتها فى مهنة أخصائية اجتماعية، تترك منزلنا في الساعة الخامسة صباحا وتذهب إلى محطة القطار للمساعدة في إعادة تأهيل اللاجئين. هذه بعض الأحداث التى ميزت طفولتي.
-
لابد أنك رأيت كيف أصبح المسلمون ينعتون بالغرباء.
بالطبع هذا أمر يتزايد الآن في الهند. وفي عام 1947 كنت صغيرة جدا – بلغت الخامسة من عمري – لأفهم الفرق بين الهندوس والمسلمين حيث كنت في منزل مسكونى. ولكن ذلك التمييز يحيط بنا. فأعمال الشغب بين الهندوس والمسلمين شاخصة أمامنا، واعتبرت وقتها أمرا غير عادي جدا لأنه حتى ذلك الحين كان هناك نوع من التعايش قديم الأزل. ولكن عندما بدأ الصراع فى حينا، ستسمع بأذنيك الله أكبر ثم هارا هارا ماهديو، ثم تعرف أن شخصا ما قد قتل. وسوف ترى إراقة الدماء. ولكننى كنت صغيرة جدا ولم أعرف في المنزل تمييزا على أساس الطائفة أو الدين أو أي شيء. وكان طلاب والدي من المسلمين داعمين لذلك، بل ويأتون له يرتدون زي الهندوس ويقولون له لا ترد على المكالمات الهاتفية في المساء. والدي نفسه رجل مسالم. وعندما يفتح منزله الصغير، سيقف مع الرجال المسلمين فى مدخل البيت والنساء والأطفال داخل المنزل، ويقول: “طالما أنا على قيد الحياة، لن يمسسكم أحد.” نحن لا نعرف التمييز كلية. وكأطفال كنا نظن أننا شعب واحد.
-
هل حصلت على شهادتك الجامعية من الهند. وكيف كففت عن الذهاب للولايات المتحدة؟
حصلت على شهادتي من جامعة كلكتا، وشرعت فى دراسة الماجستير. بلغت 18 عاما فقط ويتيمة الأب – توفي والدى عندما بلغت الثالثة عشرة – وأدركت أنني لن أحصل على تذكرة الدرجة الأولى لأنني عملت رئيس تحرير مجلة وكنت قد وجهت انتقادا شديدا للجامعة. لذلك اقترضت المال وعدت بتذكرة ذهاب فقط ومعى في جيبي 18 دولارا. ولم أرغب فى الذهاب إلى بريطانيا لأنني قد اضطرت إلى الحصول على درجة البكالوريا وذلك فى فترة ما بعد الاستقلال مباشرة. وهذا ما يبرر ذهابي إلى الولايات المتحدة. ذهبت إلى كورنيل لأنني عرفت فقط أسماء جامعات هارفارد وييل، وكورنيل، واعتقدت أن هارفارد وييل جيدة جدا بالنسبة لي.
-
اليوم أنت مشهورة كواحدة من مؤسسي دراسات ما بعد الاستعمار. هل هناك علاقة بين هذا العمل وعملك سابقا على التفكيك وترجمة دريدا؟
كما تعلمون، لم أكن مطلقا جزءا من زمرة النظرية الفرنسية. ولذلك كدخيلة اعتبرت مروجة لموضة التفكيك أقل قيمة. ولم أكن أملك صلات بآخرين. ولكن عملى فى اتجاه ما بعد الاستعمار قد كان جزءا من لحظة كتابة السيرة الذاتية التي يقوم بها معظم المهاجرين في المدن الكبرى من أبناء الطبقة المتوسطة – مثلما ظن إدوارد سعيد “فرض على الطابع الشرقي”، وفي عام 1981 عندما طلبت مني مجلة “دراسات ييل الفرنسية” للكتابة عن الحركة النسوية الفرنسية وطلبت منى مجلة كريتيكال إنكوارى (الدرس النقدى) للكتابة عن التفكيكية، سألت نفسي كيف أصبحت مرجعية فى أى مادة فرنسية؟ لذلك فكرت بطريقة مختلفة. وبالتالي، انخرطت فى هذا النوع من التفكيكية، والذي يجعلنا نبحث عما استبعد عندما نقوم بوضع الأنساق. هذا النوع من التفكيكية يقدم الوسيلة المثلى للعمل عصى على النقد ذاتيا. وهذا النوع من التفكيكية هو الذي يجعلك لا تنقد ما تقوم بتفكيكه. أنت تدخل إليه فقط. هل تتذكر الحميمة النقدية؟ حيث تحدد لحظة يعلمك فيها النص كيف تقوم بقلبه رأسا على عقب واستخدامه. ولذلك فإن هذا قد أصبح جزءا من طريقتي في العمل. بوضوح شديد، هناك صلة ما. لكن شيئا واحدا لم أقم به وهو تطبيق النظرية. فالتنظير عندى هو الممارسة. إذ يصبح مستدخلا فيك. حيث يتغير تفكيرك وهو ما يتبدى في عملك. وهذا ما حدث لى.
-
لقد أصبح مقالك المنشور عام 1985 والمعنون بـ”هل يمكن للتابع أن يتكلم؟”، نصا تأسيسيا في دراسات ما بعد الاستعمار. هل بمقدرتك أن توضحى لنا معنى كلمة “تابع”؟
إن كلمة تابع تعنى من يتلقى الأوامر ولا يصدرها. والكلمة من إبداع أنطونيو جرامشي، الذي جعل الكلمة جارية على الألسن. فقد بحث عن الناس الذين لا يعتبرون في الواقع أبناء الطبقة العاملة أو ضحايا الرأسمالية. بحث الرجل عن الناس الذين هم خارج هذا المنطق، فهو نفسه من أهل سردينيا، التى تقع خارج أعالى إيطاليا من جهة الشمال. ولكن كلمة “تابع” تعني أيضا من لا يعتبرون مواطنين. إننى أتحدث الآن عن الهند اليوم، حيث يوجد بها قطاع عريض من الناخبين من غير الأميين الذين لا يملكون أرضا في الريف. قد يصوتون لكنهم لا يعتبرون مواطنين لذلك هم تابعون.
اكتشفت أن عمة والدتي شنقت نفسها عام 1926 عندما بلغت الساعة عشرة من عمرها، لقد كانت عضوا فى مجموعة مناهضة للإمبريالية. وعجزت عن ممارسة القتل، ولذلك قتلت نفسها. لكنها انتظرت أربعة أيام حتى حاضت ومن ثم لن يظن الناس بأنها قتلت نفسها بسبب حمل غير شرعي. لقد أرادت من ذلك القول بأن المرأة لا تنتمي إلى الرجال. هل يمكنك أن تتخيل مدى صعوبة الانتظار؟ وبذلك تحدثت بجسدها.
-
لذلك قتلت نفسها تعبيرا عن فعل سياسي؟
نعم، كفعل سياسي، لأن هذا هو ما تفعله إذا كنت لا تستطيع أن تنجز عملية اغتيال. ومن ثم تقتل نفسك. أعني، أنا لا أفهم تلك الأمور، ولكننا قرأنا دوستويفسكي وقرأنا عن النضال ضد الإمبريالية في الهند لنعرف أن ما قامت به عمة والدتى قد حدث. وكانت في سن المراهقة، لذلك انتظرت لأن السبب الوحيد لتبرير قيام شابة فى سن المراهقة ومن الطبقة المتوسطة، بشنق نفسها إلا إذا كانت حاملا بطريقة غير شرعية. لقد تركت رسالة لجدتي. وسمعت قصتها من أمي، لكنني لم أتبين أن المرأة التى تناولها مقالى هى عمتي الكبرى. ولأنها من التابعين، تحدثت بجسدها، لكنها يصعب سماعها. وحين تقول بأن التابع عاجز عن الكلام فهو مثل قولك لا يوجد عدالة.
-
لذلك حتى لو تكلمت، فلن يسمع أحد لها.
هذا ما ينطبق في الواقع على الجماعات التابعة. لقد تركت فصلى وجدول أعمالي عندما بدأت فى محاولة معرفة معنى “التابع”. تناقشت مع جماعات تابعة في الهند، بالقرب من مدارسى. إنهم الذين حرمهم أجدادى على مدى ألفية من الحق في العمل الفكري – الطائفة الهندوسية. وهكذا يوميا أرى كيف يتكلمون، فهم لا يسمح لهم بالتحدث مباشرة على نحو مفهوم. بعض الناس خيرون تجاههم ومحسنون لهم غاية الاحسان، ولكن هذا لا يغير من الأمر شيئا. لقد كنت أدرس لمدة ثلاثين عاما، ولكن تدريسي بدأ عندما أخذت أسأل نفسي، هل ينبغى أن أعتبر خبيرة في النظرية الفرنسية؟
-
إن الفاتن في عملك هو ارتداؤك لقبعتين. فأنت أستاذ محتفى به في جامعة كولومبيا، وأنت أيضا عدت إلى الهند لعقود للعمل مع الطلاب الأميين في المدارس الريفية. ماذا تفعلين في تلك المدارس؟
إننى أدرب المعلمين بتعليم الأطفال. وأريهم، بقدر ما أستطيع، كيفية تدريس المناهج الحكومية. كذلك أحاول إيجاد طريقة للتدريس أحول بها بديهيات الديمقراطية لعادات عقلية يمارسها الأطفال الصغار لأنه لا حاجة للتحدث إليهم. هذه ليست الطريقة التي يجب أن يتعلم بها الأطفال؛ انها مثل الكتابة على الأسمنت الرطب. فهذا أمر غاية فى الصعوبة. انه تحد كبير لأن هذه هي العقول التي دمرناها. هؤلاء الناس ليس لديهم شيء. ولذلك فإنني أحاول تدريب المعلمين من خلال تعليم الأطفال. أذهب هناك ثمانية أو تسعة مرات في السنة ولكننى أتحدث معهم مرتين في الشهر بالهاتف. بالأمس فقط تحدث معى بعض المعلمين عن الصعوبات التي تواجههم مع المشرفين عليهم. هم جميعا من المجتمع. وكنت أقول لهم “كونوا صبورين. فقط القوا نظرة على حجم المشاكل التى واجهتنى على مدى السنوات كى أحاول الكلام على هذا النحو الذى عاينتموه “. ولذلك هو تحدي شديد الأهمية.
-
إن التعليم عادة ما يعني تعليم أساسيات القراءة والكتابة، ولكنك تتحدثين عن شيء أعمق من ذلك بكثير. تتحدثين عن الديمقراطية وتعليم الأطفال الصغار مناقشة السلطة.
إن أساتذتي أنفسهم أيضا من ذات المجتمع. من الذين لا يملكون أرضا. أعني أن معرفة القراءة والكتابة والحساب ليست في حد ذاتها بالأمر الكبير، وخصوصا عندما يعتبر التعليم المتاح تعليما فى غاية السوء. بالطبع أثمن عاليا المعرفة بالقراءة والكتابة والحساب. ومع ذلك، لقد عرفت اثنين أو ثلاثة من الأميين من أبناء هذا المجتمع على مدى السنوات الثلاثين الماضية وتحدثت معهم كأنداد لى فكريا لأنهم لم يدمرهم التعليم الردئ.
-
هذا يبدو وكأنك تقولين أن التعليم الحقيقي هو بالتعريف ممارسة أخلاقية.
الأخلاق بقدر ما لا يمكن تدريسها لأنها ليست مجرد التصرف على النحو القويم. تذكر أن الديمقراطية نظام سياسي، وليست بالضرورة نظاما أخلاقيا. والنهج الديمقراطي الحقيقي للتعامل مع من هم فى قاع المجتمع هو أن نتذكر أننا لا نرسل فقط طفلنا إلى المدرسة لمحو أميته. وهذا يعلمني الكثير عما أقوم به مع من هم فى قمة المجتمع. ففي كولومبيا لا أعلم أهل جنوب آسيا. ولست هناك لجلب أخبار دقيقة من مسقط رأسي. إنى أوروبية، ولذا أعلم موادا باللغة الإنجليزية، والفرنسية، والألمانية لطلاب الدكتوراة في مدينة نيويورك. ومن ثم لدي أميون لا يملكون أرضا بأكبر ديمقراطية في العالم فيما يفترض. انها تجربة جيدة لمعرفة كيف يمكن أن تكون ديمقراطيا في قمة المجتمع وقاعه.
-
ولكن عندما أنظر إلى حياتك المهنية، يبدو أن هناك مفارقة عميقة. إنك تقومين بالتدريس لطلبة الدكتوراة في جامعة كولومبيا، حيث تعتبرين الكاهن الأعلى للنظرية الأدبية، وتقومين بتدريس الكتب شديدة التجريد، مثل كتاب “الجراماتولوجى” لدريدا. لكنك أيضا ناشطة منخرطة فى العمل بالمدارس مع طلاب أميين، لا صلة لهم بعالم النظرية ذات المستوى الرفيع. فهل هناك حقا علاقة بين العالمين؟
نعم، إذا كنت تتحدث عن تلك الحقبة في فرنسا عندما كان الناس يهتمون بالنظرية أو يهتمون بجرامشي في محبسه. إننى أيضا متأثرة غاية التأثر بروزا لوكسمبورج، التي أمنت بالدولة. لكنني لا أطبق النظرية عندما أقوم بالتدريس في هذه المدارس أو التدريس في جامعة كولومبيا. انها مثل أن ألقى في الماء وخلال ذلك أتعلم السباحة. وأظل بكل مرة أشعر بالرعب قبل الدخول إلى الفصل الدراسى. ولكن المراد بعد ذلك، عندما أفكر في التجربة، أستطيع أن أميز النظرية بما تعلمته من التدريس وأي جزء من النظرية يعيش لأن فعل التنظير هو أيضا ممارسة. وهو ما أعلمه لطلابى من أهل القمة.
-
هل ترين النظرية ذات تأثير سياسي فعلي على مشاكل العالم الحقيقية؟
حسنا، لقد كنت أدرس ماو أمس لطلابى. ولم أدرس كتابه “الكتاب الأحمر الصغير”. كنت أدرس لهم أفكاره النيرة- عن فلاح خونان وعن رؤيته الواردة في مقاله “حول التناقض” و”حول الممارسة”. إنه لمن الصعوبة بمكان رسم صور واضحة لماو في الولايات المتحدة. وكهندية يبدو الأمر عسيرا أحيانا لأننا متنافسين. وهذا جيد. ثمة مثقف يسائل هذه الأفكار الواردة. ولكننى كنت أبحث فيما فعله مع هيجل، وبالطبع كنا ندرس النص الصيني. لقد تعلمت الصينية الآن خلال ستة أو سبعة سنوات ولكن لغتى الصينية ليست جيدة بطبيعة الحال. ولكن كان الطالب الذي أعطي ورقته انجليزيا نشأ في هونج كونج ثم أخذ يدرس مادة الدراسات الصينية الحديثة وكان موضع نقد شديد في هونج كونج. ودرسنا مقالة ماو غير العادية المعنونة بـ” حول التناقض”. وفيها نجد ماو قد قرأ هيجل من خلال لينين. ووجدنا جرامشي نفسه يتحدث عن المثقف الجديد باعتباره المقنع دوما. لذلك حتى لو لم نعرف أن المنظر يمارس التنظير، فإننا سنجده يقوم بذلك. فعندما تطلق تعميمات وأنت تتحدث إلى جمع من الناس، فأنت تمارس التنظير. وفي الواقع، من المستحيل التفكير دون تنظير أيا كان السبيل. ولست أظن أن على المرء الاقتناع بتميز النظرية في حد ذاتها، لأنه هو المتحكم فيها ويسوسها، ولكننى أظن أن هذا ما حدث لى. أصبحت النظرية شيئا منفصلا بالكلية عن كل شيء ولكنها ليست كذلك. إنها منخرطة في العالم.
-ما رأيك في الانتقادات الشائعة التي لدينا لهؤلاء المثقفين الجامعيين الذين يمارسون عملا شديد التجريد من يظنون أنفسهم راديكاليين لكنهم يسكنون أبراجهم العاجية فقط، وليس لهم تأثير يذكر على قضايا العالم الحقيقية؟ هل تثمنين هذا النقد ؟
إننى أوجه انتقادا لهم من موقعى كناشطة. وأظنهم في حاجة إلى القيام بمراجعة واقعية. وفي الواقع، إن هذا البرج ليس مجرد برج عاجي. إننى أيضا عضوة في لجنة الأجندة العالمية للقيم في المنتدى الاقتصادي العالمي. وأذهب إلى هناك لأنه عملي الميداني. ولا أنصت لما يقال، ولكننى حذرة كل الحذر عند التدخل دوما. وبالتأكيد علاقتى بزملائي فى المنتدى علاقة ودية. ومن منظور معين، العالم مجهول بالنسبة لهؤلاء الناس رفيعى المقام. لذلك نعم، إننى ناقدة لهؤلاء الناس الذين يأتون لتقديم المساعدة وليس لديهم أدنى فكرة عما ينبغى عليهم فهمه. وفى عالم أهل القاع، الحق الأول هو الحق في الرفض. هذا ما أقوله لطلابي في القرى. أقول: “إننى عدوتك. وإننى طيبة ووالديّ كذلك ولكن جيلان لا يلغيان آلاف السنين”
-
لماذا تقولين إنك عدوتهم؟
لأنني من طبقة الهندوس. والهندوس هم الطبقة العليا. ونحن من جعلنا هؤلاء الناس منبوذين. نحن من رفضنا حقهم في التفكير حتى يخدموننا، وبذلك يمكن تدريبهم على الأعمال اليدوية. هذا الأمر ليس كما كان حينما تقول فقط: “انظروا، آباء طيبون، وإننى طيبة.” كما إنني سألتهم بعض الأسئلة لأنني قمت معهم بالزراعة المراعية للبيئة، وهكذا أجلس أسفل شجرة بانيان مع كثير من المزارعين المعدمين الفقراء. أقول لهم: “كم عدد الطبقات؟” إنهم يعرفون أنني لا أؤمن بالطبقات، لذلك يتحرجون من الكلام. إننى لا أضع أية إجابات ولا أقدم لطلابى إجابات في جامعة كولومبيا سواء بسواء. ثم يأتينى صوت ضعيف ويقول “هما طبقتان”. لذلك أقول: “حسنا، ما هما؟” ومن ثم يقول لى هذا الشخص الأغنياء والفقراء. فأقول “حسنا، تقدم هنا. الآن انظر لي “. وبطبيعة الحال إننى بالنسبة لهم غنية غنى لا يصدق، أليس كذلك؟، لذا قلت “فقط لا تنسى أنا غنية وأنت فقير. لذلك لا ينتمى كلانا لذات المجموعة على الإطلاق “. هذه معاينة الواقع التى لابد على الإنسان أن يخوضها بدلا من هذا النوع من العمل الخيري السخيف حيث تعطي المحتاج المال الكثير، ولكنك لا تعلمه كيف يستغله. فالمال بالنسبة لي مختلف كل الاختلاف بالنسبة لشخص فقير لم يرى المال. لذلك فمعاينة الواقع ليست فقط أمرا يحتاج إليه اليساريون الذين يقومون بالتدريس في الجامعات. فمعاينة الواقع مطلوبة على نطاق واسع.
-
لدي سؤال واحد أخير. هناك حيرة كبيرة بصدد وضع العلوم الإنسانية حاليا. فكثيرا ما نسمع أن العلوم الإنسانية في أزمة. هل تعتقدين أن هذا صحيح؟
نعم . لقد بخست العلوم الإنسانية. وهي ليست بالبقرة الحلوب. فكما كتبت إلى نائب رئيس جامعة تورنتو، عندما قاموا بإغلاق قسم الأدب المقارن، قلت لهم: “انظروا، نحن نظام الرعاية الصحية للثقافات. لا يمكنك أن تضع المقاييس الأخلاقية من خلال تقنيات إدارة المعرفة. فعليك طهي الروح ببطيء “. هذه هى العلوم الإنسانية. نحن المدربون في صالة ألعاب العقل. وكما تعلم، لا يمكنك التريض بالجرى إلى مكان ما بسرعة – فسرعة التعلم تعنى التعلم اليسير. وبنفس الطريقة، لا يمكنك حقا بناء عقول سليمة بتسريع التعلم فقط. ولقد سمحنا لأنفسنا فعلا أن نكون تافهين. إننى أقضي حياتي لأجعل الناس يفهمون بأننا ينبغي أن ندعي أهميتنا فلن نستسلم لتعريفات تحدد لنا كيف نجعل من أنفسنا مفيدين عبر الرقمنة الكاملة وكل هذا الكلام. يجب ألا نسمح للتقليل من شأن العلوم الإنسانية. فإذا لم تدرب الروح، لن تستخدم ما هو عالمى/ رقمي الاستخدام الصحيح. لا أستطيع حقا أن أقول أكثر من ذلك في هذه المحادثة القصيرة ولكننى يحدوني الأمل يوما من الأيام أن نجرى محادثة أطول بكثير حول هذا الموضوع.