
يمكنك شراء نسخة كندل من الكتاب عبر هذا الرابط
يقوم رجل الأعمال الكلاسيكي بتأسيس مفاهيم جديدة كليًّا: هنري فورد، السيارات ذات الإنتاج الضخم، وتوماس أديسون، المصباح الكهربائي، بيل غيتس، برامج الكمبيوتر الشخصي، وتيد تيرنر، أخبار التلفزيون على مدار الساعة. ولكن تبقى حالة تيرنر هي الأقرب إلى موضوع هذا الكتاب من حيث إنه يعطينا صورة واضحة عن صحته النفسية إلى حد ما.
جاء عن تيرنر في سيرته الذاتية الأخيرة أن طفولته لم تكن على ما يرام فقد كان والده، إد تيرنر، ينقله باستمرار من مدرسة إلى أخرى. عاش تيرنر الفتى ظروفًا صعبة جدًّا طوال فترة طفولته قياسًا إلى أقرانه، من ذلك خاصة شعوره عندما كان يتم إرساله خارج المنزل وهو في سن الرابعة كأنه يقع التخلي عنه تمامًا، وأما داخل المنزل فقد كان إد تيرنر يعامله بقسوة بل ويعتدي عليه بالضرب أحيانًا.
تم طرد الصبي ذات مرة من المدرسة الابتدائية ويوضح تيرنر: «كنت طفلًا لا يهدأ وكثيرًا ما أقع في ورطة رغم أنني لم أفعل أي شيء سيئ حقًّا»، وكان كثيرًا ما يحصل على درجات متدنية يعزوها تيرنر الآن إلى الظروف الصعبة التي طبعت حياته في المنزل. «ربما ستنتهي المدارس اليوم إلى استنتاج مفاده أنني كنت أعاني من اضطراب نقص التركيز، ولكن هذا لم يكن صحيحًا. فبعد أن تم عزلي وحدي لفترة طويلة كنت ببساطة أشعر بحاجة كبيرة إلى التركيز».
بعد أن وضع والد الصبي ابنه المشاكس في أكاديمية عسكرية للمدرسة الثانوية، تطورت قدرات تيرنر وبدأ يتحسس طريق النجاح الأكاديمي والاجتماعي. وحثه والده على الذهاب إلى جامعة إيفي Ivy، حيث أدى تيرنر جيدًا في البداية ببراون، لكن سرعان ما تشتت تركيزه إلى أن انتهى به الأمر إلى الفشل في الدراسة. (ويعزو تيرنر ذلك التراجع إلى الصراع مع والده الذي رفض تقديم الدعم المادي له بعد أن اختار التخصص في الريادة العسكرية الكلاسيكية). خلال هذه الفترة، ظهرت على تيرنر أعراض الاضطراب ثنائي القطب الكامنة، مثل القيادة المتهورة. مع العلم أنه يسير عادة بسرعة 120 ميلًا في الساعة تقريبًا، عندما كان ينتقل من منزل والده جنوب ولاية كارولينا إلى سافانا في جورجيا أثناء العطلة لزيارة الأصدقاء في جورجيا. وذات مرة، حين عبور السكة الحديدية، كاد القطار أن يمر فوقه. وقد كان تيرنر شخصًا نشيطًا جدًّا، وكان من بين سمات شخصيته الأساسية الاعتراف. ويبرر: «لدي دائمًا الكثير من الطاقة. عقلي وجسدي مفعمان بالنشاط منذ كنت صغيرًا، وكنت لا أطيق أن أكون ساكنًا أو جالسًا. إلى الآن، أنا دائم الحركة حتى أصبحت أتمنى أن أقضي أربعًا وعشرين ساعة من دون عمل شيء، وأن أكون وحدي مع أفكاري.».
عالجت زوجته السابقة جين فوندا شخصيته التي تعاني الاضطراب ثنائي القطب عبر تقنية التحليل النفسي: «وبسبب التربية التي تلقاها في منزل والده، كان تيد تيرنر شديد الخوف من أن يترك وحيدًا وهو إحساس لم ألمسه عند أيٍّ من الأشخاص الذين عرفتهم من قبل. وتبعًا لذلك فقد كان دائمًا بحاجة لمن يكون بجانبه باستمرار رغم ما يمكن أن يترتب عن ذلك من إرهاق. لا يتعلق الأمر هنا بثبات في ارتفاع منسوب الطاقة، بل إنها طاقته العصبية التي تطقطق في الهواء تقريبًا. فهو لا يستطيع الجلوس ساكنًا لأنه يعتقد أن الجلوس ساكنًا يتيح فرصة للشياطين – الأرواح الشريرة لتلحق به. لذا عليه الاستمرار في الحركة».
تم تناقل أعراض تيرنر خلال تاريخ عائلته: انتحر إد تيرنر في ذروة نجاحه المهني، حيث أسس ووسّع شركة مزدهرة للوحات الإعلانية في أتلانتا. وقد اعتبر تيرنر ما أقدم عليه والده بمثابة مفارقة أثارتها تبعات النجاح، فقد حقق له والده كل ما يصبو إليه فلم يعد له ما يرغب فيه. ولكن تيرنر عبر أيضًا، وأحيانًا حرفيًّا، عن عقلية مريضة: «مثَّل الانهيار الذي وجد في عام 1962 لحظة رائعة. وكان أبي مبتهجًا، وأكثر نشاطًا مما رأيته عليه من قبل… وقد باغتنا جميعًا هذا السلوك البهيج تمامًا وكأنه يقترب من حافة الانهيار. كان مثل المحرك الذي يعمل ويدور بأسرع مما كان عليه قبل تجريد وإزالة التروس. وكان والدي دائمًا متقلب المزاج، ولكن تقريبًا بين عشية وضحاها أصبح سلوكه ضالًّا بشكل كبير وغير متوقع. فيومًا تجده في قمة الحبور ويومًا يكون في حالة من الاكتئاب المدقع».
رافقت هذه التقلبات المزاجية بعض مؤشرات جنون العظمة والعدمية في الأفكار: «لم يكن والدي متحمسًا لشركة اللوحات الإعلانية، في حين أكد له معظم مستشاريه بأنه لن يواجه مشكلة في الوفاء بـ [دينه] التزاماته، وتملكه إحساس بالخوف فاق كل حدود العقل من خسارة كل شيء حتى أوشك أن يهلكه». ومن ثم أدمن على شرب الخمر والتدخين حتى انتهى به الأمر إلى مستشفى للأمراض النفسية في ولاية كونيتيكت. غير أن ما يذكره تيرنر في شأن هذا الأمر يبدو غير دقيق على أنه ينسبه إلى حالة والده المتدهورة الذي ما لبث أن انتحر بعد أن أخطؤوا في وصف العقاقير المناسبة له بالمستشفى. «وقال إنها من أجل علاج أعصابه، وإنني متأكد من أنها تتضمن مجموعة متنوعة من المنشطات والمهدئات وغيرها. لكن كان والدي يقوم بمقايضة الكحول والتبغ بأدوية الوصفة الطبية». قد يكون هذا صحيحًا، منذ عام 1962 لم تكن مضادات الاكتئاب معروفة بالشكل المطلوب، ونادرًا ما تستخدم مضادات الذهان للاضطراب ثنائي القطب والليثيوم (من المرجح أن يكون قد أنقذ حياة والده) الذي ظل حضوره باهتًا في مجلات غير مقروءة، وغير مستخدم حتى بعد عقد من الزمان. فقد كانت العلاجات الأكثر شيوعًا في تلك الحقبة الأمفيتامينات (المنشطات، والتي ستفاقم الاضطراب ثنائي القطب)، مثل barbiturates الباربيتورات أو البنزوديازيبينات benzodiazepines (المهدئات والتي يمكن أن تؤدي إلى تفاقم الاكتئاب، ولكنها تقلل التوتر وتحفز على النوم). وأخيرًا قرر والده أن يبيع شركته النامية، الناجحة بخصم كبير لمنافسه. اعترض تيرنر الذي كان قد انضم إلى عمل العائلة، على ذلك بشدة، ولكن والده كان قد وقّع واعدًا ببيع الشركة، ولم تمض سوى بضعة أيام على ذلك حتى أطلق الرصاص على نفسه.
لما توفي والده، وأوشكت أعمال الأسرة على الخسارة كان تيد حينها يبلغ من العمر 21 عامًا، وقد أثارت قدرته على التفاوض مع منافس والده استغراب الكثيرين من موظفي الشركة والمحامين المتعاقد معهم من أجل إتمام إجراءات بيعه أسهم الشركة.
ومن ثم استطاع تيرنر لا الحفاظ على استمرارية شركة الإعلانات فقط، وإنما أيضًا قام بتوسيعها لتصبح دارًا للإذاعة والتلفزيون.
في السنوات اللاحقة، عرض تيرنر نفسه على طبيب نفسي، ولكنه ينفي الآن أنه يعاني من الاكتئاب الشديد أو الاضطراب ثنائي القطب الواضح، مقارنة مع والده، وعزا معظم الأعراض النفسية التي تظهر عليه من حين لآخر إلى التوتر الناجم عن ضغوط نشاطات الحياة:
«عانيت من بعض المشاكل الناتجة عن تقلب المزاج عندما كنت طفلًا، ويعود ذلك ربما إلى إرسالي بعيدًا عن المنزل للدراسة في هذه السن المبكرة وللقلق الناتج عن ظروف حياتي… ولكن، في الثمانينيات انتهى طبيب نفسي بعد فحصي وتشخيص حالتي إلى أني أعاني من الاضطراب ثنائي القطب، ووصف لي الليثيوم، لكن رغم تناولي هذا الدواء لبضع سنوات لم أشعر بتغير يذكر في شأن وضعي النفساني، مما اضطرني إلى التوجه إلى طبيب نفسي آخر، حيث حظيت بفحص شامل أدى إلى تشخيص مختلف تمامًا.
فلقد سألني الطبيب الجديد حول مثلًا ما إذا كنت أمضي فترات طويلة من دون النوم؟ (قلت له: فقط عندما كنت أبحر)، وهل قمت من قبل بإنفاق كميات من المال بإسراف وبشكل مفرط. (وأفصح كلانا عن ضحكة مكتومة في آن واحد…). واستنتج أن لدي مزاجًا غير مألوف، وما زلت أقاوم نوبات عرضية من التوتر، ولكني لا أعاني من الاكتئاب، وقام بإلغاء الليثيوم».