نسخة PDF (فبلن ودور الطبيعة البشرية في الاقتصاد)
يُعنى الاقتصاد أولًا بسلوكيات البشر. ولذلك دائمًا ما يتضمن كل نظام تحليل اقتصادي على وصف لسلوكيات الناس. وليس مفاجئًا أن تعبّر المدارس الفكرية الاقتصادية عن رؤى متباينة. من المفيد فحص رؤى لأكبر المدارس الفكرية التي عاصرت وقت كتابة فبلن لأفكاره قبل أن نتطرق لرؤيته حول هذا الموضوع. التباين واضح كما سنلاحظ.
يمتلك اقتصاديو الكلاسيكية الحديثة رؤية بسيطة على غير العادة حول الطبيعة البشرية، حيث يرون أنها متماثلة في جميع العصور والبقاع. فالبشر لبشريتهم دائمًا ما يسعون لزيادة منافعهم، وبالتالي يمكن تفسير جميع سلوكياتهم بصفتها محاولات عقلانية لنيل المنفعة وتفادي الألم. كتب الاقتصاديون في تلك الحقبة بمصطلحات مطلقة عن الناس كما لو كانت المنفعة مسعاهم الوحيد (hedonistic). وصف إدجورت -على سبيل المثال- البشر بـ “الآلاتٍ نفعية” (إدجورت، 1881، 15)[1]. حيث يحسب الناس احتمالية ارتباط المتعة والألم بمختلف الأفعال، وبعدها يقع الاختيار على الفعل المرتبط بأكبر قدر من المنفعة. وللأمانة، يجب الإشارة إلى أن المنتمين لهذا الاتجاه وضحوا أن “المنفعة” تشمل المنفعة الفكرية والروحانية والجسدية (ميل، 1961، 195)[2].
أربك فبلن الإيراد السلبي لطبيعة البشر في الاتجاه الكلاسيكي الحديث والمقصور على التفاعل تجاه المنفعة والألم. يعتقد فبلن أن الإنسان ليس مجرد حزمة من الرغبات التي يعمل على إشباعها، ولكنه بنية متماسكة من النزعات والعادات التي يسعى إلى عيشها والتعبير عنها (1919، 74)[3]. ماذا لو لم يكن هنالك أي منفعة نسعى إليها أو ألم نتجنبه؟ هل سنبقى هادئين دون أن نحرك ساكنًا؟ هل يقوم الناس حقًا بالحسابات اللازمة لزيادة المنفعة؟ نقد فبلن الرؤية النفعية لطبيعة البشر في نصه المشهور والذي يصور فطنته وصعوبة قراءة مؤلفاته:
لطالما كانت تصورات الاقتصاديين السيكولوجية والأنثروبولوجية هي ذاتها المقبولة في العلوم النفسية والاجتماعية عند بعض أجيال مضت. المفهوم النفعي للبشر هو ما يكون تحت ضوء الحساب للمنفعة والألم، وهو ما يدفع الفرد إلى التذبذب كما يحدث لكريات متماثلة من الرغبة بالسعادة تحت تأثير المحفزات، إلا أنه يبقى سليمًا بلا سوابق ولا عواقب. فهو مُعطًا بشري معزول قطعي في حالة توازن مستقرّة باستثناء الاهتزاز الناجم عن ارتطام القوى المؤثرة به، والتي تحركه من اتجاه إلى آخر. فهو يدور حول محوره دوارنًا تماثليًا في فضاءٍ متوازن حتى يثقل توازي القوى كاهله فيتبع المحصلة. ويعود إلى السكون عندما ينتهي تأثير القوى، فيعود كريات من الرغبات كما كان في السابق. وليس الرجل النفعي -من زاوية روحانية- بالمحرك الأول لحياته، فهو لا يحتل عملية العيش إلا بمعنى كونه خاضعًا لسلسلة من التحولات المفروضة عليه بسبب ظروف خارجية دخيلة عليه (فبلن ، 1919، 73-74).
كان هجاء فبلن أحد الأسباب التي دفعت اقتصاديي الكلاسيكية الحديثة إلى إخفاء موافقتهم رؤية ادجورث الصادمة عن الطبيعة البشرية. استمر اقتصاديو الكلاسيكية الحديثة على افتراضهم بأن الطبيعة البشرية نفعية، إلا أنهم ادعوا أن هذه الرؤية تمثل نموذجًا للمقارنة. وبصيغة أخرى يمكننا القول بأنهم لا يزعمون أن البشر آلات نفعية بقدر ما يعتقدون أن النماذج المبنية على هذا الافتراض تتنبأ تنبأً حسنًا. دافع فيلتون فردمان عن هذا الاتجاه في مقالته الشهيرة “منهجية الاقتصاد الوضعي” (1953). حيث جادل بأن العامل الوحيد الذي نقيم النموذج بواسطته هو المقدرة على التنبؤ بغض النظر عن واقعية هذا الافتراض. وبناءً على ما سبق يمكننا الحكم على تصرفات البشر كما يحلو لنا طالما كان النموذج المتبع قادرًا على التنبؤ. الحقيقة التي غض الطرف عنها هي أن النموذج قد يكون مفيدًا للتنبؤ بالتغيرات الموسمية وعلاقتها باستهلاك الآيسكريم، بيد أنه عديم الفائدة أمام الأسئلة الجوهرية المتعلقة بتطور المؤسسات الاقتصادية مثلا. وبالنسبة لفبلن، كانت هذه الأسئلة محور اهتمامه.
كان اقتصاد كارل ماركس في تلك الحقبة البديل الرئيسي للاقتصاد الكلاسيكي الحديث. اهتم ماركس ببعض الأسئلة الجوهرية التي اهتم بها فبلن ولكنه اتخذ اتجاهً مختلفًا عن كل من فبلن واقتصاديو الكلاسيكية الحديثة. يرى ماركس أن ظروف الفرد تشكل سلوكه، حيث أن طريقة تفكير الفرد وأفعاله مرتبطة بطبقته الاجتماعية، فالعمال يفكرون بطريقة مختلفة عن التجار لتباين خبراتهم. ومما يثير السخرية أن الصفة الوحيدة المشتركة بين جميع الطبقات الاجتماعية هي السعي للمنفعة الذاتية، وهذا هو جوهر الاتجاه الكلاسيكي الحديث. يبرز الصراع الطبقي عندما تناضل الطبقات لزيادة أو حماية منافعها، ويدل ذلك على استيعاب أفراد الطبقة الاجتماعية الواحدة لمصالحهم المشتركة، أي أنهم قادرون على اختراق قشرة المجتمع ليصلوا إلى حقائقه العميقة.
تنص رؤية ماركس على أن تصرفات البشر تتغير على مر التاريخ تبعًا لتغير الظروف المادية والاجتماعية، حيث يقول في مقولته الشهيرة: “ليس وعي الناس هو ما يحدد وجودهم، بل العكس، فوجودهم الاجتماعي هو ما يحدد وعيهم” (ماركس، 1859، 4).[4] وعلى خلاف الرؤية الكلاسيكية الحديثة التي تفترض طبيعةً بشريةً ثابتة، يؤمن ماركس بأن الطبيعة البشرية نتاج البيئة. وللتفريق بينهما نقول بأن الرؤية الكلاسيكية الحديثة تعزو تصرفات البشر بالكامل للفطرة بينما يعزوها ماركس للنشأة.
رؤية فبلن للطبيعة البشرية معقدة أكثر من الاتجاهات السابق ذكرها، فهو يرى أن كلًا من الفطرة والنشأة تشكل طبيعة البشر. فالفطرة تجبل البشر على ميولات سلوكية معينة، “الغرائز” كما يسميها فبلن، والغرائز نفسها خاضعة للتغيير والتطور مع مرور الزمن، أما التنشئة -المتمثلة في المؤسسات، مثل ميولات ملقّنة في التفكير أو الأعراف الاجتماعية- فتؤثر أيضا على سلوكنا، وهي الأخرى قد تتطور مع مرور الزمن أيضًا.
الفطرة أوسع من الرؤية التي تتبناها المدرسة الكلاسيكية الحديثة “السعي للمنفعة وتجنب الألم”. هنالك عدة وجوه مختلفة للطبيعة البشرية، وقد تتعارض بعض غرائزنا أحيانًا على البعض الآخر لأننا كائنات معقدة. ولفهم السلوك البشري، يجب أن نبدأ باختبار الفطرة والنشأة.
المصدر: Ken McCormick – Veblen in Plain English; A complete Introduction to Thorstein Veblen’s Economics
هوامش:
[1] F. Y. Edgeworth, Mathematical Physics, (1881).
[2] John Stuart Mill, Utilitarianism in Max Lerner, Ed., Essential works of John Stuart Mill, (1961)
[3] Thorstein Veblen, The Place of Science in Modern Civilization, (1919/1990).
[4] Karl Marx, Preface to “A Contribution to the Critique of the Political Economy”, (1859).